تصدير

عسيرٌ على النفس أن تتحدث عن ذكرياتها الغالية، فاللغة — وهي أعظم النعم التي تلقاها الإنسان وأخطرها — خُلقت بطبيعتها للتخاطب اليومي ووصف الأشياء. وكل محاولة للكتابة عن إنسان أحببته أو عاطفة جربتها لا بد أن تكون محاولة يائسةً؛ لأن اللغة ستحيل الحي النابض إلى شيء أو موضوع (وتلك هي مشكلة الشعراء والكُتَّاب والمفكرين الحقيقيين في مختلف اللغات والعصور). من هنا تجيء حيرتي وشعوري بالعجز وأنا أقدم لهذا الكتاب! فقد عشت مع كلماته وهي تخرج دافئة حيةً من فم صاحبها، ثم عشت معه وأنا أنقُله إلى لغتنا العربية. ومررت في الحالين بالتجربة التي لا بدَّ أن تخوضها مع كل فعل فلسفي حق، تجربة الاهتزاز والارتباك والتغير والتحول من الأعماق.

ما زلتُ أذكر تلك الأيامَ من شتاء ١٩٦٠–١٩٦١م عندما كنت ألهث مسرعًا، يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، تحت الثلج المتساقط على رأسي لأستمع إلى محاضرة العلو أو الترانسندنس. كنت وزملائي من الطلبة نترقب الأستاذ وهو يدخل في موعده المحدد من باب قاعة المسرح الصغيرة في مبنى الجامعة القديمة، التي كانت تُلقى بها المحاضرة. وكان يطالعنا في كل مرة ببسمته الطيبة الحنون، وملامح وجهه الوديع الجاد، ولا يكاد يعتلي المنصة حتى نستغرق في بحر التجربة العميقة التي يجذبنا إليها، وتشدنا خيوط الكلمات الساحرة المحيرة التي تُلقي علينا شباك التفلسف، وتتركنا بعد أن يغادر القاعة كما يترك الصياد أسماكه الذاهلة تقلِّب عيونها بين البحر والشاطئ! لم تكن محاضرة من تلك المحاضرات التي تُلقى فيها المعلومات وتتلى الحقائق، بل كانت تجربة تنمو وتتطور في بطء كالنهر الذي يزداد قوةً وجلالًا كلما ابتعد عن المنبع، ويعلو ويَجيش كلما اقترب من المصب. كانت صعوبتها تكمن في المشاركة التي تطلبها منك والتفكير المستقل الذي تفرضه عليك، والتحول الشامل الذي تدعوك إليه. وبقدر ما كانت فرحتي بالمحاضرة كان حزني لتناقص عدد الطلاب مع الأيام! ولم أُعجب لذلك بعد أن اكتملت دائرة الأفكار وتجمعت أشعتها في بؤرة واحدة. فمن طبيعة هذا الفكر أن يُلزمك بالصبر والجد والمكابدة؛ لكي تحققه بنفسك وتكتشف معه معنى وجودك. وهي أمور عسيرة ومكروهة في عصر السرعة والإثارة والثرثرة والقوالب الجاهزة وغسيل المُخ الذي يتدفق طوفانه من الجهات الأربع!

كنت قبل ذلك قد تعرفت بالأستاذ وبدأت أعمل تحت إشرافه، بعد أن أنِسْتُ إلى شخصيته الرقيقة الوديعة، وروحه الطيبة الوحيدة، وحسه الدقيق اللطيف، ومعرفته الخصبة التي تخطو في صبر وتواضع على الدرب الشاق. وكنت أختلف إلى محاضراته وتمريناته عن الفلاسفة الذين أحبهم وتعمَّق نصوصَهم وأطال الوقوف عندهم: أفلاطون وأفلوطين والميستر إكهارت ومتصوفو العصور الوسطى وباسكال وكانط ونيتشه وكيركجور وياسبرز وهيدجر وحكماء الشرق، وفي مقدمتهم حكيم الصين لاو–تسي، ومتصوفو الزن في اليابان. وكان أكثر ما أدهشني هو قدرته على فَهم هؤلاء الفلاسفة والتعاطف معهم والتمكن من نصوصهم الأصلية. فالعبارات والمصطلحات اليونانية واللاتينية والألمانية الوسطى والفرنسية والإنجليزية والدنماركية؛ تتوالى حين تدعو إليها الضرورة. وملامح المعرفة الرحبة بأسرار الفن والشِّعر والتاريخ والفيزياء والرياضيات والفلك؛ تُطِلُّ عليك كلَّ لحظة، وتستمع إليه فلا يفارقك الإحساس بقلقه الغامر على مصير الإنسان وحريته ومستقبله، في عصر ينفلت من كل الحدود، ولا يُخطئك الشعور بجهده المتصل لإعادة الإنسان إلى التفكير في معنى وجوده بإعادته إلى فعل التفلسف الحق. ثم تُحس من وراء هذا كله بالتجربة الصوفية التي تنتظم كلَّ هذه الأفكار والمعاني، فتدور حولها كما تدور الكهارب حول نواة الذرة. كما تُحس أخيرًا بتوحد الحكيم الذي يعلم أنه يهتف في صحراء المدينة المقفرة من نبع القلب، المغرورة بضجيج الآلة والمذهب، ومع ذلك لا ييئس أبدًا من أن ينفُذَ صوتُه إلى صدر إنسان مجهول في زمان أو مكان مجهول. ومع الزمن تجمعت لديَّ بعضُ الحقائق عن حياة المؤلف أود أن أعرضها عليك في إيجاز.

وُلد في اليوم الرابع عشر من شهر يوليه سنة ١٩١٧م بمدينة هامبورج. ودرس الفلسفة والفيزياء والرياضيات بجامعتَي زيوريخ وفرايبورج إم بريسغاو (وهي الجامعة التي عُلِّم بها هسرل وهيدجر). ولم تمنعه ويلات الحرب العالمية الثانية بالجبهة الشرقية من التقدم في سنة ١٩٤٣م برسالته الأولى للدكتوراه، تحت إشراف هيدجر عن «اللامتناهي في كتاب الطبيعة لأرسطو». واضطر في أواخر الحرب إلى الفرار من الجيوش الروسية الزاحفة، فعبر بحر البلطيق سباحةً في طريقه إلى بلاده، وأُصيب بمرض الصفراء الذي ظل يعاني منه بعد ذلك، ويَفرض عليه نظامًا صارمًا في حياته ومأكله ومشربه.

وتقدم في ربيع سنة ١٩٤٨م برسالة الدكتوراه الثانية التي أهَّلته للتدريس بجامعة فرايبورج تحت إشراف هيدجر أيضًا، وكان عنوانها «الفلسفة الحديثة بوصفها ميتافيزيقا الذاتية؛ تفسير لكيركجور ونيتشه». وقد استلهم فكرته الأساسية من محاضرات هيدجر، وهي فكرة يكررها في معظم بحوثه ومقالاته التي نشرها بعد كتابه الرئيسي «الوجود والزمان»، وتتلخص في أن الميتافيزيقا الغربية، ومعها الفكر الغربي، قد بدأت تسير على طريق الذاتية منذ عهد أفلاطون، ثم أخذت تمر بمراحل مختلفة ازدادت فيها هذه الذاتية — أو هذا التطور الذاتي لمفهوم الحقيقة — تطرفًا وإطلاقًا، حتى بلغت ذروة اكتمالها ونهاية تطورها في تفكير كيركجور ونيتشه اللذين انتقلت على يديهما من ذاتية التطور المطلق إلى ذاتية الإرادة المطلقة التي انتهت إلى اليأس المطلق.

بذلك تكون محنة الذاتية الغربية قد بلغت غايتها وأصبح من واجب المفكرين أن يبحثوا عن مخرج منها. وقد وجد هيدجر هذا المخرج — كما هو معروف — في الرجوع إلى التفكير في الوجود نفسه لا في الموجود بكل صوره وأشكاله، التي لم تكن سوى وجوه لانحراف هذا الفكر عن حقيقة الوجود وأصله على مدى أربعة وعشرين قرنًا. وقد فسر المؤلف تفكير كيركجور ونيتشه على ضوء هذا الفرض الخصب، وقدَّم المحنة الغربية بكل أبعادها، ومكَّنته درايتُه باللغة الدنماركية وإحساسُه العميق بمأساة نيتشه من تقديم تأويلات مُحكَمة لهما، وشغَله البحث عن الطريق الجديد — بعد أن وصل هذان المفكران إلى مفترق الطرق — منذ تلك الفترة المبكرة من حياته. وليس هذا الكتاب الذي بين يديك إلا ثمرة التجربة الطويلة التي يعيشها ويخلص لها منذ أكثر من ثلاثين سنة.

نشر المؤلف في نفس السنة (١٩٤٨م) ترجمة لرسالة باسكال من «روح الهندسة»، (وهي في الواقع تنقسم إلى رسالتين، الأولى عن منهج البرهان الهندسي — أي الرياضي — الكامل، والثانية عن فن الإقناع، وكلاهما يبحث في طبيعة البرهان الرياضية، ويثبت الفكرة التي أكدها ديكارت من أن الرياضة هي المدرسة الحقيقية للعقل). وتُعدُّ هذه الرسالة بقسميها رائعة من روائع باسكال، تكشف عن عظمة فكره وأسلوبه، وتبيِّن موقفه من النزعة الرياضية الغالبة على عصره، واختلافه في ذلك عن ديكارت وأتباعه، وانتقاله من الاهتمام بالهندسة إلى الاهتمام بالإنسان وقلقه وتعاسته ومحنته الروحية التي بدأت مع بداية العصر الحديث.

وقد ذكر المؤلف في بحثه السابق عن الفلسفة الحديثة أنه ترجم أحد أعمال كيركجور المبكرة التي كتبها في شتاء سنة ١٨٤٢–١٨٤٣م، ووصفها بأنها «محاولته الأولى على طريق تطوره التأملي الصغير.» والكتاب الصغير يحمل هذا العنوان الدال: «يوحنا كليماكوس أو ضرورة الشك في كل شيء؛ حكاية». وهو يعد نواة أعمال كيركجور المتأخرة التي ظهرت تحت الاسم المستعار «كليماكوس»، وبدأت «بالفتات الفلسفي» وانتهت «بالحاشية الختامية غير العلمية»، وقد صدرت ترجمة المؤلف — التي لم أتمكن من الاطلاع عليها — سنة ١٩٤٨م بمدينة دار مشتات لدى الناشر كلاسين دروتر. هذا فضلًا عن عدد من المحاضرات التي ألقاها في موضوعات مختلفة وبلاد مختلفة امتدت من سويسرا إلى اليابان! (وقد عرفت من إحدى رسائله أن أستاذًا من جامعة كيوتو اليابانية يترجم الآن هذا الكتاب الذي بين يديك).

وعلى الرغم من البحوث والترجمات والمقالات السابقة، فإن المؤلف — الذي يشغل منذ سنة ١٩٥٥م منصب الأستاذية للفلسفة بجامعة فرايبورج — لا يميل إلى هذا اللون الأكاديمي، ولا يلجأ إليه إلا مضطرًّا. يدل على هذا حرصُه على أن يضيف هاتين الكلمتين إلى عنوان الكتاب الذي بين يديك: «محاضرة تعليمية»؛ أي: إن الهدف منه هو إعداد الطلاب والمثقفين وتأهيلهم للتفلسف. وإذا أردت أن تبحث عن تجربته الكبرى التي يعيش لها، فستجدها في صورتها الحية المباشرة في كتبه الأخرى: نحن وهو، الملمح الآخر، الانتقال إلى الواقع، الواقع الذي لا يصدق. لقد سجل فيها خواطره الدقيقة وحِكَمه الموجزة، بالأسلوب الذي يلمس القلب ويثير العقل، وتلتقي فيه قمة الحكمة مع قمة الفن.

ولو اطلعت على هذه الخواطر والحِكَم لتذكرت التراث العريق الذي لا يزال الناس يرجعون إليه ويلتمسون فيه الراحة والمتعة والعزاء والذكاء: أمثال الشعوب وأقوال بوذا وكونفوشيوس، أشعار لاو-تسي، وشذرات الفلاسفة قبل سقراط، حكم المتصوفين المسلمين، وخطرات إبيكتيت وماركوس أورليوس وباسكال ومونتي وجوته ولشتنبرج ونيتشه والأخلاقيين الفرنسيين. فالحكمة القصيرة المشحونة بالعاطفة الجياشة والمفارَقة اللمَّاحة هي الجسر اللغوي الوحيد الذي يمكن أن تَعبُر عليه التجربة الحية. إنها تراوغ اللغة وتختلس منها أقصى إمكاناتها؛ لكي تقول ما لا يقال، وتصون لهب الانفعال وشرارة الذكاء من قيود اللغة وتحديداتها؛ ولهذا كانت كلها تنويعاتٍ على لحن واحد، ولمسات على أوتار تجربة واحدة. وأود أن أمهد لهذه الخواطر والحِكَم الفلسفية التي تكشف عن فكر المؤلف بالحديث عن خواطره التي كتبها عن مصر.

•••

إن أنسى لا أنسى الفرحةَ التي أضاءت وجهه حين علم في أول لقاء لي معه أنني قادم من مصر، وتأكد لي حبُّه لوطني وروحه الأصيلة عندما زرت مسكنه بعد ذلك — في البيت رقم ٢٣ شارع كوخ صياد الغزال — فرأيت لديه مكتبة كبيرة عن حضارة مصر القديمة وفنها ولغتها وأدبها، وعجبت للتماثيل الفرعونية الصغيرة — أكد له التراجِمةُ وتجار التُّحف أنها أصلية! — التي تناثرت على رفوف الكتب، وأشاعت في خلوته الهادئة أنفاسَ السكينة والورع والجلال التي ترددت في أرواح مبدعيها والمتلقين لها من آلاف السنين.

زار المؤلف مصر مرتين، وأقام في فندق ميناهاوس المطل على أهرام الجيزة التي شبهها بمغناطيس كوني يجذب القوى السماوية إلى الأرض! كانت الزيارة الأولى — إن لم تخنِّي الذاكرة — في سنة ١٩٦٠م، أما الزيارة الثانية فكانت في سنة ١٩٦٦م، وقد عبر عن وقع الروح المصرية على نفسه في مجموعة من الخواطر التي نشرها في كتابه «الملمح الآخر» تحت هذا العنوان الدال «جلال»١ والخواطر تُستقى من النبع الصوفي الذي تنبثق منه كل أفكاره وتأملاته، وإن كانت قد وجدت في مصر وتراثها وروحها تأكيدًا جديدًا للأصول السابقة على اللوجوس اليوناني، وهو أصل العقل الغربي الذي ما انفك — منذ أُلقيت بذوره الأولى — يندفع في طريق العمل والتقنية والمنفعة والقياس والنزعة العقلانية. وتقوم هذه الخواطر على الأعمدة الرئيسية التي تشيد عليها تجربته الصوفية: الجلال، السر، العظمة، التوحد، القداسة، العري، السكينة، الانفتاح، العلو إلى الآخَر عن طريق التحول إلى الواقع تحولًا يجعلنا نُحس من جديد «باخضراره»، ويشعرنا بأصالته وسره الباعث على الاندهاش، ويعيدنا مرة أخرى إلى التفكير في إنسانيتنا ومعنى وجودنا وحريتنا وشخصيتنا والعنصر الأبدي الخالد فينا.

ما الذي حرَّك وِجدان المؤلف وقلمه فكتب هذه الخواطر عن بلادنا؟

من المستحيل بطبيعة الحال تلخيص هذه الخواطر والتأملات؛ لأنها لا تقرر حقيقةً ولا تُثبت شيئًا، بل غاية ما تريده أن تثير فينا التفكير أو تنقُل إلينا التجربة وتدعونا للمشاركة فيها. ولكنني سأحاول أن أعرض عليك لمحة عنها؛ تمهيدًا للحديث عن معالم تجربته الكبرى التي تكشف عنها سائر خواطره وتأملاته؛ إيمانًا مني بأن خير وسيلة للتعرف على وجه بلادنا هي أن نراها ولو مرةً واحدة بعينَي الغريب.

كان أول ما استوقف نظر المؤلف في مصر هو الرتابة والاطراد والتكرار، وكلها في رأيه من علامات الروح الصوفي الأصيل. فكل شيء هنا رتيب: النهر، والصحراء، والشريط الضيق من الأرض الخضراء بين النهر والصحراء، والآثار والرسوم والنقوش البارزة عليها؛ دائمًا أبدًا الشيء نفسه، الخطوط البسيطة الجليلة نفسها، تتكرر بلا ملل أو كلل، على النقيض من الألوان الجرداء والصخب الأجوف الذي تركه وراءه، هناك في العالم الغربي الذي تحول كلُّ شيء فيه إلى لافتة، وختمه التكتيك بختمه.

لقد لمس عندنا السكون الذي يبحث عنه، فهو عنده مدرسة التصوف. وإذا كان التصوف مستحيلًا بغير الوجد، فالوجد مستحيل بغير السكون. ووجد عندنا الطبيعة العظيمة التي لم نتعلم منها، لم نعايشها معايشةً كافية، ولم نجربْها تجربة عميقة، ولم نوحِّد كياننا بكيانها. ولو فعلنا لتعلمنا منها العظمة والبساطة والنقاء، لو فعلنا لتعلمنا مثلًا من الصحراء أهم الفضائل الصوفية؛ وهي العري عن كل شيء، لماذا؟ لأن العري انفتاح، والانفتاح في صميمه انفتاحٌ على «الآخر».

صحيح أن أغلب الناس — ونحن أولهم — يخافون الصحراء ويتصورونها موحشة، ولكن الإحساس بالوَحشة ملازم للإحساس الصوفي، وما من صوفي عظيم إلا وجرَّب هذه الوحشة، فكيف يتسنى لخائف من وحشة الصحراء أن يحس أدنى إحساس بالروح المصري القديم أو يلمسه أو يراه أو يتحدث عنه؟ ولكن هل نحس اليوم بهذا الروح القديم؟ هل نحاول الإحساس به؟ هل نريده على الإطلاق؟

إنك كلما التقيت بالمصريين القدماء شعرت بالسر الذي يتكتمونه، وكلما ازداد السر ازداد الكتمان، ولكنهم لم يتكتموا أسرارهم أكثرَ مما نفعل اليومَ فحسب، بل فعلوا ذلك على نحو آخر مختلف كلَّ الاختلاف. من هنا يجئ عجزنا عن الاتصال بهم، ووهمنا الكبير بأن ذلك ممكن عن طريق الدراسات الأثرية والعلمية وحدها. ومع ذلك فإن اللقاء المباشر مع آثار هذه الحضارة التي لا تزال تُشعُّ نقاءً وقوةً لا يقاس بهما أي شيء آخر صنعته يد الإنسان الحديث، وإحساسنا بأن هذا كله قد تحقق ذات يوم على الأرض؛ على يد بشر مثلنا لم يأتوا من كوكب آخر، كلُّ هذا يستطيع أن يحرر شيئًا كامنًا في أعماقنا وينفخ فيه اللهب والنار.

ما هذا السر الذي حرك المصريين القدماء وتمثَّل في كل ما تركوه؟ لن يكون سرًّا إذا تصورنا أننا يمكن أن نقترب منه بمفاهيمنا الحديثة وتصوراتنا العقلية المسطحة. إن «الملمح الآخر» يميزه، والخطوة المَهيبة التي تتحرك في اتجاه واحد على الدوام ترمز له، وحركة الأقدام أو تطلُّع العيون إلى الأمام، وتصاعُد قمة الهرم وحافة المسلَّة إلى أعلى؛ كأنها تريد أن تنفُذَ في الفضاء الكوني لتوصِل سرًّا إلى أعلى أو تحمِل سرًّا إلى أسفل؛ كل هذا كان ولا يزال غريبًا على العقل الغربي والنموذج الغربي الذي ينشر سطوته على العالم الحديث في الشرق والغرب. ذلك أن المصريين لم يعرفوا، «اللوجوس»، فقد ظل غريبًا عليهم غربةَ النحت للطبع «البلاستيك» الذي يحيط بجسد التمثال اليوناني. صحيح أن اللوجوس هو أصل التقدم الهائل الذي حققه الإغريق وسبقوا فيه المصريين، لا أحدَ يشك في هذا، ولكن مَن ذا الذي لا يشك اليوم في هذا اللوجوس والتقدم والحضارة الأوربية التي خرجت منه؟ ثم يبقى هذا السؤال: إلى أين وصل هذا التقدم ومن أين انطلق؟ وقد نضيف، نحن المصريين، هذا السؤال: ترى ماذا كان يمكن أن يحدث للبشرية لو أنها انطلقت من السر لا من اللوجوس؟ سؤال عقيم بغير شك؛ إذ لا جدوى من «لو» و«ليت»؛ خصوصًا في مواجهة التحديات والأخطار المعاصرة، وبذورها كما نعلم كامنةٌ في السؤال الذي طرحه أول يوناني متفلسف: ما الوجود؟ ولكنه على كل حال يعيننا على الاقتراب من السر الذي لم نَعُد نُحس به، وهو السر نفسه الذي وقف عنده المؤلف الغربي في خشوع، مثلما وقف هيرودوت (قرابة ٤٧٤ إلى ٤٢٥ق.م) أمامه في حيرة وذهول. ويكفي أن أبا التاريخِ قد سجَّل في كتابه (الباب الثاني، ٣٧) أن المصريين هم أشدُّ الناس ورعًا وأكثرهم تقوى.

ويتضح لنا عمقُ المفارقة إذا تصورنا السائحين المتعجلين ووفود شبابنا المهرجين حين يقفون أمام شواهد هذا السر ومعالم هذه الحضارة، إنهم — بأعصابهم الثائرة وألسنتهم الثرثارة وكاميراتهم الفضولية — يتوهمون أنهم عرَفوا سر ذلك العالم القديم، بل سر العالم كله، بمجرد سماعهم بعضَ الأخبار السخيفة وإضافة تعليقاتهم الفَكِهة إليها. لقد فقدنا القدرة على الإحساس بالسر المطوي في أصغر قطعة من آثار ذلك الفن والبعد السحيق الذي جاء منه، والباعث الأصيل الذي دفع إليه. وليس السبب في هذا أننا اكتشفنا السر — فلا بد من التفرقة بين السر وبين سر من الأسرار — بل إننا طردناه من حياتنا، وأفسدنا إحساسنا به ببعض التفسيرات العلمية أو شبه العلمية التي توهمنا أنها حلت كل الألغاز؛ لهذا نزداد بُعدًا عن الواقع، ويتلاشى نبضه الحي تحت ركام الوصف والتفسير والاستخدام العملي والآلي، ونمر بالكائنات فنتصور أن كل شيء مألوف وعادي وثابت وأكيد، وتضيع منا رعشةُ الاندهاش التي هزت الإنسان القديم.

شيء آخر فقدناه؛ وهو الشعور بالعظمة والجلال. إن الآثار المصرية كفيلة بأن تعيد إلينا هذا الشعور الذي أوشك أن يضيع. فنحن اليوم نقيس كل شيء بمقياس كَمِّي، ونتصور أن العظمة مرادِفة للضخامة. ونظرة واحدة إلى أبي الهول أو الهرم الأكبر أو تمثالي رمسيس في أبي سمبل — بل نظرة واحدة إلى أصغر قطعةٍ من قطع هذا الفن — خليقةٌ بأن تزيل هذا الوهم.

لم يتجه المصريون إلى كل جليل وعظيم لأنهم يريدون الضخامة أو تشييد مبانٍ هائلة — على غرار الكولسيوم الروماني مثلًا — بل لأنهم كانوا يريدون أن يرتفعوا فوق كل ما هو بشريٌّ محدود، ويتمثلوا ضآلته ويصوروها لأنفسهم في صورة حية. صحيح أن أعمالهم تظل هائلةً حتى بالمعنى التكنولوجي الحديث، وما زالت تقدم للعلم التطبيقي مشكلاتٍ عسيرةَ الحل، ولكنها مع ذلك أبعدُ ما تكون عن ضخامة المنشآت الصناعية والعمرانية الحديثة. ويكفي أن نتأمل أبا الهول الراقد فوق رمال الجيزة، فأبعاده أكبرُ من كل بُعد بشري، ولكنك لا تشعر أمامه بالضخامة، وإنما تشعر بالعظمة الكونية التي توحي بأنه أجلُّ من كل مقياس بشري. ويكفي أنك لا تصل إلى غرف الملوك في باطن الأهرام أو في مقابرِ طيبة حتى تنحنيَ وتحني رقبتك وتبذل الجهد الجيد في الهبوط إليها على ضوء الشموع!

لم يكن الإنسان المصري يصنع شيئًا أو ينتج شيئًا بالمعنى التقني الحديث. لم يبدع ما أبدع لكي تراه عين بشر ولا عين إله، لقد كان يتجه إلى أعلى في إصرار وهدوء وجلال. كانت كل الإشارات والإيماءات والحركات والابتسامات التي طبعها على صُوَره وتماثيله ونقوشه تتحرك صاعدةً نحو الحقيقة العالية؛ لهذا كانت حييةً مقتصدة، ساكنة متزنة، معتدلة قوية، بعيدةً عن الانفعال والزخرف بُعدَها عن الضخامة.

وكانت فوق هذا كله «وحيدة مع الواحد»؛ إن جاز لنا أن نقتبس عبارة أفلوطين الخالدة. ومن هنا كان سر الطاقة السحرية العجيبة التي تنبعث من الفن المصري القديم، ولا يمكن أن تأتي من أي عمل بشري أو فني آخر، فلم يكن هذا الفن إلا تعبيرًا عما هو كامنٌ في طبيعة هذه المنطقة من الأرض وطبيعة أهلها، مهما ابتعدوا عنه اليومَ تحت تأثير اللوجوس اليوناني والنموذج الغربي الحديث، أو تحت تأثير التخلف والارتباك والكذب على النفس.

هل وُجد شعب على هذه الأرض اتجه هذا الاتجاهَ الحاسم نحو الحقيقة الأخرى كما فعل شعب مصر عندما شيَّد الأهرام في قلب الصحراء؟ إن تماثيلهم لا تجلس ولا تقف ولا تخطو في هذا العالم، بل تتحرك في الفضاء الكوني المفتوح غير المحدود؛ ولهذا تبدو كأنها لا تنتمي لهذا العالم. لقد تحركوا في اتجاه مختلفٍ تمامَ الاختلاف عن الاتجاه الذي نتحرك فيه اليوم. ترى ماذا كان يمكن أن يحدث لو تحركت البشرية معهم في الاتجاه نفسه نحو المتعالي؟ سؤال بلا جواب. ولكن يكفي أن هذا الاتجاه قد تحقق يومًا على هذه الأرض، فربما يدفعنا هذا إلى مجرد التفكير فيه.

•••

العلو فوق كل شيء على الإطلاق عن طريق التغلغل في كل شيء إلى الأعماق … تلك هي التجربة الكبرى التي تدور حولها خواطر المؤلف وحِكَمُه وتأملاته التي سجلها في كتبه الثلاثة السابقة الذكر. إنها من وحي هذه التجربة التي تشغله منذ قرابة ثلاثين سنة، دوَّن معظمها في مسكنه الوحيد بمدينة فرايبورج أو في أسفاره ورحلاته الفلسفية التي راح يلتقط فيها أشعةً من سر الواقع الذي لا يصدق. فمن عادته — بعد الفراغ من واجبات التدريس ومتاعبه — أن يلجأ إلى مكان ناءٍ يعصمه من ثرثرة البشر وضجيج آلاتهم وغرور علومهم ودعاويهم، ويتيح له الحياة بضعة أسابيع أو شهور في حضن الطبيعة العظيمة التي توفر له السكينة والوحدة والانفتاح على «الآخر». وغالبًا ما تكون هذه الخلوة الصامتة على قمم جبال الغابة السوداء المحيطة بالمدينة التي يعيش ويعمل بها، أو فوق المرتفعات السويسرية والإيطالية في منطقتي سلز ماريا وأوبر إنجادين وغيرهما من المناطق التي طالما شهدت جولات نيتشه الوحيدة، أو سفوح النرويج الثلجية؛ حيث تسكن الوحشة الصوفية البيضاء، أو في جبال كولورادو وكاليفورنيا وشلالاتها وغاباتها ومراعيها، أو بالقرب من أبي الهول وأهرامات الجيزة الشامخة وسط الصحراء النقية العارية.

ولو تصفحنا الكتب الثلاثة التي تنقُل إلينا لمسات من تجربته الطويلة الصابرة، لوجدنا مجموعات من الخواطر النافذة التي رتبها تحت عناوين مختلفة تتناول المسائل الأساسية للوجود الإنساني، وتشبه الإشارات الدالة على الطريق: السكينة، الوَحدة، الواقع، العلو، التحول، الآنية، الآخر، الزمن والأبدية، التناهي، الأصالة، العري، الانفتاح، الموت، اللغة والكتابة. إنها خيوط رقيقة تلمس جذور الواقع من خلال التجربة التي كابدها كثيرٌ من المتصوفين في الشرق والغرب: ترك العالم والعلوُّ فوقه إلى المتعالي عن كل واقع محسوس؛ هو السبيل الوحيد للرجوع للواقع والإحساس الأصيل بمعناه وعلاقتنا به؛ أي: إلى معنى وجودنا وحريتنا وشخصيتنا. ولن يتم هذا للموجود البشري المتناهي إلا في لحظات نادرة وخاطفة، وقد لا يحظى بهذه اللحظات على الإطلاق. وأقصى ما نستطيعه هو أن نهيئ أنفسنا لها بالسكينة والتوحد والانتظار والانفتاح على الواقع والدهشة المتجددة من معجزاته، وإحياء «الشيء» الخالد في أنفسنا بالارتفاع فوق كل شيء، ومعاودة الجدل الباطن للاتصال بالآخر، أو بالأحرى تركه يلمسنا ويكون فينا ويصطدم بنا ويُغيِّرنا …

•••

هذه لمحة عابرة عن تلك الخواطر التي يصعب تلخيصها؛ لأنها بطبيعتها لا تقبل التلخيص. إنها تحاول أن تنقُل إليك تجربة ربما يشارك فيها إنسان ما، في وقت أو مكان ما، ومن حقك — بطبيعة الحال — أن تقبل هذه التجربة أو ترفضها، فغايتها الوحيدة أن تثير فكرك ووجدانك، وتحيي فيك شرارة الفعل الفلسفي ورسالته الأصلية التي لا تخرج عن هذه الوصية الكامنة في كل «فلسفة خالدة»: فكِّر بنفسك، وحرر نفسك بنفسك! ولهذا يظل التفلسف مخاطرة دائمة نحاول فيها — عن طريق الفكر والسلوك والتجربة المكثفة — إلقاء الضوء على أحوال الوجود الإنساني وعلاقاته الأساسية التي يكتنفها في العادة الظلامُ والغموض …

ولكن كيف يتفكر المتفلسف في هذه العلاقات والأحوال أو الشروط الأولية للوجود الإنساني؟ كيف يصل للانفتاح على الواقع ويبلُغُ التحرر الباطن ويُعين غيره على بلوغه؟

لا بد أن يحاول السير على الطريق الشاق الذي يعود به إلى الأصالة، وهو طريق شاق لأنه يُلزمه — كما يُلزم كلَّ إنسان في كل عصر — أن يُعيد التفكير في مفاهيم ميتافيزيقية وكلمات فلسفية نُسيت أو كادت أن تُنسى، وبخاصة في هذا الزمن الذي اختلطت فيه العلاقاتُ الأولية واضطربت وأصبحت مهددةً بالضياع، بل أصبحت مهددة بأن يفقِد الناسُ كل إحساس بضياعها! وهو يرجع إلى هذه المفاهيم والكلمات، فيتناولها ويحددها من خلال التجربة، وهذه التجربة ترفعها إلى مستوًى آخر، فتتحول معانيها ويتحول هو نفسه معها. ويعاود المحاولة في بطء وصبر، وصدق وأمانة؛ لأن من طبيعة هذا الفكر أن يمتحن نفسه من جديد، وكلما ظن أنه اقترب اكتشف أنه لا يزال بعيدًا وأن عليه أن يعاود المحاولة. وهو في هذا كله لا يعبأ بالنتائج، ولا يعنيه أن يصل إلى «مذهب» مقفل نهائي؛ لأن المهم عنده هو نمو الفكرة وصيرورة التجربة التي تدور في أفق يصعب التعبير عنه؛ ولهذا كان من الطبيعي أن تختار هذه التجربةُ الخاطرة السريعة والحكمة القصيرة؛ لأنها أقدر على اللمسة الحية المباشرة، وأبعدُ عن كل وعاء محدد. وهو في النهاية يخاطر بأن يبدوَ فكره غريبًا أو مصطنعًا، وأن يُتهم بالانعزال والتجريد والتعالي، وغيرها من التهم التي تدل على سوء النية أو سوء الفهم.

•••

لننظر الآن في بعض هذه الكلمات والمفاهيم الأساسية التي يحاول المتفلسف عن طريقها أن يقول ما لا يقال ويصف ما لا يوصف؛ لأنه بطبيعته وماهيته ليس شيئًا وليس كمثله شيء.

وأول ما نبدأ به هو السكينة؛ فمنها يبدأ كل وجود حقيقي.

والسكينة هي أثمن شيء؛ لأنها أندر شيء. نحن لم نعد نعرف السكينة العظيمة ولم نعد نحتملها أو نَحِنُّ إليها؛ خصوصًا بعد أن وصل ضجيج الآلات وصفير العربات والطائرات إلى كل مكان (وبالأخص في بلدنا الذي قتلْنا فيه الصمت والسكون إلى الأبد، وقضينا فيما يبدو على كل فرصة للتحرر الباطن)، والسكينة العظيمة ليست فارغةً أو ميتة، ليست مجرد انعدام الضجيج، إنما هي السكينة التي يمكننا أن نسمعها ونتنفسها، إنها قادرة على أن تُحيل أضأل الأشياء وأخفاها إلى أهمِّها وأخطرها؛ أي: أن تظهر الأشياء في علاقاتها الحقيقية. من خلال هذه السكينة العظيمة الممتدة، ومن خلال التوحد والتجمع الذي تتيحه لنا؛ يمكن أن تظهر معالم الواقع؛ لأن مجاله هو السكون. ويمكن أن تتيح لنا العلو على أنفسنا وكل ما هو شيء؛ لأنها تُسكت كل ما هو شيء كما تُسكت كل آنيَّتنا ورغباتنا وأفعالنا. وعندما يسكت كل شيء، يمكن أن يأتي «الآخر» المختلف عن كل شيء؛ تلك هي الحقيقة الصوفية. عندما تصبح السكينة وطننا، ويسكت كلُّ شيء فينا ومِن حولنا، عندما يتوقف الزمن ويتوقف معه كل شيء، في هذه اللحظات النادرة المثقلة بفاكهة الأبدية، يمكن أن يتجلى الآخر وينفتح (فاللحظة هي الحضور، هي مستقَرُّ الأبدية. والحاضر الكامل هو الواقع الحقيقي، ولهذا فنحن نهرُب في العادة من اللحظة ونفرُّ إلى الماضي أو إلى المستقبل)، عندئذٍ نصبح أحرارًا، عندئذٍ يمكننا أن نقول إننا نحيا في السكينة؛ أي: نحيا الحياة الميتافيزيقية. ومن خسِر السكينة أو أضاعها، فقد خسِر الأبد وأضاعه.

هذه السكينة لا تُصنع ولا تُصطنع، إنها تتطلب منا شيئًا واحدًا؛ أن نتركها تكون، أن نغوص في أعماقنا الباطنة ونتهيأ لها؛ أي: أن نتوحد توحُّدًا مطلقًا. هذا التوحد المطلق أصبح الآن من أصعب الأمور، فلم نعد نعرفه أو نحتمله أو نحاوله. إنه أسبق من الاجتماع والتجمع (فحتى الجماهير المحتشدة تتألف من أفراد وحيدين، وحتى المحبين في قمة اتحادهم يعودون إلى الحالة التي بدءوا منها؛ أي: إلى الوحدة، وهذه هي إحدى مفارقات الحب)، وإذا صح ما يقوله أرسطو من أن الإنسان حيوان اجتماعي أو مدني بطبعه — ولا شكَّ أنه صحيح —، فمن الصحيح أيضًا أنه حيوان وحيد، بل هو الحيوان الوحيد الذي يمكنه أن يكون وحيدًا!

هذه الوحدة الأخيرة لا تعني الانعزال عن الناس والأشياء (فحتى السجين في زنزانته ليس وحيدًا بحق؛ لأنه وحيد مع نفسه)، بل تعني ما هو أهمُّ وأصعب؛ الزهد في الاجتماع مع الذات، إسكات كل صوت يأتي من داخلنا أو خارجنا، إسكات اللغة نفسها؛ هذه الوحدة الأخيرة التي يكون فيها الإنسان وحيدًا مع الواحد (كما تقول عبارة أفلوطين السابقة)؛ هي مجال الواقع، وهي المجال الذي نتصل فيه بالآخر المختلف عنا وعن كل ما يتصل بالعالم بسبب.

وحدك، لا صوت ولا إنسان، صمت، سكون، طبيعة عظيمة هادئة؛ وحدك مع القوى الكونية، وسط الصحراء والوحشة التي يتحدث عنها المتصوفة، هناك تجده أو بالأحرى يجدك، هناك تلمسه أو بالأحرى يلمسك.

ولكن ما هو هذا الواقع، هذا الآخر، هذا الذي ننفتح عليه فنرجع للأصالة، ونلمس السر، ونكتسب الحرية، ونعود إلى أخصِّ ما يخص شخصيتنا وآنيَّتَنا الحقة؟

لعل السؤال «ما هو» سؤال خاطئ، ولا بد أن يخطئ المسئول عنه؛ لأنه ليس شيئًا مما يقع في هذا العالم ويقال له «ما» أهو الله، أم الحقيقة الدينية، أو الواحد، أو الهُوَ، أو الآخر …؟ ولكن كل تحديد يخطئه؛ لأنه «الغير» المختلف من كل ما يقبل التحديد والتصور والتعبير. كما أن المؤلف يتحاشى وصْفَه بالصفات والأسماء التي انتقلت إلينا من التراث الديني والميتافيزيقي. صحيح أنه يتحرك في أفق ديني وصوفي، ولكنه يحرص على أن يصون لتجربته الدينية والصوفية خَصوصيتَها وتفرُّدَها حرصُه على صون آنيَّته الحقة في مواجهة الآخر الذي لا تكتسب حقيقتها إلا من خلال علاقتها به.

والكلام عن «الواقع» و«الهو» و«الآخر» و«الغير المطلق» ينقُلنا إلى قلب هذه التجربة، ويفضي بنا للحديث عن العلو والانفتاح والعري والتحول من الباطن، والحضور الأبدي في اللحظة، والشخصية، والفعل، والأنية، وغيرها من المفاتيح التي يلجأ إليها المتفلسف مضطرًّا، عالمًا بعجزها وقصورها عن معالجة أقفال السر …

•••

العلو فوق كل شيء على الإطلاق …

والعبارة تثير الكثير من سوء الفهم، وربما اختلطت في الأذهان بالزهادة أو التعالي أو الهروب من الواقع أو العداء للعلم أو الاعتصام بأبراج عاجية أو غير عاجية … بيد أن المفارقة في الموقف الإنساني هي هذه: إن أردت أن تهبط إلى الأعماق، فلا بد أن ترتفع فوق كل شيء على الإطلاق … فأنت لن تخرج من العالم ولن تنتزع نفسك منه حتى تتعمقه وتتغلغل فيه. إن الإنسان يمكنه أن يرتفع فوق كل ما هو شيء؛ أي: فوق على ما يوجد أو يكون؛ بحيث لا يعود يتعلق بشيء أو يتعلق به شيء.

ولكن إلى أين نعلو ونرتفع إذا تركنا العالم وكل ما يتصل به بسبب؟ إلى الفراغ والعدم؟ والرد بسيط، فالارتفاع فوق كل شيء على الإطلاق يعني الارتفاع فوق الشيء وضده؛ أي: فوق الوجود والعدم جميعًا.

هل أترك هذا العالم لأدخل في عالم آخرَ مِن صنع الفكر والخيال؟ ولكن هذه هي الميتافيزيقا الناقصة أو الباطلة؛ إذ لا بد أن أرتفع فوق العالم على وجه الإطلاق، بل إنني لأرتفع فوقه بالفعل بمجرد تكوين فكرتي الشاملة أو مفهومي وتصوري عنه. ولو صح ما يقوله باسكال في عبارته المشهورة من أنني عَدمٌ بالقياس إلى الكون والطبيعة، ويمكنها أن تَسحقَني بكل سهولة، فإن معرفتي بهذا تجعلني مرتفعًا فوقها ارتفاعًا لا حد له.

قد يكون من السهل عليَّ أن أرتفع فوق هذا الكوكب الأرضي، وفوق النظام الشمسي كله، ولكن ماذا أفعل في النظام الكوني نفسه؛ في ملايين الأنظمة الشمسية التي لم يتوصل الفلكيون إلى حصرها ولا يمكن لذهن بشري أن يتصورها؟ الجواب: لا بد من الارتفاع فوق كل ما هو محتوًى في مكان! ولكن إلى أين؟ إلى الانفتاح أو المنفتح الذي هو أرحب من كل مكان يحتوي غيره. هذا الانفتاح الخالص لا يكون إلا في الباطن؛ أي: إن العلو فوق كل ما هو شيء أو في شيء أو في أين؛ يعني في النهاية الانفتاح على الآخر الذي ليس بشيء ويستحيل على أي شيء أن يكونه. هذا الآخر لن نجده ونلمسه، أو بالأحرى لن يلمسنا ويصطدم بوجودنا البشري الفاني، ولن «نشتعل» به إلا في أعماق الباطن؛ هذا المكان الخالص الذي لا يعرف الحدود المكانية، هناك نكتشف أن الواقع «الواقعي» أو الآخر أو الهُوَ؛ هو القريب منا وأخص ما يخصنا، كما هو أبعد البعيدين وأغربهم عنا؛ عندئذٍ نعاني التحول الكامل والتغير الباطن، ونهيئ أنفسنا بالصبر والمشقة والجدية والاتجاه إليه والانتظار له ونفي كل ما عداه، ونتعذب ونحيا في التناقض والمفارقة بعد أن نتخلى عن منطق الأشياء ويتخلى عنا، ونجرب الفرحة العميقة تعقُبُها خيبة الأمل المدمرة، ونظل نواصل الصعود ونجازف كلَّ لحظة بالتردي في الفشل والبدء من جديد، حتى تأتي «اللحظة الأبدية» (وقد لا تأتي أبدًا!)، ويلمسنا «الآخر»، الواقع الحقيقي المختلف عن كل واقع ملموس أو محسوس، الواقع الذي لا نُحس بشخصيتنا وحريتنا وآنيتنا ومعنى وجودنا ووجود العالم وكل شيء مهما ضَؤُل فيه؛ إلا إذا ثابرنا على التجربة الشاقة؛ تجربةِ أن نتركه يكون … وهي في النهاية تجربة المتصوفين في الشرق والغرب: إن أردت أن تكسِبَ كل شيء، فلا بد أن تتخلى عن كل شيء.

•••

هذه لمحة عابرة عن هذه الأفكار والتأملات والحِكَم الموجزة التي يستحيل تلخيصها كما قلت؛ إذ لا بد من معايشتها والإحساس بمفارقاتها وظلالها وتنويعاتها التي لا حد لها. وقد قدمتها لك هذا التقديم المخلَّ؛ لأن الكتاب الذي بين يديك يحاول أن يتناول أبعادها وأعماقها وظلالها في صورة منهجية منسقة. وهي محاولة خطرة كما ترى؛ لأن الكتاب يبقى في النهاية تجربة تطالبك بأن تحياها وتعانيها، وتصمُدَ لمَشاقِّها وأخطارها. ومهما تذرَّع بالعلم الدقيق بالتراث الفلسفي واللاهوتي، وخاض في بحار الفلاسفة والمتصوفين والأدباء والشعراء والفنانين، فإنه يظل تجربةً حاسمة وأخيرة لا بد أن تحققها بنفسك، فتجربة العلو هي نفسُها صميم تجربة التفلسف. وربما خطر لنا أنها شبيهة بغيرها من التجارب الأخيرة، كالموت والقلق والحب والخيبة واليأس والفرح والأمل، إلى آخر هذه التجارب «الحدِّية» التي لا بد أن تقوم بها بنفسك، ولا يمكن أن ينوب عنك أحدٌ في تحملها ومكابدتها، ولكننا ننسى عندئذٍ أنها تعلو فوق هذه التجارب جميعًا، بل إنها هي التي تعطيها المعنى والأصالة، وتلقي عليها ضوءًا جديدًا.

كان هذا الكتاب في الأصل محاضرة ألقاها المؤلف — كما قدمت — في شتاء سنة ١٩٦٠–١٩٦١م على طلاب جامعة فرايبورج. وقد ألقيت بعض أجزائه في شهر أكتوبر سنة ١٩٦٦م في الجامعة المسيحية الدولية في طوكيو، كما ألقى المؤلف التمهيد الذي وضعه له كمحاضرة مستقلة في شهر سبتمبر سنة ١٩٦٧م في جامعة كيوتو باليابان ثم جامعة كوفكيبسي بالولايات المتحدة الأمريكية.

ونشْرُ هذا الكتاب في أصله الأجنبي أو ترجمته العربية لا يخلو من مخاطرة، ولا يمكن أن ينجو من الاتهام وسوء الفهم، وأول التهم التي يمكن أن توجَّه إليه أنه كتاب في التصوف، وهي كلمة ساءت سُمعتها في زمن العمل والمنفعة والكفاح والطموح العلمي والمادي. كما أن الكثيرين عندنا يتصورون أنها مرادِفة للانعزال والبعد عن الواقع والدروشة والشعوذة والانصراف إلى الغيبيات. والكتاب لا ينكر التهمة، فهو كتاب في التصوف، ولكنه ينكر المفاهيم المغلوطة عنه في الشرق أو الغرب، كما يختلف في أمور أساسية كثيرة عن مفهوم التصوف عندنا؛ سواءٌ في ذلك تصوف الزهاد أو التصوف الفلسفي بمذاهبه المختلفة؛ من حلول واتحاد ووَحدةِ وجود. وإذا كان قد استقر في الأذهان أن غاية المتصوف هي فَناء ذاته في ذات المحبوب، فإن هذا الكتاب يهدف، أولَ ما يهدف، إلى إثبات الجانب الحقيقي الخالد من الذات والشخصية بتأكيد علاقتها بأساسها وأصلها، وهو الواحد أو الغير المطلق أو ما لا يمكن أن تُدركه الأسماء؛ أي: بتأكيد الواقع الحقيقي الذي تعلو إليه الذات المتناهية فترتد إلى واقعيتها، ويعود العالم «أخضر». والمؤلف يشرح هذا كله بالتفصيل والتحليل. وسواءٌ رفضت تجربته أو قبِلتها، فإن الروح الجدِّية — التي لا يقوم بغيرها فكر ولا فعل — تتطلب منك أن تقف منها موقفًا جادًّا، ولا تتسرع بالحكم عليها بأحكام مسبَّقة خارجية عنها.

والواقع أن الكتاب يحتفظ — كما قدمت — بطابع التجربة على الرغم من الصورة المنهجية المحكمة التي يضفيها المؤلف عليه، فهو لم ينشأ عن تفكير منطقي أو مذهبي، ولا يطمح أن يكون بحثًا من البحوث التي تزدحم بها رفوف المكتبات وأيدي الطلاب. إن التجربة التي انبثقت من الفعل الباطن لن تطالبك إلا بالفعل الباطن.

هذا هو أقصى طموح أيِّ كتاب يعرف أن الفلسفة فِعلٌ قبل كل شيء؛ ولهذا فلا يكفي أن تقرأه وتستوعبه، بل لا بد أن تعايشه وتحققه بنفسك. إن أفكاره البسيطة أشبه بيوميات ميتافيزيقية، مهما التزمت بالعرض المنسق فلن تخفي عنها اللمسة الشخصية. هي آثار «اندفاعات» أو «قفزات» إلى الباطن، شواهد تغيرات وتحولات تمت في أعماق صاحبها على مدى ثلاثين سنة، ثم دوَّنها لمن يأنسون في أنفسهم الرغبةَ والاستعداد لمعاناة الفعل الفلسفي معاناةً حرة مستقلة. ولا شك أنها تحافظ على الدقة والموضوعية والاتساق الذي لا يستغني عنه بحث فلسفي، ولكنها ستظل «نداء» للضمير، ودعوةً لإنقاذ التفلسف نفسه؛ أي: لإنقاذ الإنسان، وهو الكائن الوحيد القادر على العلو فوق نفسه وفوق العالم.

ولكن هل يمكن أن يجد النداء أذنًا صاغية في عصر الثرثرة والضجيج؟ هل ينفُذ صوته من جدران اللافتات والشعارات الجاهزة؟ هل يلتفت إليه أحد وسطَ سُعار الآراء والمذاهب المتصارعة واللُّهَاث وراء المنفعة وتأكيد الأنا المتسلطة — أي ذلك الجزء الأدنى من آنيتنا — على حساب العنصر الخالد فيها؟

من الطبيعي أن يبدو مثلُ هذا الكتاب — الذي نمت أفكاره في ظل السكون — غريبًا في زمن الضوضاء، ومن الطبيعي أن تكون دعوته للعودة إلى الأصل والمنبع غريبةً في عصر يبتعد في جنون عن الأصل والمنبع. ولا بد في النهاية أن يتعرض لأقاويلِ المتسرعين بإدانة كل شيء يخالف تفكيرهم، المتَّشحين بثياب قضاة العصر وأحيانًا بأقنعة جلَّاديه. ولكن لعل من أهم أهداف هذا الكتاب أن يثير فينا الشعورَ بالغربة؛ أن يدفعنا إلى النظر إلى الموقف الطبيعي العام الذي نعيش فيه في ضوء جديد غير مألوف؛ أن يحملنا على تجاوز الأُطُر والقوالب والمواضعات التي نطمئن إليها ونتركها تفكر لنا، ونسكن إليها كما لو كانت بيوتًا راسخة للأبد؛ أن يعيدنا إلى الفعل الوحيد الذي يوقظ هذه الغربة الهاجمة في نفوسنا، ويوقظ معها وجودنا ووجود العالم من حولنا؛ أي: يعيدنا إلى فعل التفلسف الحق.

ولكن ما هي طبيعة هذا الفعل الذي نعلق عليه إنقاذ الفلسفة والواقع والإنسان في هذا العصر؛ عصر التجميع والتسطيح والآلية والأيديولوجية وتصنيع الأفكار والعقول بالجملة؟ ما مكانه بين أنواع الفعل البشري الأخرى؟

قد يمكننا باختصار أن نميز ثلاثة مستويات للتفكير والفعل (راجع خاتمة الكتاب). فهو في المستوى الأول صُنع وأداء وعمل. الإنسان يقدر عليه دائمًا، والمجتمع الحديث يشجع عليه بكل وسيلة. هنا نجد خصائص «العامل»: من اجتهاد وبراعة وإنجاز ونجاح وأرقام قياسية … إلخ.

وهو في المستوى الذي يليه فعل يتخلى عن الصنع والأداء، ويصبح وخلقًا وإبداعًا وإظهارًا للوجود. الإنسان يقدر عليه أحيانًا، والمجتمع يصبر عليه (وقد يحاربه أو يشجع عليه لأغراض الدعاية). هنا نجد خصائص الفنان والأديب والفيلسوف: التفرغ، الإنتاج، العمل الفني.

وهو في المستوى الثالث والأخير يتخلى عن الإنتاج والإبداع، فالإنسان يتغير فيه تغيرًا كاملًا، ويحاول على الدوام أن يرتفع إليه دون أن يبلغه:

هذا الفعل خارج بطبيعته عن دائرة المجتمع. إن نموذجه هو النبي والقديس، وخصائصه هي الخلوة، والنعمة، والإلهام، والفعل الباطن. هنا لا تنفع استثارة ولا جهد ذاتي، وإن ساعدت عليه السكينة التامة والانتظار الخالص والتسليم المطلق. هنا لا نفعل شيئًا من جانبنا (كما في الصنع) ولا بعون من قوة متفوقة علينا (كما في الفلسفة والشعر والفن)، بل نحس أنه «يفعل بنا»، ومن خلالنا، وأن هناك حقيقةً تجرفنا وتستولي علينا وتحوِّلنا.

والفعل الفلسفي — الذي يقع في مكان الوسط من هذه المستويات، وربما مال أحيانًا إلى المستوى الثالث واقترب من الفعل الصوفي — هو في صميمه علو أو تجاوز أو مفارقة أو «ترانسندنس». ومهمة هذا الكتاب هي توضيح هذه الحقيقة وبيانُ أن الفرصة الوحيدة الباقية أمام الفلسفة هي أن ترجع إلى ما بدأت به وبلغته عند كبار الفلاسفة والمفكرين بصور مختلفة؛ أي: أن تصبح علوًّا فوق كل ما هو شيء؛ لكي يمكنها بعد ذلك أن تعرف ما الشيء. وإذا لم تفعل الفلسفة هذا، فستصبح نظرية في العلم أو مبحثًا في الأسس التي تقوم عليها العلوم المختلفة، أو نظرية في الاجتماع البشري، أو حسابًا منطقيًّا أو ما أشبه؛ أي: تصبح شيئًا آخر غير الفلسفة بمعناها الأصلي؛ وهو العلو. ستختنق تحت أكوام الحقائق والمعلومات التاريخية، أو تتبدد في عواصف الآراء والمذاهب والتيارات المتصارعة، أو تركع أمام السلطات السياسية وغير السياسية، أو تتعثر في أدمغة الأساتذة على ألسنة الطلاب.

إن الإنسان في هذا العصر أحوج ما يكون إلى تحقيق هذا العلو والارتفاع حتى ينجح علاقته بالواقع، ويعود «الأخضر أخضر»، بعد أن احتجبت خضرته خلف ستار كثيف من الأفكار المسبَّقة والمفاهيم البالية. ولن نلمس هذا الواقع حتى يلمسنا الواقع الحقيقي الذي يستعصي — كما قلت — على كل وصفٍ أو تعبير، وإن كان لا يعفينا أبدًا من عناء التفكير.

وعجْزنا عن وصف هذا «الواقع» بنقلنا إلى عجز اللغة نفسها، فاللغة — كما تقدم — قد خُلقت للتخاطب اليومي ووصف الأشياء. ومن الطبيعي أن تقصُر عن وصف ما يخرج عن مجال الأشياء جميعًا؛ أي: أن تجد نفسها مضطرة لوصفِ ما لا يوصف وقول ما لا يقال، وهي — كما قدمت — نفس الحيرة التي يُحسها الشاعر والأديب والفيلسوف أحيانًا، ويعانيها المتصوف في كل الأحيان.

إن اللغة الطبيعية التي نستخدمها كل يوم تتعلق بالعالم المحسوس والعلاقات القائمة فيه. والتفلسف في صميمه علوٌّ على هذا العالم وعلاقاته؛ ولهذا فإن كل كلمة تَرِد في عبارة فلسفية تأملية (ولا بد أن يكون الفكر الفلسفي تأمليًّا، وكلما زادت فيه درجة التأمل والتجريد، زاد نصيبه من الحيوية، وذلك على العكس مما يتصور الكثيرون)؛ ستكون بالضرورة بعيدةً عن اللغة الطبيعية؛ لأنها ستتحرك في مجال آخر وعلى مستوًى آخر. صحيح أن الفيلسوف — مثله مثل رجل الشارع — لا يملك غير هذه اللغة الطبيعية، وهو مضطر إلى استخدامها حتى يفهم نفسه ويفهمه غيرُه، ولكنه مضطر كذلك أن يرتفع بهذه اللغة، وإلا فلن يُحسب بين الفلاسفة! إن الكلمة عنده يتغير معناها وتتحول وظيفتها، شأنها في هذا شأن الكلمة الشعرية، على الرغم من اختلاف السياق والهدف. وقد كانت المشكلة التي حيرت الفلسفة منذ القدم هي اضطرارها لاستخدام لغةٍ خُلقت لعالَم آخر غير عالَمها. بل إن هذا الفارق بين العالمينِ فارق أساسي وكلي. والأدوات التي يلجأ إليها الفيلسوف — كالمفارقة والتناقض والرد والمبالغة … إلخ — تظل عاجزة عن التعبير عنه.

ويكفي أن تتأمل كلمات كالوجود والعدم والواقع والجوهر والزمن والحرية وغيرها من الكلمات المثقلة بتراث تاريخ الفلسفة ونقد هذا التاريخ ونقد هذا النقد. إن كل متفلسف حقيقي لديه ما يقوله لا بد أن يفكر في هذه الكلمات تفكيرًا جديدًا، ويضعها في سياق جديد؛ من خلال التجربة والموضوع الذي يفكر فيه. هذه الموضوعية هي التي تضمن له الدقة في التعبير، وتلك التجربة هي التي تتيح له أن يعود بالكلمات والمفاهيم — التي استهلكتها الثرثرة والتشويه — إلى جذورها، ويفكر فيها تفكيرًا أصيلًا. ولا ننسى أن تجربة المتفلسف هي التي تحسم الأمر في النهاية، فهي التي تحرره من عبء التراث — الذي لن يستغني أحد عن الرجوع إليه — وتجعله يراه في ضوء جديد، وهي التي تعصمه من النقل والترديد وحكمة الببغاوات. ولا يعني الرجوع إلى أصول الكلمات أن تغتصبها وتحملها ما لا تَحتمِل. فالمقصود به قبل كل شيء هو الرجوع إلى تجربة الوجود عند أصحاب اللغة، والإلمام بمراحل التطور التي مر بها هذا الكائن الحي الذي نسميه الكلمة. وإذا كان المؤلف يسرف أحيانًا في الرجوع إلى اشتقاق الكلمات في لغته أو في اللغات القديمة، فليس هذا من قبيل التحذلق، ولا هو من باب التقليد لأستاذه هيدجر الذي اشتهر بنحت الكلمات والحفر عن جذورها البعيدة، وإنما هو يحاول أن يرجع إلى أصول الكلمة الموغِلة في القدم؛ لكي ينفض غبار الزمن عن معانيها الدفينة التي تتسق مع تجربته. وهذه طريقة في التحليل نجدها عند كل الفلاسفة؛ مع تفاوت حظهم من العمق والأصالة والابتكار. ولا شك عندي في أنك ستتوقف عند مناقشته لكلمات مثل المكان والعالم والشخصية والخصوصية والغيرية والواقع، وغيرها من الكلمات العريقة، وتعجب بطريقته في البحث عن دلالاتها في لغاتها الأصلية، وربما تمنيت معي أن نصنع هذا الصنيع مع لغتنا؛ لنَسبُرَ أغوار تجربتنا التاريخية بالوجود، ونغوص في منجم الكلمة العربية؛ أسوةً بأسلافنا من الفلاسفة والبلاغيين والنحويين والفقهاء والمتصوفين …

•••

يدور الكتاب الذي بين يديك حول تجربة واحدة «وموضوع» واحد؛ إن جاز أن نصفه بأنه موضوع! وربما شعرت بشيء من السأم لتكرار بعض الأفكار والقضايا التي لا تنفك تدور وتدور كحبات الشعير حول الرحا! غير أن هذا التكرار نتيجة طبيعية لتجمع الفكر وتركيزه، «وإلقائه بنفسه على الواحد» (على حد تعبير أفلوطين)؛ أي: إنه نتيجة طبيعية للاتجاه الباطن نحو ذلك الذي لا يصح أن نتجه لغيره؛ ولهذا تجد المؤلف يحشد جهوده في كل مرة لكي يصعد إليه، وفي كل مرة يدرك قصور المحاولة فيعيد الكَرَّة، شأن الفارس الذي يجرب كل أسلحته في اقتحام قلعة غامضة منيعة!

ووحدة الموضوع الذي يشغل الكتاب تأتي كما قلت من وحدة التجربة والمنهج والفكرة. ولا يعيب الإنسان أن تشغله فكرةٌ واحدة؛ فالواقع أن كل المفكرين الذين يُعتد بهم قد شغلتهم فكرة واحدة، ولم تكن أعمالهم المختلفة إلا تنويعات عليها، وبحسب المفكر أو الأديب أن يجد الفكرة الوحيدة التي تملك عليه نفسه وتملأ عليه حياته. وليس من حقنا أن نحكم على مثل هذه الفكرة بالصواب أو الخطأ؛ فتاريخنا البشري سلسلة من الأخطاء وتصحيح الأخطاء وتصحيح التصحيح! وإنما المقياس الحقيقي هو مدى خصوبتها أو عقمها، وطريقة عرضها وتحليلها وبسطها في صورة متسقة مقنعة. ولا خوف عليها من أن تكون مملةً أو رتيبة، فهناك أشياء لا يمل الإنسان تَكرارها وإن كانت من أقدم الأشياء؛ ولهذا فإن الفلسفة أكثر إملالًا مما تظن الأسماع الحديثة، ومع ذلك تظل جديدةً حية عند كل مفكر جدير بهذا الاسم. ولا خوف على المتفلسف من أن يكون مملًّا، فلم تزل هناك مجالات وراء مجالات يتعين على الفلسفة أن تكتشفها، ومناطقُ بعدَ مناطق لم تخطر لها على بال. إننا نزهو بفُتات علومنا، ولكن ماذا نعرف عن التغيرات التي تنتظر الفكر البشري؟ أليست هناك أسرار لا حصر لها لم يَفُضَّ العلم بعدُ أقفالها؟ وما قيمة عدد من المفاهيم والصيغ التي توصلت إليها الفلسفة في بضع مئات من السنين تُعد في الواقع لحظات من عمر الزمن الكوني؟ ألا يجوز أن يكون الكثير من هذه المفاهيم والصيغ هو الذي يحجب عنا وجه الحقيقة والواقع؟ أليست مراجعة النفس هنا أيضًا من إلزام واجبات الحكمة؟ يكفي أن ننظر في الكلمات التي نرددها في حياتنا العامة والخاصة منذ سنين — كالحرية، والعلم، والتراث، والديمقراطية والاشتراكية والأصالة — دون أن نُعنى بتوضيحها وتحليلها والتفكير فيها. أليس من أول مهام الفيلسوف أن يمتحن هذه الكلمات ويسأل عن تاريخها ويستوضح معانيَها على ضوء تراثه وحاضره ومشكلاته وهمومه؟

وقد تُحس أيضًا من قراءتك للكتاب أن صاحبه يعتمد على عدد محدود من المفكرين، وعددٍ آخرَ محدود من الأدباء والفنانين، وهؤلاء المفكرون الذين تتردد أسماؤهم ونصوصهم على صفحات الكتاب لا يكادون يتجاوزون عدد أصابع اليدين: أفلاطون، وأفلوطين، وإكهارت، وباسكال، وكانط، وكيركجور ونيتشه وهيدجر ورلكه. وهذا شيء طبيعي أيضًا، فقد يقضي الإنسان حياته في معرفة خمسة مفكرين أو أربعة أو ثلاثة، بل ربما لا تضيع حياته سُدًى لو قضاها في تعمق مفكِّرٍ واحد ضخم. هذا شيء مألوف لدى الأمم المتحضرة، وليس النَّهم الثقافي المسعور ولا التنقل كالنحل بين فتات الموائد — وإن كنا نظلم النحل ظلمًا كبيرًا؛ إذ لم نسمع عن نحلة لا تتمثل ما تمتصه ولا تُحيله إلى شهد ورحيق — إلا علامة الضياع والفراغ والتطفل، ونهب والجوارح أعشاش الطير، وزهو الصلع بالشعر المستعار! ولعل الدرس الذي يمكن أن نتعلمه من هذا الكتاب هو أن التفلسف يقوم على التجربة الجادة الطويلة، وأن وباء القص واللزق الذي استشرى لدينا لن يشفي منه ألفُ ساحر وعازف على الناي؛ ممن نسمع عنهم في حكايات الأطفال، وإنما يشفينا منه أن نجرب ونصبر على التجربة في الفلسفة وغيرها، ونحاول أن نتجاوز النقل إلى الخلق والإنشاء، ونتمكن من التراث ونستسيغه، ثم نحاوره ونسأله ونهتدي به في المشكلات التي تؤرقنا. ومن لم يجد لديه ما يقوله فليتجه بجهده إلى الأمهات والعيون يستوعبها ويتوفر عليها، أو ينقُلها إلى لغتنا فيُحسن نقلها؛ لعل الأجيال القادمة أن تكون أسعد منا حظًّا وأقدر على تأسيس فكر فلسفي أصيل …

•••

يقول المتصوف العظيم الميستر (أو المعلم) إكهارت في إحدى عظاته العميقة: «هل هناك أحلى من أن يكون لك صديق يمكنك أن تحدثه بكل ما يَعتمل في قلبك وكأنك تتحدث مع نفسك؟ نعم، هذا حق». فليكن هذا الكتاب صديقًا لك، ولْتدخل في حوار معه قبل أن تتسرع بالحكم عليه، إنه لا يطالبك بشيء، ولا يفرض عليك شيئًا، وهو لا يطمع أن يجعل منك متصوفًا على الرغم منك! بل لا يطمع في الحقيقة في أي شيء على الإطلاق، وليس من الضروري أن تشاركه تجربته أو تتبنَّى فكرته؛ يكفي — إن لم تستطع ذلك — أن تقف منه وقفتَك من كل فكر جاد؛ تحترمه وتتعلم منه وتحاوره حوار الصديق، ثم تتابع طريقك الذي اخترته لنفسك وقد زادت ثروتك من الخبرة والوعي، واستنارت أسرار كانت مجهولةً أو مظلِمة في أعماقك. وغاية ما أتمناه ألا تنتهيَ صحبتك له بعد اللقاء بالعينين، بل تستمرَّ وتمتد في فعل شخصي يضيء ما غمض عليك من مناطق وجودك الباطن، ويوضح ما اختلط عليك من كلمات ومفاهيمَ شوهتْها الثرثرة، وخنقها التزمُّت والكذب. وإني لأرجو أن يؤصِّلَ علاقتك بنفسك وبالعالم والمجتمع والتاريخ، ويثيرَ فكرك ويؤكد حريتك، ومَن يدري؟ فربما غيَّرك التغييرَ المنشود، وأعانك — كما أعانني — على احتمال مرارة الوجود.

•••

بقيت كلمةٌ عن أسلوب الترجمة: فقد توخيت الأمانة في نقل النص، وبذلت كل ما في طاقتي ليخرج في صورة بسيطة واضحة. وقد ساعدني المؤلف في رسائله المتتالية على توضيح ما غمض عليَّ من النص الأصلي؛ كما توَّج رعايته ومودته بالمقدمة الرائعة التي تفضل مشكورًا بإهدائها للطبعة العربية، وبذل مَساعيَه الحميدة لدى دار النشر رومباخ للحصول على إذن بترجمة الكتاب ونشره بالعربية، وقد تكرمت الدار بإعطائي هذا الإذن، وشرفتني مشكورةً بهذا الحق.

وقد أضفت التعليقات التي تجدها في الهامش — باستثناء الإشارات الواردة للمراجع والمصادر — وكتبت عن بعض الأعلام الذين لم يأْلَفْهم القارئ العربي، وصرفت النظر عن الأسماء المعروفة حتى لا يخرج الكتاب عن الحد المعقول. أما عن الكلمات الأجنبية، فقد اقتصدت في ذِكرها في سياق النص، ولم أُثبت منها إلا ما تدعو إليه ضرورات الشرح والاشتقاق. وأشرت في الهوامش إلى بعض المصطلحات التي لم يكن بدٌّ من الإشارة إلى جذورها الأصلية في الألمانية الوسطى والقديمة، شارحًا وجهةَ نظر المؤلف كلما دعت الضرورة. أما العبارات والكلمات اليونانية واللاتينية وبعض الكلمات الفرنسية والإنجليزية، فقد أوردتها بنصها في الهامش، وحرَصت على كتابة الكلمات اليونانية بالرسم العربي؛ تيسيرًا على القارئ. وأما المراجع والمصادر فقد ذكرت عناوينها وأسماء أصحابها بالعربية، واكتفيت بالقائمة المثبتة في آخر الكتاب مرتبةً حسَب ورود المرجع أو المصدر في موضعه من الفصول المختلفة، وذلك لمن شاء الرجوع إليها.

عبد الغفار مكاوي
القاهرة، سبتمبر، ١٩٧٤م
١  تجد الخواطر من ص٢٥٧ إلى ص٢٧٤، وقد شرفني المؤلف بإهدائها إلى شخصي المتواضع. كما تجد ترجمة لها وتعليقًا عليها في عددَي ديسمبر ويناير سنة ١٩٧٤م و١٩٧٥م من مجلة الكاتب القاهرية، وفي كتابي «شعر وفكر» الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب بالقاهرة سنة ١٩٨٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤