الفصل الرابع عشر

وأخيرًا — وكان الظلام قد أخذ يُطبِق على الدنيا وكان الوقت قد تجاوز العصر بكثير — وأفسح ك الطريق، وكوَّم الثلوج على الجانبَين وكدَّسها، وفرغ من عمل اليوم. ووقف عند بوابة الحديقة وحيدًا في دائرة واسعة لا يشاركه فيها آخَر. وكان منذ بضع ساعات قد طرد المُساعد، ولاحَقَه لمسافة طويلة من الطريق، فاختفى المساعد في مكانٍ ما بين الحدائق الصغيرة والأكواخ، ولم يَعُد من الممكن العثور عليه ولم يظهر بعد ذلك مرة أخرى. أما فريدا فكانت في البيت وكانت مشغولة إما بغسيل الملابس أو بحمَّام قطة جيزا. ولقد كان من آيات الثقة العظيمة التي أبدتها جيزا أن كلفت فريدا بهذا العمل الذي لم يكن في الحقيقة عملًا لائقًا محببًا إلى النفس، وما كان ك بكل تأكيد ليقبله، لو لم تكن الكياسة تفرض عليه، بعد إخلاله المتكرر بالعمل، أن ينتهز كل فرصة لُيقدم إلى جيزا من الخدمات ما يجعلها ممتنَّة له. ولقد نظرت جيزا بعين الرضا إلى ك وهو يُحضِّر حوض استحمام الأطفال الصغير من فوق السطح، ويُعدُّ الماء الدافئ ويضع القطة في الحوض باحتراس شديد. ثم تركت جيزا القطة لفريدا لتتولى أمرها كليةً؛ لأن شفارتسر، الذي تعرَّف به ك في أمسيته الأولى بالقرية، كان قد أتى، وحيَّا ك بخليط من الخجل الذي قام أساسه في تلك الأمسية، ومن التحقير الشديد الذي يليق بخادم مدرسة، ثم ذهب مع جيزا إلى الفصل الآخر. وظلَّ الاثنان هناك معًا. وكان ك قد علم من حان الجسر أن شفارتسر، وهو ابن أحد مديري القلعة، يعيش في القرية منذ وقت طويل حبًّا في جيزا، وتوصَّل بفضل علاقاته إلى جعل مجلس القرية يُعينه مساعدَ معلِّم في المدرسة، ولم يكن يُمارس هذه الوظيفة أساسًا إلا بحضوره حصص جيزا كلها، جالسًا على مقعد مع التلاميذ أو جالسًا إلى قدمَيْ جيزا على قاعدة المنصة، وهو ما كان يُفضِّله. ولم يكن تصرُّفه هذا يُسبب إزعاجًا، فقد تعود التلاميذ ميلًا أو تفهمًا، فلم يكن يتكلَّم معهم إلا نادرًا، ولم يحمل عن جيزا سوى دروس الرياضة البدنية، وكان يَنعم بالرضا إذ يعيش في قرب جيزا وفي جوها ودفئها. وكانت أعظم مُتعة لديه هي الجلوس بجوار جيزا وتصحيح الكراسات. ولقد كانا اليوم كذلك مشغولَين بتصحيح الكراسات؛ فقد أحضر شفارتسر معه كمية كبيرة من الكراسات، وكان المعلم يُعطيها كذلك كراساته، وكان ك يرى الاثنين — طالما كان النهار طالعًا — جالسَينِ إلى منضدة صغيرة عند النافذة عاكفين على العمل، رأسًا إلى رأس، لا يتحرَّكان. أما الآن فلم يعد يرى هناك سوى شمعتَين ترتعشان. لقد كان حبهما حبًّا جادًّا صامتًا، وكانت جيزا هي التي جعلته كذلك، فقد كان طبعها البليد يتحول إلى العنف أحيانًا ويتجاوز الحدود ولكنه لم يكن يقبل مثل ذلك من الآخرين في وقتٍ آخر مطلقًا. وهكذا تحتم على شفارتسر العنيف أن ينصاع لها، وأن يسير ببطء، ويتكلَّم ببطء، ويصمت كثيرًا. ولكنه كان ينال — على ما كان الإنسان يرى — لقاء هذا كله الجزاء الأوفى مُتمثلًا في وجود جيزا وسكونها بجواره. وربما لم تكن جيزا تحبه مطلقًا. ولم تكن عيناها المستديرتان الرماديتان اللتان لا ترمشان بحال من الأحوال وتبدوان كأنهما لا تدوران إلا حول الحدقتين، تعطيان إجابة على مثل هذه التساؤلات. لم يكن الناس يرَون إلا أنها تصبر على شفارتسر دون ما اعتراض، ولكنها لم تكن على وجه التأكيد تعرف كيف تُقدر شرف حب أحد أبناء مديري القصر لها، وكانت تحرك جسدها المُمتلئ اليانع هادئةً لا تُغير منه شيئًا، سواء تبعتها نظرات شفارتسر أو لم تتبعها. أما شفارتسر فكان على العكس يُقدم لها بلا انقطاع تضحية تتمثَّل في بقائه في القرية، وكان يرد الرسل الذين يُرسلُهم أبوه لإحضاره ويُغلظ لهم وكأنما كان ما يتسبَّبون له فيه من تذكير قصير بالقصر وبواجب الابن حيال أبيه إقلاقًا شديدًا لسعادته لا سبيل إلى علاجه. ومع ذلك فقد كان لديه من الفراغ الشيء الكثير؛ لأن جيزا لم تكن تعرض له عادةً إلا في ساعات التدريس وتصحيح الكراسات، ولم تكن تفعل ذلك عن تدبير، بل لأنها كانت تحبُّ الراحة وتحب لذلك الوحدة فوق كل شيء، وكانت تحسُّ بالسعادة أعظم السعادة عندما تتمكن من الاضطجاع على الأريكة في البيت بكل حرية، وبجوارها القطة التي لم تكن تُزعجها لأنها لم تكن تكاد تستطيع الحركة. وهكذا كان شفارتسر يهيم على وجهه فترة طويلة من النهار بلا عمل، ولكنه كان يحب ذلك حبًّا لا شكَّ فيه؛ لأنه كان يجد فرصة كثيرًا ما استغلها، فرصة الذهاب إلى حارة السبع حيث كانت جيزا تُقيم، وصعود الدرج إلى حجرتها الصغيرة فوق السطح والتسمُّع على الباب المقفل الذي لم يكن ينفتح مطلقًا، ثم الانصراف على عجلٍ بعد التأكد من أن الحجرة غارقة في السكون الكامل المبهم الذي لم يفارقها مرةً واحدة ولا على سبيل الاستثناء. على أنه كان يتصرف من حينٍ لآخَر على نحو تظهَر فيه بعض آثار أسلوب الحياة هذا — ولكن هذا لم يحدث قطُّ في حضرة جيزا — فيُعبر فجأة تعبيرًا قصيرًا مُضحكًا عن العجرفة الديوانية التي لم تعد بطبيعة الحال تتناسب مع وضعه الحالي. ولم تكن هذه الحالات تنتهي غالبًا نهاية طيبة كما رأى ك بنفسه.

والغريب أن الناس كانوا، على الأقل في حان الجسر، يتكلمون عن شفارتسر بنوع ما مِن الاحترام، حتى إذا كان الحديث يدور حول أمور أقرب إلى السخف منها إلى الأهمية، وكان هذا الاحترام يشمل جيزا هي أيضًا. ولم يكن من الصواب ما ذهب إليه شفارتسر من الاعتقاد في أنه كمُساعد معلِّم يتفوق على ك تفوقًا خارقًا للمألوف، فلم يكن لهذا التفوق وجود. فخادم المدرسة بالنسبة للمُعلمين، وخاصةً بالنسبة لمعلِّم من نوع شفارتسر، شخص مُهم جدًّا، لا يصح أن يحتقره الإنسان دون أن يتعرَّض لعقاب، شخص ينبغي على الإنسان — إن لم يستطع أن يتخلَّى عن الاهتمامات الطبقية — أن يُمكنه من احتمال الاحتقار بتقديم مقابل مناسب له. وكان ك يميل أحيانًا إلى القول بأن شفارتسر كان منذ الأمسية الأولى مُذنبًا، وإن ذنبه لم يصغر حتى بعد أن أثبتت الأيام التالية على لقائهما أن شفارتسر كان على حق. فلم يكن يَنسى أن لقاءهما ربما كان هو الذي وجه كل الأحداث التالية الوجهة التي سارت فيها، فقد تسبب شفارتسر على نحو سخيف كل السخف ومنذ الساعة الأولى في توجيه انتباه الدواوين كاملًا إليه، في الوقت الذي كان فيه لا يزال غريبًا تمامًا في القرية، بلا معارف وبلا مأوى، وكان مُرهقًا أشد الإرهاق من كثرة السير، حائرًا لا يعرف شيئًا يستعين به على أمره، ويَرقُد على جوال القش تحت رحمة أيِّ تدخُّل من جانب الدواوين. ولو حدث هذا اللقاء بعد ذلك بليلة واحدة لكانت الأمور كلها قد سارت سيرة مختلفة، هادئة وكأنها تسير في السر. ولَمَا كان هناك إنسان يعرف من أخباره شيئًا، ولما تردَّد مَن يأوي إليهم في تركِه يُقيم بينهم يومًا كما يفعلون بالشباب المترحِّلين، ولما اشتبهوا في شيء. ولتبيَّن الناس فائدته وأمانته، ولانتَقلَ الخبر في المنطقة المحيطة، ولما كان من المستبعَد أن يجد في مكانٍ ما مأوًى كعامل زراعي بسيط. وليس من شكٍّ في أن أمره لم يكن سيخفى على الدواوين. ولكن الفرق جوهري بين أن يجري بسببه في منتصف الليل اتصال بالديوان الرئيسي أو بمَن كان على التليفون يستحثُّه ويُثيره عليه، ويطالب بقرار فوري بتواضع ظاهري ولكن بتصميم مزعج، وأن يكون مَن يُجري هذا الاتصال هو شفارتسر الذي يبدو أن السلطات العليا لا تحبُّه ولا ترضى عنه، وبين أن يذهب ك — بدلًا من هذا كله — في اليوم التالي على وصوله، في وقت العمل الرسمي إلى رئيس مجلس القرية، فيدق الباب ويبلغ، كما ينبغي، عن نفسه على اعتبار أنه شابٌّ متجوِّل غريب قد وجد لنفسه مكانًا ينام فيه لدى فرد بعينه من أفراد جماعة القرية ويذكر أنه ربما يستأنف رحلته في اليوم التالي. ثم يحدُث شيء عجيب وهو أنه يجد عملًا، لبضعة أيام فقط بطبيعة الحال؛ لأنه لا يريد أن يبقى هنا طويلًا بحالٍ من الأحوال. هذا، أو نحوه، ما كان سيحدُث لو لم يتدخَّل شفارتسر. كان الديوان سيستمر في الاشتغال بمسألة ك، ولكن في هدوء، وبالطريق الرسمي، ودون أن يزعجه تهور الحزب الذي يبدو أنه يكرهه أشد الكُره. ولقد كان ك بريئًا من كل هذا، وكان الإثم ينصبُّ على شفارتسر وحده، ولكن شفارتسر كان ابن أحد مُديري القصر، وكان من الناحية الظاهرية قد تصرَّف تصرُّفًا صحيحًا، وهكذا ألقى الذنب على ك وحده. وما هو السبب المضحك لهذا كلِّه؟ ربما نزوة غاضبة من نزوات جيزا في ذلك اليوم دفعت شفارتسر إلى أن يهيم على وجهه في الليل، فلم يكن يستطيع النوم، إلى أن يخفِّف عن نفسه المصيبة بصبِّها على ك. وكان من الممكن من ناحية أخرى القول بطبيعة الحال بأن ك مدين لتصرُّف شفارتسر هذا بالكثير. فقد تحقَّق عن طريقه ما لم يكن ك يستطيع بمُفرده أن يحقِّقه، وما لم يكن ليجرؤ على بلوغه وما لم يكن الديوان ليُوافق عليه، تحقَّق له منذ البداية أن يواجه الديوان — على قدر ما كان مُمكنًا من ناحية الديوان — صراحةً دون مواربة وجهًا في وجه. ولكن تلك النعمة كانت نعمة قبيحة. حقيقة أنها وفَّرت على ك الكثير من الكذب والمواراة، ولكنها كانت تجعله كالأعزل من السلاح، وكانت على أية حال تضرُّه في النضال وكان من المُمكن أن تصيبه في هذه الناحية باليأس، لو لم يقُل لنفسه أن الفرق بين سلطة الديوان وبين سلطته هائل لدرجة أن ما يستطيعه من كذبٍ ومكر لن يُقلِّل هذا الفرق لصالحه على نحو جوهري. ولكن تلك الفكرة كانت فكرة يواسي ك بها نفسه. فقد ظلَّ شفارتسر على إثمه. وهو قد أضرَّ ك فيما مضى ولعله يستطيع في المستقبل أن يعينه، وك لن يحتاج إلى مساعدة إلا في أقل القليل، في التمهيدات الأولية، ولقد بدا له الآن أن برناباس مثلًا عاود الإهمال.

ظلَّ طوال اليوم يتردَّد بسبب فريدا في الذهاب إلى مسكن برناباس والسؤال. ولقد عكَف على العمل في الخارج حتى لا يضطرَّ إلى استقباله أمام فريدا، فلمَّا فرغ من العمل ظل ينتظر على أمل أن يأتي برناباس، ولكنه لم يأتِ. وهكذا لم يَعُد هناك مفرٌّ من الذهاب إلى أختَيه، لفترة قصيرة جدًّا، ليسألهما وهو واقف على العتبة، ثم يعود من فوره بعد ذلك. ودسَّ الجاروف في الثلج وجرى. ووصَل بيت برناباس وهو يلهَث، ودقَّ الباب قليلًا ثم فتحه بقوة وسأل دون أن يتبيَّن حال الحجرة: ألم يَعُد برناباس حتى الآن؟

وتنبيَّن الآن أن أولجا لم تكن موجودة، وأن الوالدَين المُسنَّينِ جالسَينِ إلى المنضدة البعيدة في هذه المرة أيضًا في جوٍّ أقرب إلى الظلام منه إلى النور، ولم يتبيَّنا ما حدث عند الباب، ثم حركا وجهَيهما نحوه ببطء، كذلك رأى ك أخيرًا أماليا راقدة على أريكة عند المِدفأة تحت الأغطية، ورأى كيف انتفَضَت من تأثير الفزع الأول الذي تملَّكها عندما ظهر ك ووضعَت يدها على جبهتِها لتتمالكَ نفسَها. لو كانت أولجا هنا لتلقَّى الرد على الفور، ولاستطاع ك أن يَنصرِف توًّا، وأن يُصافحها، فضغطت على يده صامتة، وكان عليه أن يرجوها أن تحُول بين الوالدَين المنفزعَين وبين أن يقوما بأي جولات، فاستجابت أماليا لذلك وقالت لهما بضع كلمات. وعلم ك أن أولجا في الفناء تكسر خشبًا للمدفأة، وأن أماليا منهكة القوة — ولم تذكر لذلك سببًا — وأنها رقدت منذ قليل، وأن برناباس لم يأتِ بعدُ ولكنه سيأتي بعد قليل لأنه لم يحدث قطُّ أن بقي القصر ليلًا. وشكرها ك على المعلومات، وكان في إمكانه أن ينصرف من حيث أتى، ولكن أماليا سألته عما إذا كان يريد أن ينتظر قدوم أولجا. أو لم يكن لديه وقت. ثم سألته أماليا هل تكلم مع أولجا اليوم، ولكنه نفى، وسأل مندهشًا عما إذا كانت أولجا تريد أن تقول له شيئًا هامًّا. فزمَّت أماليا فمها كأنها غضبت قليلًا، ثم أومأت برأسها إلى ك صامتة — وكان من الواضح أن الحركة تعني الوداع — وعادَت إلى الرقود. وأخذت أماليا من مضجعها تتفرس فيه وكأنها تدهش لأنه ما يزال موجودًا. كانت نظرتها باردة، واضحة ثابتة كالمعتاد، ولم يكن ك منتبهًا تمامًا إلى ما كانت تتأمله أماليا، بل إنه تحاشاه قليلًا على نحو لا يكاد يَلفِت النظر، ولكنه تحاشاه بدون شك، ولم يكن السبب في ذلك ضعفًا أو ارتباكًا أو نفاقًا على ما يبدو، ولكنه كان حاجة مُستمرة إلى الوحدة، حاجة تفوق كل ما عداها، ويبدو أن هذه الحاجة لم تظهَر لها إلا على هذا النحو. واعتقد ك أنه يذكر أن هذه النظرة شغلته في الأمسية الأولى، بل إن هذه النظرة هي على الأرجح السبب في الانطباع القبيح الذي أحدثته فيه هذه الأسرة منذ البداية، ولم تكن هذه النظرة قبيحة في حدِّ ذاتها، بل كانت نظرة متكبرة صريحة في حدود استغلاقها. وقال ك: إنك دائمة الحزن هكذا يا أماليا، هل هناك ما يُؤرقك؟ ألا يمكنك أن تتحدَّثي عنه؟ إنني لم أرَ من قبل بنتًا قروية مثلك. وهذا شيء لم يَلفت نظري إلا اليوم، إلا الآن فقط. هل أنتِ من القرية؟ هل وُلدتِ هنا؟

وردَّت أماليا بالإيجاب وكأنما لم يوجه إليها ك إلا السؤال الأخير. ثم قالت: إذن فأنت ستنتظر قدوم أولجا، هه؟

فقال ك: أنا لا أعرف لماذا تسألين دائمًا السؤال نفسه. إنني لا أستطيع أن أبقى طويلًا لأنَّ خطيبتي تنتظرني في البيت.

واتكأت أماليا على مرفقَيها، لم تكن تعرف شيئًا عن خطيبة ك. ذكر ك اسمها. لم تكن أماليا تعرفها. وسألت أماليا ك عما إذا كانت أولجا تعرف بالخطبة، فقال ك إنه يعتقد أنها تعرف ذلك، فقد رأته مع فريدا، هذا إلى أنَّ مثل هذه الأخبار تَنتشِر بسرعة في القرية. ولكن أماليا أكَّدت له أن أولجا لا تعرف ذلك، وأن هذا الخبر سيُشقيها جدًّا؛ لأنها على ما يبدو تحب ك، وهي لم تتكلَّم عن ذلك صراحةً؛ لأنها متحفِّظة جدًّا، ولكن الحب يكشف عن نفسه تلقائيًّا. وكان ك مقتنعًا من أن أماليا مخطئة. وابتسمت أماليا، وعلى الرغم من أن ابتسامتها كانت حزينة فقد أضاءت الوجه المنقبض المظلم، وجعلت الصمت يتبدَّد، وأحالت الغربة إلى ألفة، وكشفت عن السر، وأعطت ك شيئًا ظلت تخفيه حتى ذلك الحين، شيئًا سيكون في استطاعتها أن تستردَّه بطبيعة الحال، ولكنها لن تستطيع أن تستردَّه كاملًا أبدًا. وقالت أماليا إنها بلا شك لا تخطئ، بل إنها تعرف المزيد، إنها تعرف أن ك نفسه يميل إلى أولجا، وأن زياراته التي يدعي أنه يقوم بها من أجل رسائل برناباس تقصد في الحقيقة أولجا وحدها. أما الآن وقد عرفت أماليا بكل شيء، فلا ينبغي أن تحمل همًّا، وله أن يأتي كلما شاء. وقالت إن هذا هو ما كانت تريد أن تقوله له. وهز ك رأسه وذكَّر أماليا بخطوبته. ولم يبدُ على أماليا أنها وجَّهت إلى هذه الخطوبة كثيرًا من أفكارها، كان أهم شيء بالنسبة إليها هو الانطباع المباشر الذي يُحدثه ك الذي كان يقف وحده أمامها. كل ما فعلته أنها سألت ك متى تعرَّف بهذه البنت فلم يَمضِ عليه في القرية إلا القليل من الأيام. وقص ك عليها قصة الأمسية التي قضاها في حان السادة، فقالت أماليا باقتضاب إنها كانت تُعارض في اقتياده إلى حان السادة. ونادت على أولجا لتُشهِدها على ذلك، وكانت أولجا في تلك اللحظة قد ظهرت بالباب وهي تحمل على ذراعها خشبًا للمِدفأة، وكانت بشرتها نضرة صبغها الهواء البارد بالحمرة، وكانت هي نشيطة قوية وكأنما كان العمل قد غيَّرها إلى حالٍ أخرى تختلف عن حالها المعهودة عندما تقف في الحجرة وقفتها المألوفة المتثاقلة. وألقت أولجا بالخشب وسلَّمت على ك في غير تكلف ثم سألت عن فريدا. ونظر ك إلى أماليا نظرة عبَّر بها عن رأيه، فلم يبدُ عليها أنها أحسَّت بأن الرأي الذي ذهبت إليه قد تأكد خَطؤه. وانفعل ك لهذا قليلًا فبدأ يحكي بإسهاب أكثر مما كان ينوي عن فريدا وعن الصعوبات التي يتعرض لها في سبيل تدبير ما يشبه بيت الزوجية في المدرسة — ونسي نفسه أثناء تسرعه في الكلام — ولقد كان ينوي أن يعود إلى البيت من فوره — نسي نفسه حتى إنه وجَّه إلى الأختين، على هيئة الوداع، الدعوة إلى زيارته. وما إن تبيَّن ذلك حتى تملَّكه الفزع وأخذ يتلعثم في الوقت الذي أعلنت أماليا فيه على الفور ودون أن تترك له فرصة الكلام أنها تقبَل الدعوة، وكان على أولجا أن تتبعها وأن تعلن هي كذلك موافقتها، ففعلت. أما ك الذي كان ما يزال يعاني من إلحاح التفكير في ضرورة الاستئذان للانصراف بسرعة، والذي كان يحسُّ بالاضطراب تحت تأثير نظرات أماليا، فلم يتردَّد في الاعتراف، دون ما تحسين أو تجميل، بأن الدعوة التي وجهها جاءت عن غير تدبير وتفكير، بل جاءت عفو الخاطر، وأنه لن يستطيع للأسف أن يتمسَّك بها نظرًا للعداوة القائمة بين فريدا وبين آل برناباس، تلك العداوة التي لا يفهم من أمرها شيئًا. وقالت أماليا وقد قامَت من فوق الأريكة وألقت الغطاء من خلفها: إنها ليست عداوة. وما هي بالأمر العظيم الهام، إنها مجرَّد ترديد ساذج لرأي شائع. فاذهب الآن، اذهب إلى خطيبتك، وإني لأرى كيف تتعجَّل الخطى. ولا عليك أن تخشى أن نأتي، وأنا لم أكن أعني عندما أعلنتُ مُوافقتي أكثر من المزاح، ولم أتحرَّك إلا بدافع الخبث. أما أنت فيمكنك أن تأتي إلينا كثيرًا، فليس هناك ما يعوقك عن ذلك، يمكنك دائمًا أن تدعي أنك تلتمِس أخبارًا من برناباس. وأنا أُسهِّل مهمتك فأقول لك إن برناباس، حتى إذا كان يحمل إليك رسالة من القصر، لن يَذهب إلى المدرسة ليُبلغك إياها؛ فالمسكين لا يستطيع أن يجري من أول البلد إلى آخره، لقد أضناه العمل، وعليك أنت أن تأتي بنفسك تلتمس الأخبار.

لم يكن ك قد سمع أماليا من قبل تتحدَّث حديثًا متَّصلًا طويلًا كهذا، ولقد كان لحديثها هذا نبرة أخرى غير نبرة أحاديثها التي عرفها ك، كان في حديثها هذا شيء من الترفُّع لم يكن ك هو وحده الذي أحسَّ به، بل يبدو أن أختها أولجا التي تعرفها وتأْلَفها قد أحسَّت به هي الأخرى. وكانت تقف إلى جانب وتضع يديها على فخذيها … كانت تقف وقفتها المعهودة التي تنحني فيها وتُباعد بين ساقيها، وكانت توجه عينيها ناحية أماليا ولا تنظر إلا إلى ك. وقال ك: إنك تُخطئين، تخطئين خطأً كبيرًا عندما تظنين أن انتظاري برناباس ليس انتظارًا جادًّا. إن أمنيتي الكبرى، أو على الأصح أمنيتي الوحيدة تتلخَّص في تسوية أموري مع السلطات. وعلى برناباس أن يُساعدني في ذلك، وكثير من أملي معقود على مساعدته. حقيقةً أنه خيَّب رجائي مرة أشد الخيبة، ولكن الذنب كان ذنبي أكثر مما كان ذنبه هو، ولقد حدث هذا في وسط اضطراب الساعات الأولى لي هنا وكنتُ أعتقد آنذاك أنني أستطيع أن أصل إلى كل شيء عن طريق نزهة مسائية قصيرة … وإذا كانت المستحيلات قد بدَت لي كمُستحيلات فأمر أحمل عنه ضغينة له. ولقد أثر هذا حتى على حُكمي على أسرتكم، على حكمي عليكم. وهذا هو السبب، وأظنُّ أنني أفهمكم الآن على نحو أفضل.

وحاول ك أن يجد العبارة المناسبة فلم يجدها على الفور، واكتفى بعبارة عادية: وربما كنتم أكثر طيبة مِن كل أهل القرية على قدر ما أعرفهم. ولكنَّكِ يا أماليا تُحيرينَني الآن مرةً أخرى عندما تُقللين، لا أقول من شأن عمل أخيك، ولكني أقول تُقلِّلين من أهمية عمله بالنِّسبة إليَّ. ولعلَّك لا تَعرفين أسرار أمور برناباس، وفي هذه الحالة أقول لا بأس وأترُك المسألة حيث هي، ولعلَّك تَعرفين أسرار أمور برناباس — وهذا هو على الأحرى انطباعي — وفي هذه الحالة أقول إنَّ الأمر قبيح؛ لأنَّ هذا يعني أن أخاك يَخدعني.

وقالت أماليا: فاهدأ بالًا، أنا لا أعرف هذه الأسرار، وليس هناك شيء يُمكن أن يدفعَني إلى أن أسعى إلى معرفتها، وليس هناك شيء، ولا حتى الاهتمام بأمرك يُمكن أن يدفعني إلى أن أسعى إلى معرفتِها، على الرغم من أنني قد أودُّ أن أصنع من أجلك شيئًا، فنحن كما قلتَ أنتَ أناسٌ طيبون. إنما موضوعات أخي موضوعات تخصُّه هو، وأنا لا أعرف منها إلا ما أسمعه من حينٍ لآخر بالمُصادفة وعلى غير إرادة مني. أما أولجا فهي تستطيع أن تُحيطَك بالأخبار كلها لأنها موضع ثقتِه وهو لا يخفي عنها شيئًا.

وانصرَفَت أماليا، ذهبَت أولًا إلى الوالدَينِ وهمَسَت إليهما بشيء، ثم ذهبَت بعد ذلك إلى المطبخ، انصرفَت هكذا دون أن تُودِّع ك، وكأنها كانت تعلم أن ك سيبقى طويلًا، وأنها لهذا ليست بحاجة إلى أن تُودِّعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤