الأﺳﻮار

۱

على الرغم من اختلافي مع أرنولد بنيت في رأيه، بأن أساس الرواية الجديدة هو «خلق الشخصيات، ولا شيء سوى ذلك»، فلعلِّي أتفق تمامًا على أن خلق الشخصيات دعامة أساسية في بناء الرواية، الذي يستند — بالضرورة — إلى دعامات أخرى، أقواها — أو هذا هو المفروض — «الحدوتة»، وإن تصور بعض الذين اقتحموا عالم الرواية الجديدة، نقادًا أو أدباء، أن الرواية ليست في حاجة إليها، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات، يضع الحدوتة في مرتبة تالية، أو أنه يمكن الاستغناء عنها إطلاقًا.

وفي تقديري، أن الحدوتة هي «النطفة» التي يتخلَّق بها العمل الإبداعي. وأذكر أني حين عرضت — للمرة الأولى في القاهرة — مسرحية بيكيت «لعبة النهاية» أن إعجاب النقاد تركَّز على خُلُوها من الحدوتة. وكان ذلك — في تقديرهم — هو «الجديد في الرواية الجديدة». كانت القاهرة تعاني — كعادتها — غربة حقيقية عن الواقع الثقافي المتجدد في الحياة الأوروبية. وكانت القلة تسافر وتشاهد وتقرأ، والكثرة تنتظر ما يَفِد — متأخرًا — وتقف منه — في كل الأحوال — موقف الإعجاب. ولعلَّنا نذكر ما فعله الكاتب الساخر أحمد رجب، حين طلب آراء عدد من كبار مثقفينا في مسرحية من تأليفه على أنها لدورينمات. وتبارى مثقفونا في إبراز الجوانب المتفوقة في المسرحية المزعومة. وكتب الحكيم «يا طالع الشجرة» و«مصير صرصار» تأكيدًا لريادته المتطورة … وظواهر أخرى كثيرة.

أقول: حين عرضت لعبة النهاية، وتركز إعجاب النقاد على خُلُوِّها من الحدوتة، كان لأستاذنا نجيب محفوظ رأي آخر. ونشرت معه حوارًا في جريدة «المساء» ملخصه أن العمل الفني بلا حكاية، بلا حدوتة، يصعب — مهما يتسم بالجدة — أن يُسمَّى عملًا فنيًّا، لأنه — حينئذٍ — يفتقد أهم مقوماته، واستطاع — في الحوار — أن يروي الحدوتة، الدعامة التي استند إليها بناء المسرحية.

الحكاية — كما يقول فورستر — هي العمود الفقري. ويقول هيربرت جولد: إن كاتب القصة يجب أن تكون له بالفعل قصة يحكيها، فلا يقتصر الأمر على مجرد نثرٍ جميلٍ يكتبه. وقيل إن الرواية «فن درامي يقوم على أساس الحدث.» ولعلِّي أذكر قول تشيكوف: إن الكاتب لا يكتب قصة قصيرة إلا عندما يريد التعبير عن فكرة. حتى ألان روب جرييه يؤكد أن الروائي الحقيقي هو الذي يعرف كيف يقص الحكاية. وفي مقدمة «يا طالع الشجرة» — ذات الشكل السوريالي — كتب الحكيم: «المسرحية لا بد أن تحمل معنى، ولا يكفي فيها المعنى الداخل في ذات تشكيلها. ربما استطاع الشعر — خصوصًا السوريالي والدادي — أن يحمل معنى وجوده في ذات صياغته، ولكن المسرحية، وكذلك القصة، لا بد أن تقول شيئًا.»

الحدوتة إذن هي الدعامة الأولى في بناء أي عمل فني، ثم تأتي بقية الدعامات، وفي مقدمتها محاولة الإفادة من العناصر والمقومات في وسائل الفنون الأخرى، كالفلاش باك والتقطيع في السينما، والهارموني في الموسيقى، والتبقيع في الفن التشكيلي، والحوار في المسرحية … إلخ. وكما يقول هنري جيمس فإن الفكرة والشكل هما الإبرة والخيط، ولم أسمع بعد — والكلام لهنري جيمس — عن نقابة للخياطين أوصت باستعمال الخيط دون الإبرة.

ولقد كانت الحدوتة، الحكاية، الفكرة، التيمة، الحدث — سمِّها ما شئت — هي الباعث الحقيقي لأن تتحوَّل الأسوار في ذهني — قبل كتابتها بأعوام — إلى أحداث ومواقف وشخصيات، ثم تتخلَّق في أشكال هلامية عدة، قبل أن تأخذ — في طريقها إلى المطبعة — سماتها النهائية.

فماذا كانت «الحدوتة» التي أملت كتابة الأسوار؟

٢

السؤال الذي ربما يلحُّ على بعض المتصدِّين للعمل الوطني، دفاعًا عن حق الجماهير في حياة آمنة، هو: هل يعي هؤلاء الذين بُذِلَت الحياة لنصرة قضاياهم قيمة ما أفعل؟ وهو سؤال يحمل السذاجة والانتهازية في آن معًا، ذلك لأنه يعامل مصير الجماعة بمنظورٍ شخصي بحت، ويناقش الأمور بمنطق المكسب والخسارة.

الإنسان صاحب القضية يختلف عن الإنسان العادي في أنه يبذل كل شيء، حتى النَّفْس، من أجل نصرة ما يرى أنه حقٌّ، ومن أجل دفع ما يرى أنه ظلم. بل لعلَّه يعلم يقينًا أن ثمرة الانتصار لن تصل بحالٍ إلى يده، بل إن مصيره أقرب إلى الموت. مع ذلك، فإنه لا يتقاعس عن نصرة الاتجاه الذي يؤمن به. وكما تقول نتاليا بطلة تورجنيف الشهيرة: إن الذي يسعى إلى غاية جليلة يجب أن ينقطع عن التفكير في نفسه. ربما المنطق العادي يحمِّل المسيح مسئولية صلبه، فقد كان أدرى الناس بصورة المأساة المقبلة، ويحمِّل الحسين مسئولية استشهاده، فهل يقوى سبعون على محاربة سبعين ألفًا، ويحمِّل جيفارا مسئولية اغتياله في أحراش بوليفيا، فهو الذي كان يعلم جيدًا بتلمُّس المخابرات الأمريكية لخطواته. لكن الخطأ في طرح القضية بهذه الصورة، ذلك لأن «المناضل» يؤمن بعدالة القضية وقداستها حتى على النصر ذاتِه، وبالتالي على الهزيمة له ولأتباعه، والتي قد تصل إلى التصفية الجسدية. كان الأستاذ في الأسوار يعلم بالمصير الذي ينتظره في نهاية النفق، مثلما كان جيفارا يثق أن المخابرات الأمريكية تترصَّد له حتى تغتاله، منذ اختار سبيل تصدير الثورة إلى خارج كوبا، «مرحبًا بالموت ما دامت يد ثورية تمتد لتقبض على أسلحتنا من بعدنا»، ومثلما كان الليندي ينتظر الاغتيال نهاية لإصراره على البقاء وحيدًا، وأعزل، في وجه القوات التي اقتحمت قصره، ومثلما كان الحسين يعلم باستشهاده وهو يقود فرسانه القلائل من الحجاز إلى العراق. وعلى حد تعبير المستشرق الألماني حاربين، فإن «حركة الحسين في خروجه على يزيد، إنما كانت عزمة قلبٍ كبيرٍ، عزَّ عليه الإذعان، وعزَّ عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة». ويُروى عن الإمام علي قوله: «لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، وما أكره الموت على الحق». كان الحسين يمتلك اليقين، وكان أعوانه الاثنان والسبعون يمتلكون اليقين نفسه، بأن المعركة التي اتجهوا إليها صباح العاشر من محرم، ستنتهي باستشهادهم، لكن الدافع لم يكن مجرد الرغبة في الاستشهاد، في الموت. كان الدافع هو التعبير عن رفض القهر والظلم، حتى لو كان المقابل لذلك هو الموت. سقط كل جند الحسين شهداء، فظلَّ يواصل القتال بمفرده. حمل على جند الكوفة حتى شقَّ صفوفهم بجرأة مذهلة، ثم سقط بضربة سيف في العنق. وأمر عبيد الله بن زياد، فمثَّل بجسد الحسين، وترك جثمانه للجوارح. أما الرأس، فقد دُفِن — فيما بعد — في كربلاء، وإن ظلَّت أعداد كبيرة من المصريين تؤمن بأن رأس الإمام الشهيد مدفون في جامعه بالقاهرة.

وأغلب ظني أن مصطفى كامل كان سيتخلَّى عن مبادراته الوطنية، لو أنه عانق اليأس الذي فرضه التصوُّر بأن الشعب المصري يتقاعس عن التحرك وراءه، نشدانًا لحريته. عاب مصطفى كامل — في لحظات سخطٍ — على الأمة أنها «لا تسعى للوصول إلى هذا المرام السامي، وإلى تحقيق أمنيتها، بل تريد أن تأتيها الحرية وهي نائمة، فتوقظها من نومها». وهو يقول في رسالة إلى صديقٍ: «ها أنا ذا أنتظر من يتبعني، وأظن الأيام والليالي تمرُّ، ولا يتبعني غير الهواء». ويقول في رسالة أخرى: «إني عالم بأني لا أستطيع الاعتماد على أحد من أبناء جنسي، وإني إذا صودرت يومًا بأية طريقة كانت، لا أجد من أمتي عضدًا أو نصيرًا، وهذا ما يحزنني كثيرًا. فإني مع ارتياحي للمهمة التي عرضت نفسي للقيام بها، والغرض الشريف الذي أعمل له، أرى غيري من الذين أحب التشبُّه بهم، كفرانكلين وغيره، كان يعمل ووراءه أمة تعزِّز مطالبه، وتدافع عنه، بعكس ما أنا فيه». ويقول في رسالة: «دعني بالله عليك من هذه الأمة التي بلاني الله بأن أكون واحدًا من أبنائها» … إلخ (لا تنشغل بتذكُّر مقولاته المعلنة مثل قوله إنه لو لم يولد مصريًّا، لتمنى أن يكون مصريًّا!). لكن الزعيم أدرك — فيما بعد — أن انتفاضات الشعب لا تتحقق بخطبٍ تشتعل حماسة؛ فالتحرك الجماعي يستند إلى التوعية أولًا، فالإعداد والتنظيم، فضلًا عن دعامة الوقت التي تضع لكل خطوة توقيتها وحسابها. والحقيقة التاريخية تضغط على أن صَلْب المسيح هو الدعامة التي تماسك عليها إيمان أتباعه بخلود رسالته وتواصلها. كذلك فقد كان استشهاد الحسين بداية طريق طويلة من الثورات المتلاحقة ضد السلطة الظالمة، أيًّا تكن. وكان مقتل جيفارا دافعًا للمزيد من الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية. ولا يخلو من دلالة قول سلفادور الليندي — قبل دقائق من اغتياله — بأيدي قوات الانقلابيين: «إني موقن أن تضحيتي لن تذهب هباء، وأنها ستكون على الأقل درسًا معنويًّا لعقاب الغدر والخيانة والجبن». فماذا أقول عن الخديعة التي استلبت أستاذ الأسوار من وسط أتباعه، لتودي به إلى المصير المؤلم؟

كان محمد بن إبراهيم الحسيني العلوي يمشي في بعض طرق الكوفة، فنظر إلى عجوز تتبع أحمال الطرب، تلتقط ما يسقط منها، وتضعه في كسائها الرثِّ. فلما سألها عما تصنع بذلك، قالت: إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي، ولي بنات لا يعدن على أنفسهن بشيء، فأنا أتتبع هذا من الطريق، وأتقوته أنا وولدي. فبكى محمد بكاءً شديدًا، وقال: أنت وأشباهك تخرجوني غدًا حتى يُسفَك دمي تمامًا. وفجَّر محمد بن إبراهيم الحسيني العلوي ثورته العظيمة التي استمرت فترة طويلة، وتعاقب عليها — بعد استشهاده — العديد من الثوار، وامتدت إلى العراق والشام والجزيرة واليمن. ومع أن الصوفي لا يعنيه إن كان مجتمعه يعاني عَسْف حكامه، أو أوضاعًا اقتصادية سيئة، ذلك لأن فلسفة التصوف تكمن في فناء العاشق في المعشوق، العبد الفقير الفاني في الخالق الأعظم الباقي بعد فناء الأرض ومن عليها، ثم في الاعتزال التام لحياة البشر، والانكفاء على الذات والمجهول من الأسرار، وتفحص المخلوقات نشدانًا لروح الخالق … مع ذلك، فإن أبا منصور الحلاج رفض أن يغض بصره عن الظلم الرهيب الذي كان يعانيه مجتمعه في حكم العباسيين، فنزل إلى الأسواق، يبصِّر الناس — بالرمز — بحقيقة أوضاعهم، ويحثُّهم على أن يدافعوا عن حقوقهم، ويثوروا على ظلم الحاكم، فقبض عليه الحاكم، وشهد ضده أقرب رفاقه — الإمام الشبلي — فاتهمه بالزندقة، وحكم عليه بالصلب على جذع شجرة، تطل على شاطئ الكرخ ببغداد. وبالمثل، فلم تكن ثورة الحسين طلبًا للسلطة بقدر ما كانت محاولة لاستعادة الحق الذي طال احتجابه على يدي يزيد بن معاوية. وكانت الأهداف التي ناضل من أجلها الحسين، تمثِّل المصالح العريضة للجماهير الكادحة. وحين خرج على معاوية، فقد كان موقنًا من تأييد هذه الجماهير له، ومحاربتها إلى جانبه، لكن الظروف الموضوعية لم تكن مواتية لنجاح الثورة. وكان في مقدمة تلك الظروف غياب الوعي عن الكثرة الغالبة من جماهير المسلمين، ومن ثَمَّ فقد أخفقت الثورة، وإن ظلَّت أفكارها في عقول القلة التي ظلَّت تتكاثر بما تبدَّى في تلك الثورات المتلاحقة، والمتكررة، في المجتمع الإسلامي. كان مع الحسين — في كربلاء — اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلًا، استشهدوا جميعًا، وواجه الحسين بمفرده جيش عبد الله بن زياد. مع ذلك فإن مقاتلي ابن زياد همُّوا بالفرار، خوفًا من أن يصابوا على يدي الحسين، ولما صاح فيهم شِمْر بن ذي الجوشن: «وَيْحكم ماذا تنظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم»! حملوا على الحسين من كل جانب، وضربه زرعة بن شريك التميمي على يده اليسرى، فقطعها، وضربه آخر على عاتقه، فسقط على وجهه، وقام، وسقط، والرماح والسيوف تُوالي طعنه، حتى مات بثلاث وثلاثين طعنة وأربع وثلاثين ضربة، غير الرمية بالنِّبل والسهام. وأقدم شمر بن ذي الجوشن على جسد الشهيد، فذبحه، واحتزَّ رأسه. لقد أصبح الحسين — بعد مأساة كربلاء — «سيد الشهداء، ورمز الإيمان والفداء، وموضع الحب والتقديم والإكبار». كذلك فلم يكن في مغادرة جيفارا لموقعه المتفوق في كوبا، وانشغاله بالقتال ضد السلطة الديكتاتورية في بوليفيا، تطلعٌ لمنصبٍ، لكنه حمل السلاح دفاعًا عن حق شعب بوليفيا في حياة خالية من الظلم. رفض أن يشاهد الإنسان الضحية في حلبة المصارعة، ويتمنى نجاته. إن عليه أن ينزل الحلبة، ويشارك الضحية مصيرها، إما إلى الانتصار أو الموت. كان جيفارا ينتمي إلى عائلة موسرة، وكانت مهنته كطبيبٍ تتيح له حياة اجتماعية طيبة، لكنه ارتدى «الكاكي»، واختار الثورة ضد الرداءة حيث توجد. كان بوسع جيفارا أن يطمئن إلى منصبه كوزير للصناعة، بعد أن أفلحت الثورة الكوبية في انتزاع النصر، لكنه فضَّل أن يواصل النضال في موقع آخر. تخلى عن كل مناصبه وسلطاته في كوبا، وترك أطفاله في رعاية الثورة الكوبية، وانطلق ليواصل الثورة في أفريقيا، ثم في أمريكا اللاتينية، حتى لقي مصرعه في بوليفيا. وكتب إلى كاسترو قبل أن يسافر إلى أحراش بوليفيا: «إني لم أحزن لأني لم أترك لزوجتي وأولادي أي شيء مادي، على أني مسرور لهذا، ولا أطلب لهم أي شيء». وواجه جيفارا لحظة المفاضلة بين الكرامة ونقيضها عند أسْرِه في بوليفيا. حاول أحد الضباط أن يسخر منه، فركله جيفارا بقدمه، بحيث ألقاه بعيدًا. وحاول ضابط آخر كبير — هو الجنرال هوجاريتشي — أن يدفعه إلى الكلام، فبصق جيفارا في وجهه. ودفع الثمن — بالطبع — في اللحظة التالية: «هذا الشيء القليل الذي نستطيع تقديمه: حياتنا وتضحياتنا». والمؤكد أن جيفارا كان واعيًا بالمصير الذي تقوده إليه خطواته، وبأن الاستشهاد هو المصير الذي ينتظره في نهاية الطريق. ورغم معرفته اليقينية بذلك، فإنه أصرَّ على السير في الطريق إلى النهاية (أذكِّرك بما قاله الحسين وهو في طريقه إلى كربلاء) لكنه تطلَّع إلى تحرير الجماعة بتحريكها، فإذا استشهد مقابلًا لما يؤمن به، فإنه سيعطي المثل لمعنى الإيمان بالقضية، وبالمثل الأعلى، وللمترددين والمتخاذلين، بما يتيح الصحو لشعوبٍ طال نومها.

لم يكن في دعوة الأستاذ (الأسوار) شبهة غرض شخصي. تحمَّل الاشتغال والتعذيب، وأسلم نفسه إلى الموت دفاعًا عن هؤلاء الذين أحبهم أكثر من نفسه. أما الحسين، فقد خذله الشيعة الذين استغاثوا به، وتركوه للمصير المؤلم تحت سنابك خيل الأمويين، وانطلقت الرصاصة التي قتلت جيفارا من مسدس ضابط بوليفي صغير، بذل المناضل الأرجنتيني حياته دفاعًا عن حقِّه في الحياة. وكان نزلاء المعتقل — حلمي عزت بالذات، ذلك الذي حماه الأستاذ من أذى الآخرين — هم الذين دبَّروا القرعة الظالمة، ليدفعوا بالأستاذ إلى الشهادة دفاعًا عن الجميع. أسرَّ بكر رضوان (الأسوار) إلى نفسه — غداة إحدى مرات الإفراج عنه — «هؤلاء الناس — أبناء الأنفوشي — هم محبوبه الذي ضيَّع العمر إشفاقًا عليه. فهل كان الحب من طرفٍ واحدٍ؟ هل تعني المحبوب اللحظة، مقطوعة الصلة بما مضى، وما سيأتي؟ وهل تعذب القلب لقلوب تجد الراحة في العذاب؟ هذه الكلمات — وبكر رضوان يرى أهله وناسه منصرفين عن واقعهم الأليم، كأنما لم يدفع أعوامًا من حياته في سبيلهم — تذكِّرنا بكلمات الحسين بن علي في حشد الجيش الأموي، يوم العاشر من المحرم: «تبًّا لكم أيتها الجماعة وترحًا. حين استصرختمونا ولهين فأصرخناكم موجعين، شحذتم علينا سيفًا كان في إيماننا، وحششتم علينا نارًا فقدحناها على عدوكم وعدونا، فأصبحتم إلبًا على أوليائكم ويدًا عليهم لأعدائكم بغير عدل رأيتموه بثُّوه فيكم ولا أصل أصبح لكم فيهم إلا الحرام من الدنيا أنالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه.» وكان ما أسرَّه بكر رضوان، أو ما أعلنه الحسين، هو الهاجس الذي لا بد أنهم خاطبوا به أنفسهم، أو أعلنوه للجماعة، هؤلاء الذين بذلوا النفس دفاعًا عمَّا هو حق وصدق وعدالة (في زماننا الرديء، فإن شخصية بكر رضوان تذكِّرني بقادة اليسار المصري الذين أمضوا أجمل سني حياتهم في معتقلات عبد الناصر. هتفوا بحياته، وبشعارات المرحلة، وهم يلقَوْن أبشع ممارسات التعذيب، حتى الموت. ظلُّوا يهتفون لعبد الناصر والثورة والاشتراكية، وسط الضربات المتلاحقة التي لم تهدأ إلا بعد أن هدأت أنفاسهم، وماتوا. جاوزوا آلامهم الشخصية، وجعلوا الوطن قضية، لا يعدلون بها قضية أخرى. كان عبد الناصر على صواب فيما يدعو إليه، ويطبِّقه بالفعل، فتناسَوْا العذاب الذي لاقوه بأيدي أعوانه، وأعلنوا ولاءهم للبسطاء، وللثورة، وللغد الذي يعلو فوق العذابات الشخصية! لو أنهم نظروا إلى المصالح العامة من منظور مصالحهم الشخصية، مثلما فعل الرأسماليون والإقطاعيون الذين أضيروا بقوانين الثورة، فلعلَّهم كانوا الآن هم الأعلى صوتًا ضد عبد الناصر ومعطيات عهده). لكن البذل لم يهدر، والصيحة المخلصة لم تواجه التلاشي في وادي الصمت. كان الشعور بالإثم هو الدافع لأن يقتل يهوذا نفسه بعد أن أسلم المسيح إلى قاتليه. وهو الدافع أيضًا لأن يزداد أتباع المسيح تمسُّكًا بتعاليمه. وكان الشعور ذاته هو الذي جعل جيفارا قدوة ومثلًا بين حركات التحرُّر في دول العالم الثالث، وارتسمت حول المناضل الشهيد هالة القداسة والأسطورة. وكان أيضًا هو الشعور الذي ارتقى بالحسينية إلى مرتبة العقيدة. ففي مقدمة النتائج الإيجابية لفاجعة كربلاء، ولعلها أخطر نتائجها، أنها دخلت الضمير الإسلامي آنذاك، وهزَّته هزًّا عنيفًا. حرَّكت في النفوس ما كان خامدًا، وما ران عليها من استكانة إلى الواقع الذي فرضه الأمويون. تمازج الإعجاب بالوقفة الأسطورية لسبعين مقاتلًا ضد سبعين ألفًا، بالحرص على الشهادة رغم يُسر النجاة، بإلقاء السؤال الأهم: ماذا بعد؟ بحساب الذات عن التقاعس والتواكل، بإعادة النظر إلى ما سبق، وما يجري حالًا، والتفكير في ضرورة التغيير. ولعلَّه يمكن القول إن فاجعة كربلاء — رغم بشاعتها — كانت ثورة كاملة. أحدثت التأثير الذي تحدثه الثورات في تحريك النفوس، وإلحاحها على التغيير، حتى يتحقق المجتمع الأفضل. تعدَّدت ثورات التوابين، همُّها تفريغ ما استشعره الحسينيون من الندم والحقد، في حركات ثورة متتالية ضد الحكم الأموي. ثم فيما تلا ذلك من السلطة المستبدة، أيًّا تكن صورتها ومظاهرها. وربما كان ذلك هو الشعور نفسه الذي تحرك في نفوس الزملاء القريبين، بل كل نزلاء المعتقل، بعد أن بذل الأستاذ نفسه في سماحة، دفاعًا عن حقهم في الحرية، وفي الحياة. لم تدفعه الخيانة الواضحة إلى رفض القرعة، لكنه أسلم النفس إلى جلاديه في قناعة المؤمن بأن شهادة الفرد قد تكون فداء للجماعة، وخلاصًا لها. وكما يقول برتراند راسل فإننا حين نعرف النهاية نغدو أقوياء.

أخيرًا، فإني أتفق مع جون مورلي في أن «الأفراد الذين يرَوْن الضوء — وهم بطبيعة الحال الأفراد المثقفون — إذا أحجموا عن احتمال ما عليهم من تبعة، فإنهم يضاعفون العِلل الأخلاقية في المجتمع. وهم لا يحرمون المجتمع من مزايا التغيير فحسب، بل يرَوْن شعوره بالحاجة إلى التغيير ضعفًا. وإيقاظ الإحساس الأخلاقي في المجتمع من العوامل المهمة في تقدُّمه (المثقف الذي أعنيه، هو الذي يملك استعدادًا للتضحية بصالحه الشخصي من أجل صالح الجماعة، لا يكتفي بترديد الشعارات عن الديمقراطية وإنكار الذات، وإنما يحرص على تطبيق تلك الشعارات بالفعل). ولعل السبب المباشر في انحطاط كثير من المجتمعات، يرجع إلى ما يطرأ على الضمائر من الفساد وضعف الإحساس الأخلاقي. ولم يُصِب الضعف والتخلف الإغريق لنقص علمهم بالمذاهب الأخلاقية، وإنما أصابهم من جراء تناقص عدد الذين يقدِّرون واجباتهم الأخلاقية، وما عليهم من تبعات مهمة. ويعلِّل انتصار المسلمين على المسيحيين في الشرق وفي إسبانيا، بأنه راجع إلى احترامهم للواجب، وما كان يثيره في نفوسهم من حماسة.»

٣

في بداية الستينيات، كنت أنشد البحث عن موضعٍ في حياتنا الثقافية من خلال العمل بالصحافة. عملت — حينًا — في «الجمهورية» مع سعد الدين وهبة في صفحة عنوانها «صباح الخير». ولأن الصفحة كانت تعنى بالمادة الترفيهية والاجتماعية: زواج وطلاق وأعياد ميلاد وحفلات تكريم وغيرها، ولأني كنت أعاني قلة المصادر — الأدق: انعدامها — فضلًا عن شحوب استعدادي … فقد بدا لي الفشل حقيقة في الأسبوع الأول، وإن كابرت، وتعمَّدت تجاهله، حتى الشهر الثالث. والحق أن سعد الدين وهبة كان كريمًا في تعامله معي، لم يكن فيما أسهمت به شيء يتصل بلون الصفحة، إنما هي خواطر في الأدب والفن. حاولت أن أقفز على مبنى الجمهورية بالمظلة دون الصعود على الدرجات المتآكلة. مع ذلك، فإن الرجل لم يرفض شيئًا مما قدمته له، وكان يقرؤه بعناية، ثم يسلمه — في رقة — إلى سلة المهملات. فلما انتهى الشهر الثالث دون أن تجد خواطري سبيلها إلى النشر، صارحت أحمد عباس صالح — وأدين له بفضل مساندة خطواتي الأولى — بيأسي، فأشار عليَّ بمعاودة محاولة لقاء الدكتور علي الراعي، المشرف على الصفحة الثقافية في «المساء» آنذاك. كان الراعي غائبًا، والتقيت بكمال الجويلي، فعرض عليَّ أن أشارك في الباب الذي كان يحرره، وعنوانه «كل الناس». وبرغم أن الباب كان أقرب في اتجاهه إلى صفحة سعد الدين وهبة، ولعلَّه كان أقل احتمالًا لنشر خواطري من صفحة صباح الخير، فإن صداقة الجويلي الطيبة، وتسامحه، وأبوَّته، صنعت جسرًا إلى العمل الصحفي، وإلى الحياة الثقافية بالتالي.

ويومًا، طلب الجويلي أن أجري حوارًا مع شاب ارتكب ثلاثًا وعشرين حادثة سرقة سيارة، قبل أن يُكتشَف أمره في الحادثة الرابعة والعشرين. وروى لي الشاب عن ظروفه الاجتماعية، وعن أجواء المعتقل الذي قضى فيه أعوامًا — جعله تعدُّد السوابق من المجرمين الخطرين — حتى تم الإفراج عنه في ظروف بالغة القسوة والغرابة: ألحَّ نزلاء المعتقل في طلب الإفراج؛ أرسلوا برقيات إلى المسئولين، أضربوا عن الطعام، تظاهروا، تشاجروا — إلى حد الاقتتال — مع حراس المعتقل، ثم لجئوا إلى وسيلة بشعة لتأكيد مطلبهم في الإفراج؛ أجروا قرعة في أسماء النزلاء، واختير عشرة أسماء تعرَّض أصحابها للموت حرقًا — علانية — في ساحة المعتقل؛ وكانت تلك الوسيلة القاسية هي الباعث لاهتمام المسئولين، ودراسة حالاتهم، والإفراج عن غالبيتهم. ونشرتُ الحوار، ثم نسيته تمامًا. حتى عادت بتفكيري — في كتابة الأسوار — صورة الشاب، والحياة في المعتقل، والقرعة التي أحرقت عشرة أشخاص … كانت تلك الصورة هي الإطار السردي للأسوار، وإن داخلها — بالطبع — تصرُّف أملته طبيعة الرواية، وتباين الظروف، والتكنيك، والدلالة. ذاب النزلاء العشرة في شخصية الأستاذ، تعرَّض للمصير المؤلم بمفرده، وعاش في معتقل الرواية سياسيون ومجرمون عاديون. وتمت القرعة — عكس الحادثة الواقعية — بالخيانة، باختصارٍ، فقد كانت فكرة القرعة هي ما أفادته الأسوار من الحادثة القديمة.

٤

قد يبدو رأي لابروبير «كل شيء قد قيل، وقد أتينا بعد فوات الأوان» … قد يبدو هذا الرأي بليغًا، لكنه — في تقديري — يكتفي برؤية نصف الكوب الفارغ. الإحساس باللاجدوى يصعب — إن لم يكن من المستحيل — أن يثمر شيئًا إيجابيًّا. لكن لابروبير أضاف، وأضاف أيضًا أبناء جيله من المبدعين، وأضافت كذلك أجيال أخرى تالية، وستتحقق إضافات أخرى كثيرة في أجيال تالية، مما يضع مقولة لابروبير في إطار العبارة البليغة دون أن يجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك. لذلك فإني من غلاة الرافضين للتعميمات في إطلاق الأحكام، وبالذات فيما يتصل بنهاية نوع أدبي. فقرار الحياة أو الموت لا يملكهما ناقد، لأن ذلك القرار، الذي ربما أصدره الناقد وهو يتأمَّل السماء في ليلة قمرية، لن يحُول دون إقدام مبدع موهوب على الكتابة — في الوقت نفسه الذي أصدر فيه الناقد قراره — في عمل يَنتسِب للنوع الأدبي الذي قرر الناقد موته. لقد أعلن ت. س. إليوت — قبل عشرات الأعوام — أن الرواية ماتت، فأعلنت الرواية عن تواصل حياتها في أعمال محفوظ وكامي وهمنجواي ومنيف وكازنتزاكس وجويس وماركيث وغيرهم. وكما يقول هارولد نيكولسون، فقد «بدَّلت الرواية تقنيتها مرارًا، لكنها كانت تصل إلى القارئ في كل الأحوال». كذلك فقد أعلن إدموند ولسن — في الثلاثينيات — أن الشعر — بصورته التي نعرفها — في طريقه إلى الزوال، وأن الشعراء سيتجهون — بالضرورة — إلى أشكال أخرى غير الشعر … لكن الشعراء أهملوا ذلك الإعلان الغريب، وقدموا معطيات متميزة. ولعلي أذكر أكثر من صيحة لناقد، ترددت في حياتنا الأدبية، تنعي وفاة هذا اللون الأدبي أو ذاك. ثمة من نعى الشعر، وآخر نعى الرواية، وثالث نعى القصة القصيرة. أهمل المبدعون ذلك كله، وتلقفت المطابع — والأدراج! — أعمالًا تحفل بالتميُّز والجدة والإضافة، وتؤكد انتظام أنفاس الرواية. ظلَّت الرواية في موضعها المتفوق بين الفنون الأخرى، والفضل — في الدرجة الأولى — لتلك المحاولات المتفردة، والمتميزة، من فنانين متفردين، ومتميزين، مما قد يرين عليه من استاتيكية. الثبات والتغيُّر هما الرئتان اللتان يتنفَّس بهما كل شيء حياته، ويجد تواصله واستمراره. فإذا أبقى على الثبات دون التغيُّر، حكم على نفسه بالجمود، فالموت. وإذا حرص على التغيُّر دون مراعاة للثبات، تشوَّهت ملامحه، وفَقَدَ التواصل. من هنا، فإن القول بنظرية للرواية هو القول بضرورة أن يكون لها خطوطها العريضة، وسماتها العامة، فضلًا عن نجاح كل عمل روائي يريد له صاحبه التميز، في أن يحقق تميزه بالإفادة من خيال الفن ووعيه وحريته في مغادرة الأطر والتقاليد — فنية أو اجتماعية — مهما تكن ثابتة. وكانت الرواية العربية — على سبيل المثال — قبل أن يبذر نجيب محفوظ محاولاته. أقرب إلى ما كانت تعانيه الرواية الأوروبية في القرن التاسع عشر، من شوائب الوعظ والترفيه، حتى حققت تفوقًا على يدي هنري جيمس وجوزيف كونراد اللذيْن خلَّصا فن الرواية من معظم ما كان يعانيه من شوائب، وأضاف إليه أبعادًا جديدة باستخدام جميع الإمكانيات التي تجعل من الرواية فنًّا حقيقيًّا.

ليس المقصود بتحديد الجنس الأدبي أن نقيم الحواجز، ونفصل تمامًا بين الأجناس الأدبية. إن بين سائر الفنون نوعًا من التكامل في التعبير عن الذات الإنسانية. كانت وحدة الفنون قائمة في العصور اليونانية الأولى. ثم بدأت تلك الوحدة تذوي، وتتلاشى بالتدريج، نتيجة للنمو المتزايد الذي فرضه التباين الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات بعد العصور الأولى. وهو ما أدى إلى ظهور التخصُّص في الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية والاجتماعية. فلما صار تقسيم العمل أمرًا جوهريًّا بالنسبة لإنتاج السلع، كان لذلك تأثيره المباشر في تحويل الأدب إلى وظيفة وعملٍ متخصصٍ، تقوم به جماعة خاصة، منفصلة عن بقية الجماعات الأخرى (فتحي أبو العينين، نصوص مختارة في علم اجتماع الأدب، ص١١٦). الصورة المتغيرة الآن في الروافد التي تأتي من النبع الواحد، وتتجه إلى المصبِّ الواحد، روافد متشابكة تشمل الشعر والرواية والموسيقى والتشكيل والمسرح والسينما والتاريخ والموروث الشعبي وعلم الاجتماع وعلم النفس. وكما يقول الشاعر الإنجليزي صمويل بيكر، فإن فنون الموسيقى والتصوير والكتابة هي شيء واحد. إن محصِّلة كل فن تأتي بتفاعله مع فنون أخرى، تفاعل بين الوسائط والأدوات والأساليب الذاتية، وإن كان من المهم أن نشير إلى أن عناصر علم النفس والتاريخ والاجتماع إلى غير ذلك، والتي يحتويها العمل في أحيان كثيرة، لا تهمنا في حد ذاتها، لكن ما يهمنا — والكلام لألكسندر سكافتيموف — هو الدفعة التي تحققها داخل وحدة الكل. وحدة الفنون تعني كسر التخوم بين السرد الروائي وفنون الشعر والمسرح والسينما والموسيقى والفن التشكيلي وغيرها، بالإضافة إلى علوم مثل علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس … إلخ. إسقاط الحواجز المفتعلة بين الفنون المختلفة — والعلوم المختلفة أيضًا — خطوة مهمة لتطوير فنوننا بعامة، سواء أكانت فنونًا سمعية أم بصرية. وكما يقول شاعر أفريقيا العظيم ليوبولد سنجور فلا يمكن «تصور الموسيقى بدون حركة أو بدون رقص، وهذا ما نستطيع تسميته بالموسيقى التشكيلية. كما أن الرقص لا يمكن أن يعيش بدون رسم أو نحت. والحقيقة أن الرقص — على الأقل في فترة الحماس الديني في العصور الغابرة — كان يُعتبَر دراما غيبية أو تمثيلية عن المعجزات، ومهمة الراقص هي تجسيد الأسلاف أو الأرواح الطوطمية، وبعثها حية من خلال الزي الذي يرتديه، والأقنعة والشعر والموسيقى والرقص. وإلى حين، لم يعد الرسم مقدسًا، فقد احتفظ بالكثير من أصوله.»

لاحِظ كلمات: الموسيقى، التشكيل، الرسم، النحت، الدراما، الشعر. وبوسعنا أن نضيف إليها الرواية والسينما ليكتمل معنى وحدة الفنون. نحن نتحدث عن اللون في الموسيقى، والإيقاع في الرسم، والنغمة في الشعر … إلخ، ذلك لأنه ليست هناك — كما يقول ميخائيل كيسيلوف — حدود فاصلة بين الفنون. فالموسيقى توحِّد الشعر والرسم ولها معمارها. ويمكن للرسم أيضاً أن يكون له النوع نفسه من المعمار كالموسيقى، ويعبِّر عن الأصوات بواسطة الألوان. لا بد أن تكون الكلمات في الشعر موسيقى، ويجب أن يُولِّد ارتباط الكلمات والأفكار صورًا جديدة. ويذهب جبران إلى أن «الموسيقى كالشعر والتصوير، تمثِّل حالات الإنسان المختلفة، وترسم أشباح أطوار القلب، وتوضح أخيلة النفس، وتصوغ ما يجول في الخاطر» (المؤلفات الكاملة لجبران، ٤٠).

تعددت الأحكام في تاريخ الفن. قيل إن عصر الشعر انتهى، وعصر المسرح انتهى، وعصر الرواية انتهى، وعصر القصة القصيرة انتهى … لكن كل الأجناس بقيت، وتداخلت. ولعل أهم عوامل المفارقة بين الأجناس الأدبية المختلفة، أن كل جنس لا بد أن يقيم عالمه الخاص به. قد يفيد من جنس أو آخر، لكنه يقدم في النهاية جنسه الخاص، صورته المتميزة.

يقول رولان بارت: «إن الحكاية كامنة في الأسطورة والخرافة والقصة والرواية والملحمة والتاريخ والمأساة والملهاة والمشهد الصامت واللوحة المرسومة والزجاج الملون والأحداث المختلفة والحوار بين الأفراد. وهي موجودة تحت أشكال تكاد أن تكون غير متناهية في كل الأزمنة والأمكنة، في كل المجتمعات.» (ت. أحمد درويش).

الحكاية، الحدوتة هي الدعامة الأولى في بناء أي عمل روائي، ثم تأتي بقية الدعامات، وهي بالنسبة للتقنية عندي الإفادة من العناصر والمقومات في وسائل الفنون الأخرى، كالفلاش باك في السينما، والتقطيع في السينما أيضًا، والتبقيع في الفن التشكيلي، والهارموني في الموسيقى، ودرامية الحوار في المسرحية … إلخ. أومن بقول بريخت: «يجدر بالكاتب — كي يسيطر على القوة الدينامية للواقع — أن يفيد من كل الوسائل الشكلية المتاحة، بصرف النظر عن جِدَّتها أو قدمها.» وأتصور أن ذلك يتبدى — بدرجة وبأخرى — في كل رواياتي بدءًا بالأسوار وانتهاء برباعية بحري، مرورًا بالصهبة وقاضي البهار ينزل البحر ومن أوراق أبي الطيب المتنبي والنظر إلى أسفل وقلعة الجبل وغيرها.

نحن نجد في الرواية ردًّا على كل ما طُرِح من أسئلة وهي تقدم ردَّها بصورة أعمق وأشد وضوحًا من الفنون الأخرى كالشعر والموسيقى والرسم وغيرها. إنها — كما يصفها بعض النقاد الأوروبيين — فن المشكلات، بوسعها — وحدها — أن تعالج كل الأبعاد للمشكلة الواحدة.

الرواية تجسيد للحياة على نحوٍ أعمق، بينما وسائل التعبير الأخرى قد تعني ببعدٍ واحدٍ. فثمة اللون في الرسم، والحركات التي تستهدف توترات صاخبة الموسيقى، والمزاوجة بين اللغة وفهم الحياة الإنسانية.

ناتالي ساروت تجد في الرواية الجديدة ضرورة، لأن الأرض الخصبة — والتعبير لساروت — إذا طال استغلالها، تتحوَّل إلى أرض عقيم. ومن الواضح أن التجديد المستمر شيء لا بد منه لحياة الرواية، بل لحياة أي فن (Les Nouvelles Litteraires 9, 6, 1966).

وفي تقديري أن إفادة الرواية من الفنون الأخرى كالموسيقى والتشكيل والشعر وغيرها، يعني إفادتها — بلغة ساروت — من مخصِّبات تضيف إلى الأرض المُنهَكة تجدُّد حياة. (هنري جيمس ينادي بوحدة الفنون من زاوية أخرى: إن بعض الفنون — مثل التصوير والموسيقى والعمارة — إذا استعان بها الروائي في روايته، فإنها ستساعد في التخلُّص من اقتحام ذاتية المؤلف لروايته). الرواية الحديثة تفيد من الموسيقى: التركيب الموسيقي للسيمفونية — مثلًا — أو التركيب الموسيقي للسوناتا، كما تفيد من فهم الفنان التشكيلي للشكل، ومن فن المونتاج في السينما. ويلحُّ د. س بلاند في أن نتعامل مع الكلمات في الرواية، كما نتعامل معها في الشعر والدراما. أما همنجواي فإنه يشير إلى أن ما يتعلَّمه الكاتب من الملحنين، ومن دراسة الهارموني والكونتربونيت يبدو واضحًا في أعماله، كما لا يتطلَّب تفسيرًا.

على الروائي أن يثري إبداعه بإسهامات الفنون الأخرى، بما تملكه الفنون الأخرى من خصائص جمالية وتقنية، فيتحقق للنص الأدبي أبعاد جديدة — أشارت إليها ناتالي ساروت — وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى.

وعلى سبيل المثال، فإن الروائي ينبغي أن يكون ذا حسٍّ عالٍ بالشعر، بالقصيدة الشعرية، فثمة حسٌّ للكلمة، وحسٌّ للصورة، وهما حِسَّان شاعريان. اللفظة مهمة في الرواية، والصورة أيضًا بالقدر نفسه لأهميتها في القصيدة الشعرية. «الرواية الحديثة تحتوي إطارًا شعريًّا، بل إنها بدون الشعر لا يمكن أن تحيا، ولا أن تبشِّر بآفاق أخرى للمعرفة غير المنظورة». إن المزاوجة بين التوتر الشعري والفن السردي إضافة مطلوبة في فن الرواية. ولعلَّنا نذكر اعتراف ميشيل بوتور بأنه لم يكتب قصيدة واحدة منذ كتب روايته الأولى، فقد أحس أن الرواية — في أكمل أشكالها — قادرة على تلقِّي ميراث الشعر القديم. وكما يقول جبرا إبراهيم جبرا فإننا «لن ندرك حقيقة الطاقة الفاعلة في الفن الروائي النثري ما لم نرجع بأصوله إلى محركاته الشعرية الأولى.»

أما اقتراب الرواية من الشعر، واقتراب الشعر منها في زماننا الحالي، فلعلَّنا نجد تدليلًا له في قول والتر بيتر: «يطمح الجميع لبلوغ الحالة الشعرية.» إن كل الفنون تطمح إلى الحالة الموسيقية، وهي تفعل ذلك بواسطة الشحنة الشعرية الكامنة فيها، والتي تحمل في تضاعيفها الكثير من سر الموسيقى. فإذا عزلت الشعر عن تلك الفنون سقطت حالًا، وأضحت شيئًا غير الإبداع. مهمة الروائي المبدع هي أن يحوِّل الحياة بزخمِها وتوتراتها إلى ما يشبه القصيدة، كمن يستخلص الذهب من المعادن الأخرى، فيتحقق للكتابة الإبداعية تألُّقها وتفوقها قياسًا إلى بقية الكتابات. أذكر قول جبرا إبراهيم جبرا: «فالشعر سمة الأصالة في كل فن بمعنى الكلمة. وإذا كانت الفنون كلها تطمح إلى الحالة الموسيقية — كما قال ولتر باتر — فهي إنما تفعل ذلك عن طريق الشحنة الشعرية الكامنة فيها، والتي تحمل في تضاعيفها الكثير من سر الموسيقى. اعزل الشعر عنها، تسقطها جميعًا، وتصبح شاهدًا غير الإبداع. ولعل واجب الروائي المبدع في النهاية، هو أن يكون قد حوَّل الحياة، بزخمها وبؤسها وروعتها، إلى ما يشبه القصيدة، فيكون بذلك قد استخلص الذهب من المعادن الأخرى، وبهذا يحقق الروائي المبدع امتيازه على غير المبدع، رغم أن الاثنين قد يعرفان الأفراح والمآسي نفسها، ويتحدثان عن الأفراح والمآسي نفسها، التي هي إطار الحياة اليومي لكل إنسان.»

لقد بدأ بلزاك حياته الأدبية شاعرًا، ثم انتقل إلى كتابة الرواية. الأمر نفسه بالنسبة لهمنجواي وفوكنر وعشرات غيرهم. وظل فيكتور هوجو — إلى نهاية حياته — يزاوج بين الشعر والرواية … وكان وليم بليك شاعرًا ورسامًا، وكان إليوت شاعرًا وناقدًا، ويذهب بول فاليري إلى أن كل كتابة أدبية هي كتابة شعرية.

أذكر أني حاولت الشعر في البداية، وتأثرت بشعراء أبوللو. فلما أدركت أن القصيدة يصعب أن تكون لغتي التعبيرية، تبدَّت لغة الشعر في أعمالي الروائية والقصصية، وهو الأمر الذي يُعَد ملاحظة أساسية في التناول النقدي لأعمالي. تهمُّني اللغة فيما أكتب، الكلمة المناسبة في موضعها، الكلمة الفلوبيرية — على حد تعبير بورخيس — التي تُحسِن التعبير عن الفوضى الدنيوية الغامضة، أو عن الرؤيا اللحظية الكاشفة. لا تهمني الألفاظ الضخمة أو المهجورة أو القديمة، ولكن تشغلني موسيقى الحرف والكلمة والجملة، أحذف وأضيف وأعدِّل بما يحقق الاتساق والهمس الشعري والإيحاء ذا الدلالة … وثمة بعض النقاد يطالب القارئ أن يتمرس على تذوُّق الشعر حتى يمكنه قراءة الرواية الأقرب إلى صورة ذات تركيب شعري.

أوافق أدونيس — واختلافاتي معه كثيرة — في أنه يمكن للقصيدة أن تفيد من الرواية كثيرًا، والرواية تفيد من الشعر كثيرًا، وبهذا المعنى تتداخل الأنواع، لكن تظل الرواية رواية، والقصيدة قصيدة (الأربعاء الأسبوعي ٢١ / ١٠ / ١٩٨٧م). ذلك لأن الموضوع الذي يصلح في الرواية، قد لا يصلح — أو أنه لا يصلح — في القصة القصيرة، والعكس صحيح. وإلَّا فلا معنى لاختيار الفنان هذا الجنس الأدبي أو ذاك.

يقول هوجو لايختنتربت: «الحضارة في أي عصر من العصور تعتمد على الحياة الاجتماعية والتاريخ السياسي والأحوال الجغرافية، إلى جانب اعتمادها على لغة البلد، ومن ثَمَّ فهناك صلة ضرورية بين الموسيقى وبين هذه الموضوعات كافة، وفضلًا عن ذلك فإن الموسيقى تستند إلى أساس علمي يتضمن الطبيعة والرياضة. كما أن بينها وبين كلٍّ من الأدب وسائر الفنون روابط وثيقة إلى حدٍّ ما. ولقد تأثرت الموسيقى بالشعر وفن العمارة والنحت والتصوير والرقص والتمثيل والفنون الآلية، إلى جانب تأثيرها في هذه الفنون بدورها» (ت. أحمد حمدي محمود). وكما يقول نيتشة فإن العمارة موسيقى تجمدت.

ثمة علاقة منطقية بين الشعر والموسيقى ترتكز إلى العوامل التي تجمع بين هذين الفنين. والقول بموسيقى الشعر يعني أهمية الموسيقى بالنسبة للشعر. إن الشعر لا يصبح شعرًا بدون موسيقى. ويرى جاتشيف أن الموسيقى هي أقرب الفنون إلى الأدب، وإن تباينا في طريقة التعبير عن الإيقاع العام للوجود، وللعالم الداخلي للإنسان (ت نوفل نيوف). أما السينما، فإن لنا أن نتصور فيلمًا خاليًا من الموسيقى. الموسيقى — كما نعرف — بُعدٌ مهم في الفيلم السينمائي، وهي كذلك بُعد مهم في المسرحية، وكلاهما يضم القصة والديكور والأزياء والشعر، وبالذات المسرحية الشعرية.

ويرى البعض في القصة اقترابًا من الشعر الغنائي، يؤكده — كما يقول أوكونور — الوعي الحاد بالتفرد الإنساني. أما الموسيقى والرواية، فإنهما كما يقول ميشيل بوتور: «فنان يوضح أحدهما الآخر، ولا بد لنا في نقد الواحد منهما من الاستعانة بألفاظ تختص الثاني، وما كان حتى الآن بدائيًّا، عليه — بكل بساطة — أن يصبح قياسيًّا. وهكذا يجدر بالموسيقيين أن يكبُّوا على مطالعة الروايات. كما يجدر بالروائيين أن يكونوا مطَّلعين على بعض المفاهيم الموسيقية» (ت فريد أنطونيوس). ويذهب الفيلسوف الألماني ليسنج إلى أن الرواية والموسيقى تشتركان في الطبيعة الزمنية التي تميزهما على بقية الفنون ذات الامتداد الفضائي. الرواية هي فن الزمن، والموسيقى كذلك (عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، ص١٩٩).

لا يخلو من دلالة قول بابلو بيكاسو: «إذا أردت تعلُّم التكوين في الرسم، فإن عليك بدراسة مسرح مايرهولد، لا يستوقفني الفنان الذي تدرس مسرحياته، بقدر ما يبدو مطلوبًا تفاعل الفن التشكيلي والمسرح. يغيظني ذلك الذي يحاول التجريب في القصة القصيرة — مثلًا — ويرفضه في الفن التشكيلي. يكتب أعمالًا يؤطرها النقد في السوريالية، بينما يعجز عن قراءة إبداعات تشكيلية مماثلة. الفن التشكيلي يلتحم بالفنون الأخرى، من خلال التكوين والإطار والأبعاد والأضواء والظلال. واتساقًا مع قول سرفانتس: الرسام والأديب هما سواء، فإن أرنولد بينيت يذهب إلى أن: «التشابه بين فن الرسام وفن الروائي تشابه تامٌّ، فمصدر الوحي فيهما واحد، وعملية الإبداع في كل منهما هي العملية نفسها — مع اختلاف الوسائل — ونجاحهما أيضًا واحد، وبوسعهما أن يتعلَّما كلٌّ من الآخر، وبوسعهما أن يشرحا ويساندا كلٌّ الآخر، فقضيتهما واحدة، ومجد الواحد هو مجد الآخر» (نظرية الرواية،٧٢). أذكرك برواية «ممر ميلانو» لميشيل بوتور التي تشبه في تكوينها لوحات بول كيلي المسماة «تكوين»، فهي تعرض للحياة في إحدى عمارات باريس أثناء فترة محددة ومحدودة من الزمن. ثمة علاقات متشابكة بين كل شقة والأخرى في العمارة بقطع صغيرة، تتحرك على لوحة شطرنج.

لقد نشأت الرواية من الدراما، ومن ثَمَّ فهي تشتمل على بعض المكونات المسرحية. وتؤكد آراء نقدية عمق الصلة بين القصة القصيرة والمسرحية. لقد تنبَّأت الرواية — والقول لكونديرا — بفن السينما، وتمثَّلته مسبقًا (الطفل المنبوذ، ص١٢٥). السينما هي رواية بالصور، حتى إن السؤال يثار: ما أساس الفيلم السينمائي: هل هو صور لرواية، أم رواية لصور؟ إذا كان رأي جان كوكتو أن «الفيلم هو كتابة بالصور» فإن السينما هي الأداة الشعبية — أو الجمعية في تعبير آخر — لتقديم الفنون في وحدتها. فقد أفادت السينما من المدارس الفنية التشكيلية المختلفة مثل التأثيرية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية. كما أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية: المونتاج، التبئير، الزاوية القريبة، التناوب، الاسترجاع. وتبادلت الرواية والسينما بعامة التأثُّر والتأثير. لقد أوجد كاتب السيناريو والروائي — في زمن متقارب — طريقة الفلاش باك — ارتدادات زمنية إلى الماضي في ذهن الشخصية — وكان ذلك نتيجة مباشرة للتأثير المتبادل بين المبدعين. كما أفاد الروائيون وكُتَّاب القصة من القص واللصق والمزج والتقطيع، وغيرها من فنيات المونتاج. من المبدعين الذين طبقوا — في السرد الروائي — تقنيات السرد المرئي، وإفادته من السرد السينمائي: نجيب محفوظ وفوكنر وهمنجواي ودوس باسوس وشتاينبك وفوينتس وماركيث وغيرهم. تبيَّن إفادة نجيب محفوظ من تقنيات السيناريو، منذ لاحظ صلاح أبو سيف حسَّه الدرامي المتفوق، فلم يجد عناء في تدريس السيناريو لمحفوظ، بحيث أقبل — في ما يشبه التفرغ، على مدى خمس سنوات — على كتابة السيناريو السينمائي، وأهمل الكتابة الروائية التي نذر لها موهبته حتى من الكتابة الروائية التي نذر لها موهبته الإبداعية، وزواج جارثيا ماركيث بين الكتابة الروائية والسيناريو السينمائي. الأمر نفسه بالنسبة لكُتَّاب آخرين. وقد أفدت — شخصيًّا — من دراسة السيناريو على أيدي أساتذته الكبار: صلاح أبو سيف وعلي الزرقاني وصلاح عز الدين وغيرهم. تبيَّنت إمكانية — بل حتمية — تلاقح السرد القصصي وتقنية السيناريو من تقطيع واسترجاع … إلخ.

ثمة آراء أن السينما في منتصف الطريق بين الرسم والموسيقى، والسينما — في بعض الاجتهادات — ثمرة زواج شرعي بين الرسم والمسرح، وقد أخذت عنهما أهم خصائصهما. أما العلاقة بين السينما والتشكيل فإننا نشير إلى قول مارسيل مارتن: «إنه في وسعنا أن نزعم أن التاريخ الجمالي للسينما هو خلاصة مركزة من التاريخ الجمالي للرسم». وعمومًا، فقد «ترك كل فرع من فروع الفنون التقليدية بصماته على الفيلم، كما أسهم في تحديد قواعد تكوينه. فإلى جانب الرسم التقليدي، هناك الرسم السينمائي على الشاشة، وإلى جانب الأدب المكتوب هناك الأدب المرئي والمسموع، وإلى جانب العرض المسرحي، هناك العرض على الشاشة. وأخيرًا، إلى جانب الموسيقى التقليدية هناك موسيقى تحكم تركيب العمل السينمائي» (عالم الفكر، المجلد السابع، العدد الثاني).

وبالطبع، فإن العمل الإبداعي يضع قوانينه، فلا تأتي بالضرورة من خارجه، لا تقحم عليه، أو تنبو عن سياقه. وعلى حد تعبير إليوت فإن القانون الأدبي الذي جذب اهتمام أرسطو لم يكن قانونًا وضعه هو، بل قانونًا اكتشفه. لكن القصة والقصيدة والرواية والمسرحية … إلخ، من خلال التراث الهائل لكل منها، يظل لها مواصفاتها الخاصة، شكلها الفني الخاص. ولعلي أصارحك أمام قول البعض، وهو يدفع إليك بأوراقه: هذا نص! إني أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة، نثرية أو شعرية، حتى أتبيَّن مدى اقترابها، أو ابتعادها، عن هذا الجنس الأدبي أو ذاك. لا أغفل إمكانية توقعي للعمل المتميز، العبقري، الذي قد يفاجئني بجنس إبداعي لم يكن موجودًا من قبل، لكن هذا العمل لا بد أن يحمل قوانين أخرى، خاصة، ومغايرة.

إن تقييم العمل الفني، التمييز بين الفن واللافن، الجيد والرديء، لا يصدر عن مجرد الذوق الشخصي، لكنه لا بد أن يخضع لمواضعات، لمواصفات، توجد في العمل الفني، أو تغيب عنه. بمعنى أنه لا بد للمبدع أن يكون على اتصال بتراث العالم — وليس تراث لغته فقط — من الإبداع، وأن يكون على صلة بتراث العالم النقدي، بالإضافة إلى اتصاله بالثقافة العالمية في إطلاقها.

طبيعي أن العمل الفني يحتاج إلى تلقائية مساوية للتلقائية التي يريد الفنان أن تكون عليها صورة عمله، بحيث يُحدِث تأثيرًا وجدانيًّا، هو المطلوب — ابتداء — ليسهل على القارئ متابعة العمل، والتفاعل معه، والتأثر به، وإحداث الهزة — أو التغير — في وجهة نظره للحياة من حوله. بداية لحظة الكتابة عندي في الإمساك بتلابيب اللحظة. أبدأ الجملة الأولى، السطر الأول، الفقرة الأولى، فأجاوز العالم الذي تصورته، ودخلت عالمًا آخر، هو عالم العمل الإبداعي: أحداث وشخصيات وملامح وتفصيلات وجزئيات ومنمنمات تتخلق من داخل العمل، تفرض نفسها عليه، لا شأن لها بتصوراتي المسبقة. في تقديري أنه إذا أراد الفنان لروايته أن تكون فنًّا حقيقيًّا، فإن عليه أن يوجه تأثيرها إلى مزاج القارئ، بإضفاء صورة الحياة الحقيقية على الأحداث. تلك هي الوسيلة التي تحرص الفنون الأخرى — مثل الموسيقى والتصوير — أن توجه لها تأثيرها. أما الإسراف في «الصنعة»، وإقحام بعض المستحدثات التكنيكية لغير سببٍ، والإلحاح على صورة العمل الفني بزوائد الظلال والتفاصيل، فإن ذلك كله يصنع للرواية قبرًا جميلًا، تنعم فيه بالموت من قبل أن ترى الحياة. أستعير من هنري جيمس تأكيده بأن الرواية شيء واحد متماسك، كطبيعة الكائنات الحية، وبقدر تماسك أجزائها، واتصال كل جزء — عضويًّا — بالأجزاء الأخرى، تحصل الرواية على ما يريده لها الفنان من حياة. وبديهي أن الفنان لا يكتب محاولاته لتزجية الفراغ، أو لحفظها في الأدراج، ذلك لأن العمل الفني هو وسيلة الفنان للتخاطب مع مجتمعه، وهذا المجتمع — بالطبع — لا يتشكَّل من ثقافة واحدة، أو درجات متساوية من الوعي، أو ذوق فني عام موحد. المجتمع — أي مجتمع — يتكوَّن من أفراد، لكل منهم حصيلته المعرفية، ووعيه وانتماؤه الفكري والطبقي، بحيث يصبح من السذاجة تصور أن فنانًا ما يصل إليهم جميعًا في محاولاته. لذلك فإن الحرص الأهم للفنان هو أن يكون مخلصًا في التعامل مع فنه، ومع نفسه، لتجد محاولاته جمهورها الذي قد تضيق قاعدته أو تتسع، لكن هذا الجمهور هو بعض شرائح المجتمع الذي يخاطبه الفنان في محاولاته. وبتوالي الأعمال، وتعدُّدها، في المقولة والتكنيك، فإن اتساع قاعدة المتلقين سيصبح أمرًا شبه مؤكد، فضلًا عن قيام الاحتمال بانضمام شرائح أخرى من المجتمع. باختصار، فإن الرواية الجديدة ليست مودة تختفي بقدوم مودات أخرى. إنها نظرية واضحة، متكاملة الأبعاد، قد تطور نفسها، وقد تستغني عن بعض المقومات، وتضيف مقومات أخرى. لكن المقومات الأساسية تظل في صلة الرواية العضوية بالفنون الأخرى، والإفادة المتبادَلة بينها وبين تلك الفنون (الرواية الجديدة هي التسمية التي تُطلَق — الآن — على التوجهات الطليعية في المشهد القصصي الأمريكي اللاتيني). وإذا كان من البديهي أن تكون للعمل الفني مقولته، أو دلالته — راجع البداية — فإن هذه المقولة/الدلالة يجب أن تبين عن نفسها في ثنايا العمل الفني، وليس من خلال الافتعال والمباشرة. الإيحاء — لا التقريرية — هو قوام العمل الفني. وإذا أفصح الغرض عن نفسه، فَقَدَ العمل الفني صفته، واستحال منشورًا دعائيًّا. وكما يقول نور ثروب فتراي، فإنه لا يوجد في الإبداع خطاب مباشر، ذلك لأن الأمر ليس ماذا نقول، بل كيف نقول. مع ذلك، فإن الزيف ما يلبث أن يتكشَّف — ربما للقارئ العادي — إن كان الهدف من التجديد مداراة نقص أو قصور في بعض أدوات الفنان. وعلى سبيل المثال، فإن بعض الأدباء قد يلجأ إلى اللغة البرقية السريعة، لا لضرورة يتطلَّبها العمل الفني، أو الرغبة في التجديد، وإنما لقصور في ملكات الفنان الأسلوبية واللغوية. وقد يستغني الأديب بالحوار عن السرد للسبب نفسه، وإن غلَّف محاولاته بدعوى التجديد. أذكر فيلمًا أمريكيًّا شاهدته منذ سنوات بعيدة، عن فنانين يعيشان في شقة واحدة، أحدهما موهوب، والثاني يحاول استكمال موهبته، ودعا الثاني أحد أصحاب المعارض لشراء بعض لوحاته، فلم يجد الرجل فيها ما يستحق الشراء. وقبل أن ينصرف، لمح لوحة تجريدية مستندة إلى الجدار في أقصى الحجرة. وعرض شراءها حالًا. كانت اللوحة للفنان الأول، وكان الفنان ذو الموهبة الناقصة يميل إلى التقليدية في لوحاته، فادَّعى اللوحة لنفسه، ثم راح يدلق كميات من الألوان الزيتية على مساحات من القماش، قدمها لصاحب المعرض على أنها لوحات تجريدية، فرفضها الرجل بالطبع، وأتيح للفنان «الحقيقي» — ختامًا — أن يحصل على فرصته. أما ذلك الذي كان يحاول تبين هويته، فقد ظلَّ يحاول. إن الموهبة المتكاملة التي تسيطر على أدواتها جيدًا، هي الأرضية التي ينشأ العمل الفني — بدونها — في فراغ … فهل يمكن لبناء أن يقوم على فراغ؟!

٥

يقول بولان «يعرف كل امرئ أن في عصرنا نوعين من الأدب: الأدب الغث الذي هو حقًّا غير جدير بالقراءة، وهو المقروء غالبًا، ثم الأدب الجيد الذي لا يُقرَأ».

وكانت المعادلة الصعبة التي طرحت نفسها في البداية، هي أن أكتب ما أطمئن إليه، وأن يطمئن القارئ إلى قيمة ما أكتب. وبالتحديد، فقد كنت أحب أن أضع القصة في الإطار الذي أتصوره — في عصرنا — مناسبًا لها، ولم يكن التجديد لمجرد التجديد هو هدفي في الحقيقة، بقدر ما كان يصدر عن نظرة يقينية أن دائرة الفنون الخلاقة مكتملة، وأن الأسلوب الذي يعالج به الفنان لوحة، ربما يفيد منه كاتب القصة القصيرة. والوسائل التكنيكية التي يلجأ إليها كاتب السيناريو السينمائي قد تحقق التأثير ذاته في رؤية أدبية، والهارموني الذي يحرص عليه المؤلف الموسيقي هو ما يحقق للقصيدة الشعرية وحدتها العضوية. ولفرجينيا وولف مقولة شهيرة «في ديسمبر ١٩١٠م، أو حوالي هذا التاريخ، تغيرت الطبيعة الإنسانية». وكانت فرجينيا وولف تقصد بتغيُّر الطبيعة الإنسانية، تغيُّر المعرفة بالطبيعة الإنسانية. أما التاريخ الذي كان بداية لذلك التغير، فهو تاريخ إقامة معرض للرسامين بعد الانطباعيين في لندن، عُرِضت فيه أعمال لسيزان وفان جوخ وماتيس وبيكاسو، كانت تمثِّل ثورة على المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي، والتي تقف في موازاة المدرسة الطبيعية في الرواية (حددت فرجينيا وولف تاريخ الثورة على المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي، والطبيعية في الرواية، بأنه ديسمبر ١٩١٠م. مع ذلك، فإن محاولات نجيب محفوظ — في الأربعينيات من القرن العشرين — جاءت أشبه بثورة في دنيا الرواية العربية!). بلغ يقيني بصلة الفنون بعضها ببعض، وضرورة تأثُّر كل فن بالفنون الأخرى، أني رفضت «قد» في رأي سارتر بأن الفنون في عصر واحد قد تتبادل التأثير فيما بينها. ذلك لأني كنت أومن — وما زلت — بضرورة — إن لم يكن بحتمية — ذلك التأثر والتأثير الذي تتبادله فنون العصر الواحد. وطبيعي أن الرفض ينسحب على قول ميشيل بوتور بأن الرواية الجديدة انتهت «ومهمتها كانت إزالة الحواجز بين الفنون». إنه رأي متناقض وغير منسجم، لأن إزالة الحواجز بين الفنون ليست عملًا طارئًا، ولا وقتيًّا، ولا تعبيرًا عن مودة موسمية. إن الأدب — على نحو ما — محور لبقية الفنون، نقطة جذب واتصال. إيقاع المفردات والتعبيرات يتسلل إلى الأذن، فيحمل طبيعة الموسيقى، ويطالع العين، فيحمل طبيعة الفن التشكيلي. وقد استطاعت الرواية — عندما لجأت إلى فنيات الإبداعات الأخرى، مثل السينما والمسرح والموسيقى وغيرها — أن تغادر عنق الزجاجة، تجاوز الاستاتيكية إلى ديناميكية متجددة، تستوعب الإبداعات الأخرى، وتسيطر — وربما تفوقت — عليها. وبالطبع، فإن فنية العمل هي التي تفرض اللغة، وأسلوب التناول، وإن كنت أحاول أن أفيد من لغة الشعر. ثمة روائي يقبل على روايته بروح «السيناريست»، كأن يضع في تصوره حركة مجسَّدة، تسترسل، أو تتصاعد، أو تمضي إلى الأمام وإلى الوراء، تمامًا كالمونتاج السينمائي (أذكِّرك بقصيدة إليوت الأرض الخراب التي تأثرت بالمونتاج السينمائي في بداياته) والسيناريو الأقرب إلى الاكتمال هو السيناريو الذي يقترب من الرواية الجيدة. لكن تميز الرواية في مساحتها العريضة التي يصعب على أي فيلم — مهما يستغرق من وقت — أن يغطيها. والقصيدة المكتملة هي التي يتشكَّل بناؤها في قالب قصصي.

والواقع أني لم أتعمَّد طريقة الفلاش باك في الأسوار، لكن الجلسة التي تشابه عشاء المسيح الأخير مع حوارييه، كان لا بد لها أن تعود إلى نقطة البداية. ولم تكن — في الحقيقة — نقطة واحدة، وإنما كانت عشرات النقاط، البدايات، التي يتشكَّل من مجموعها واتصالها واستمراريتها سدى الأسوار كرواية.

الرواية هي أشد الأجناس الأدبية قدرة على احتواء بقية الأجناس من قصة وشعر وحوار درامي، وهي الأشد قدرة على استيعاب الفنون الأخرى من مسرح وسينما وموسيقى وفن تشكيلي … إلخ. بل إنها الأشد قدرة على احتواء الموروث الشعبي والأسطورة والاجتهاد الفلسفي والمشكلة الاجتماعية والواقعة التاريخية والتحليل النفسي، بحيث تتشكَّل من ذلك كله — أو بعضه — ضفيرة العمل الروائي. أخيرًا، فإن الرواية هي الأشد قدرة على احتواء الإنسانيات في إطلاقها، واستيعابها لصالح بنائها المضموني والشكلي، بما يجعل من الرواية فنًّا يعنى بالتواصل والمعرفة معًا. إن تعبير الرواية الجديدة يستفز التأمل، ذلك لأنه سوف تولد دائمًا رواية جديدة. إلى جانب أن الرواية الجديدة لا تعني اتجاهًا محددًا لكل الأدباء. فاتجاه ميشيل بوتور — مثلًا — يختلف عن اتجاه ناتالي ساروت وألان روب جرييه، واتجاه جرييه يختلف عن اتجاه ساروت وبوتور … إلخ. ولعلِّي أوافق جرييه على قوله بأن تعبير الرواية الجديدة ليس دلالة على مدرسة «بل ولا جماعة معينة من كُتَّاب يعملون بطريقة واحدة، وإنما هي تسمية مناسبة تشمل كل من يبحثون عن أشكال جديدة للرواية، قادرة على التعبير عن علاقات جديدة، أو على خلق هذه العلاقات بين الإنسان والعالم. كل أولئك الذين عقدوا العزم على اختراع الإنسان. هؤلاء يعلمون أن التكرار المنظم للأشكال الفنية التي تنتمي إلى الماضي، ليس أمرًا غير معقولٍ، وغير مفيدٍ، فحسب، بل إنه قد يصبح ضارًّا إذ يغلق عيوننا عن موقفنا الحقيقي في عالم الحاضر، فيمنعنا آخر الأمر من بناء عالم الغد، وإنسان الغد.

كانت الرواية جديدة دائمًا، وينبغي أن تظل كذلك. حقق جدة الرواية — كل في زمانه — جوجول وبلزاك وتورجنيف وفلوبير وزولا وديكنز وديستويفسكي وبروست وفرجينيا وولف وكافكا وجويس وهمنجواي ومحفوظ وعشرات غيرهم.

٦

في العاشر من ديسمبر ١٩٧٣م قرأت إعلانًا للهيئة المصرية العامة للكتاب، عن صدور أول مطبوعات «روايات مختارة» روايتي الأسوار.

غمرني شعور عميق بالارتياح.

١٩٧٥م، نُشر في كتاب «محمد جبريل وعالمه القصصي»، ١٩٨٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤