الفن … هل هو للتسلية؟

«كانت الكتب العلمية في مكتبة أبي تقف، جنبًا إلى جنب، مع الأعمال الشعرية والروائية، ولم يخطر ببالي مطلقًا أن أفكر أن أحدهما يقل، في قيمته وإنسانيته، عن الآخر.»

أودين

منذ العشرينيات من القرن العشرين، تلاحقت الثورات العلمية في عالمنا المعاصر: ثورة المعلومات … ثورة الاتصالات … ثورة التكنولوجيا … ثورة الهندسة الوراثية، وغيرها … وثمة اجتهاد أن المعلومات التي أضافتها الإنسانية إلى رصيدها المعرفي خلال الأعوام الخمسين الأخيرة، يفوق ما حصَّلته خلال تاريخها كله. وكما يقول أستاذنا زكي نجيب محمود فإن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية بقدر ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه.

العلم ضرورة لبقاء الجنس البشري، لأنه هو الذي يمكِّن البشر من السيطرة على الطبيعة، واستخراج العناصر الأساسية لوجودهم (أدب ونقد، أكتوبر ١٩٨٥م)

من هذا المنطلق، فإن محاولة استشراف آفاق القرن الحادي والعشرين في مجال ما، يبدو غاية في الصعوبة … لكن الإجابة عن السؤال مطلوبة.

ولعلَّه يجدر بنا — ابتداء — أن نشير إلى قضية العلاقة بين العلم والفن:

يناقش المازني في «حصاد الهشيم» قضية الفن، وأنه لن يشغل إلا مكانًا ضئيلًا جدًّا في الحياة العقلية للقرون البعيدة، ذلك أن علم النفس يقول لنا إن التطور طريقة من الغريزة إلى المعرفة، ومن العاطفة إلى الموازنة والحكم، ومن التفكك إلى الانتظام في اتصال الخواطر؛ فيحل الالتفات محل العفو في نشوء الفكرة، وتأخذ الإرادة — يهديها العقل — مكان الهوى، وحينئذٍ يزداد تغلُّب الملاحظة على الخيال والرموز الفنية (حصاد الهشيم، ص٥٢).

ثمة مقولة إنه لولا العلم لكادت الحياة أن تكون صورة للموت. ويقول فلاديمير مايكوفسكي: «جرَّار واحد من صناعة فورد أفضل من مجموعة قصائد شعرية.» وكان رأي مصطفى المنياوي في رواية نجيب محفوظ «الشحاذ» أن الفن كان له معنى في الماضي، فلما أزاحه العلم عن موضعه، أفقده كل المعاني. مصطفى يكتب في اللب والفشار، إيمانًا بقضاء العلم على كل ما عداه. وهو يعترف ببساطة أن العلم لم يُبقِ شيئًا للفن، وأن العلم ينبض بلذَّة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة، ولم يبقَ الفن إلا للتسلية، بل إنه سينتهي — يومًا — بأن يصير حلية نسائية مما يُستعمَل في شهر العسل. يقول: لقد تبوَّأ العلم العرش، فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة. وكم ودَّ أن يقتحم الحقائق الكبرى، ولكن أعياه العجز والجهل، وحزَّ في نفسه فقدان عرشه. ولما استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير المفهومة، لجأ الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب، باستحداث آثار شاذة مبهمة غريبة، وأنت إن لم تستطع لفت أنظار الناس بالتفكير العميق، الطويل، فقد تستطيعه بأن تجري في ميدان الأوبرا عاريًا، ولذلك اخترت أبسط الطرق وأصدقها، وهو أن أكون مسليًا. ويقول: يجب أن نتخلى للعلم عن جميع الميادين، عدا السيرك!

ولعلَّ مبدأ فصل العلم والفن في حد ذاته، يحتاج إلى مراجعة شديدة، فلا شك في أن العالِم الحديث — والقول لإيفور إيفانز — يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله، لكن خيال العالِم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان، وإن كانت هناك نواحٍ مشتركة بين كليهما، فالعالِم يشتغل بالتجربة، ويرضى بها في حد ذاتها. أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة. وإذا كان العالِم يحاول أن ينظر إليها كنظامٍ متصلٍ فإن الفنان له حرية أكثر من العالِم. إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال، لكن العالِم يجب أن يبني من الخيال عالمًا واحدًا متماسكًا، عالمًا يعبِّر عن العلاقات بين التجارب، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراداي وأينشتاين متصلة بعضها ببعض، وهي — في ذات الوقت — مخلوقات للخيال.

•••

أنا أومن بالترابط الحتمي بين مختلف فروع المعرفة، وأوافق على الرأي بأن العلم والفن متلازمان، ولا يصح وجود أحدهما إلا بوجود الآخر. الأديب والعالِم كلاهما حالم، والحالم ثوري، والثوري يسعى إلى تغيير العالم. أعجبني القول إن «أحلام المبدعين جميعًا هي في الواقع مرحلة بين الحقيقة والخيال، أي بين العلم والفن.» الحقيقة المتحوِّلة والمتبدِّلة أبدًا، أي ليست مطلقة، وخيال يمكن أن يتحوَّل إلى حقيقة كائنة. والعالِم الذي يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة، لا يمكن أن يكون إلا جاهلًا. والفنان الذي يعتقد بأنه يعيش في رحاب الخيال فقط، إنسان متبلِّد الشعور، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال، كما هو بين العلم والفن (إدريس الحسن، العربي، أبريل ١٩٨٥م). ومع هذا، فأنت قد تكتفي برفض الفن الذي لا تحبُّه، لا تقبل عليه — مثلما لا يقبل عليه الآخرون — فتبور البضاعة. أما العلم السيئ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا، حتى لو رفضناه، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته!

لقد أفادت البشرية من التكنولوجيا في استخداماتها الإيجابية، لكنها أضيرت منها في استخداماتها السلبية، وهي استخدامات تحيق بالعلم دمارًا محققًا.

العلم — في تقدير الكثيرين من كُتَّاب الغرب — أشبه باللعنة التي صنعتها البشرية بأيدي أبنائها. انتصاراته المتوالية لها وجهان: إيجابي وسلبي. والوجهان يختلطان بحيث يصعب تحديد جوانب الخير أو الشر. وعندما خصَّص نوبل قسمًا كبيرًا من أمواله لجوائز عالمية، أعلن — صراحة — أنه قد بادر إلى ذلك تكفيرًا عن اختراعه للديناميت. أراده للسلم، فاستُخدِم في الدمار. وكانت بدايات التفكير في انشطار الذرة لاستخدامات السلام، ثم تحول الاختراع إلى قنابل ذرية وهيدروجينية وسلاح ذرِّي مدمِّر. وكان إلقاء القنبلة الذرية على المدينتين هيروشيما ونجازاكي مؤشرًا بالغ الدلالة للنتائج المدمرة التي قد تتحقق من التقدم التكنولوجي، وأن العلم إذا كانت له إفرازاته الإيجابية، فإن له إفرازاته السلبية أيضًا، فمن المستحيل إذن أن نضع مستقبل البشرية في يد التقدم التكنولوجي وحده.

إن تقدُّم العلم ليس مطلقًا؛ إنه متصل بالإنسان، بقِيَمه ومُثُله ولحظات قوته وضعفه. التقدم العلمي في إطلاقه لا يمكن أن يحقق للإنسان مشاعر الانتماء، وحب الأرض، والاستفزاز ضد العدوان، والتعاطف مع الآخرين، وغيرها من المشاعر التي تتصل بالنفس الإنسانية، ما يشغلها وما تنبض به وتعبِّر عنه. الأدب يفهم الطبيعة، وخبرة الحياة اليومية، بما لا يرقى إليه فهم العلم، أو تصويره له. والفن — في مقولة — يتجاوز العلم في أنه لا يُفهَم من خلال التحليل، ولكن من خلال العرض. الفن يخاطِب العاطفة، وهو ما يعجز عنه العلم، مهما يسرف في التفوق. العلم مجاله العقل، أما الفن فإنه قد يخاطب العقل أحيانًا، ويخاطب العاطفة في كل الأحيان. والعاطفة التي أعنيها هي وجدان الإنسان، مشاعره، أحاسيسه، فرحه وحزنه وابتسامه واكتئابه وإخفاقه وانتصاره. لقد كان هناك اعتقاد — والقول لأندريه مالرو — إن العلم حين يصل إلى أهدافه، فإن فهم الإنسان سيصبح ميسَّرًا، لكننا بدأنا نكتشف — مع التقدم — أن علاقة الإنسان بنفسه تعتمد على تكوين الإنسان نفسه، أكثر مما تعتمد على أي تقدم علمي. وكما تقول سهير القلماوي فإن تحدي العلم للإنسان، تحدي أن يفرض العلم على الإنسان ما يختاره هو له. الفن يحاول أن يقوِّي الإنسان في الإنسان، يحاول بطريقته أن يقوي الاختيار، وممارسة الاختيار في الإنسان المعاصر (الهلال، مارس ١٩٧١م).

تكوين الإنسان لا دخل للعلم فيه، فالعلم يستطيع أن يقدم للإنسان أي شيء إلا أن يشكِّله، فما يشكِّل الإنسان هو الاعتقاد في نوع من الشخصية المثالية. ولعلَّ مهمة الإنسانية اليوم هي إيجاد طريقة لتشكيل الإنسان. ونحن نعلم مقدمًا أن العلم لن يحقق لنا ذلك. وربما هذا هو سر أزمة الشباب وثورتهم اليوم ضد الوسائل العلمية. وما دامت أزمة الإنسان بلا حلٍّ، فإن أية نهضة ثقافية تصبح مستحيلة.

•••

ثمة تعريف للفن يضعه في موازاة العلم والأخلاق. فالفن عمل إرادي واعٍ للإنسان، هدفه الانفعال الجميل والكمال من أجل الانفعال، والعلم عمل إرادي واعٍ للإنسان هدفه صدق المعرفة من أجل المعرفة الصادقة. أما الأخلاق فهي عمل إرادي واعٍ للإنسان هدفه الخير وسلوك الخير من أجل المعرفة الصادقة. وبتعبيرٍ آخر، فإن الفن يُعَدُّ من ثلاثة: العلم وهدفه الحقيقة، والأخلاق وهدفها الخير، والفن وهدفه الإحساس بالجمال والكمال. وتلازُم الأبعاد الثلاثة مهم؛ من الصعب أن نتعامل مع أحدها في معزل عن البعدين الآخرين. وهو ما يبين — على سبيل المثال — في الرواية النفسية التي لا يشغلها تشابك العلاقات في المجتمع، ولا القضايا السياسية والتاريخية والاجتماعية، ولا حتى القضايا الأخلاقية، بقدر ما تركز على مشكلة الفرد، فرد واحد محدد، له نفسيته الخاصة، المستقلة. وهنا تتأكد الصلة بين الرواية كفنٍّ وبين علم النفس كعلم تنظيري وتطبيقي، ومحاولة كل منهما الإفادة من الآخر كما يتبدى في عقدة أوديب التي صاغها سوفوكليس في درامته، وأفاد منها فرويد في تشكيل نظريته في علم النفس، ثم أفاد نجيب محفوظ من النظرية في روايته «السراب». والواقع أن ظهور النظريات الحديثة في علم النفس، أواخر القرن التاسع عشر، يُعَد عاملًا مؤكدًا في إفادة الرواية وعلم النفس، كل منهما من الآخر. بسط علم النفس تعقيدات النفس الإنسانية كما صورتها الأعمال الإبداعية بدءًا بإبداعات الإغريق، وانتهاء بروايات ديستويفسكي. كما لجأت الرواية إلى نظريات علم النفس في رسم شخصياتها. وقد أفدتُ من عقدة «الفتشية» Fetishism في روايتي «النظر إلى أسفل».

•••

الفن — في تعريف أستاذنا حسين فوزي — نشاط إنساني عام، تقاسمه الناس كقِلة منتجة للفن في ناحية، وكثرة مستهلكة له في الناحية الأخرى (الكاتب، يناير ١٩٦٤م). وقد عاب حسين فوزي على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه — لم يتصور أن ذلك هو رأي نجيب محفوظ! — وبافتراض ذلك، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة، ولكن: هل الفن شيء كالرياضة البدنية، أو لعب الطاولة؟ وهل للباليه قرابة — ولو من بعيد — برقص الصالونات ومجتمعات السكارى؟! الفنون كلها — في تقدير حسين فوزي — ملتزمة بتأكيد العنصر الروحي في الإنسان (الطليعة، مارس ١٩٦٧م). حتى الترفيه في الفن الرفيع يعني الارتقاء من عالَم أرضي حسِّي إلى عالَم سماوي روحاني، بلوغ درجة من الإحساس الصوفي، يتجلَّى فيها للمتصوف الواصل، اتصاله بغير الكائن الملموس (الكاتب، يناير ١٩٦٤م). أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تُصنَع بالمخترعات، بل بالفكر والفن، ولعلَّها بالفن قبل كل شيء (الكاتب، مارس ١٩٦٦م). وأشير إلى رأي الشاعر الأمريكي وايتمان: «إن مشكلة الإنسانية في العالم المتمدن، هي مشكلة اجتماعية ودينية لا بد أن تُعالَج في النهاية من طريق الأدب، من وجهة نظر مكتفية بذاتها.» إن أول عمل فني — على حد تعبير مالرو — كان أول انتصار للإنسان على لا معقولية الكون، وأول تحدٍّ للموت. ويقول نيدو شيفين: «من الخطأ أن نحصر الفن في دائرة الإحساس، أو أن نزعم أن الإدراك الحسي البدائي للعالم، هو المنبع الوحيد للفن، والتفرقة بين الفن والعلم، على أساس أن محتوى الأول هو الإحساس وحده، ومحتوى الثاني هو الفكر وحده، تفرقة خاطئة، والنقد الصوري الرجعي لا يكف عن ادعاء أن الفن لا يحتاج بحالٍ إلى المحتوى الفكري. والهدف من ذلك واضح، وهو حرمان الإبداع من قوة المعرفة الفعالة، وجعله مجرد تسجيل للإحساس الذاتي» (محمد مفيد الشوباشي: الأدب الثوري عبر التاريخ، كتاب الهلال، ص٣١).

والحق أن نجيب محفوظ قد خفَّف — فيما بعد — من غلواء مناصرة العلم إلى حدٍّ كبيرٍ، فهو لم يَعُد يجد الفن «فشارًا» في عصر العلم، وإنما هو عصر العلم فعلًا، وعصر التكنولوجيا والروبوت. أما دور الفن اليوم، فهو — والقول لمحفوظ — الدفاع عن ذاتية الإنسان وحريته الشخصية والقيم الإنسانية. إن المجتمع العلمي لا يبلغ كماله من الوجهة الإنسانية إلا بالفن. «الرسالة التي ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد انفعال نتعاطف به مع الانفعال الأصلي للفنان. الفن يتيح لنا آفاق عالم من المعاني التي يعبِّر عنها بطريقته الرمزية على نحوٍ فريدٍ، لا تشاركه إيَّاه وسيلة أخرى من وسائل التعبير» (فؤاد زكريا، الفكر المعاصر، العدد الأول).

وإذا كانت التجربة العلمية التطبيقية الناجحة تجبر الجميع على احترامها، فإن الإنسانيات — بصرف النظر عن تفوقها — يصعب أن تجد إجماعًا في تقبُّلها أو الموافقة عليها. وكما يقول أستاذنا سيد عويس، فإن الناس في محيط العلوم المادية، على اختلاف أيديولوجياتهم وعقائدهم، على وفاقٍ، ولا يكون الفراغ الفكري إلا في محيط العلوم الإنسانية (التاريخ الذي أحمله على ظهري، ﺟ٢، ص٦٤). وبالإضافة إلى ذلك فإن الفن يختلف عن العلم في أن الجديد لا يلغي القديم، لا يلغي ما سبق، لكنه يضيف إلى الفن في عمومه إذا كان متميزًا. أذكر قول الناقد الكبير أحمد عباس صالح «إن عشرات الكشوف العلمية لا تستطيع أن تحرك شعبًا لعمل ثورة، لكنها قد تكون سببًا في ظهور حالة اجتماعية غير متوازنة ينبغي التنبيه إليها بواسطة الفن، واستفزاز الشعور بها لعمل الثورة وإعادة التوازن» (الكاتب، مارس ١٩٦٦م).

•••

فإذا حاولنا التعرُّف إلى صورة إبداعاتنا الأدبية، في ضوء بديهية أن العالَم قد تحوَّل بالفعل إلى قرية صغيرة، وأن العقلية العالمية الرحبة هي ما نحتاجه في مواجهة القرن القادم بدلائله التي تشي بتطورات مذهلة، فإن اللافت أن البنيوية — على سبيل المثال — قد ظهرت في العشرينيات من القرن العشرين، والواقعية السحرية ظهرت في الثلاثينيات من القرن نفسه. لكننا — للأسف — ظللنا لأعوام طويلة، قريبة، نناقش أعمالنا الإبداعية في ضوء البنيوية باعتبارها النموذج النقدي الأكثر تطورًا. وللأسف أيضًا، فقد شدتنا أعمال جابرييل جارثيا ماركيث التي تحلق في أجواء الواقعية السحرية، وحاول البعض احتذاءها باعتبارها الأحدث، مع أن مصادر الواقعية السحرية — كما قال ماركيث نفسه، وكما قال سواه من أدباء أمريكا اللاتينية — توجد في الأعمال الإبداعية العربية القديمة، وفي مقدمتها ألف ليلة وليلة.

نحن مجتمعات استهلاكية وغير منتِجة في عمومها، بمعنى أننا نعتمد على ما يبدعه الغرب المتقدم، فنتقبَّله بالصورة التي أتى بها، أو نحاول المحاكاة والتقليد، دون أن ننشغل كثيرًا بظروفنا الخاصة، ووجوب اتصال الموروث بالمعاصر، فضلًا عن افتقاد الجدية في التعامل مع المعطيات الإبداعية والثقافية العالمية.

يقول عالِم الاجتماع ريتشارد باكمينستر فوللر: «ليس هناك من فارق عميق بين الفنان ورجل العلم، إذ كلاهما في القوة سواء. إن سرعة الإدراك هي في صميم الإبداع، علميًّا وفنيًّا.» ويضيف البروفسور جيليو أرجان: «بما أن الفن تعبير عن مستلزمات سنن الجمال لعصرنا، وبما أن ثقافة عصرنا متميزة بالتكنولوجيا، ومرهونة بها، فقد تحوَّلت اليوم مشكلة العلاقة بين الفن والمجتمع، إلى مشكلة العلاقة بين الفن والتكنولوجيا، فالصلة القائمة بينهما قد قامت مقام الصلة — التي مضى عهدها — بين الفن والمذاهب الأيديولوجية» (الأدب المعاصر، فبراير ١٩٨٨م).

•••

إن أدب الخيال العلمي هو الأكثر ازدهارًا — الآن — في الغرب، يرتكز في ذلك إلى منجزات علمية حقيقية، فهو يحاول أن يستشرف آفاقًا أخرى لمستقبل الإنسان. وهذا هو السر — في تقديري — لقلة الإصدارات العربية من أدب الخيال العلمي. إن من يحاولون كتابة أدب الخيال العلمي قليلون للغاية — وفي مقدمتهم — بالطبع — صديقي نهاد شريف — لأن المجتمعات التي ينتمون إليها مجتمعات مستهلِكة لا منتِجة، مجتمعات لم تحيا العلم في تطوره المذهل بصورة حقيقية. بالإضافة إلى ذلك، وربما اتساقًا معه، فإن البعض يدخلون أدب الخيال العلمي في دائرة أدب الطفل، وهي نظرة قاصرة لا بد أن تزول بالضرورة في قرن ستكون للعلم فيه كلمته الحاسمة.

وكما يقول نورثروب فراي، فإنه من السخف الاعتقاد أن العالِم عقلاني، لا تحركه عاطفة، وأن الفنان مُلقى في دوامة العواطف الهائجة. إن العلم والفن يستخدمان مزيجًا من الحس العام والحس الداخلي، العلم المتطور والفن المتطور يلتقيان معًا التقاءً حميمًا من الناحية النفسية وغير النفسية.

إن العالِم الحديث — والقول لإيفور إيفانز — يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله، لكن خيال العالِم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان، وإن كانت هناك نواحٍ مشتركة بين كليهما، فالعالِم يشتغل بالتجربة، ويرضى بها في حد ذاتها. أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة. وإذا كان العالِم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالِم؛ إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال، لكن العالِم يجب أن يبني من الخيال عالَمًا واحدًا متماسكًا، عالمًا يعبِّر عن العلاقات بين التجارب، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراواي وأينشتاين متصلة بعضها ببعض، وهي — في ذات الوقت — مخلوقات للخيال.

انطلاقات الخيال تحدُّها تطبيقات العلم، أما الفن فهو لا يفرض على الخيال قيودًا من أي نوع.

الفن نشاط إنساني عام، تقاسمه الناس كقلة منتِجة للفن في ناحية، وكثرة مستهلِكة له في الناحية الأخرى. وقد عاب حسين فوزي على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه — لم يتصور أن ذلك هو رأي نجيب محفوظ! — وبافتراض ذلك، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة، ولكن، هل الفن شيء كالرياضة البدنية، أو لعب الطاولة؟ وهل للباليه قرابة — ولو من بعيد — برقص الصالونات ومجتمعات السكارى؟! الفنون كلها ملتزمة بتأكيد العنصر الروحي في الإنسان. حتى الترفيه في الفن الرفيع يعني الارتقاء من عالَم أرضي حسِّي إلى عالَم سماوي روحاني، بلوغ درجة من الإحساس الصوفي، يتجلَّى فيها للمتصوف الواصل، اتصاله بغير الكائن الملموس. أوافق أحمد عباس صالح على أن «الأخلاق لا تُصنَع بالمخترعات، بل بالفكر والفن، ولعلَّها بالفن قبل كل شيء.» وأشير إلى رأي الشاعر الأمريكي وايتمان: «إن مشكلة الإنسانية في العالَم المتمدن، هي مشكلة اجتماعية ودينية لا بد أن تُعالَج في النهاية من طريق الأدب، من وجهة نظر مكتفية بذاتها.»

•••

إذا كان الترابط حتميًّا بين مختلف فروع المعرفة، فإن العلم والفن متلازمان، ولا يصح وجود أحدهما إلا بوجود الآخر. المطلوب في العلم أن يهبنا المعرفة، وهو ما ليس مطلوبًا في الفن، أو أنه ليس من أولوياته. والمعرفة، أو الفائدة، التي تتحقق في النتيجة العلمية، تختلف — بالتأكيد — عن الدلالة — أو المتعة بالطبع — التي يهبها لنا العمل الإبداعي. وتقول راشيل كارسن R. Carsen «هدف العلم اكتشاف الحقيقة وجَلوها، وأنا أسلم بأن هذا هو هدف الأدب، سواء كان سيرة ذاتية أو تاريخًا أو قصصًا وروايات. لذا يبدو لي أنه لا يمكن فصل الأدب عن العالم» (ت. يمنى طريف الخولي).

الأديب والعالِم كلاهما حالم، والحالِم ثوري، والثوري يسعى إلى تغيير العالَم. ولعل أحلام المبدعين جميعًا مرحلة بين الحقيقة والخيال، أي بين العلم والفن. الحقيقة المتحوِّلة والمتبدِّلة أبدًا، أي ليست مطلقة، وخيال يمكن أن يتحوَّل إلى حقيقة كائنة. والعالِم الذي يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة، لا يمكن أن يكون إلا جاهلًا. والفنان الذي يعتقد بأنه يعيش في رحاب الخيال فقط، إنسان متبلِّد الشعور، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال، كما هو بين العلم والفن، ومع هذا، فأنت قد تكتفي برفض الفن الذي تحبُّه، لا تقبل عليه — مثلما لا يقبل عليه الآخرون — فتبور البضاعة. أما العلم السيئ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا، حتى لو رفضناه، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته!

(الهلال، ١٩٩٢م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤