الفصل الرابع عشر

أحياء القولي أم أحياء الجيتو؟

تُعزل بعض الطبقات التي تقدم لنا أجلَّ الخدمات، والتي يعتبرها الهندوس مع خدمتها تلك «منبوذة»، في أحياء بعيدة عن المدينة أو القرية يُطلق عليها باللغة الجوجراتية dhedvado. وقد اكتسب ذلك الاسم سمعة سيئة. وذلك على غرار ما كان في أوروبا المسيحية، عندما كان اليهود «منبوذين» فيما مضى، وكان يطلق على الأحياء التي يسكنها اليهود اسم مهين هو «الجيتو». وبنفس الطريقة، أصبحنا نحن الآن المنبوذين في جنوب أفريقيا. ويمكن أن نرى كيف نجحت التضحية التي قدمها كل من أندروز والعصا السحرية لسرينيفاسا ساستري في رد اعتبارنا.

كان اليهود القدماء يعتبرون أنفسهم شعب ﷲ المختار، دون غيرهم من الخلق، مما يجلب على سلالتهم التعرض إلى جزاء غريب، وظالم. وبنفس الصورة تقريبًا، اعتبر الهندوس أنفسهم المختارين (آريا) أو المتحضرين، واعتبروا الآخرين من عشيرتهم وأصدقائهم منبوذين (أناريا). أدى ذلك إلى صب انتقام غريب، ليس فقط على الهندوس في جنوب أفريقيا بل أيضًا على المسلمين والبارسيين، لأنهم ينتمون إلى نفس البلد وتحمل جلودهم نفس لون بشرة إخوانهم الهندوس.

ولعل القارئ الآن قد أدرك بقدر ما معنى كلمة «أحياء» التي ذكرتها في عنوان هذا الفصل. وقد أطلق علينا لقب «قولي» المهين في جنوب أفريقيا. وتعني تلك الكلمة في الهند مجرد العتال أو العامل المستأجر، لكن للكلمة دلالة مهينة في جنوب أفريقيا. فهي تعني في جنوب أفريقيا ما تعنيه كلمة المنبوذ لدينا في الهند، ويُطلق على المناطق المخصصة «للقوليز» اسم «أحياء القولي». لم يكن في مدينة جوهانسبرج مثل هذه الأحياء. لكن على عكس المدن الأخرى التي يتمتع فيها الهنود بحق الاستئجار، كان يحصل الهنود على حق استئجار الأراضي في جوهانسبرج لمدة ٩٩ عامًا. كان الناس يتكدسون في تلك الأرض التي لم تزد مساحتها مع زيادة تعداد السكان بها. وبالإضافة إلى تنظيف الحمامات الواقعة بتلك الأحياء بصورة عشوائية، لم توفر البلدية أي منشآت صحية، ناهيك عن توفير طرق ممهدة أو إضاءة جيدة. لم يكن من المتوقع أن تحافظ البلدية على الصحة العامة بتلك الأحياء، وهي لا تبالي بصالح المقيمين بها أصلًا. وكان أولئك الهنود جاهلين بقواعد الصحة والعادات الصحية المحلية التي يمكن أن يتمكنوا عن طريقها من الحفاظ عليها دون إشراف البلدية. لو أن جميع من ذهبوا لتلك الأحياء لديهم حسن تصرف روبنسون كروزو، لكان الأمر قد اختلف تمامًا. لكن لا يوجد بيننا مهاجر واحد يشبه روبنسون كروزو. عادة ما يهاجر الناس بحثًا عن الثروة والتجارة، لكن أغلب الهنود الذين سافروا إلى جنوب أفريقيا كانوا جاهلين ومجرد مزارعين فقراء يحتاجون كل الرعاية والحماية، ولم يكن عدد التجار والمثقفين الذين تبعوهم بكثير.

لقد أسهم كل من إهمال البلدية وجهل المستوطنين الهنود في تحويل ذلك الحي إلى مكان غير صحي بالمرة. والأدهى من ذلك أن البلدية استغلت ذلك المناخ غير الصحي، الذي تسببت هي فيه، كذريعة لتدمير الحي بدلًا من أن تقوم بما يتعين عليها من أجل تحسين حالته. وقد استخرجت البلدية بالفعل أمرًا من السلطة التشريعية المحلية لطرد المستوطنين. كانت هذه هي الأوضاع الراهنة حين استقر بي المقام في جوهانسبرج.

كان من الطبيعي أن يحصل المستوطنون على تعويض لتمتعهم بحق ملكية أراضيهم. فأُقيمت محكمة خاصة لنظر قضايا الاستحواذ على الأراضي. وقد كان من المتفق عليه أنه إذا لم يكن المستأجر مستعدًّا لقبول عرض البلدية فيحق له أن يلجأ إلى المحكمة، وإذا تجاوز المبلغ الذي تقره المحكمة عرض البلدية، فعلى البلدية أن تتحمل التكاليف.

وكلني أغلب المستأجرين مستشارًا قانونيًّا لهم، ولم أكن أطمح في جني الأموال من وراء اضطلاعي بتلك القضايا، فأخبرت المستأجرين بأنني سأقبل أي أتعاب تقضي بها المحكمة في حالة فوزهم، وبأتعاب مقدارها ١٠ جنيهات إسترلينية عن كل عقار بغض النظر عن نتيجة القضية، وعرضت عليهم تخصيص نصف الأموال التي سيدفعونها لتشييد مستشفى أو أي منشأة مماثلة من أجل الفقراء. وقد أسعدهم ذلك الاقتراح كثيرًا.

خسرت قضية واحدة من بين ما يقرب من ٧٠ قضية. ومن ثَمَّ وصلت أتعابي إلى مبلغ ضخم، لكنني اضطررت إلى إنفاق مبلغ كبير على جريدة «الرأي الهندي» التي لا تنتهي التزاماتها، وأظن أن المبلغ وصل إلى ١٦٠٠ جنيه إسترليني. لقد بذلت جهودًا مضنية للفوز بتلك القضايا. وكان الموكلون لا يفارقونني قط. كان أغلب موكليَّ من العمال العاملين بعقود لأجل ممن ينتمون إلى ولاية بيهار والمناطق المحيطة بها وجنوب الهند. وقد أسس أولئك العمال مؤسسة خاصة، منفصلة عن الهنود الأحرار من التجار، لتتناول شكاواهم الخاصة. وكان بعضهم جديرين بالثقة وكرماء وحسني السمعة. كان زعماء تلك المؤسسة هم السيد جايرامسينج رئيسًا، والسيد بادري الذي كان لا يقل مكانة عن الرئيس، وقد تُوفي كلاهما. ولقد ساعدني كلاهما بصورة كبيرة. فكانت علاقتي بالسيد بادري وثيقة، وشارك معي بدور بارز في حركة الساتياجراها. وقد أصبحت على علاقة وثيقة بالكثير من المستوطنين الهنود من شمال الهند وجنوبها عن طريق هذين الصديقين وغيرهما من الأصدقاء. وقد كنت لهم بمنزلة الأخ أكثر مني مستشارهم القانوني، وشاركتهم في جميع أحزانهم ومحنهم الخاصة والعامة.

ولعل من المهم هنا أن أذكر الاسم الذي كان الهنود ينادونني به. كان السيد عبد ﷲ يرفض أن يناديني باسم غاندي. ولحسن الحظ لم ينادني أحد بلقب «سيد» قط، وقد اختار السيد عبد ﷲ لقبًا حسنًا، وهو أخ أو «بهاي»، وهو الأمر الذي أخذه عنه الآخرون وظلوا ينادونني به حتى رحيلي عن جنوب أفريقيا، وكان للاسم وقع جميل على أذني عندما كان يصدر عن الهنود العاملين بعقود لأجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤