الفصل الثالث والعشرون

نظرة خاطفة على المنزل

لقد رأينا كيف بدأ الاتجاه إلى البساطة في دربان مع ارتفاع النفقات المنزلية، لكن المنزل في جوهانسبرج خضع لنظام أكثر صرامة في ظل تعاليم راسكين.

وقد جعلت منزلي في أبسط صورة يمكن أن يكون عليها منزل محامٍ. وكان يجب ألا تقل قطع الأثاث الموجودة في المنزل عن عدد معين. كان التغيير داخليًّا أكثر منه خارجيًّا. وزاد ميلي إلى القيام بجميع الأعمال اليدوية بنفسي، وجعلت أطفالي أيضًا ينتهجون نفس السبيل.

بدأنا نحضر الخبز المُعد من دقيق القمح الخالي من الخميرة في المنزل وفقًا لوصفة كون، بدلًا من أن نشتريه من الخباز. كان دقيق المطحنة العادي لا يصلح لهذا الغرض، ورأينا أن استخدام الدقيق المطحون يدويًّا سيكون أكثر بساطة وصحة واقتصادًا، فاشتريت مطحنة يدوية بثمن ٧ جنيهات إسترلينية. كانت العجلة الحديدية أثقل من أن يشغلها شخص بمفرده، وكانت تستلزم فردين لإدارتها، وكنت غالبًا ما أشغلها مع بولاك والأطفال، وكانت زوجتي أحيانًا تساعدنا هي الأخرى، مع أننا كنا نقوم بطحن القمح في الساعة التي كانت تبدأ فيها عمل المطبخ. ثم انضمت إلينا السيدة بولاك فور وصولها، وكانت عملية الطحن تمرينًا مفيدًا للأطفال، ولم يكن العمل على المطحنة أو غيره من الأعمال مفروضًا عليهم، بل كانت مساعدتهم لنا هواية، وكان يمكنهم التوقف عن العمل عند شعورهم بالتعب. لكن أولئك الأطفال، ومن ضمنهم الأطفال الذين سآتي على ذكرهم لاحقًا، لم يخذلوني قط. ولا يعني ذلك أنه لم يكن هناك متلكئون في العمل، لكن الأغلبية كانوا ينجزون أعمالهم بصورة مرضية، ولا أزال أتذكر بعض الأطفال الذين كانوا يتجنبون العمل أو يتظاهرون بالتعب في تلك الأيام.

استعنا بخادم للعناية بالمنزل، وكان يعيش معنا كفرد من العائلة، وقد اعتاد الأطفال أن يساعدوه في عمله. كان كناس البلدية يتولى إزالة الفضلات، لكننا كنا نتولى نظافة الحمام بأنفسنا بدلًا من أن نطلب من الخادم تنظيفه أو نتوقع منه ذلك، وكان ذلك تدريبًا جيدًا للأطفال. وكانت نتيجة ذلك أنه لم يَنْمُ لدى أي ابن من أبنائي بغض تجاه عمل عمال النظافة، ومن ثَمَّ أصبحت لديهم خلفية جيدة عن الصحة العامة. كان نادرًا ما يصاب أحد أفراد العائلة في جوهانسبرج بمرض، لكن الأطفال كانوا يتولون مسئولية التمريض عن طيب خاطر إذا ما وقعت إصابة. لن أقول إنني كنت لا أبالي بتعليمهم، لكنني لم أتردد في التضحية بذلك التعليم، ومن ثَمَّ لدى أبنائي سبب ليشكوا مني، وبالطبع كانوا أحيانًا يعبرون عن شكواهم تلك، وعليَّ أن أعترف بأنني مذنب بقدر ما. كانت لديَّ الرغبة في أن يحصلوا العلم، حتى إنني حاولت أن أعلمهم بنفسي، لكنني كنت أتوقف من وقت إلى آخر. ونظرًا لأنني لم أتخذ أي تدابير أخرى لتعليمهم الخاص، اعتدت أن آخذهم معي يوميًّا للمشي إلى المكتب ومنه إلى المنزل — وهي مسافة تصل إلى ٥ أميال ككل، وكان ذلك المشي تدريبًا جيدًا لي وللأطفال، وكنت أحاول أن أوجههم عن طريق التحدث إليهم في أثناء المشي إذا لم يكن هناك من يحتاج إلى اهتمامي. لقد تربى جميع أبنائي في جوهانسبرج بتلك الطريقة، باستثناء ابني الأكبر هاريلال الذي بقي في الهند. أعتقد أنني كنت سألقنهم تعليمًا مثاليًّا إذا ما تمكنت من تخصيص ساعة على الأقل لتعليمهم بانتظام، لكن للأسف فشلت في أن أكفل لهم تعليمًا كافيًا. كان ابني الأكبر كثيرًا ما يسر لي باستيائه ويعلنه في الصحف، أما أبنائي الآخرون فقد سامحوني على تقصيري واعتبروه أمرًا لا مفر منه. لا أشعر بالأسى على ما حدث، وإن كنت أشعر بالندم فذلك لأنني لم أكن أبًا مثاليًّا، لكنني أعتقد أنني ضحيت بتعليمهم في مقابل ما آمنت به حقًّا، أو ربما خطأ، بأنه خدمة للجالية، وأنا على يقين من أنني لم أقصر في القيام بما يلزم لبناء شخصيتهم، وأؤمن بأن توفير ما يلزم لبناء شخصية الأبناء هو واجب إلزامي على جميع الآباء. ومع محاولاتي، أعتقد أنه عند وجود أي نقيصة عند أبنائي فهذا لا يعكس نقصًا في رعايتي لهم، وإنما يعكس النقائص التي يعانيها كلا الوالدين.

يرث الأطفال صفات والديهم، أو على الأقل سماتهم الجسدية. والبيئة المحيطة أيضًا لها دور مهم في التأثير عليهم، لكن المصدر الأساسي الذي يعتمد عليه الطفل في بداية حياته هو ما ورثه عن آبائه وأجداده. وقد رأيت أطفالًا نجحوا في التغلب على آثار وراثة الصفات السيئة، وذلك لأن النقاء هو صفة متأصلة في الروح.

كثيرًا ما كانت تدور بيني وبين بولاك مناقشات حادة حول مدى أهمية تلقين الأطفال اللغة الإنجليزية، لقد آمنت دائمًا بأن الآباء الهنود الذين يدربون أبناءهم على التفكير والتحدث بالإنجليزية منذ نعومة أظافرهم، إنما يخونون أطفالهم ووطنهم حارمين إياهم من الميراث الروحي والاجتماعي للأمة بحيث يجعلونهم غير قادرين على خدمة وطنهم. ولهذه الأسباب كنت دائمًا أصر على التحدث إلى أبنائي باللغة الجوجراتية. لم يكن ذلك يروق بولاك لاعتقاده بأن ذلك سيفسد مستقبلهم، وكان يؤكد بكل ما أوتي من عاطفة وقوة أن تعلم الأطفال للغة عالمية كالإنجليزية منذ طفولتهم سيميزهم عن غيرهم في سباق الحياة. لكنه فشل في إقناعي بحجته. ولا أذكر إذا كنت قد أقنعته بصحة موقفي أم أنه توقف عن مجادلتي عندما لمس مني العناد. كان ذلك منذ عشرين عامًا، ومنذ ذلك الوقت لم يتغير موقفي بل ازداد عمقًا نتيجة لما تعرضت له من خبرات. ومع أن أبنائي لم يتلقوا أي تعليم يُذكر، فقد كانت معرفتهم باللغة الأم التي اكتسبوها بصورة طبيعية في صالحهم وصالح وطنهم؛ لأنهم لم يصطبغوا بصبغة الأجانب التي كان يمكن أن يصبحوا عليها لولا تدخلي. وأصبح أبنائي يتكلمون لغتين، فهم يتحدثون ويكتبون بالإنجليزية بسهولة كبيرة نتيجة لاتصالهم اليومي بمجموعة كبيرة من الأصدقاء الإنجليز ولأنهم يعيشون في بلد تتخذ من الإنجليزية لغة التحدث الرئيسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤