الفصل الرابع والأربعون

بعض ذكرياتي مع المحاماة

قبل أن أتطرق إلى حياتي في الهند، أجد أنه من الضروري أن أذكر بعض تجاربي في جنوب أفريقيا التي لم آتِ على ذكرها متعمدًا بعدُ.

طلب مني بعض الأصدقاء الذين يعملون بالمحاماة أن أورد بعض الذكريات المتعلقة بممارستي لمهنة المحاماة. لكن حجم تلك الذكريات هائل للغاية، بحيث تحتاج إلى مجلد كامل ليحتويها، وعندها سأجدها تنحرف بي عن غايتي من هذا الكتاب. لكن على الأرجح لن يضر ذكر بعض تلك التجارب التي كان لها تأثير على رحلة بحثي عن الحقيقة.

أذكر أنني سبق أن أشرت إلى أنني لم ألجأ قط إلى الكذب في عملي بالمحاماة، وأن جزءًا كبيرًا من ممارستي للمحاماة كان في نطاق العمل العام الذي لم أتقاضَ عنه إلا مصروفات القضايا، وحتى تلك المصروفات كنت أحيانًا ما أتكفل بها هي الأخرى. كنت أظن أن هذه العبارة كافية عند الحديث عن ممارستي للمحاماة، لكن أصدقائي يريدون مني أن أستطرد أكثر في الحديث، ويبدو أنهم يعتقدون أن ذكري لبعض المواقف التي رفضت فيها أن أحيد عن الصدق، ولو باقتضاب، قد يعود بالنفع على مهنة المحاماة.

سمعت عندما كنت طالبًا أن مهنة المحاماة هي مهنة الكذابين، لكن هذا القول لم يكن له أي تأثير عليَّ لأنني لم يكن لديَّ أي نية في الحصول على منصب أو مال باللجوء للكذب.

وقد خضع مبدئي هذا للعديد من الاختبارات في جنوب أفريقيا. كنت غالبًا ما أعلم أن خصومي قد دربوا شهودهم على الأقوال التي سيدلون بها أمام المحكمة، ولو أنني شجعت موكليَّ وشهودهم على الكذب لكنا فزنا بتلك القضايا، ولكنني كنت دائمًا أقاوم ذلك الإغراء. ولا أذكر إلا موقفًا واحدًا شككت فيه، بعد أن فزنا بالقضية، أن موكلي قد خدعني. كنت أتمنى من أعماق قلبي ألا أفوز بقضية إلا إذا كان موكلي فيها على حق. أما أتعابي فلا أذكر أنني جعلتها مشروطة بفوزي بالقضية. فسواء فاز موكلي بالقضية أو خسرها، كنت أتوقع الحصول على أتعابي لا أكثر ولا أقل.

كنت أحذر أي موكل جديد منذ البداية من أنني لا أقبل الدعاوى الكاذبة أو تدريب الشهود على الإدلاء بالشهادة، وبذلك بنيت سمعة جعلت الموكلين لا يُحضرون أي دعوى كاذبة إليَّ. وبالطبع كان بعض موكليَّ يوكلونني في الدعاوى الصادقة ويأخذون الدعاوى التي يشوبها شك إلى غيري من المحامين.

ذات مرة، صادفتني قضية كانت بمنزلة اختبار قاسٍ لي، تقدم بها أحد أفضل موكليَّ. كانت القضية تتضمن حسابات شديدة التعقيد وقد استمرت طويلًا. وقد نُظرت القضية بصورة جزئية أمام محاكم مختلفة، وفي النهاية أحالت هيئة المحكمة الجزء الخاص بإمساك الدفاتر إلى تحكيم بعض المحاسبين المؤهلين. كان قرار التحكيم في صالح موكلي، لكن المحكمين ارتكبوا خطأ في الحسابات عن غير قصد. ومع صغر حجم ذلك الخطأ إلا إنه كان خطيرًا لأنهم قيدوا في جانب الدائن بندًا كان من المفترض أن يقيد في جانب المدين. واعترض الخصوم على الحكم لأسباب غير ذلك السبب. وكنت وقتها محاميًا مبتدئًا لدى موكلي، وعندما علم المحامي المتمرس بالخطأ، رأى أن موكلنا ليس ملزمًا بالاعتراف به، فقد كان يرى أن المحامي غير ملزم بالإفصاح عن أي معلومات قد تضر بمصلحة موكله، لكنني أخبرته بأن علينا إخبار هيئة المحكمة بوجود الخطأ.

لكن المحامي المتمرس قال مؤكدًا: «هناك احتمال قوي أن تلغي المحكمة الحكم، ولا يوجد محامٍ عاقل يمكن أن يعرض مصلحة موكله للخطر إلى هذه الدرجة. على كل حال، لا يمكنني أن أخوض مثل هذه المخاطرة. فلا أحد يعرف حجم المصروفات التي قد يتكبدها موكلنا في حالة إعادة نظر القضية من جديد، ولن يستطيع أحد أن يجزم بالحكم النهائي.»

كان الموكل حاضرًا أثناء ذلك النقاش الذي دار بيني وبين المحامي الآخر.

قلت: «أشعر بأن علينا وعلى موكلنا أن نخوض المخاطرة. لماذا نجزم بأن المحكمة ستصدر حكمًا خاطئًا لأننا بسهولة أقررنا بوجود الخطأ؟ وإن افترضنا أن إقرارنا بالخطأ عاد بالسلب على مصلحة موكلنا، فما الضرر في ذلك؟»

فقال المحامي الآخر: «ولماذا نقر بالخطأ في الأصل؟»

أجبته قائلًا: «ما الذي يدريك بأن المحكمة أو الخصم لن يكتشفوا الخطأ؟»

أجاب المحامي بعزم: «حسنًا، هل ستتولى أنت القضية؟ فأنا لست على استعداد للسير في القضية بطريقتك.»

فأجبته بتواضع: «إذا كنت لن تتولاها أنت، أنا على استعداد لتولي القضية إذا ما أراد موكلنا ذلك. ولسوف أتنحى عن القضية تمامًا إذا لم نقر بالخطأ.»

نظرت إلى موكلي الذي بدا مرتبكًا قليلًا. لقد توليت القضية من بدايتها، وكان الموكل يثق بي تمامًا، وكان يعرفني جيدًا. فقال: «حسنًا، سوف تتولى القضية وتقر بالخطأ. لا ضير إذا خسرنا القضية إذا كان هذا قدرنا. فالإله دائمًا يقف بجانب الحق.»

أدخلت كلمات موكلي عليَّ السرور. وعاد المحامي الآخر ليحذرني وأشفق عليَّ لعنادي، لكنه مع ذلك هنأني.

وسنرى في الفصل التالي ما حدث في المحكمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤