إهداء

كان أبي — رحمة الله عليه — بارًّا بي إلى أقصى حدود البر، بينما لم أكن دائمًا مستحقًّا لهذا البر. كنت ولده الوحيد، ولكن عطفه عليَّ كان يَفُوق عطف أي رجل على ابنه الوحيد.

كان حليمًا في تربيتي كل الحلم؛ فقد كنت أرتكب أحيانًا من الأخطاء ما يُخْلِف ظن الأب الحليم، ولكنه كان يقابل أخطائي حينًا بالعفو وحينًا بالمزيد من العطف، وسوف نرى على ذلك شواهد عدة في هذه الذكريات.

ولست أدري إن كان ذلك من والدي عن فرط حبه لي فحسب، أو عن إدراك صحيح لسياسة التربية وتقويم الخلق، ولكن الذي أعلمه كل العلم أن والدي كان دائمًا مؤمنًا بصلاح شأني رغم أخطائي، وأني كنت عند حسن ظنه بي في النهاية؛ فمات عني قرير العين منشرح الصدر راضيًا عني غافرًا لي ذنبي.

وإذا كانت الشواهد المادية على هذا الرضاء لا تقع تحت حصر، فإن هناك شاهدًا روحيًّا أقطع منها في الدلالة، وأكرم منها أثرًا وأبعد مدى.

ففي صباح اليوم الثاني من شهر أغسطس سنة ١٩٣٦م كنت في مصيفي برمل الإسكندرية، وكان والدي بالقاهرة. وفي الساعة الحادية عشرة اتصل بي ابني الأكبر بالتليفون يطلب حضوري بدعوة من والدي، ولما سألته عن السبب أجابني بأن لا علم له به، وأن والدي في أتم صحة، ولكنه يلح على كل حال في حضوري، وحينئذٍ عَوَّلت على السفر بقطار المساء.

ولكني عدت فحددت سفري بقطار العصر، ثم ما لبثت أن قررت السفر بقطار الظهر دون أن يقوم في خاطري سبب ما لتقديم موعد سفري في المرتين.

ولما وصلت إلى منزل والدي في الساعة الرابعة وجدته في خير وعافية، ولما سألته عن سبب استدعائي أجابني بأنه مجرد الشوق إليَّ، ثم أخذ يحدثني في مختلف الشئون حتى إذا كانت الساعة الخامسة اعترته رعشة مفاجئة قوية، أسلم الروح بعدها بقليل.

ولم تكن وفاة والدي أول مصاب ألمَّ بي.

ففي ١٩ من أبريل سنة ١٩١٦م تُوفِّيَتْ قبله زوجتي، ولم تكن قد جاوزت السادسة والعشرين، تاركة لي أربعة أولاد، صغراهم في الثانية من عمرها.

ولست أرى هنا محلًّا لتعداد حسنات زوجتي، أو لبيان مبلغ فداحة مصابي بفقدها؛ اكتفاءً بذكر واقعة فيها الدلالة على كل ذلك.

كانت زوجتي مريضة واشتد بها المرض، وفي يوم وفاتها استدعتني وهي في صحوة الموت، وقالت لي في هدوء واطمئنان: «اسمع يا عزيزي، إني لم أطلب من الله في حياتي سوى طلب واحد، أصررت عليه حتى يستجيب ربي إليه، فهل يحزنك إذا ما رضي الله عني وقَبِل دعائي؟» أجبتُها وأنا في حيرة من سؤالها: كلا، ثم كلا. وحينئذٍ قالت لي: «لقد طلبت من ربي أن يكون يومي قبل يومك، وها قد استجاب إلى دعائي فاصبر ولا تحزن، وارعَ أولادك بحنانك؛ ففيهم عزاؤك في الدنيا، وفي سعادتهم راحتي في الآخرة.»

ولما هممتُ بدعوة أولادها لتراهم آخر مرة، آثرَتْ أن تُحْرَمَ من لقائهم؛ لِتُجنِّبهم ذكرى الوداع الأخير.

وفي ١٦ من يناير سنة ١٩٤٥م توفِّي راجحٌ؛ زهرة أولادي ومعقد آمالي، تُوفِّي في السادسة والثلاثين، قبل موعد زواجه بأيام، وغداة ترقيته إلى الوظيفة التي طالما تطلَّع إليها في صبر، وكان أهلًا لها بحق.

كان راجح في نشأته هيِّنَ التربية سهل القيادة، صبيًّا ممتازًا في طفولته، رجلًا كاملًا في صباه، حتى إذا ما اكتملت مداركه أصبح الابنَ البارَّ، والعامِلَ المُجِدَّ، والمُواطِنَ الصالح.

كان فوق ذلك وديعًا في كرامة، وفيًّا في شهامة.

ومن شواهد حرصه على الكرامة أن شكا لي مرة من أن موظفًا أقل منه كفاية وأحدث منه خدمة رُشِّح للترقية دونه، ولما قلتُ له: ولماذا لا تُبَلِّغُ شكواك لصديقك الحميم الدكتور عبد الواحد الوكيل وزير الصحة؟! أجابني: كلا؛ فإني لم أزره من يوم أن عُيِّنَ وزيرًا، ولما عرضتُ عليه أن أقوم بهذه المهمة لدى السيد مصطفى النحاس، رئيس الحكومة في ذلك الوقت، قال: ولا هذا؛ فقد لا تنجح وساطتك لديه فتتأثَّر بذلك علاقتكما بسببي.

ومن الأدلة على وفائه أني عثرت بين أوراقه على خطابَيْن لزميل له في كلية الهندسة، يشكره في أحدهما على قيامه بأداء المصروفات المدرسية عنه؛ وحينئذٍ تذكَّرتُ أنَّه قبض هذه المصروفات مني مرتين بدعوى أنه فقدها في المرة الأولى. ويرجوه زميله في الثاني التوسط لديَّ لإلحاقه بإحدى وظائف مصلحة الري؛ وحينئذٍ تذكرت أن راجحًا وصديقه هذا تخرجا في الكلية معًا، وكان ابني أسبق من زميله مباشرة في الترتيب فدُعِيَ للخدمة قبله، وأن راجحًا حضر إليَّ على الأثر مُلِحًّا في تعيين صديقه، مهددًا برفض الوظيفة لتخلو له، بدعوى أن زميله أشد حاجة منه إليها، وأنه سوف يَعُول أسرته لوفاة أبيه؛ فسعيتُ لدى زميلي المرحوم عبد العظيم راشد باشا وزير الأشغال، فَعَيَّنَ الاثنين معًا بقرار واحد.

فإلى ذكرى هؤلاء الثلاثة الأعزاء الذين ما زلتُ أبكيهم أُهْدي هذه الذكريات، وإلى أولادي الأحياء وحفدتي الصغار أُقدِّمها قصصًا ووصايا وعظات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤