تتويج هيلا سلاسي إمبراطور إثيوبيا

(١) سفر البعثة المصرية

دُعِيَت الحكومة المصرية، كما دُعِيَتْ بعض الدول الأخرى، لحضور حفلات تتويج إمبراطور إثيوبيا في سنة ١٩٣٠م.

وبالرغم من مرور أكثر من ثلاثين سنة على هذه الحفلات، فإن ذكرياتها لا تزال عالقة بذهني كأنما هي من حوادث الأمس؛ وذلك لأن رحلتنا إلى بلاد الحبشة كانت أشبه بأساطير الأولين، بل كانت كذيل من أسطورة ملكة سبأ وسيدنا سليمان الحكيم، التي لا يزال أهل الحبشة يعتبرونها جزءًا من تاريخ بلادهم القديم.

كانت بعثة الشرف مكونة من: توفيق باشا نسيم رئيس الديوان الملكي رئيسًا، والسيد شريف صبري وكيل وزارة الخارجية، وأنا، ثم البكباشي عمر فتحي ياور جلالة الملك فؤاد؛ أعضاء. وكان الأستاذ عزيز مرزا من موظفي السراي سكرتيرًا للبعثة.

ولقد حرصت الدول المدعوة على اختيار مبعوثيها من أكبر رجالها مقامًا؛ ليكون لهم حق التقدُّم على غيرهم في الحفلات، فكان رئيس البعثة الإنجليزية دوق جلوستر، ورئيس البعثة الإيطالية أميرًا من أمراء البيت المالك حينئذٍ، ورئيس البعثة الفرنسية المارشال فرنشيه دسبريه، ورئيس البعثة الأمريكية مندوبًا بدرجة وزير.

وكان سفرنا من بورسعيد على ظهر الباخرة أزي لومولينو، من بواخر شركة المساجيري مريتيم القديمة الخالية من كل وسائل الراحة، وكانت تقوم برحلتها الأخيرة قبل استيداعها.

وكان على ظهر الباخرة المارشال فرنشيه دسبريه، وهو رجل متوسط الطول والبدانة حسن اللقاء حلو الحديث. سألته مَرَّةً عن جزيرة مررنا بها في البحر الأحمر على القرب من بوغاز باب المندب، فأجابني في مرارة بأني لست في حاجة إلى سؤاله؛ فكل جزيرة تمر بها من ممتلكات التاج البريطاني.

وكان الطقس طول السياحة في البحر الأحمر، وخاصة إزاء شاطئ الحجاز، لا يُطاق. جو رطب خانق يضيق به الصدر وتكاد تخمد منه النفس.

وكان نسيم باشا رغم ذلك كله يضطرنا، إذا ما جلسنا إلى مائدة العشاء، إلى لبس بذلة السهرة ووضع الطربوش على الرأس، بحجة أننا في بعثة رسمية، ولو كنا لا نزال في طريقنا إليها على ظهر باخرة فرنسية، وكان المارشال الفرنسي نفسه يتناول عشاءه عليها ببذلة عادية.

(٢) جيبوتي

وبعد خمسة أيام وصلنا إلى ميناء جيبوتي عاصمة المستعمرة الفرنسية في الصومال، وكان في انتظارنا على رصيف المينا المرحوم فرج موسى، قنصل مصر العام في إثيوبيا؛ حيث لم يكن لمصر فيها حينئذٍ ممثل بدرجة وزير مفوض أو سفير. ونزلنا بفندق هناك لا بأس به، وكان تحت الفندق مقهى كبير، يقوم بالخدمة فيه شبان من بلاد اليمن، كثيرو الشبه بالمصريين من أهل القرى، وكانوا يُنادَون بكلمة «بوي»؛ أي: يا ولد. بالإنجليزية، وكنا إذا طلبنا قدحًا من القهوة صاح البوي لصانع القهوة: ما لم لكي! ومن ذلك علمنا أن صاحب القهوة والفندق يوناني، كما هي الحال في أكثر بلاد الشرق.

وكانت درجة الحرارة ٥٦ مئوية، ولكنا لم نحس مع ذلك بشدة الحرارة، فكأنها لم تتجاوز الثلاثين في مصر. ومع ذلك كانت هذه الحرارة تُخِيف سكان المدينة؛ فقد أوصاني البوي بأن أغادر الفندق إذا ما حدث زلزال، وفعلًا لم يمضِ على إنذاره بعض الوقت حتى زُلْزِلَت الأرض؛ فَهُرِعَ جميع سكان الفندق إلى الشارع، ولكن لم ينجم عن الزلزال أي حادث كان. وغُرَف الفندق معدة إعدادًا خاصًّا لتلافي حرارة الجو، فضلف أبواب الغرفة لا تسد كل فراغ الباب لِيَمُرَّ الهواء من أعلاه ومن أسفله بمختلف أجزاء الفندق جميعًا، وفي سقف كل غرفه مروحة كهربائية كبيرة أضلاعها من الخشب، تُلَطِّف جوها وتدفع الهواء بين سائر الغرف. ولما كان الجو في جيبوتي جافًّا جدًّا، كانت هذه الوسيلة ناجحة تمامًا في تخفيف حرارة الطقس.

وفي المدينة مخزن كبير يُباع فيه كثير من السلع والمواد على جميع أصنافها. ولما سألت البوي عنه دُهِشَ؛ لأني أجهل أنه مخزن محمد علي! وقد كان على حق في دهشته كما سنرى.

وأهل المدينة سُمْر البشرة كأهل النوبة، ونساؤها معتدلات القوام رشيقات القدِّ وجوههن جميلة بعيون واسعة ذات رموش طويلة، يَسِرْنَ في الطريق مُعْجَبات بأنفسهن، يكشف لباسهن عن ذراع وثدي.

وجميع سكان هذه المنطقة سلالة خليط من العرب والأحباش، بسبب الغزوات التي كانت تُتدَاول بين الفريقين، أو خليط من سكانها الأصليين وأهل البرتغال حين استعمر هؤلاء البلاد من قرون.

(٣) صحراء الدناكيل

وركبنا القطار من محطة جيبوتي في الليل، قاصدين إلى أديس أبابا عاصمة إثيوبيا، وتقوم بإدارة الخط الحديدي شركة فرنسية-حبشية وعرباته صغيرة، ولكنها مستوفاة أسباب الراحة.

ويقطع القطارُ المسافةَ بين المدينتين عادة في ثلاثين ساعة؛ حيث يسير في النهار ويتوقَّف عن السير في الليل؛ ولذلك تجد في كل من محطات الخط فندقًا للنوم ومطعمًا وفي كثير من المحطات لا تجد من الأبنية سوى المحطة والفندق وبأسفله المطعم، ثم مخزن تجارة محمد علي.

وسبب وقوف القطارات في الليل أنها تجتاز في طريقها صحراء الدناكيل؛ وهي منطقة خطرة لا يزال أهلها يعيشون من الغزو والسلب، ولا يمكن اتقاء شرهم دون حراسة الخط على طوله حراسة قوية بنفقات باهظة.

ولمناسبة حفلات التتويج اتُّخِذَت الاحتياطات الكفيلة بهذه الحراسة مؤقتًا؛ فكانت القطارات التي تحمل ممثلي الدول تسير ليلًا ونهارًا، وتقطع المسافة بين المدينتين في سبع عشرة ساعة.

وحين مَرَّ بنا القطار في صحراء الدناكيل لفت نظرنا أمران؛ الأول: منظر سكان الصحراء وهم من قبائل الدناكيل، فكانوا جميعًا شبه عرايا، يحملون الرمح يصيدون به الوحوش الصغيرة، ويحتمون به من الوحوش الكبيرة، والثاني: بيوت النمل المنتشرة على طول الطريق، وهي جميعًا بصورة واحدة في الشكل متساوية الحجم والارتفاع، تشبه أكواخ الخفراء إلى حد أننا ظننا أنها مساكن حراس الطريق.

ومِمَّا شاهدناه عن بعد أن بيوت النمل هذه ذات أسقف منحدرة لِتَقِيَ البيوت وسكانها من غوائل الأمطار الغزيرة في هذه المنطقة، ومما قِيلَ لنا إن هندسة بناء هذه البيوت تُحِير العقول؛ ففي جدرانها فتحات يصل إليها النمل من طريق مفحورة في جدرانها، لا تصل إليها مياه الأمطار عند دخول النمل وخروجها منها.

ومما رُوِيَ لنا أيضًا أن النمل أكبر أعداء الأسود؛ فقد يقصد الأسد إلى أحد هذه البيوت ليستظل فتدركه غفوة النوم، وحينئذٍ تهجم عليه جيوش النمل دفعة واحدة، تلتهم لحمه حتى العظم، ولا يجد السبع حيلة سوى الزئير والتمرغ في الرمل، ولكن النمل لا يعنيه الزئير ولا يؤذيه الرمل! ومن شواهدهم على ذلك العثور قرب هذه الأكواخ على عظام الأسود من ضحايا النمل.

وهكذا كان من اتحاد أضعف الحيوانات قوة لافتراس أقواها.

(٤) هرر ودير دوا

ومن المدن الكبيرة التي مَرَّ بها القطار هرر ودير دوا، وفي الأولى وجدنا على رصيف المحطة فريقًا من «أبو جلامبو» الذين كنا نراهم في صغرنا يمرون على البيوت عرايا إلا من الودع المصفوف الذي كان يَسْتُر عوراتهم، وكانوا يُغَنُّون ويرقصون ويدقون الطبول على طريقتهم البدائية.

وحين رآنا هؤلاء وعلى رءوسنا الطرابيش المصرية فرحوا وصاروا يهللون: «باشا طربوشي! باشا طربوشي!» وقد سُرَّ نسيم باشا من هذه المفاجأة الطريفة، فبعث إليهم بنفحة من العملة الفضية.

وهرر مدينة كبيرة ربما كانت تمتاز عن عاصمة الإمبراطورية نفسها بمبانيها ومخازنها وشوارعها وهي آهلة بالسكان. ويرجع السبب في ذلك إلى أن بها إدارة السكك الحديدية والشركات التجارية القليلة التي يشمل نشاطها جميع الحبشة، وفيها تبعًا لذلك فنادق ومطاعم لا بأس بها، ومحطتها أكبر محطات الخط الحديدي.

أما دير دوا فهي أقل ارتفاعًا من أديس أبابا، فارتفاعها عن سطح البحر لا يزيد عن ألف متر، بينما ارتفاع الثانية يبلغ ألفين وستمائة، وفي هذه المدينة يقوم قصر حاكم المنطقة على ارتفاع من المدينة.

وقد زرنا هذا القصر، ومما يُلاحَظ فيه أن غرفه مفروشة بخليط من الأثاث من أَنْفَس الصناعات الفرنسية، كسجاد الجويلان ومقاعد الأبيسون، وبين أحقر الصناعات الوطنية والأجنبية، كالأكلمة الحبشية والمقاعد الخيزران النمساوية.

ونساء هرر كنساء جيبوتي أصلًا وجمالًا، إلا أنهن أكثر تمدينًا واحتشامًا.

(٥) في طريقنا إلى أديس أبابا

وقبل وصولنا إلى العاصمة مَرَّ بنا القطار بغابات جميلة، تتخللها مزارع مملوكة للإمبراطور. وبعض هذه الغابات طبيعي أشجارها من الغاب الحبشي المشهور، الذي علمونا في درس النباتات في المدرسة التوفيقية أنه والغاب الياباني أشهر أنواع الغاب في العالم وأعواده كبيرة متسقة القامة، وهي من أهم مواد البناء في الحبشة كما سنرى. ومن أشجار هذه الغابات أيضًا نوع من الكافور استورده الإمبراطور منليك من أستراليا.

وبذلك تكون الحبشة قد سبقتنا في إنشاء الغابات الصناعية.

وقد نجحت عملية غرس الأشجار في بلاد الحبشة نجاحًا عظيمًا؛ لجودة تربة الأرض وكثرة الأمطار فيها. على أن مما لُوحِظ أن الإفادة من هذه الغابات كانت محدودة؛ لعدم وجود آلات ميكانيكية لنشر الخشب وطرق ممهدة لنقله.

وحين دخولنا حدود الحبشة بعد اجتياز الواحة الجرداء، كنا نشهد من نافذة القطار مجموعات من الحيوانات البرية، كأنما نستعرض حديقة هائلة من حدائق الحيوان، وكان أجمل ما شهدناه تلك الطيور الجميلة التي كانت تسابق القطار، ولكنَّا أَسِفْنا حين لم نَرَ أسدًا أو فيلًا واحدًا كما توقعنا.

(٦) أديس أبابا

كان بالقطار بعثتان: البعثة الفرنسية، ونحن. وحين وصلنا إلى محطة أديس أبابا، استقبلنا بها مندوب عن الإمبراطور، ثم قادونا إلى غرفة الاستراحة؛ حتى تتم مراسم استقبال البعثة الفرنسية أولًا، ولما جاء دورنا أَقْبَلَ علينا مندوب الإمبراطور لتحيتنا، ثم خرجنا معه إلى ساحة المحطة، التي كانت بها فصيلة من الجيش النظامي بقيادة ضباط بلجيكيين، أدَّتْ لنا التحية وعزفت فرقتها نشيدنا الوطني.

وكانت بانتظارنا سيارتان، استقلَّ بعضنا الأولى مع قنصلنا العام، واستقل الباقون الثانية بصحبة سيف ميكائيل السكرتير الخاص للبعثة، الذي اختارته الحكومة الحبشية رفيقًا لنا مدة إقامته في عاصمتها. وهو شابٌّ على جانب كبير من الذكاء والدهاء معًا، تلقَّى علومه في فرنسا بجامعة السربون، وتخرَّجَ فيها حائزًا لإحدى شهاداتها العالية.

ووصل بنا الرَّكْب إلى الدار التي أُعِدَّتْ لإقامتنا، والتي أهداها الإمبراطور للحكومة المصرية بعد حفلات التتويج لتكون مقرًّا لقنصليتها.

ووجدنا على باب الدار جنديين أدَّيَا لنا التحية العسكرية، كما وجدنا الباب يرفرف عليه عَلَمان، أحدهما العلم المصري والآخر العلم الإثيوبي.

وكان في استقبالنا على باب الدار خال الإمبراطور، الذي عُيِّن مضيفًا للبعثة مدة إقامتها بالعاصمة، كما استقبلتنا داخل الدار سيدة أوروبية نِيطَ بها الإشراف على إدارته.

ووجدنا الدار قد بُولِغَ في تأثيثها إلى حد أن دورة المياه كانت مفروشة بالأبسط الأوروبية، وكان جميع أواني الطعام من الصيني النفيس، وأدوات المائدة من الفضة الخالصة، وكانت دهشتنا عظيمة حين وجدنا علب السيجار في غرفة الاستقبال، بينما كان الشائع أن التدخين ممنوع في جميع أنحاء الدولة.

وبعد أن شَغَلَ كُلٌّ منا الغرفةَ التي خُصِّصَتْ له واستراح قليلًا من عناء السفر، هَمَّ بعضنا إلى الخروج لتفقُّد بعض معالم المدينة، ولكنا أُبلغنا أن خروجنا قبل تقديم أوراق اعتمادنا للإمبراطور يخالف أحكام البروتوكول.

وحينئذٍ قلت لسيف ميكائيل إن هذا صحيح إذا ما قمنا بأي زيارة رسمية، ولكنا نريد التنزه في شوارع المدينة فحسب! فأجابني، معتذرًا بأن الذي وضع قواعد البرتوكول في حفلات التتويج هو سكرتير المفوضية البلجيكية.

أما مناخ أديس أبابا فكان جميلًا جدًّا صحيًّا منشطًا إلى أقصى حد، فقد اختير لإقامة حفلات التتويج أحسن مواسم السنة، الذي يقع في شهرَيْ أكتوبر ونوفمبر، وكان الجو جافًّا بحيث يُخيِّم بخار الجو على زجاج النوافذ من الداخل؛ دليلًا على أن الجو في الخارج أجف منه في الداخل، إلا أن ارتفاع أديس أبابا كان لنا وبخاصة لنسيم باشا علة العلل، فكانت ضربات القلب منا تزيد وأنفاسنا تكاد تتقطع كلما قمنا بحركة جسمية، ولو كانت مقصورة على نزول درجات السلم.

وكان أحد أعضاء البعثة السويدية ضابطًا شابًّا، تبدو عليه جميع مظاهر الصحة، ولكنه اضطر بسبب ارتفاع العاصمة إلى ملازمة الفراش طول مدة إقامته بها.

ويقول البعض إن سبب تأثرنا بهذا الارتفاع أننا انتقلنا في يوم واحد من انخفاض إلى ارتفاع كبير، ولو أننا قطعنا مسافة السفر على مرحلتين وأقمنا بدير داو بعض الأيام لما أحسسنا للارتفاع بأثر ما. ولست أدري مبلغ هذا القول من الصحة ولن أحاول تحقيقه مرة أخرى.

وأديس أبابا — أو الزهرة البيضاء — مدينة كبيرة تقع على سفح جبل مرتفع، ويمر في وسطها غدير يفيض بالمياه في موسم الأمطار، وينضب في أشهر الجفاف، وقصر الإمبراطور والمباني العامة وبعض البيوت الكبيرة جميعها مبنية بالحجر، أما ستائر الدور فكانت مبنية بطريقة الأحباش الخاصة التي أهم عناصرها الغاب.

فهم يقطعون أعواد الغاب، ويجمعونها بأحجام وأطوال واحدة ويربطون بعضها ببعض بالحبال، ويجعلون منها المادة الأساسية في إقامة الجدران، ثم يطمسونها بطين الجبال، وهي مادة شبيهة بالأسمنت، ويكسونها أخيرًا بالورق الملوَّن الجميل، أما أسقف الدُّور فهي من الصاج المعرج ذي القنايات؛ لاتقاء غائلة الأمطار، أما أخشاب الأبواب والنوافذ فكانوا يستوردونها من عدن أو بمباي، حتى سنة ١٩٣٠م على ما أعلم؛ لأنه رغم توافر أنواع الخشب في غابات الحبشة، لم تكن هناك مناشير آلية، أو طرق ممهدة لأهلها للانتفاع بمواردها الطبيعية كما قدمت.

وبهذه الطريقة الرخيصة البسيطة، كنت ترى في أديس أبابا دُورًا صغيرة جميلة، تشبه إلى حدٍّ ما دُورَ أهل القرى والجبال في سويسرا.

وفي أديس أبابا تروج تجارة جلود الحيوانات البرية بأرخص الأثمان؛ فالقطعة من جلد السرفال لا يزيد ثمنها عن ثلاثة قروش، ومن جلد شبيه بالفيزون لا تتجاوز ستة قروش، والمعطف من الأول لا يكلف أكثر من ثلاثة جنيهات، ومن الثاني لا يزيد عن عشرة جنيهات، بينما يُباع الأخير في الأسواق الأوروبية بمائتي إلى خمسمائة جنيه. ولقد عرضَتْ عليَّ سيدةٌ يونانية تقيم بالعاصمة معطفًا من نوعه بعشرين جنيهًا.

وممَّا يُبَاعُ في أديس أبابا بكثرة جلد الأسود، ويروي الأحباش روايات خيالية عن مصارعة الأسود، فيقولون إن كفاية الرجل في الزواج تُقدَّر بعدد الأسود التي صرعها. ويُشترَط في المصارعة أن تكون بالسكين، أما صيد الأسود بالرصاص فعار عندهم! ويحمل الحبشي في عنقه أنياب الأسود التي صرعها، وبقدر عدد هذه الأنياب تكون مهابته عند مواطنيه.

وتحل معرفة الأسد عند ملوك الأحباش محل التاج، يضعونها على هامتهم رمزًا للقوة.

وملوك الأحباش يُدعَون بالروس، وكل منهم يحكم مقاطعة تحت إمرة الإمبراطور.

ومن الذكريات القديمة المؤلمة أنه عندما كنت محاميًا للبطريركية القبطية طلب الإمبراطور منليك من البطريرك أن يبعث له باثني عشر صائغًا مصريًّا، ولم يجد البطريرك سوى نصف هذا العدد من المصريين، فأوفدهم مع ستة من الأرمن.

ولم تَمْضِ سنتان حتى عاد المصريون إلى بلادهم، أما الأرمن فظلُّوا بأديس أبابا وأصبحوا من ثراة المدينة؛ وهكذا كان المصريون يكرهون الاغتراب.

والبن الحبشي أجود أصناف البن طرًّا، وهو يَفُوق في الجودة البنَّ اليمني، إلا أن محصوله قليل يحتكره هناك أحد كبار التجار اليونانيين.

وفي أديس أبابا مدارس يديرها ويقوم بالتدريس فيها مصريون، وهم على الدوام موضع رعاية الإمبراطور.

ويقوم قصر الإمبراطور على هضبة تعلو العاصمة. وفي المدينة تمثالان: أحدهما للإمبراطور منليك في ميدان المحطة، والآخر في رحبة بالقرب من أسواق المدينة يُمثِّل هيلا سلاسي أي الثالوث المقدس المعروف لدى المسيحيين، وهو في الوقت نفسه اسم الإمبراطور.

أما دور المفوضيات فمنتشرة في أحياء المدينة، وأهمها دار المفوضية البريطانية فالإيطالية ثم الفرنسية.

ودار المفوضية البريطانية تقع وسط حديقةٍ غنَّاء مساحتها خمسون فدانًا، وهي عبارة عن مملكة صغيرة تُوفِّر لجميع موظفي المفوضية والقنصلية جميع أسباب الراحة؛ فلكلٍّ من المفوضية والقنصلية دار، ولكلٍّ من الوزير المفوض والقنصل العام دار أيضًا. وهناك دار لكل موظف متزوج، ودور مشتركة لغير المتزوجين منهم، وفي الحديقة معمل للألبان، وحظائر لتربية الحيوان، ومزارع صغيرة لأصناف الخضر، وبها أحواش لجميع أنواع الرياضة وملاعب للخيل.

كنت كلما زرت هذه المفوضية وجُلْتُ في حديقتها وبين أشجارها الجميلة اليانعة وزهورها النادرة الفاتحة، ثم ألقيت نظري على أفق أديس أبابا بجبالها الخضراء الشاهقة، ظننتُ نفسي في بقعة من أجمل بقاع سويسرا. حتى إذا ما خرجت من باب الحديقة أدركتُ أني في أواسط أفريقيا، في بلاد الحبشة التي حَبَتْها الطبيعة بجمالها الفتان، ولا تزال في حاجة كبرى إلى يد الإنسان.

(٧) مقابلة الإمبراطور

حدَّدَ لنا القصر الإمبراطوري موعد المقابلة، وقال لي كبير أمنائه إنه لا مجال لإلقاء الخطب؛ اكتفاء بتقديم أوراق الاعتماد وترحيب الإمبراطور بالبعثة، وأبلغت ذلك لنسيم باشا فلم يَرُدَّ عليَّ، وحينئذٍ خشيت أن يكون مُصِرًّا على إلقاء كلمة في حضرة الإمبراطور، خلافًا لبلاغ كبير الأمناء.

ولكنني ما لبثت أن استبعدت ذلك من جهة؛ لأن البروتوكول يقضي في مثل هذه الظروف بعرض مشروع الخطبة على القصر، وهذا لم يحصل. ومن جهة أخرى؛ لأن نسيم باشا إذا كان قد أَعَدَّ خطبته، فلا بد أن يكون قد عرضها على السيد شريف صبري، وهو وكيل وزارة الخارجية والخبير بقواعد البروتوكول، وهذا لم يحصل أيضًا.

على أنه بمجرد أن مثلنا أمام الإمبراطور، وإذا بنسيم باشا يقف ويُخرج من جيبه ورقة، ويأخذ في تلاوتها بالفرنسية بإعياء وتردُّد، ثم يختم كلمته برجاء الإمبراطور إبلاغ احترامه لجلالة الملكة.

وحينئذٍ دُهِشْنَا — صديقي شريف وأنا — ثم اقترب مني كبير أمناء الإمبراطور محتجًّا، سائلًا عَمَّا إذا كنت قد سهوت عن إبلاغ رئيسنا رغبة الإمبراطور في عدم إلقاء خطب في هذه الحفلة.

ولم يكن الإمبراطور على استعداد للرد على كلمة نسيم باشا، ولكنه مع ذلك ألقى كلمة بالفرنسية تناسب المقام، وختمها بالوعد بإبلاغ الإمبراطورة احترام البعثة، مستدركًا خطأ نسيم باشا في وصفها بالملكة.

(٨) حفلة التتويج

أُقِيمَتْ حفلة التتويج في كنيسة العاصمة. ومن أجل ذلك أُقِيمَتْ فيها الصلاة من الليل حتى الصباح، ثم أُجْرِيَتْ مراسم التتويج بعد ذلك في الكنيسة برياسة مطران الحبشة القبطي، الذي قام بوضع التاج بيده على رأس الإمبراطور والإمبراطورة.

وأذكر بهذه المناسبة حادثة قديمة، وقعت أثناء تتويج الإمبراطور ملكًا على إثيوبيا في عهد الإمبراطورة زوديتو. كان الإمبراطور أحد الروس وكان يُدْعَى الرأس تفري، ولما رشحته الإمبراطورة ملكًا على إثيوبيا ليعاونها في مهام الحكم، كان المطران القبطي غائبًا في مصر، ولما أُقِيمَتْ حفلة التتويج حضرها مطران الروم الكاثوليك، الذي هَمَّ بوضع التاج بيده على رأس الملك، فنهرته الإمبراطورة وانتزعت التاج منه ووضعته بيدها على رأس الملك.

والعلة في ذلك أن في قبول الملك التاج من يد رئيس ديني، يُعتبَر إقرارًا من الملك بتبعيته دينيًّا للكنيسة التي يتبعها هذا الرئيس، وبذلك أنقذت الإمبراطورة الموقف بحكمتها وتفادت حيلة المطران الجريئة.

ولما كانت الكنيسة صغيرة، قُصِرَ دخولها على الروس وأعضاء البعثات، أما باقي المدعوين فقد أُعِدَّ لهم سرادق حول الكنيسة.

وقد طالت مراسم التتويج الدينية إلى ما بعد الظهر، وفي المساء أُقِيمَتْ وليمة بقصر الإمبراطور، حضرها الروس وأعضاء البعثات.

وأقامت كُلٌّ من مفوضيات إنجلترا وفرنسا وإيطاليا حفلة؛ تكريمًا للإمبراطور دُعِيَ إليها أعضاء البعثات.

وأقام الإمبراطور للبعثة المصرية حفلة خاصة؛ تقديرًا لأبناء عمومته كما كان يقول وهي الحفلة الوحيدة التي حضرتها الإمبراطورة.

وأُقِيمَ عرضان عسكريان أحدهما للجيش النظامي والآخر للجيش غير النظامي.

(٩) الوليمة الإمبراطورية

كانت وليمة الإمبراطور فاخرة حقًّا؛ فكانت جميع الأواني وأدوات المائدة من الذهب الخالص، وكانت ألوان الطعام على الطريقة الأوروبية، أُضِيفَ إليها صنف واحد هو الطعام الوطني في بلاد الحبشة، وهو عبارة عن لحم يُسوَّى بالتوابل بدلًا من النار، وهو قريب الشبه بالكبيبة الشامي، ويقول الذين ذاقوه إنه لذيذ الطعم سريع الهضم.

ولما كانت بلاد الحبشة قليلة الإنتاج في أصناف الفاكهة، فقد استوردت جميع أصنافها من أوروبا، وكذلك المشروبات الروحية وأصناف الشمبانيا والنبيذ والحلوى والسجائر، بحيث إن الإنسان كان يظن نفسه في قصر من قصور الملوك بإحدى عواصم أوروبا، وليس في أديس أبابا في أواسط أفريقيا.

ولا شَكَّ في أن الجهود التي بُذِلَتْ في سبيل نجاح حفلات التتويج وإكرام المدعوين إليها فاقت كل ما كان يتوقعه هؤلاء.

(١٠) ولائم المفوضيات

أقامت مفوضيات الدول الثلاث المتاخمة لإثيوبيا، وهي إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، ولائم كبيرة احتفاء بتتويج الإمبراطور. وكانت إقامة هذه الولائم مباراة بينها؛ فكانت كل دولة تسعى إلى أن تكون حفلتها أفخم الحفلات، وفي سبيل ذلك كانت تلجأ إلى كافة الوسائل، فكانت كل مفوضية تُخْفِي على الأخرى برنامجها لتفوز بالمرتبة الأولى، وقد بلغ من حرصها على ذلك أن مهمات الحفلات كانت تَرِد من أوروبا في صناديق مقفلة، حاملة أسماء مستعارة للأصناف المستوردة، وكانت المفوضيات تتسلم هذه الصناديق، ولا تفتحها إلا قبيل الحفلة حتى لا يُذاع سرها.

وكانت حفلة المفوضية الإنجليزية أفخم الحفلات، تَلِيها حفلة المفوضية الإيطالية ثم حفلة المفوضية الفرنسية، وكان العامل الأساسي في المباراة فخامة المفوضية نفسها؛ إذ كانت فخامة المفوضيات الثلاث على الترتيب المتقدم.

وامتازت حفلة المفوضية الفرنسية باستعراض راقصة جميلة خمرية اللون معتدلة القوام، أُفرِدَتْ لها غرفة خاصة في دار المفوضية، وأقبل على مشاهدتها بعض أعضاء البعثات، وكنا السيد شريف وأنا منهم. أما رؤساء البعثات ومعهم نسيم باشا فكانوا في غرفة الاستقبال في حضرة الإمبراطور.

وكان رقص هذه الغانية وموسيقاها بدائيًّا لا يُطرب إطلاقًا، وكان سحر جمالها وحده موضع إعجاب الجميع.

وحوالي منتصف الليل قيل لنا إن نسيم باشا يبحث عنا في ثورة من الغضب، بدعوى أنه يحرص على النوم مبكرًا، وأني السبب في سهره حتى هذه الساعة! وهكذا كان نسيم باشا ينسب لأعضاء البعثة من وقت إلى آخر أمورًا لا أصل لها؛ حتى يهيئ لنفسه الفرصة لاستظهار رياسته عليهم.

وحالما دخل علينا نسيم باشا وشاهد الراقصة زال غضبه، وقال لنا إنه لا بأس من أن يجلس قليلًا من أجلنا، ولكن جلسته طالت حتى انقضت الحفلة!

(١١) الوليمة الخاصة

رأى الإمبراطور أن يكرم الهيئة المصرية تكريمًا خاصًّا، وكان أكرم ما يكون هذا التكريم أن تحضره الإمبراطورة؛ تعبيرًا عمَّا يُكِنُّه الإمبراطور نحو مصر من رابطة القربى فوق رابطة الصداقة.

دُعِينَا لتناول الشاي في القصر الإمبراطوري، واستقبلنا الإمبراطور والإمبراطورة في غرفة خاصة، فُرِشَتْ بالأثاث الذي أهدته إليه الحكومة المصرية لمناسبة التتويج؛ فكانت هذه لفتة كريمة أخرى قَدَّرْنا مغزاها السامي.

وكان حديث الإمبراطور مَعَنا مُشبَّعًا بروح الود والعطف. ومن أقواله إن المصريين والأحباش أولاد عمومة، وإنه يرجو أن تنمو العلاقة بين الأمتين؛ فيزداد تعاونهما لخير البلدين، وإن بابه مفتوح على مصراعيه أمام المصريين؛ ليعاونوا بخبرتهم وأموالهم في نهضة بلاده، وهم أولى الأمم بالاشتراك في خيراتها وأولاها بالقيام بهذا الواجب نحوها.

(١٢) عرض الجيش النظامي

كان لإثيوبيا في ذلك الوقت جيشان؛ أحدهما: الجيش النظامي، وهو على طراز الجيوش الأوروبية الحديثة نظامًا وسلاحًا. والآخر: الجيش غير النظامي، المكوَّن من مجموعة من حرس الروس، وفرسان القبائل والعشائر التي تقطن جبال وهضبات الحبشة في مقاطعاتها المختلفة.

ويقوم بتدريب الجيش النظامي ضباط بلجيكيون. وقد علمت أن الإمبراطور تَعمَّدَ تدريب جيشه على أيدي ضباط دولة صغيرة، لا تجاور بلاده ولا مطامع لها فيها، وهي سياسة حكيمة تشهد له بطول الباع في إدارة دفة الحكم في بلاده، وسعة الاطلاع على حوادث التاريخ، وصدق التنبؤ بأحداثه المقبلة.

وكان العرض جميلًا يشهد لضباط الجيش بالكفاية وحسن التدريب، ولجنوده بالقوة وخفة الحركة.

(١٣) عرض الجيش غير النظامي

كان هذا العرض أروع ما رأيت في حفلات التتويج، كنا نسمع عن الفروسية في حروب الأولين، حين كان الجواد والرمح كل عدة المحاربين، ولكن ما رأيناه رؤية العين فَاقَ كُلَّ ما رُوِيَ لنا عن أساطير الأقدمين.

كان يراودني سؤال واحد منذ أن حللت بأرض الحبشة: أين الجياد في تلك البلاد؟ كنت أبحث عنها بلهفة لأشبع هوايتي المفضلة فلا أجدها.

كنا نرى الخيل التي تمر بشوارع العاصمة، وليس عليها أي مسحة من الجمال، مظهرها الأول الضعف والهزال، كان الجواد يسير بشوارع المدينة ببطء، وكان يُجَرُّ في جهد ورأسه إلى الأرض وذيله في خفية من الجسم؛ فكان مظهره كاسرًا للقلب.

إنها كانت صدمة لي لا يعادلها في نفسي سوى صدمة أسطورة الجواهر واللآلئ، التي تُزيِّن جدران سراي الإمبراطور. وقصة هذه الأسطورة أنه حين علمت باختياري عضوًا في البعثة قصدتُ إلى مكتبات القاهرة، فاشتريتُ منها كل مُؤَلَّفٍ عن الحبشة، وعكفت على قراءة الواحد منها بعد الآخر. وفي أحد هذه الكتب ذكر مؤلفه أن جدران قصر الإمبراطور محلاة بالجواهر واللآلئ، ولما تشرَّفنا بمقابلة الإمبراطور لأول مرة كان أول همي أن أمتع ناظري بتلك الأحجار الكريمة، ولكنني عبثًا حاولت لأني لم أجد لهذه الأحجار أثرًا في الجدران. وحينئذٍ علمت أنها ذيل من أسطورة ملكة سبأ وسليمان الحكيم، التي مما قيل فيها إن الملكة حملت له في زيارتها كثيرًا من كنوز مملكتها من الجواهر واللآلئ، تلك الكنوز التي لا يزال علماء الآثار يبحثون عنها في حفريات مملكة سليمان الحكيم فلا يجدونها.

ومن الأسباب التي عللت بها ندرة الخيل في بلاد الحبشة وقلة العناية بتربيتها أن أهلها يُفضِّلون عليها البغال في أسفارهم عبر الجبال؛ لأنها أقدر على المشقة والاحتمال وأكثر صبرًا على الجوع والعطش، فكنَّا نرى الروس وزعماء العشائر يحضرون إلى العاصمة على ظهور بغالهم المطهمة، في حشد من رجالهم سائرين على الأقدام وراءهم، وكنا نرى على هذه البغال علائم توافر العناية في اختيارها وتربيتها.

وكان هناك أمل أخير لرؤية أحسن ما لديهم من الخيل، فقد دُعِينا إلى حفلة سباق تتسابق فيها الجياد على الطريقة الأوروبية، تحت إشراف سكرتير المفوضية البلجيكية، ولكن هذه الحفلة لم تحقق شيئًا من هذا الأمل؛ لأن قوامها كان بضعة من الجياد الهزيلة، التي يرجع هزالها إلى قلة العناية بها أكثر منها إلى المبالغة في تدريبها، ولأن المباراة نفسها لم تكن شيئًا مذكورًا بالنسبة لسباق الخيل في مصر.

كان ذلك حكمي الأول والأخير على إهمال الأحباش اقتناء وتربية الخيل، وكنت في حيرة من تعليل هذا الإهمال؛ فالأحباش قوم اشتهروا بالفروسية ولا فروسية بغير جياد، وهم على مقربة من بلاد العرب وعلى اتصال قديم بهم، سواء في وقت السلم أو أثناء الحروب والغزوات كما نعلم، والعرب سادة من ركب أصائل الخيل سواء في الحروب أو في المباريات.

وأصررت على هذا الحكم وظللت في هذه الحيرة، حتى كانت حفلة عرض الجيش غير النظامي، التي شهدنا فيها أجمل أصائل الخيل العربية وأروع ضروب الفروسية.

يقولون إن من طباع الأحباش الكتمان وحب المفاجآت؛ فعلَّهم أخفوا عنا روعة فروسية رجالهم وفرط جمال جيادهم؛ ليفاجئونا بهما في أجمل حفلاتهم.

أُقِيمَ عرض الجيوش غير النظامية في ساحة في أحد أطراف المدينة تعلوها هضبة صغيرة، وجلس الإمبراطور وحوله الروس وأعضاء البعثات على هذه الهضبة، وبدأ مرور جنود المقاطعات على ظهور الخيل في جماعات، وكان يتقدَّم كلٌّ منها قائدها «الدازجازمتش»، وكان مرورها في الدور الأول بخطى متئدة تتيح رؤية الفرسان بقاماتهم المعتدلة، وعضلات أذرعهم البارزة في لباسهم الحربي الزاهي، يحملون الرماح في يمناهم والدروع في يسراهم، كما تتيح مشاهدة جيادهم في أجلى مظاهرها رافعات الرءوس شامخات الأنوف، في مشية ممزوجة بالقوة والدلال.

وفي الدور الثاني من العرض تسابق الفرسان جماعات، ممثلين هجمات الجيوش في ساحة الحروب؛ فكان مظهرهم يثير الإعجاب والتصفيق، وفي نهاية هذا الدور هجم القواد على ظهور جيادهم على مكان جلوسنا، مقتحمين الهضبة مسرعين، فتولَّانا الخوف خشية عجزهم عن كبح جماح خيلهم، ولكنهم وقفوا في نهاية الشوط دفعة واحدة أمام الإمبراطور وحيَّوه فرَدَّ عليهم التحية، بين إعجاب الحاضرين بهذا المثل الفريد من ضروب الفروسية التي اشتهر بها الأحباش.

أما الدور الثالث والأخير فكان آية الشجاعة ومعجزة الفروسية.

اصطفت الجيوش صفين متقابلين وقام كل فارس ينازل الآخر، وكان الرمح أداة القتال يقذف به صاحبه منازله، فيتلقَّاه الأخير بدرعه ويُثنيه عنه، كان القتال حقيقة لا تمثيلًا، ومع ذلك لم يُصَبْ أحد بسوء.

كان هذا الدور من أروع الأدوار في هذه الحفلة، كما كانت هذه الحفلة من أروع الحفلات.

ولستُ مبالغًا إذا قلت إن هذا العرض فَاقَ كلَّ ما عرضه السينمائيون من الأفلام، وما قرأه المرء عن أساطير الأولين.

وفي هذه الحفلة قام شاعر حبشي بإلقاء قصيدة بين يدي الإمبراطور، لم نفهم شيئًا من عبارتها، ولكنا أدركنا من نغمة إلقائها ومن إعجاب الجمهور بها واستحسان الإمبراطور لها أنها من روائع الشعر الأمهري، وزاد إعجابنا بناظمها كونه أميًّا لا يعرف القراءة والكتابة، كشعراء الجاهلية قبل الإسلام.

(١٤) هدايا الدول للإمبراطور

تبارت الدول في هداياها للإمبراطور، كما تباروا في حفلاتها تكريمًا له، وكان أكثر هذه الهدايا للإمبراطورة وأغلبها من الحلي والمجوهرات.

وكانت هدية فرنسا تشمل مدفعًا من أحدث صناعاتها الحربية، وثوبًا نسائيًّا ثمينًا من أجمل مبتكرات محلات باريس، إعلانًا عن تفوقها في الصناعتين.

أما مصر فقد أهدت الإمبراطور قلادة محمد علي كما أهدت للإمبراطورة قلادة الكمال، فضلًا عن أثاث غرفة استقبال من الطراز العربي الجميل الرسم الدقيق الصنع.

وقد تفضَّلَ الإمبراطور فأهدى أعضاء البعثة أوسمة مختلفة.

(١٥) محمد علي

أشرت عرضًا إلى مخازن محمد علي في جيبوتي، وفي جميع المحطات القائمة على طول الخط الحديدي بين هذه المدينة والعاصمة.

ومحمد علي حقيق بأن يُفْرَدَ له فصل في هذه الذكريات؛ لأن له نصيبًا كبيرًا في شئون الحبشة التجارية، وهو أحد أركان اقتصادياتها المحدودة.

فمحمد علي وأخوه تاجران هنديان لهما حوالي عشرين محلًّا تجاريًّا في الهند وعدن وجيبوتي وسائر مدن الحبشة، يديرانها بواسطة أولادهما وحفدتهما الكثيرين. وكان محمد علي في ذلك الوقت يبلغ التسعين من عمره وأخوه دون ذلك بقليل، وكان الاثنان موفوري الصحة يشرفان بنفسيهما على جميع فروع تجارتهما الواسعة، وكان رأس مالهما يتعدَّى العشرة ملايين من الجنيهات.

لمحمد علي — وهو الاسم الذي يُطلَق على جميع فروع الشركة — محل تجاري كبير في أديس أبابا، تُباع فيه جميع أصناف السلع، من المجوهرات الثمينة إلى المسامير الحديدية الغليظة، وليس في العاصمة محل تجاري سواه.

ويكاد محمد علي يحتكر جميع محصولات البلاد، كما يكاد يحتكر جميع أصناف البضائع المستوردة، وكانت أكثر سلعة رواجًا في بلاد الحبشة المظلات والحرامل المطرزة؛ فلكل رتبة من الأرستقراطية مظلة وحرملة خاصتان، وهما بمثابة كسوة التشريفة في البلاد الأخرى، فأعضاء الأسرة المالكة والروس يمتازون بمظلاتهم وحراملهم المصنوعة من قماش القطيفة الوردي اللون، مطرزة بخيوط من الفضة المذهبة، ومن كان دون هؤلاء في الرتبة يختصون بمظلات وحرامل بنفسجية اللون أقل تطريزًا، وتتبع المظلة صاحبها يحملها الخدم فوق رأسه أين يكون، لا لاتقاء وهج الشمس أو مياه الأمطار، وإنما للإشارة إلى رتبة صاحبها لتؤدَّى له واجبات الاحترام، وأثمان هذه المظلات والحرامل باهظة جدًّا تبلغ أضعاف قيمتها.

ولمحمد علي وأخيه منزلة كبرى في بلاد الأحباش، فهما صديقا الإمبراطور والروس شخصيًّا ومحل ثقتهم التي لا حد لها.

وقد أهديا الإمبراطور لمناسبة تتويجه هدية ثمينة جدًّا؛ وهي تمثال لأحد الجوامع الكبرى في بلاد الهند، مصنوع من الذهب الخالص ومرصع بالأحجار الكريمة. وقد قلَّدَهما الإمبراطور وسامين كبيرين تقديرًا لهما.

ومن دلائل الثقة بهذين الرجلين أن الروس وأغنياء الحبشة يُؤْثِرون إيداع أموالهم لديهما عن إيداعها ببنك الحبشة، ولا يتقاضون عنها فوائد عملًا بوصايا الدين.

ويومًا دعانا الأخوان لزيارة محالهما، وفي آخر الزيارة قدَّمَا لنا الشاي، وحين جلسنا في غرفة المكتب، سألني أحدهما عن ترتيبنا في البروتوكول، ولم أدرك سبب هذا السؤال حتى قدموا لنا الشاي، وحين وضعوا أمام الرئيس منضدة كبيرة ثم أمامنا مناضد تتفاوت في أحجامها بنسبة درجة كُلٍّ منا.

(١٦) الشبان الأحباش

في إثيوبيا عدد من الشباب أوفدتهم حكومتهم أو أهلهم في إرساليات لتلقِّي العلم في جامعات أوروبا، ومنهم من قصد إلى إنجلترا ودرس في جامعة أكسفورد أو جامعة كمبردج، ومنهم من قصد إلى فرنسا ودرس في جامعة السوربون؛ وهم جميعًا على جانب عظيم من الذكاء وطيب الخلق وحسن المظهر، وهم يتقنون إحدى اللغتين الإنجليزية أو الفرنسية.

وكان سيف ميكائيل سكرتير بعثتنا من خريجي السوربون، وكان مولعًا بتعاليم الفيلسوف جان جاك روسو، وكان كثيرًا ما يناقشني في أدبه وفلسفته، وكنت أجد حقًّا متعة في هذه المناقشة.

(١٧) الإمبراطور والإمبراطورة

تحدثت عَرَضًا عن كرم الإمبراطور وعطفه على البعثة المصرية، ولم أكن في ذلك الوقت إلا راويًا لبعض الذكريات عن فترة قصيرة سعيدة قضيتها في بلاده الجميلة.

على أنه يهمني هنا أن أرسم لمواطني صورة هذين العاهلين؛ ليكونوا على علم بحقيقتهما فلا يستسلمون إلى الخيال في تصورهما.

فالإمبراطور أسمر اللون لا أسوده، متوسط القامة، أقرب إلى النحافة منها إلى البدانة، جميل الوجه، صغير اليدين أملسهما، والإمبراطورة خمرية اللون لا بيضاء ولا سمراء، وهي تشبه إلى حد بعيد السيدات المصريات من أهل أسيوط.

لقد انتهيت من تدوين ذكرياتي عن رحلة الحبشة، وإني لسعيد حقًّا إذ أسجلها، في وقت استردَّتْ فيه إثيوبيا نعمة الاستقلال، وانقشعت عنها غمة الاحتلال وعادت إليها أسرتها المالكة بنعمة الله وبركاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤