متفرقات

(١) عرض الجيش في ألماظة

في وزارة سري الثانية في سنة ١٩٤٩م، أقامت وزارة الحربية عرضًا عسكريًّا في ألماظة، حضره الملك والوزراء وكبار القوم.

وكان قوام هذا العرض دبابات الجيش الكبرى من نوع شيرمان، وطائراته النفاثة من نوع كومت، وكان عرضًا مُشَرِّفًا حقًّا للجيش مَلَأَ نفوسنا إعجابًا وآمالًا.

وكان من أبدع ما رأيناه في هذا العرض هبوط الطائرات النفاثة بسرعة البرق حتى تكاد تمس الأرض، ثم ارتفاعها على الفور تشق عنان السماء في قوة وحذق لا مثيل لهما؛ مما يدل على أن الطيار المصري يُباري زملاءه في سائر أنحاء العالم في التحكم في قيادة أقوى الطائرات والتسلُّط على نزعات الرياح.

وقد بَلَغَ تأثير هذا العرض في نفسي أَبْلَغَ حَدٍّ وملأها فخرًا ليس بعده فخر، حين قارنت بين هذه الدبابات ولوريات مصلحة الحدود المسلحة في سنة ١٩٣٤م، ثم بين هذه الطائرات وطائرات أفرا، التي مَدَّ بها الإنجليز جيشنا في تلك السنة.

ولم يَشُبْ هذا الحفْلَ المباركَ سوى شائبة واحدة، أقصد بها تلك الهدية الثمينة التي تقدمت باسم الجيش للملك، في صورة عصا الماريشالية مرصعة بالحجارة الثمينة، والتي كان أولى بثمنها المشوهون وأسر الشهداء في حرب فلسطين.

(٢) دار الأرصاد الجوية

وفي حفلة افتتاح هذه الدار تكررت هذه الشائبة، فأهدت وزارة الحربية للملك رمزًا فرعونيًّا للأرصاد من الذهب الخالص، مرصعًا بالأحجار الكريمة كذلك، بلغت نفقات صنعه كما بلغت نفقات عصا الماريشالية، آلافًا من الجنيهات؛ فذكرتني الهديتان بهدايا القران الملكي.

على أن في الحفلات المماثلة السابقة، كانت الوزارات تكتفي بتقديم تذكار للملك صورة من الميداليات التي كانت تُوَزَّع على الناس، مصنوعة من الذهب لا تزيد قيمتها على عشرات الجنيهات.

(٣) علاقتي بفاروق

كنت في حيرة من الحكم على علاقتي بالملك السابق، ففي مرات عدة لم يعارض في تعييني وزيرًا، سواء ذلك قبل قطع العلاقات السياسية بحكومة فيشي أو بعده، وفي الحديث الخطير الذي دار بينه وبيني في هذا الموضوع، كان غضبه منصبًّا على سري باشا وحده، وكانت إشارته إليَّ بالاستقالة مصوغة في أهون عبارة، وكان استقباله لي بعد ذلك في فندق مينا هاوس استقبالًا حسنًا، وأخيرًا أوفد مندوبًا عنه للسير في جنازة ولدي. كل ذلك كان يَحْمِلني على الاعتقاد بأني كنت موضع تقدير الملك، وإن لم أكن من أصحاب الحظوة لديه.

ولكن الملك كان في الوقت نفسه يقول لرؤساء الوزارات ولرجال حاشيته إني صريح زيادة عن اللزوم، أو بعبارة أخرى إني قليل الأدب! وفي حفلة الأوبرا ضاق صدره بتمثيلي الحكومة في استقباله باعتباري أقدم الوزراء؛ فتعمَّدَ إيلامي بعبارة قبطية ومسلمة. وفي الحفلات والولائم الرسمية، كنت بحكم هذه الأقدمية أجلس عن يمينه أو يساره، فما كان يُوَجِّه إليَّ الحديث إطلاقًا، وحين تُقَدِّم له الشركات عند إنشائها قائمة بأسماء أعضاء مجالس إداراتها، يشطب منها اسمي بالقلم الأحمر. وأخيرًا، حين علم باعتراضي على تعيين كريم ثابت وزيرًا في وزارة سري باشا الأخيرة، غضب عليَّ وأبلغني غضبه عن طريق المرحوم إلياس أندراوس.

كنت حقًّا في حيرة من الحكم على هذه التصرفات المتناقضة، وكنت أقول في نفسي لعل فاروق يُقَدِّر خدماتي للبلاد ولكنه لا يحب أن يرى وجهي بالذات، وإن شأنه معي شأنه مع سائر الوزراء الذين يوليهم الحكم عند الاقتضاء رغم غضبه عليهم مُتَحيِّنًا الفرصة الأولى لإقالتهم، وأخيرًا فهمت أن التناقض من طباع فاروق، وأنه لا محل إذن لمحاولة الحكم على تصرفاته.

(٤) فاروق والشركات المصرية

لم يكن تدخُّل الملك السابق مقصورًا على شئون الوزارات، بل كان يشمل كذلك أعمال الشركات؛ فكان يُصِرُّ على أن تُعْرَضَ عليه قائمة أعضاء مجلس إدارة كل شركة عند تكوينها، فيشطب منها اسم من لم يكن راضيًا عنه، ويضع بدله اسم من كان محل رضائه، وفقًا لما كان يرتضيه بإيعاز من رجال السراي.

وكان فاروق يُصِرُّ كذلك على اختيار مرشحه لعضوية مجالس إدارة الشركات كلما خلا مقعد فيها، وكان أخطر تدخُّل له من هذا النوع، حين حاول تعيين أحد رجاله عضوًا في مجلس إدارة شركة قناة السويس كما رأينا.

وكانت لفاروق سهام في بعض الشركات، فكان يُصِرُّ على أن يكون ناظِرُ خاصَّته عضوًا في مجالس إداراتها، وكان للأخير بحكم وظيفته مركز خاص في تلك الشركات.

وكانت الشركات تشكو من شطب فاروق اسم عضو اختارته لكفايته أو لوفرة نصيبه من رأس المال، ثم ترشيحه عضوًا بدله لا تؤهله كفايته أو ماليته أو شخصيته لعضوية الشركة، ولكنها كانت تذعن أخيرًا لإدارة فاروق حتى يصدر المرسوم بإنشائها وتظل الشركة في رعايته.

وكانت الشركات المحظية برعاية فاروق كثيرة الدلال على الحكومة؛ فكانت طلباتها من وزارات المالية والتجارة والصناعة والتموين لا تنقطع، وكان رجال السراي حين يرون من الوزير توقفًا عن إجابة هذه الطلبات ولو كان ذلك في حدود المصلحة العامة، لا يتورَّعون عن مجابهته بأن للملك نصيبًا كبيرًا من سهام الشركة وأن تلك إرادته. وأغلب الظن أن كثيرًا من هذه التصرفات تقع من المقربين للملك وبدون علمه.

حصل ذلك في عهدي مرتين؛ الأولى: بشأن شركة سعيدة. والثانية: بشأن شركة الجوت. ولكنني استطعت في المرتين أن أخلف ظن رجال السراي بي.

(٥) أعضاء مجلس الإرشاد

نشرتُ في جريدة الأهرام حديثًا عن الشريعة الإسلامية، قلت فيه إنها كانت أسبق الشرائع في تقرير قاعدة من أهم قواعد القانون الدولي الخاص، وهي قاعدة شخصية قوانين الأحوال الشخصية، التي وضعتها الدول لأول مرة في مجمع أكسفورد في سنة ١٨٨٢م، ثم أَقَرَّتْها في مؤتمر لاهاي في سنة ١٩٠٢م، مستندًا في حديثي هذا إلى آيات كريمة وردت في سورة المائدة.

وإثر نشر هذا الحديث زارني المغفور له الشيخ حسن البنا مع أعضاء مجلس الإرشاد يشكرونني على هذا الحديث، ويدعونني إلى حفلة تكريم يقيمونها لي؛ تقديرًا لبحثي الذي لم يسبقني فيه أحد من رجال القانون، فشكرتهم بدوري على هذا التقدير الكريم، معتذرًا عن عدم قبول الدعوة بأنَّ تفضلهم بزيارتي فيه كل معنى التكريم.

والحق أن هذه الزيارة التي سوف أعتزُّ بها طول حياتي كان لها أبلغ الأثر في نفسي؛ لأنها أقنعتني بأن المرشد السلف كان يساوي بين الذين يُقَدِّرهم بغض النظر عن اختلاف عقائدهم، ولأن حديث هذا الرجل كان يفيض إيمانًا وحكمة في طلاقة وحُسن بيان.

(٦) تشكيل وزارة الرئيس سري الأخيرة

حضر إليَّ في الساعة الخامسة صباحًا أحد كبار رجال بوليس القاهرة، يدعوني إلى السفر عاجلًا إلى الإسكندرية لمقابلة حسين باشا سري، وفهمت طبعًا أنه يدعوني للاشتراك معه في الوزارة التي كُلِّفَ تشكيلها.

وفي القطار تقابلت مع الأستاذ الكبير علي بدوي، ولكن كلًّا منَّا ظلَّ جاهلًا الغرض من سفر الآخر حتى تقابلنا في دار سري باشا.

وهناك وجدت سري باشا وزوج كريمته الدكتور محمد هاشم، وبعض الأساتذة المرشحين لتولي الوزارة، ورأيت إلى جانبهم كريم ثابت، وظننت أنه رسول الملك في تحرِّي سير المحادثات عن تشكيل الوزارة.

ثم لَحِقَ بنا المرحوم إلياس أندراوس الذي انتحى بسري باشا في غرفة الطعام ثم انصرف، وبعد ذلك خلوتُ بسري في الغرفة ذاتها، فعرض عليَّ وزارة المواصلات، وفهمت من ذلك أنه غير راغب في اختياري وزيرًا للتجارة لأسباب لا أعلمها، وهي الوزارة التي شغلتها مرتين في وزارته، كما شغلتها في وزارات صبري باشا، وصدقي باشا، والهلالي باشا. ولكنني لم أُرِدْ أن أعترض على هذا الاختيار؛ لرغبتي الأكيدة في معاونة سري باشا في تشكيل وزارته الثالثة، في الظروف العصيبة التي عاصرت تشكيلها.

ولكنني كنت عازمًا بسبب هذه الظروف وفي مصلحة صديقي سري باشا نفسه على أن يكون تشكيل وزارته على أسس صحيحة؛ ولذلك نصحته أولًا بأن يكون الدكتور حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي حلقة الاتصال بينه وبين الملك في تشكيل الوزارة دون أندراوس أو كريم، ونصحته ثانيًا بوجوب الاتصال بالهلالي لسؤاله عن الأسباب التي اقتضت استقالته؛ وبخاصة لأن الشائع أن هذين الوسيطين كانا سبب هذه الاستقالة، وأخيرًا استأذنته في مقابلة الهلالي قبل إبداء رأيي في أمر ترشحي؛ ليعلم منه شخصيًّا علة استقالته، لما قد يكون لها من الأثر في رأيي.

وفي مقابلتي الهلالي باشا في داره أكَّدَ لي صحة الشائعة، فقصدت إلى سري باشا وأبلغته ذلك، ثم عدت إلى نصيحتي بوجوب استبعاد الوسيطين في محادثات تشكيل الوزارة، وحينئذٍ أطرق سري باشا، ثم صارحني بأن كريم نفسه مرشح السراي لوزارة التجارة، ولما سألته عما إذا كان الملك قد اتصل به مباشرة في هذا الشأن، أجابني بأن الاتصال في ذلك كان بواسطة أندراوس، فقلت له لعل في ذلك مؤامرة بين الصديقين لإيهامه بأن تلك إرادة الملك، ولكن سري على ما يظهر لم يكن من هذا الرأي.

وحينئذٍ صارحت سري باشا برأيي، فقلت له بأني أعارض في اشتراك كريم في الوزارة؛ لأن علاقته بالملك معروفة، فسوف يكون جاسوسًا علينا لديه، وقد يخشى بأسَه بعضُ الوزراء، وخاصة حديثي العهد منهم بالوزارة، وقد يكون كريم بذلك رئيس الوزارة بالفعل وإن لم يكن رئيسها بالاسم، وهذا ما لا أرضاه له ولا يرضاه لنفسه، ثم أكدت له بأني صديقه المخلص الذي يقبل أن يكون معه في السراء والضراء على السواء، محذرًا إياه مرة ثانية من إشراك كريم في وزارته، مراعيًا في ذلك سُمْعته السياسية قبل كل اعتبار آخر.

واشترك معنا في هذه المناقشة الدكتور هاشم؛ فأجمعنا الرأي على وجوب اعتذار سري باشا عن عدم تشكيل الوزارة، إذا ما أصر الملك على إشراك كريم فيها.

وقد أكَّدَ لي هذا الرأي رفض مُرشَّحَيْن صراحة الاشتراك في الوزارة لهذا السبب، ورفض ثالث للسبب نفسه دون التصريح به.

وعلى ذلك أبلغ سري باشا الملكَ اعتذارَه، وكلف الملك السيد الدكتور بهي الدين بركات تشكيل الوزارة.

وكان موقف سري باشا هذا محل تقدير الناس؛ لأنها المرة الأولى التي تعثَّرَ فيها تشكيل الوزارة بضعة أيام، بينما كان فاروق يتباهى على الدوام بقوله إنه لم يُشِرْ مرة لوزير لتشكيل الوزارة حتى أتاه مسرعًا شاكرًا نعمته عليه.

وحضر الدكتور بركات باشا إلى الإسكندرية للشروع في مشاوراته، وتقابلنا في فندق سيسيل، فرويت له ما حدث تفصيلًا، ثم اتصل بأستاذنا الكبير لطفي باشا السيد طلبًا للنصيحة، وأخذ بعد ذلك في مباحثة أصدقائه في تشكيل الوزارة؛ فكان ذلك باعثًا لسري باشا على التعجيل في تشكيل الوزارة.

أما السبب في عدول سري عن اعتذاره، رغم إصرار الملك على اشتراك كريم في الوزارة، فقد تضاربت فيه أقوال الناس. فمنهم من يقول إن الظروف السياسية الدقيقة التي شُكِّلَتْ فيها الوزارة أرغمت سري باشا على تشكيلها مراعاة للصالح العام، ومنهم من يقول إن قريبًا لسري قد تدخَّلَ أخيرًا في الأمر وحَمَلَه على قبول الوزارة. ولست أريد أن أكون حكمًا في ترجيح أحد الرأيين.

(٧) في وزارة صدقي باشا

وأخيرًا، أختم حديثي بهذه الرواية الخطيرة:

عُيِّنْتُ وزيرًا للتجارة والصناعة ووزيرًا للتموين في وزارة صدقي باشا الأخيرة في سنة ١٩٤٦م، واستقال صدقي باشا بعد تعييني بأقل من شهر، وقُبَيْل استقالته زرته يومًا في داره بالمطرية فوجدته مهمومًا، ولما سألته عن السبب قال لي إن جيشنا في حاجة إلى الأسلحة والذخيرة، وللإنجليز عندك في حلوان مخازن في الجبل تحوي منها ما تساوي قيمته مائتي مليون من الجنيهات، والإنجليز يضنُّون علينا دائمًا بالأسلحة والذخيرة، إلا أنهم الآن راغبون في تصفية مخلفات الحرب لمواجهة عجز ميزانيتهم؛ لذلك انتهزت الفرصة وفاوضتهم في شراء ما قيمته خمسون مليونًا من الجنيهات بعشرين مليونًا فقط، ولما عرضت الأمر على الملك فاروق رفض الموافقة على الصفقة، قائلًا: «إذا قَبِلَ الإنجليز خصم قيمتها من رصيد دَيْنهم فلا بأس.» وحاولت أن أقنع الملك بأننا نكسب من الصفقة ثلاثين مليونًا، وأنها فرصة لا تُعَوَّضُ لتزويد الجيش بالأسلحة والذخيرة التي يفتقر إليهما، وأن الإنجليز في حاجة ماسَّة إلى المال، وأنهم لذلك قَبِلوا عرضه، ولكن الملك أَصَرَّ على الرفض، وألَحَّ صدقي بالقبول وانتهى الأمر باستقالته.

ثم قامت بعد ذلك حرب فلسطين، فكنا نُزَوِّد جيشنا فيها بمخلفات الصحراء وبالأسلحة الفاسدة المشتراة، فضحَّيْنا بالأبطال وخسرنا الحرب، وأنفقنا في سبيلها أربعة أضعاف العشرين مليونًا، التي ضَنَّ بها الملك على الجيش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤