في معاهد التعليم

(١) في المدرسة الابتدائية

التحقت بمدرسة دمنهور الابتدائية في سنة ١٨٩١–١٨٩٢م، في عهد ناظرها المُربِّي الكبير المرحوم محمد بك لبيب البتانوني، والذي أنعم عليَّ عند الدخول بلقب سامي، وقيَّدني في سجل المدرسة تحت اسم صليب سامي.

وفي سنة ١٨٩٥م في نظارة المرحوم إبراهيم بك جاد حصلت على الشهادة الابتدائية، وكان أول الناجحين فيها الأستاذ كيرلس حنا المحامي.

وكان من قرنائي الذين تخرجوا معي في هذه السنة: الطبيب الكبير الدكتور سليمان عزمي، والمرحومون المستشار سليمان يسري، والمستشار أمين حسني، والأستاذ عبد الحميد عثمان، والسيد فهيم صليب ابن عمي.

وكان قد تخرج قبلنا في هذه المدرسة الأديبان الكبيران: المرحوم عبد القادر باشا حمزة، والمرحوم أحمد بك حافظ عوض، كما تخرج منها بعدنا الشهيد إسماعيل بك زهدي، والمرحوم محمد كامل حسين المحاميان.

(٢) في المدرسة التوفيقية

في سنة ١٨٩٥–١٨٩٦م التحقت مع ابن عمي فهيم بالمدرسة التوفيقية بالقاهرة، وكان الإقبال على هذا المعهد كبيرًا، والقبول به عسيرًا، وبخاصة في قسمه الداخلي، ولست أنسى ما عاناه أبي من المشاقِّ في سبيل إلحاقي بهذه المدرسة في قسمها الداخلي.

ذلك لأن ناظر المدرسة مسيو تيوفيل بلتييه بك كان قد وضع قاعدة للقبول، ربما كانت تتفق حينئذٍ مع مصلحة التعليم، ولكنها كانت تخالف في الوقت نفسه حكم المنطق السليم.

قرر هذا الناظر أن تكون الأفضلية في القبول للطالب الأكبر سنًّا، وإن لم يكن الأسبق في ترتيب الشهادة؛ وكان من جراء تطبيق هذه القاعدة أن رفض طلبي وقَبِل طلب ابن عمي، رغم أني أصغر منه سنًّا وأسبق ترتيبًا، وحزَّ هذا الرفض في نفس والدي؛ فسعى في قبولي ما استطاع إلى السعي سبيلًا.

سعى أولًا إلى حسين باشا فخري ناظر المعارف، ثم إلى وكيله يعقوب باشا أرتين، ولكنه لم يفلح في مسعاه لدى الاثنين. وأخيرًا قال لي والدي في مرارة: تعالَ يا ابني نأتي البيوت من أبوابها، ثم صحبني إلى إدارة جريدة المقطم خلف قسم عابدين، وهناك عرض شكواه على المرحوم الدكتور صروف، الذي اتصل على الفور بمستر دانلوب مستشار المعارف، مُبيِّنًا له وجه الخطأ في تصرُّف ناظر المدرسة، ثم ما لبث أن وضع سماعة التليفون والتفت إليَّ قائلًا: «خذ يا ابني كتبك واذهب إلى المدرسة.» وهناك وجدت ضابط المدرسة في انتظاري مُرحِّبًا بي؛ وهكذا كانت تُؤتَى البيوت من أبوابها في ذلك العهد.

وحينئذٍ طابت نفس والدي بانضمامي في معهد واحد إلى ابن عمي والأقربين من أهلي الذين كنت في حاجة إلى رعايتهم.

وكانت المدرسة التوفيقية في سنة ١٨٩٥–١٨٩٦م تشمل معهدين؛ أحدهما: لتخريج المعلمين من الحاصلين على شهادة البكالوريا، أي شهادة الدراسة الثانوية، ومدة الدراسة فيه سنتان. والثاني: المدرسة التجهيزية — أي الثانوية — ومدة الدراسة فيها خمس سنوات.

وكانت هذه المدرسة ذات قسمين: القسم الفرنسي الأصيل، والقسم الإنجليزي الذي كان في بدء نشأته، ولا يحتوي إلا على عدد قليل.

وكان القسم الفرنسي أشهر معاهد التعليم الحكومية، وكان أساتذته الفرنسيون من أعلام المدرسين، وظلت الحال على ذلك حتى سنة ١٨٩٨م، حين استقال بلتييه بك ناظر المدرسة الفرنسي، واستُبدل به مستر إليوت الإنجليزي، وكان ذلك إثر زيارة لورد كرومر للمدرسة، والاتفاق مع ناظرها على الاستقالة مقابل مكافأة قبضها ومعاش استثنائي رُتِّب له؛ وكان من جراء هذا الاتفاق أن اتُّهم بلتييه بك من مواطنيه الفرنسيين بالخيانة، وأن رفض قنصل فرنسا الجنرال استقباله حين اعتزم العودة إلى بلاده.

وكان مقر المدرسة التوفيقية في مكانه الحالي بقصر النزهة بشارع شبرا، وكان هذا القصر المبنى الوحيد في هذه المنطقة، تَحُوطه أرض زراعية واسعة، ابتداء من سراي عاصم باشا، بالقرب من جسر شبرا حتى شبرا البلد، وكانت تقابل المدرسة على الجانب الآخر من الشارع حديقة شوكولاني، التي لم يكن باقيًا منها سوى بابها الحديدي الكبير، الذي نُقِلَ منها إلى قصر الزعفران، ولا أعلم أين يكون الآن.

وكان طلبة المدرسة ينقسمون من الناحية الاجتماعية إلى طبقتين: طبقة أولاد الذوات، ثم طبقة البورجوازي، التي كانت تضم أولاد المُلاك والموظفين والتجار من متوسطي الحال، وكان من أبرز أفراد الطبقة الأولى أنجال ثابت باشا ويسري باشا وأفلاطون باشا، ثم المرحوم عمر سلطان باشا نجل سلطان باشا، ووالد السيد محمد سلطان أطال الله بقاءه.

وكان بلتييه بك يعتنق الأرستقراطية مذهبًا، ولو لم يكن من أهلها أصلًا؛ فكان يدلل أولاد الذوات دوننا، كما كان ضباط المدرسة تبعًا لذلك يناصرونهم علينا.

على أن سلطان أولاد الذوات لم يَدُمْ طويلًا؛ حيث سلطنا قواتنا عليهم فأوقفوهم عند حدهم، وحيث غادروا المدرسة قبل إتمام دراستهم شأن سائر أولاد الذوات في ذلك العهد.

وكان من قرنائي في المدرسة التوفيقية المرحومون: محمد صادق بك رفعت السكرتير العام لمجلس الوزراء في وزارة حسين رشدي باشا، وحسن أنيس باشا السكرتير العام لهذا المجلس في وزارة محمد سعيد باشا، ومحمد كامل حسين المحامي، وميشيل قيصري المهندس. ثم السادة: علام محمد المستشار، وياسين أحمد وزير الأوقاف سابقًا، والمهندس فؤاد المواردي، والدكتور توفيق نجيب، وابن عمي فهيم صليب.

وكان ممن سبقونا في الدراسة المرحومون: محمد محمود باشا، وجعفر والي باشا، ومحمد حلمي عيسى باشا، وعلوي الجزار بك، وشنودة بطرس علم، وسعد بطرس غالي، والدكتور وهبة نظمي.

وفي سنة ١٩٠١م حصلت على البكالوريا، أي شهادة إتمام الدراسة الثانوية، وكان عدد الناجحين فيها ثلاثة وثمانين، كان أولهم المهندس ميشيل قيصري، الذي التحق بوزارة المواصلات، ثم تزوَّج من الآنسة جيرمين كريمة بلتييه بك.

وفيما يلي بعض الحوادث التي وقعت لي أثناء الدراسة في المدرسة التوفيقية والتي لا تزال عالقة بذاكرتي، متبعًا في روايتها ترتيبها الزمني.

(٢-١) السطو على حديقة الناظر

في إحدى الليالي بعد تناول وجبة العشاء وقبل حصة المذاكرة بقليل، سطا بعض الطلبة على حديقة منزل الناظر، ورأتهم كريمته الآنسة جيرمين وهم يقطفون ثمار اليوسفي؛ فأبلغت أمرهم إلى والدها.

وفي حصة المذاكرة حضر الناظر، مطالبًا مرتكبي الحادث بالتقدم إليه والاعتراف بذنبهم، واعدًا إياهم بالعفو عنهم، ولما لم يتقدَّمْ أحد منا إليه أخذ في استعراضنا وشمِّ أيدينا الواحد بعد الآخر، حتى إذا ما عثر على الجناة أوقفهم صفًّا واحدًا، وألقى عليهم درسًا قاسيًا في عبارة ملؤها التهديد والوعيد.

وكانت دهشتنا كبيرة حين أوينا إلى غرف النوم، فحضر إلينا ضابط المدرسة يُوزِّع علينا ثمار اليوسفي هدية من الناظر، حاملًا إلينا رسالة العفو عن المذنبين.

حقًّا؛ إن مسيو تيوفيل بلتييه بك كان أستاذًا فاضلًا، وناظرًا كريمًا، ومربيًا حكيمًا.

(٢-٢) مدرس اللغة العربية

كان مدرسَنا في اللغة العربية في السنة الأولى شيخ من أهالي المنوفية، وكان فظَّ الطباع، عنيف العبارة مع الطلبة عامة ومعي خاصة.

كان ناظر المدرسة يدعوني أحيانًا للعب التنس مع أصدقائه، إذا ما نقصهم اللاعب الرابع. وكان استدعاؤه لي عادة قُبَيْل نهاية الحصة السادسة، وهي حصة اللغة العربية؛ فكان الشيخ يجد في ذلك الفرصة المواتية لينصحني بعباراته الكريهة المنتقاة. كان يقول لي: «طبعًا؛ هو أنت فالح! روح يا فندي العب مع النسوان، واعمل لهم خدام كمان، وبعدها تسقط في الامتحان، ويبقى ينفعوك النسوان في آخر الزمان! …» وإلى ذلك من العبارات السجعية، التي كانت أقرب شيء إلى طقاطيق الأدباتية.

وكان الشيخ يخصني بأحط الدرجات، كما كان يخصني بتلك العبارات.

وأخيرًا شكوت منه لوالدي، فكان جواب هذا الرجل الحكيم: لعله يا بني يريد أن تتلقى عليه دروسًا خاصة؛ فاعرض عليه ذلك فقد يكون فيه العلاج لشكواك.

ولما عرضتُ الأمر على الشيخ رحَّبَ بي، وقال: «حقًّا يا ابني أنت في حاجة إلى هذا الدرس!» ثم حدَّدَ موعدًا له عقب تناولي وجبة الغداء مباشرة، غير مراعٍ ما في ذلك من الإرهاق بي.

وفي أحد الأيام أمرني سهوًا منه بكتابة موضوع إنشاء سبق أن عرضه علينا في المدرسة، وكان قد قدَّر درجاتي فيه بأربع من ست عشرة درجة، وحينئذٍ رأيت أن أُقدِّم له واجبي في الدرس الخاص، في صورة طبق الأصل من واجبي الذي قدمته له في المدرسة، فإذا به يرفع درجاتي فيه من أربع إلى عشر درجات! وحينئذٍ صارحته بالواقع؛ فكان رده عليَّ: «وهل تظن أنك تستحق حقًّا عشر درجات؟! إني إنما أردتُ أن أشجعك فحسب!» وهكذا تخلَّص الشيخ من حرج السؤال.

ولما أُحِيلَ الشيخ إلى المعاش عُيِّنَ عمدة لبلدته، ولا شك أنه كان أصلح لهذه الوظيفة منها لوظيفة التدريس.

(٢-٣) محمد صادق رفعت

كان أبوه المرحوم الأميرالاي رفعت بك، أحد كبار ضباط الحملة المصرية في حرب الحبشة، وكان أخوه المرحوم محمد توفيق رفعت باشا المستشار. وكان صادق على خلق كريم، هادئ الطبع، عف اللسان، ولكنه كان يُعِدُّ نفسه من طبقة أولاد الأعيان؛ ولذلك قاطعناه، وكنا إذا ما تقابلنا حوَّلَ كلٌّ منا وجهه عن الآخر، كما كان يفعل الصغار في خصوماتهم.

على أن هذه الخصومة الجامحة في الظاهر كانت خصومة صغار أبرياء في الواقع، قد يصل الخلاف فيها إلى مباراة باليد واللسان، ولكنها كانت أبعد ما تكون صلة بالقلب؛ فيبلغ الخلاف فيها إلى درجة الحقد.

تدل على ذلك الواقعة الآتية:

كنا نلعب كرة القدم يومًا ما في حديقة شوكولاني، وكنت وصادق آخر المتخلفين من اللاعبين، وكنا لا نزال متخاصمين؛ فلم يواجه أحدنا الآخر طول الطريق، حتى إذا ما وصلت قبله إلى ساقية دائرة هناك، ركبت على ترسها الأفقي واضعًا ساقي بين أسنانه، غير مدرك أن هذا الترس سوف يقابل الترس الرأسي، وأن أسنانهما سيشتبك بعضها ببعض فتسحق ساقي على الفور. حينئذٍ أقبل عليَّ صادق صارخًا: «انزل، انزل.» ثم أسرع إليَّ وانتزعني من الساقية.

وكذلك انتزعني صادق من الموت ونحن متخاصمان، طيَّبَ الله ثراه وأكرم مثواه.

(٢-٤) أحمد أفندي سمير وباحثة البادية

كان المرحوم أحمد أفندي سمير أستاذ اللغة العربية في السنة الثانية عندما نُقِلت إليها، وكان كما هو معلوم من النحاة القادرين والشعراء المبرزين، وكان مع الإمام الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الله نديم زكاة الحماس والوطنية في عهد الثورة العرابية، ولما عاد من منفاه في مدينة شتوتجارت بألمانيا، تولى تدريس اللغة العربية في المدرسة التوفيقية.

وكان سمير أفندي على الدوام مقطب الوجه جاف اللسان، ولكنه كان طيِّبَ القلب، وكان قانعًا برزقه شاكرًا ربه رغم ضيق ذات يده.

ظنَّ والدي أن كل مدرسي اللغة العربية على شاكلة الشيخ المتقدم ذكره؛ فأوعز إليَّ بأن أتلقَّى دروسًا خاصة عليه، ولكن سمير أفندي رفض وظلَّ على رفضه طويلًا، حتى قَبِلَ أخيرًا بوصاية من صديقه المرحوم حفني بك ناصف.

وكان حفني بك قاضيًا بمحكمة طنطا، وكان والدي كبير كُتَّاب المديرية، وكانا جارين وصديقين حميمين.

وكانت ملك كريمة المرحوم حفني ناصف تتلقَّى العلم بالقاهرة في المدرسة السنية، وكانت تقيم بمنزل سمير أفندي، وكنا أحيانًا نتلقَّى الدرس عليه معًا، إلا أن ملكًا كانت متفوقة عليَّ بصورة ظاهرة، ولا عجب في ذلك؛ لأنها بنت حفني بك ناصف، ولأنها تتلو القرآن الكريم في صحن دارها في صباح يوم الجمعة من كل أسبوع.

وكنت في يوم الخميس أقصد إلى ملك في دار سمير أفندي لأصحبها إلى طنطا، حيث نجد والدينا في انتظارنا على رصيف المحطة، وظللنا على هذه الحال ردحًا من الزمن، إلى أن عكر سمير أفندي علينا وعلى والدينا صفو هذا اللقاء.

ففي أحد أيام الخميس طرقت باب سمير أفندي كعادتي، فوجدته واقفًا في ردهة الدار ينهر ملكًا غاضبًا، وملك إلى جانبه باكية، وحالَمَا رآني بادرني بقوله: «لقد كبرتما — وكان كلانا لا تزيد سنه على ثلاث عشرة سنة! — لا لا، اذهب اذهب، ملك لن تسافر معك بعد الآن.» وحينئذٍ أدركتُ سِرَّ بكاء ملك.

وفي محطة طنطا سألني حفني بك في قلق عن سبب تخلف ملك، ولما رويت له حديث سمير أفندي استغرق في الضحك، وقال لوالدي: «إن سمير أفندي محافظ في تقاليده إلى درجة الجنون، وسوف يظل محافظًا عليها إلى أن يموت.»

ولقد صدق حفني بك في قوله؛ فقد كان صديقه سمير من غلاة المعارضين للمرحوم قاسم بك أمين. وقد رَوَى لنا سمير أفندي نفسه أنه طَرَقَ يومًا باب المصلح الكبير ملحًّا في مقابلة سيدة الدار، عملًا بتعاليم زوجها في تحرير المرأة، ولما لم يُجَبْ إلى طلبه انصرف ساخرًا بتلك التعاليم التي لا يؤمن بها صاحبها نفسه.

أما ملك فكانت تؤمن بهذه التعاليم منذ صباها رغم معارضة أستاذها وغيره؛ لأن والدها نفسه كان مؤمنًا كل الإيمان بهذه التعاليم.

فكانت ملك من أوليات السيدات اللاتي عملن على تحرير المرأة، وكانت تعمل في ذلك بجد في سكون وعقل دون زهو أو فخر.

كانت باحثة البادية من أوائل الذين جاهدوا في سبيل تحرير المرأة المصرية، وكانت أولى المجاهدات في هذا السبيل، متبعة في ذلك آراء والدها الكريم، مخالفة أستاذها المرحوم أحمد سمير.

فكانت مؤمنة بتعاليم المرحوم قاسم أمين، فيما كتب عن تحرير المرأة والمرأة الجديدة، وكان لها من تلك الآراء والتعاليم مقدمة الجهاد في سبيل تحرير المرأة المصرية، ومساواتها للرجل في الحقوق والواجبات، رغم ما عانته من الجهد في هذا السبيل.

ويحق للمتتبع لمراحل هذا التحرير أن يقر عينًا بما وصلت إليه جهود المرأة المصرية، في سبيل مساواتها بالرجل والاشتراك معه في مختلف ميادين الحياة، فقد أسعدني الحظ حقًّا أن كنت ممتحنًا للسيدة نعيمة الأيوبي المحامية، وهي أولى الحاصلات على إجازة الحقوق في مصر، ويزيد من غبطتي كثرة العاملات الآن في مختلف المهن الاجتماعية والعلمية والقضائية، بل والصناعية. فمهما طالت الأيام والسنون فستبقى أسماء: الدكتورة سهير القلماوي، والدكتورة بنت الشاطئ، والأستاذة عطيات الخربوطلي، والأستاذة مفيدة عبد الرحمن. في رأس قائمة السيدات العاملات على نهضة المرأة المصرية ونهضة مصرنا تبعًا، عن طريق الكتابة والخطابة وخدمة العدالة.

كم كنت أرجو أن تَطُول حياة ملك؛ لترى بعينيها مدى نجاح حركة تحرير المرأة في مصر، التي أسهمت فيها بقلبها وقلمها ولسانها.

رحم الله باحثة البادية وأسكنها فردوس النعيم.

(٢-٥) لورد كرومر

في سنة ١٨٩٨م زار عميدُ الاحتلال المدرسةَ التوفيقية، وهي الزيارة التي كانت الحدَّ الفاصل بين عهدين، في سياسة التعليم في مصر في ذلك العصر.

كانت اللغة الفرنسية وحدها اللغة الواسعة الانتشار في القُطر، بفضل معاهد التعليم الفرنسية التابعة للإرساليات الدينية. وكانت المدرسة التوفيقية أكبر معهد حكومي لنشر هذه اللغة بين المصريين، بقيام مدرسة المعلمين إلى جانب قسمها الفرنسي، وباتساع هذا القسم إلى أن بلغ عدد طلبته عشرة أضعاف عدد طلبة القسم الإنجليزي بعد نشأته، وكانت كل سنة من سِنِي الدراسة في القسم الفرنسي تنقسم إلى عدة فصول، وكان يقوم بالتدريس فيها عدد كبير من أعلام الأساتذة الفرنسيين، وكانت جميع المواد تُدَرَّسُ باللغة الفرنسية؛ كالرياضة بأنواعها، والجغرافيا، والتاريخ، والطبيعة، والكيمياء، والتاريخ الطبيعي، وغيرها حتى الرسم. ولم يُسْتَثْنَ من ذلك سوى اللغة العربية والخط.

وإثر زيارة لورد كرومر انقلب الوضع؛ فاستقال بلتييه بك الفرنسي من نظارة المدرسة، وحلَّ محله فيها مستر إليوت الإنجليزي، وأُلْغِيَت الفصول الإضافية بالقسم الفرنسي، ووُزِّع طلبتها على المدرسة الخديوية ومدرسة رأس التين، ثم اسْتُغْنِيَ عن كبار الأساتذة الفرنسيين.

وفي الوقت نفسه بُدِئَ في الحد من تعليم اللغة الفرنسية في المدارس الابتدائية؛ فضاق تبعًا لذلك نطاق الأقسام الفرنسية في المدارس الثانوية إلى أن تلاشت، ثم اتسع نطاق الأقسام الإنجليزية إلى أن انفردت أخيرًا بالتعليم في تلك المدارس.

وكان من نتيجة هذه السياسة إلغاء اللغة الفرنسية في المدارس العالية على حساب مصلحة التعليم، وبخاصة على حساب طلبة الحقوق، الذين لا غنى لهم عن هذه اللغة، سواء في دراستهم أو بعد تخرجهم قضاة أو محامين.

لم يكن هذا موضوع حديثي بالذات، ولكن للحديث شجون وللذكريات ملابسات.

أما موضوع حديثي بالذات كون لورد كرومر اسْتُقْبِلَ في المدرسة كعادته استقبال الفاتح؛ فدخل حوش المدرسة بعربته الفاخرة يتقدَّمها سايسان، ما لبث أن وقفت العربة أمام مكتب الناظر، حتى استلقيا على السلم المقابل يلهثان بشدة وسرعة، ويتصبَّب منهما العرق بكثرة في إعياء بالغ يُثير أقسى القلوب، ويكفي أن نعلم أنهما كانا يجريان بسرعة الخيل من قصر الدوبارة إلى قصر النزهة؛ لندرك مبلغ هذا الإعياء.

حزَّ هذا المنظر المثير في نفسي؛ فأرسلت للورد كتابًا باللغة الفرنسية مجهلًا بتوقيع «طالب بالمدرسة التوفيقية»، قلتُ له فيه: إن نظام السياس لا يتفق ومعالم المدنية الغربية، ويتعارض مع تعاليم الديانة المسيحية التي تنتمون إليها، وهو أثر من آثار الرق الذي ورثناه عن عهود الذل. وطلبت إليه أن يلغي هذا النظام؛ فيكون قدوة لسائر القناصل والأمراء والباشوات.

كتبت هذا الخطاب، وأرسلته دُونَما تردُّدٍ تحت تأثير ثورة النفس، ولكنني ما لبثتُ أن خشيتُ نتيجة هذا التصرُّف، فقد وقَّعت الكتاب بعبارة تدل عليَّ، وما كان أسهل على مسيو زككيان مدرس الخط من أن يرشد عني، ولكن خوفي ما لبث أن زال.

فكم كان فرحي عظيمًا حين رأيت اللورد بعد ذلك بأسبوع، يجول في شوارع العاصمة غير مصحوب بالسياس، وأن سائر قناصل الدول حذوا حذوه بعد ذلك، وكذلك الباشوات والأمراء!

(٢-٦) أغرب مصادفة

يُرْوَى أنه كان من بين نزلاء إحدى المصحَّات في أمريكا طبيب كبير اشتُهِر بجراحة المخ، وأن هذا الطبيب قد اختلَّتْ قُواه العقلية من فرط إجهادها بالأبحاث والعمليات، وأنه كان في هذه المصحة تحت حراسة قوية؛ خشية أن يفلت منها فيعبث بحياته أو بحياة الناس، وأنه رغم ذلك غافَلَ حراسه ليلة ما، واستقل سيارة وصل بها إلى عيادته، ففتحها وأضاءها، ثم أعدها كما أعد نفسه لإجراء عملية التربنة، متخيلًا أنه في حال صحته وسلامة عقله. وفي أثناء ذلك وقعت حادثة تصادم سيارة مصادفة بالقرب من العيادة؛ فنُقِل إليها السائق المصاب فاقد النطق مهشم الرأس، وحينئذٍ أجرى له الطبيب المجنون عملية التربنة بنجاح منقطع النظير، وإثر ذلك دخل عليه حراس المصحة واقتادوه ثانيًا إليها.

ويقول العارفون إن تلك إحدى الحوادث المصادفات التي تبلغ درجة الحظ فيها واحدًا في الألفين.

وفي المدرسة التوفيقية وقعت لي حادثة، لا تقل درجة الحظ فيها عن تلك الواقعة مع بعض الفارق.

فقد كان لي خاتم ثمين مُرَصَّعٌ بحجر من الماس، أهداه إليَّ والدي في إحدى المناسبات. وفي يوم ما دخلت به دورة المياه، فخلعتُه ووضعتُه إلى جانبي خشية أن يبتلَّ بالماء، ثم سهوت عنه، وبعد ذلك بنحو نصف ساعة، أعلن ضابط المدرسة عن العثور في دورة المياه بخاتم من ذهب، فإذا به خاتمي خاليًا من الحجر الكريم، وحينئذٍ أسرعت في لهفة إلى دورة المياه، فوجدت الحجر عائمًا على قطعة صغيرة من الورق في مجرى المياه المشتركة بين جميع المرتفقات.

وقد كانت دهشتي لهذه المصادفة الغريبة لا تقل عن فرحي بالعثور على الحجر الثمين؛ لأنه كان لا بد للعثور عليه من توافر الأسباب الآتية: أن توجد هذه الورقة على سطح مياه المجرى وقت وقوع الحجر فيها، وحين سحقت الخاتم بقدمي فانفصل عنه الحجر أن يقع الحجر على الورقة، أن يكون مسطح الورقة كافيًا لحمولة الحجر، ألا يكون قد استعمل المرتفق غيري من بعدي، ألا تكون مياه المجرى المشتركة قد صُرِفت آليًّا في موعد صرفها الدوري.

ولا شك أن توافر هذه الأسباب جميعًا يجعل من هذه الواقعة مثلًا من أندر الأمثال، على مبلغ الحظ في بعض المصادفات.

(٢-٧) رسوبي في امتحان البكالوريا

في سنة ١٩٠٠م، تقدَّمْتُ لامتحان البكالوريا ففشلت، وكان سبب رسوبي إهمالي الدراسة في تلك السنة، أما سبب هذا الإهمال فما يأتي:

كانت هوايتي منذ صباي ركوب الخيل، ولم تَحُلْ هوايتي هذه دون متابعتي الدراسة بجد ونشاط، وحين انتقلنا إلى طنطا هويت أيضًا لعبة البليار، التي كنت أمارسها في أحد أندية المدينة أثناء العطلة المدرسية فحسب، فلم تَحُلْ هذه الهواية أيضًا دون متابعتي الدراسة بنفس الجد والنشاط حتى سنة ١٩٠٠م.

وفي إحدى الليالي من هذه السنة، صحبني بعض الإخوان إلى المقهى الشهير المعروف بكافيه إجيبسيان، في المكان الذي شغله بعدها مكتب شركة البوسطة الخديوية.

وكان هذا المقهى مقصد الطبقة الراقية، حيث كانت تُقَدَّمُ فيه أجود أصناف المأكولات والمشروبات، وكان به فرقة موسيقى تعزف فيها مجموعة من الآنسات النمساويات أعذب الأنغام وأشهر المقطوعات، يقودها عازف ماهر على الكمان. على أن الذي استرعى نظري أكثر من ذلك كله أن هذا المقهى كان في الوقت نفسه أعظم نادٍ للبليار؛ حيث كانت تُدَرَّسُ فيه أصول هذه اللعبة ويتبارى فيه أشهر اللاعبين.

ولقد تاقت نفسي في هذه الليلة إلى الاشتراك مع اللاعبين، ولكنني قاومت هذا الإغراء بعزم خشية الإدمان على هذه اللعبة؛ فأهمل الدراسة في وقت إقدامي على أشد تجارب الحياة المدرسية، وهو امتحان شهادة الدراسة الثانوية.

على أني ترددت بعد ذلك على المقهى، فضعفت مقاومتي واشتركت أخيرًا مع اللاعبين، وزادني إغراء أني سرعان ما استظهرت على بعضهم؛ فكانوا يقبلون عليَّ لمشاهدة لعبي ويتزاحمون على المباراة معي، وكنت أقضي أحيانًا في هذه المباريات ثلاثًا أو أربعًا من الساعات، أعود بعدها إلى الدار منهوك القوى؛ فآوي مسرعًا إلى مضجعي لاهيًا عن دراستي.

وكان لا بد لهذه الحال من سوء المآل حيث فشلت في الامتحان.

حينئذٍ أظلمت الحياة في وجهي مقدرًا مبلغ ذنبي، وكان أخشى ما أخشاه بعد فشلي مقابلة أبي، كنت مؤمنًا بأنه لن يبدي لي أي إشارة إلى خيبة أمله، ولكنني كنت مدركًا تمامًا مدى هذه الخيبة في نفسه.

فقد استقبلني والدي استقبالًا حسنًا، كما لو كنت قد نجحت في الامتحان قائلًا لي في رفق: «لا تزعل يا ولدي؛ فإن الامتحان حظ أكثر منه حق، وإن كنتَ قد فشلتَ هذه السنة، فسوف تنجح في السنة المقبلة.» ولم يكتفِ والدي بقوله هذا مواساةً لي، بل أضاف إليه دليلًا ماديًّا على دوام عطفه عليَّ، بأن زف لي بشرى شرائه جوادًا ثانيًا لي.

كان هذا العطف أقسى على قلبي من اللوم؛ لأني كنت أعتقد أن أسباب فشلي لم تَخْفَ على أبي، ولكن هذا العطف كان في الوقت نفسه حافزًا لي على تحقيق أمله فِيَّ.

كان أول ما حققته من هذه الآمال بعد ذلك الدرس القاسي نجاحي في امتحان البكالوريا.

وإنْ أنسَ فلن أنسى في صحوي قصة فشلي في امتحان البكالوريا، بل ولم أنسها حتى اليوم في أحلامي؛ فكم مرة استيقظت مذعورًا إثر الحلم بسقوطي في هذا الامتحان!

(٢-٨) الدكتور علي باشا إبراهيم

كان الدكاترة علي باشا إبراهيم، وعبد المجيد بك محمود، ووهبة بك نظمي، رحمة الله عليهم جميعًا، طلبة في السنة الأخيرة من مدرسة الطب بالقصر العيني، بينما كنت لا أزال طالبًا بالمدرسة التوفيقية، وكانوا من أعز أصدقائي؛ فكنت أزورهم في المستشفى من وقت لآخر.

وفي سنة ١٩٠١م في إحدى زياراتي لهم لاحظ الطالب علي إبراهيم أن قدميَّ ملفوفتان بالأربطة، وأني أسير عليهما بكل عناء، ولما قلت له إني أشكو من نمو الظفر في الإصبع الأكبر، وإنه أُجْريت له جراحتان دون جدوى؛ طلب مني أن أسير أمامه بضع خطوات، ثم قال لي: «الآن وقد أجريت لك الجراحة الثانية أنصحك بألَّا تلبس حذاء بكعب؛ حتى يخف الضغط على إصبع القدم عند المشي، فيلتحم الجرح قبل نمو الظفر.»

وقد عملت بنصيحة النابغة، واتقيت بها ألم المرض وعذاب الجراحة. حقًّا؛ «إن النبوغ لا ينتظر عدد السنين.» كما قال كورناي.

(٢-٩) الجراد

بينما كنت بالمدرسة التوفيقية، وفي سنة لا أذكرها بالضبط ولعلها سنة ١٨٩٦م، طغت على مصر أرجال الجراد؛ فأخْفَتْ عنَّا السماء، وجعلَتْ من النهار شبه ليل أكثر من خمس ساعات؛ فكان ذلك أكبر حدث من نوعه رأيته في حياتي.

ذلك ما وعته الذاكرة من قصص حياتي أثناء الدراسة الثانوية.

(٣) في مدرسة الحقوق

(٣-١) مدرسة الحقوق

التحقت بعد ذلك في سنة ١٩٠١–١٩٠٢م بالقسم الفرنسي بمدرسة الحقوق الخديوية، وكان مقرها بشارع عبد العزيز، ثم انتقلت المدرسة بعد ذلك بسنتين إلى مقرها الجديد بجوار قصر عابدين.

وكان ناظرها في السنتين الأوليين العلامة المرحوم مسيو تستو، ثم تلاه مسيو جرانمولان، وكان أساتذتنا الفرنسيون جميعًا من الحاصلين على شهادة الأجريجاسيون أي العالمية، وكان منهم الأساتذة: جرانمولان نفسه، وبريه، وأرمانجون. وكان من أساتذتنا: المرحوم عمر بك لطفي وكيل المدرسة، والشيخ محمد بك زيد أستاذ الشريعة الإسلامية.

وكان من زملائي في الدراسة المرحومون: محمد كامل حسين المحامي، وعبد الحميد باشا مصطفى المستشار الملكي، ومحمود باشا حسن الوزير، ومحمد بك نور القاضي، وإسكندر ميرهم المحامي، ومتري بك ميخائيل القاضي، ثم السادة: ياسين أحمد الوزير، وعلام بك محمد المستشار، وعثمان بك فهمي وكيل الديوان الملكي، وعبد الحميد بك عثمان وكيل المحكمة، السابقون أطال الله بقاءهم.

وفي سنة ١٩٠٥م حصلت على ليسانس الحقوق، وكان عدد المتقدمين لها من القسم الفرنسي ثلاثة وثلاثين طالبًا، نجحوا جميعًا، وكان أولنا المرحوم محمد كامل حسين.

ولم تقع لي أثناء دراسة الحقوق من الحوادث التي تستحق الذكر سوى ثلاثة:

زيارتي لوندرة، وإصابتي بمرض العينين، ثم عثرتي في امتحان الليسانس الشفوي في القانون التجاري.

(٣-٢) إصابتي بمرض العينين

أُصِبْتُ في سنة ١٩٠٣–١٩٠٤م الدراسية، بينما كنت في السنة الثالثة من مدرسة الحقوق، بالتهاب قرنية العينين، وكانت الإصابة شديدة بحيث اقتضت علاجي ثلاثة شهور كاملة.

كانت آلام المرض مبرحة، ولكن كانت إلى جانب هذه الآلام آلام أخرى نفسية كانت تزيد من بلوتي.

فقد كنتُ مهددًا بفقد الإبصار، وقد أدركتُ ذلك رغم إخفائه عني، من حالة اليأس التي بدت على والدي، ومن طول العلاج دون ظهور أي بادرة من الشفاء.

وقد قاسى والدي من جراء مرضي هذا أَمَرَّ الآلام: ألم النفس من إشفاقه عليَّ من شدة ألم المرض ومن نتيجته المحتملة، ثم ألم الجسم من إصابته نفسه بمرض كان يقتضيه ملازمة الفراش، ولكنه كان مضطرًّا للاطمئنان عليَّ إلى الحضور من طنطا — محل عمله — مساء كل يوم، ثم يسافر إليها صباح كل غد.

وكان ما يعانيه والدي مما يضاعف ألمي.

وأخيرًا أقول في صراحة: إني كنت في ذلك الوقت خاطبًا ابنة عمتي، التي كنت أحبها حبًّا جمًّا، وكنت أخشى إذا ما فقدت الإبصار أن يَحُول ذلك دون زواجي منها، وكنت على الأقل أخشى أن يَطُول بي المرض؛ فيَحُول دون أدائي الامتحان في نهاية السنة، ويترتب على ذلك تبعًا إرجاء زواجي الموقوت بحصولي على الليسانس.

ولكن الله سبحانه وتعالى أشفق على والدي وعليَّ؛ إذ منَّ عليَّ بالشفاء بعد ثلاثة شهور من مرضي، وبذلك طابَتْ نفسانا بهذا الشفاء، كما طابت نفسي بأمل الزواج من ابنة عمتي.

بقيت أمنيتي الأخيرة أداء الامتحان.

ظللت ثلاثة شهور تحت العلاج، وأوصاني الدكتور فشر بألا أرهق ناظريَّ بالقراءة أو بالتحديق في أي شيء آخر شهرًا رابعًا، وقد لاحظت حين شرعت في عصيانه أن أثر المرض والعلاج يَعُوقني عن القراءة، حيث كنت أرى كل شيء في ازدواج؛ نتيجة لكثرة تعاطي قطرة الأتروبين.

وسمع أساتذتي بعزمي على التقدم للامتحان، فزاروني مشكورين مُلحِّين في إثنائي عن عزمي، وحذا حَذْوَهم كثيرون من إخواني، ولكنني أصررت في النهاية على تجربة حظي، بالاستعداد للامتحان في الحدود التي تسمح بها حالتي، وعاونني زميلي المرحوم إسكندر ميرهم المحامي على متابعة الدراسة مدة شهر الحجر الصحي بتلاوة مذكراته عليَّ، ثم زودني بعد ذلك بعض الزملاء بمذكراتهم في الدروس التي أُلْقِيَتْ عليهم أثناء مرضي؛ فكنت أقرؤها ثم ألخصها للرجوع إليها عند الاقتضاء.

وأخيرًا، نجحت في الامتحان بفضل هؤلاء الزملاء الأوفياء، وأستطيع أن أقول إن نجاحي كان ببعض التفوق؛ لأني كنت في ترتيبي ضمن الثلاث الأُوَل من الناجحين.

(٣-٣) عثرتي في امتحان الليسانس

اعترتني هذه العثرة في الامتحان الشفوي في مادة القانون التجاري، وكان تَفَوُّقي في هذه المادة سبب عثرتي؛ ذلك لأن اعتمادي على هذا التفوُّق جعلني أُهمل مراجعة مذكرات هذه المادة قبيل الامتحان، وفي ليلة الامتحان بالذات قصرت مراجعتي على القانون الدولي الخاص، وقضيت في هذه المراجعة الليل طوله حتى الصباح.

وحين مَثُلْتُ أمام لجنة الامتحان، المُشَكَّلة من: مستر فوكس المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة ورئيس الدائرة التجارية فيها، وحسين رشدي باشا الذي كان حينئذٍ قاضيًا بمحكمة مصر الابتدائية المختلطة، ثم مسيو جرانمولان ناظر المدرسة. حين مثلت أمام هذه اللجنة كنت في إعياء شديد، ولما وَجَّهَ إليَّ رشدي باشا أسئلة بسيطة في تعريف بعض العقود التجارية عجزت عن الإجابة، ثم ذُهِلْتُ من عجزي هذا فاضطربت.

وحينئذٍ تدخَّلَ مسيو جرانمولان، وقال إني من أكثر الطلبة تفوقًا في القانون التجاري، وإن الظاهر أني لست في حالتي الطبيعية، راجيًا إمهالي بعض الوقت، والسماح له بأن يُقَدِّم لي قدحًا من القهوة.

ويظهر أن رشدي باشا لم يَرُقه تدخُّل ناظر المدرسة؛ فأغلظ في القول، ثم تدخَّل مستر فوكس بين الاثنين، قائلًا إن الحكم في الخلاف للدرجة التي حصلت عليها في الامتحان التحريري. وحين تبيَّن للجنة أني حصلت فيه على درجة عالية سمحتْ لي بالاستراحة وإعادة سؤالي.

وحين مثلت للمرة الثانية أمام اللجنة، رفض رشدي باشا أن يُوجِّه إليَّ أي سؤال، مُصِرًّا على وجوب إسقاطي، قائلًا إنه لا دلالة للامتحان التحريري؛ حيث يمكن الغش فيه. وحينئذٍ تولَّى امتحاني مستر فوكس؛ فكانت إجاباتي مُرْضِية أثلجت صدر مسيو جرانمولان؛ حيث أيدت صحة شهادته. على أن الخلاف لم يلبث أن تجدَّدَ بين أعضاء اللجنة على الدرجة التي أستحقها، وكانت مداولة اللجنة في ذلك بصوتٍ عالٍ، أقلقَتْ زملائي من أجلي وأرهبَتْهم من أجل أنفسهم، وانتهى رأي اللجنة أخيرًا في صالحي.

وبذلك جُزْتُ هذه المحنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤