في لجنة قضايا الحكومة

تعييني مستشارًا ملكيًّا

في سنة ١٩٢٢م وفي سنة ١٩٢٥م، عُرِضَتْ عليَّ وظيفة مستشار بمحكمة الاستئناف، فاعتذرتُ عن عدم قبول هذا العرض الكريم، لا انتقاصًا من قدر وظيفة القضاء، التي كانت موضع إجلالي طول حياتي، وإنما لأن حالتي المالية ما كانت تسمح لي بهذا القبول في ذلك الوقت.

وفي سنة ١٩٢٩م عُرضت عليَّ وظيفة المستشار الملكي، فقبلت العرض شاكرًا لأسباب عدة، منها أن مركزي المالي كان قد تحسَّنَ عن ذي قبل، ولأن هذه أول مرة يُعيَّن فيها محامٍ مستشارًا ملكيًّا دفعة واحدة، فكان في هذا التعيين شرف لي حرصت عليه، وأخيرًا لأنه كان لوالدي زميل بمدرسة اللازارست بالإسكندرية، أتَمَّ دراسته وحصل على إجازة الحقوق، بينما والدي قد استدعاه جدِّي قبل إتمام دراسته، وألحقه كاتبًا بمديرية البحيرة، وكانت نتيجة ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه والدي كاتب أول المديرية، يتقاضى ثلاثمائة جنيه سنويًّا، كان زميله مستشارًا خديويًّا يتقاضى ألفين ومائتي جنيه، أما هذا الزميل فكان المستشار شرباتي.

وكان والدي يقول لي: «كم أكون سعيدًا بأن أراك يومًا مستشارًا كصديقي شرباتي!» فلما عَرَضَتِ الفرصة لتحقيق رغبة والدي انتهزتُها؛ إرضاء له في حياته.

ومما أذكره أن الصداقة بين والدي والمستشار شرباتي ظلَّتْ متينة، رغم مَرِّ السنين ورغم الفارق الكبير بين مركز الصديقين، وأن الصداقة والوفاء بينهما كانا مضرب الأمثال، ومن الشواهد على ذلك أن أحد كبار اليونانيين رفع دعوى على الحكومة بتثبيت ملكيته لبضعة آلاف من الأفدنة بمديرية البحيرة، وكانت هذه القضية إذا ما خسرتها الحكومة سوف تَجُرُّ وراءها دعاوى أخرى من نوعها؛ فاهتَمَّ المستشار بالقضية اهتمامًا خاصًّا، وعهد لوالدي بصفته كاتب أول المديرية في إعداد مذكرة وافية فيها، وعلى أساس هذه المذكرة بنى صديقه المستشار دفاعَه في القضية؛ فكسبها.

وفي أحد الأيام دخل والدي علينا هاشًّا باشًّا، وقال لي إن الحكومة كتبت للمستشار تشكره على كسب القضية، وإنه رَدَّ عليها بألا فضل له في كسبها، وإنما يرجع كل الفضل لكبير كُتَّاب المديرية، وإن الحكومة بناء على ذلك أنعمت على والدي برتبة البكوية من الدرجة الثانية، وهو شرف لم يحصل عليه مثله من قبل. وهذا مثل على كرم الخلق قَلَّ أن تعهده في الأصدقاء.

ولما صدر المرسوم الملكي بتعييني، تَفَضَّل إخواني فأقاموا لي حفلة تكريم بصالة جروبي، برياسة والدنا وأستاذنا الكبير المرحوم إبراهيم بك الهلباوي؛ وإن دَلَّتْ هذه الحفلة على شيء فإنما تدل على فضل إخواني عليَّ.

ولا يتسع المقام هنا للكلام على وظيفة المستشار الملكي، والمهمة الجليلة الخطيرة التي كان يقوم بها المستشارون الملكيون، وعلى رأسهم العالم القدير الدكتور عبد الحميد بدوي؛ فكل ذلك قد ذكرته تفصيلًا في المقال الذي نُشِرَ في الكتاب الذهبي للمحاكم الوطنية عن لجنة قضايا الحكومة.

وإنما الذي يحلو لي أن أُسجِّله في هذه الذكريات شهادة العالم الفرنسي الكبير، الذي عهدتْ إليه الحكومة المصرية في الدفاع عنها في قضية جورج سالم، التي أقامتها الحكومة الأمريكية أمام هيئة التحكيم الدولية، مطالبة فيها بتعويض قَدْرُه مليون من الدولارات.

قال لي هذا العالم وأنا أعد معه الدفاع في القضية أن لا شك أن القضاء في مصر من أصلح أقضية العالم، وأن أحكامه تفوق في قانونيتها كثيرًا من أحكام هذه الأقضية، بما في ذلك أحكام محكمة النقض الفرنسية، ثم أكد لي أن التشريع المصري يمتاز بأحكامه وبِلُغَتِهِ عن مثيله في فرنسا ذاتها، وكان العالم يقصد بقوله هذا القضاء المختلط والقوانين المختلطة؛ لأن النزاع في قضية التحكيم كان يدور حول حكم صادر من المحاكم المذكورة.

وكان مركز المستشار الخديوي أو الملكي من أكبر مراكز الدولة، ولو كان مرتبه يقل عن مرتب الناظر أو الوزير أو الوكيل. كان الوزير يتقاضى مرتبًا قدره ٣٠٠٠ جنيه، والوكيل ٢٣٠٠، والمستشار ٢٢٠٠. ولكن العرف جرى أن للأخير حقَّ التقدم على الأولين في كل وزارة؛ فكان المستشار يُسْتَقْبَلُ في مكتبه الوزير والوكيل. ولمَّا كان المرحوم بطرس باشا غالي رئيسًا للحكومة، كان يخطر مسيو روكاسيرا كبير المستشارين بأنه قادم إليه ليستشيره في بعض الأمور، ولكن الأخير كان يعاجله بالزيارة؛ فكان بطرس باشا يقول له: دعني أزُرْك؛ فأنت المحامي عني. والمحامي يُزار في مكتبه ولا يزور موكليه.

وكان من مظاهر رفعة وظيفة المستشار أنه كان يحمل في مرافعاته أمام محكمة الاستئناف المختلطة وشاحًا مماثلًا لوشاح مستشاري هذه المحكمة؛ دليلًا على أنه لا يَقِلُّ مقامًا عن رجال القضاء الأعلى أنفسهم.

وقد حافظ المستشارون الملكيون في عهد الدكتور عبد الحميد بدوي على كثير من هذه التقاليد، رغم محاولة الوزراء ووكلائهم الانتقاص منها من وقت إلى آخر. كان الوزير يدعوني إليه بعبارة رقيقة، أما وكيل وزارة الحربية ووكيل وزارة المعارف فلم يدعواني مرة واحدة، وحاول وكيل وزارة الزراعة مرة استدعائي فرفضت دعوته.

بعد ذلك أُنشِئَ مجلس الدولة؛ فانتزع من لجنة قضايا الحكومة سلطاتها الكبرى، كما انتزع من القضاء العادي اختصاصه بنظر قضايا الحكومة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤