خاتمة

لقد سلَّطت جائحة فيروس كورونا الضوءَ على كثير من المشكلات التي قد تساعد تقنية سلسلة الكتل في حلها بطرقٍ مستحدَثة وأكثر فاعلية — وكذلك التوترات الأساسية المتعلقة بتبني الحكومات والمجتمع للتقنيات الجديدة (أو عزوفهما عنها). عجَّلت جائحة كوفيد-١٩ من وتيرة الرقمنة في جميع المجالات، وتوفِّر تقنية سلسلة الكتل توفِّر لتعزيز هذا التحوُّل. يظل السؤال الرئيسي هو كيف ستُطبَّق هذه التقنية ومَن سيتولى تطبيقها.

تأمَّل معنا مسألة تتبُّع مخالطي المصابين بفيروس كورونا. لا يزال واجبًا على العالم الاتفاق على مَنْ تقع عليه مسئولية تتبُّع هؤلاء المخالطين وكيف يجب أن تسير العملية. في الدول المتقدمة، اتبعت وزارات صحة مختلفة نُظمًا عمليةً لتتبُّع المخالطين، سواءٌ أكان ذلك من خلال تطوير برامج داخلية خاصة بها أم الاعتماد على نظام إخطار آبل/جوجل الخاص بتتبُّع المخالطين. أما في البلدان النامية، فأغلبها يفتقر إلى القدرة على تطوير مثل هذا النظام بنفسها، وحتى إن كانت قادرة على ذلك، فربما لا تثق الشعوب فيه بالقدر الكافي حتى يستخدموه.

من خلال توفير بنية آمنة وموثوق فيها ويمكن التحقق منها، قد تتمكن النُّظم المعتمدة على سلسلة الكتل من سد هذه الفجوة بعدة طرق. يمكن لكل حكومة على حدة استخدام نُظم معتمدة على سلسلة الكتل لبناء الثقة في حلولها المحلية، وذلك من خلال إشراك منظمات غير حكومية، وأطراف أخرى موضع ثقة في عمليتَي التطوير والتنفيذ. يمكن لتلك النُّظم أن تساعد في التغلب على فيروس كوفيد-١٩ وإنشاء بنية تحتية تستطيع التعامل مع الجائحات المستقبلية، هذا بالإضافة إلى تقديم هياكل مستحدَثة مصمَّمة لحماية بيانات المستخدمين.

إنَّ إدارة الملكية العقارية هي مجال آخر تأثَّر بشدة بسبب جائحة كوفيد-١٩. عندما قررت حكومات من لندن حتى بنسلفانيا أثناء فرضها للإغلاق العام في أوائل جائحة كوفيد-١٩ أن المعاملات العقارية ليست «خدمات أساسية»، توقَّف المجال بأكمله. وتوقَّفت جميعُ المعاملات العقارية لعدة أشهر. وعلى نحو موازٍ، كانت حركة تنقُّل كبرى في سبيلها لأن تبدأ؛ إذ أدرك قاطنو المدن أنه لم يَعد عليهم البقاء في المدن وأن بإمكانهم الانتقالَ إلى الريف للاستمتاع بإيقاع ونمط حياة مختلفين. فوُضِع الطلب على العقارات فعليًّا في مأزِق، وأعاقه الإغلاقُ التام.

عندما استُؤنِفَت المعاملاتُ العقارية، فُتِّحت الأبواب على مصراعيها. فالأراضي التي ظلت راكدة في السوق لسنواتٍ أصبحت تتلقى العديد من العروض. والمنازل بِيعت دون معاينتها على أرض الواقع، وتلقت أيضًا العديد من العروض. والوكلاء العقاريون، وشركات التحقق من ملكية العقارات وباقي المنظومة العقارية انتقلت من مسايرةِ أعمالها بالطريقة المعتادة، إلى إغلاقٍ كاملٍ لنشاطها التجاري، ثم إلى العمل بوتيرة جنونية تمامًا.

تلقي هذه التجربة الضوءَ على أوجه الضعف الموجودة في نظامٍ يُجبَر فيه الناسُ على المشاركة بشخصهم فيما هو في الواقع عملية تحقق غير مادية — وهي عملية نقل ملكية العقار من المالك الحقيقي الحالي الشاغل للعقار إلى المالك التالي. إنَّ غياب بنية تحتية رقمية هو أحدُ أوجه الضعف في النظام الذي كشفَت سِتره الإغلاقاتُ العامة على إثر تفشي جائحة كوفيد-١٩. سلسلة الكتل ليست حلًّا شافيًا لجميع المشكلات، لكنها قد تُعد حافزًا لنقل عملياتٍ وإجراءاتٍ لا تزال جذورها راسخة في العالم المادي التناظري إلى العالم الرقمي على نحو يتسم بالكفاءة والفاعلية.

النقود هي حالةٌ أخرى وثيقة الصلة بالموضوع. ففي حين انتقل كثيرون حول العالم بالفعل إلى استخدام النقود الإلكترونية، سواءٌ عن طريق البطاقات الائتمانية، أو الخدمات المالية بالهاتف المحمول، أو العملات المشفرة، فإن عددًا ضخمًا من الأفراد على مستوى العالم، لا سيَّما في بلدان العالم النامي، لا يزال محرومًا من التمتع بوسائل دفع إلكترونية. وأصبح القطاع المحروم من الخدمات البنكية بين شقي الرَّحى. فمن دون حساباتٍ بنكية، لا يمكنهم التمتع بخدمات الدفع الإلكترونية التي يعتمد عليها كثيرٌ من العالم المعاصر. وهذا يجعلهم بمعزلٍ عن مجموعة واسعة من الخدمات الرقمية وقنوات التجارة الإلكترونية، ومعرضين دائمًا لخطر السرقة، ومع تفشي جائحة كوفيد-١٩، أصبحوا معرَّضين إلى التعامل مع النقود الورقية بوصفها ناقلًا للعدوى.

عندما عصفت جائحة كوفيد-١٩ بالعالم، أسرعت الدول إلى إتاحة خدمات الدفع الإلكتروني إلى القطاع المحروم من الخدمات البنكية. عبر الأسواق الناشئة، حدَّدت الجهات التنظيمية سقف الرسوم المفروضة على الخدمات المالية بالهاتف المحمول وطلبت من شركات كثيرة استخدَامها. حاولت كينيا نفسها إجبار حافلات الماتاتو على تحويل جميع عمليات الدفع الخاصة بها إلى خدمات الدفع بالهاتف المحمول، والجدير بالذكر أن تلك الحافلات هي حافلات أجرةٍ شهيرة تُقدم نشاطها في شوارع أفريقيا، وكانت تعتمد لفترة طويلة على الدفع النقدي تجنبًا لإعلام هيئات الضرائب بما تحققه من دخل. طبَّقت تلك الحافلات إجرائي توفير مطهِّر اليدين واستخدام الكمامات، لكن دفع الضرائب كان أمرًا صعب المنال.

في المملكة المتحدة، لجأت الحكومة إلى شركات تقنية مالية غير مقنَّنة على نحوٍ كبير لتوفير خدمات دفعٍ بالبطاقات إلى القطاعات الأكثر هشاشة من المجتمع. مؤسسة جيش الخلاص والمؤسسات الخيرية الأخرى، التي تتولَّى توزيع إعانات الحكومة البريطانية على ضحايا الاتجار بالبشر والرق المعاصر، انتقلت من تسليم الإعانات نقدًا إلى تسليمها ببطاقات مسبقة الدفع. وللأسف، كثير من تلك البطاقات كانت تديرها مؤخرًا شركة وايركارد، وهي شركة ألمانية محتالة ذائعة الصيت في مجال خدمات الدفع والتي انهارت في صيف ٢٠٢٠. صار المستفيدون من البطاقات جوعى في غضون الأيام الأربعة التي جُمِّدت فيها عمليات شركة وايركارد؛ إذ أصبحوا عاجزين عن شراء الطعام من دون إعانتهم الأسبوعية التي تصل إلى ٣٥ جنيهًا إسترلينيًّا. وهكذا، توجد ثغراتٌ أيضًا في البنية التحتية الرقمية، لا سيَّما عندما تعتمد على أطراف ثالثة وسيطة.

وفَّرت جائحة كوفيد-١٩ دافعًا جديدًا لإلغاء استخدام العملات النقدية المادية، لكن حتى في المملكة المتحدة وكينيا نرى أن إخراج العملات النقدية من المعادلة هو أمرٌ مستبعَد تمامًا. إذا كان العالم سيتجه إلى إلغاء العملات النقدية المادية، فسوف يحتاج إلى عملات رقمية لتحل محلها. وتلك العملات الرقمية، سواءٌ كانت هي العملات المشفرة الحالية أو العملات الرقمية المدعومة من البنوك المركزية، ستحتاج على نحو شبه حتمي إلى الاعتماد على تقنية سلسلة الكتل.

في الفصل الأول من هذا الكتاب، استخدمنا إطار الابتكار الخاص بكلايتون كريستنسن لتفسير السبب في أن تقنية سلسلة الكتل سيكون لها أعظم تأثير في بلدان العالم النامي: تلقى الابتكارات الجديدة استحسانًا عندما تتمتع بجودةٍ كافية لتحل محلَّ التقنية الحالية، والمستوى المقبول لكون التقنية «جيدة بما يكفي» يكون أقل كثيرًا في البلدان النامية، التي تعاني مشكلاتٍ مُلحَّة وتكون مؤسساتها غالبًا أضعف. ستزيد جائحة كوفيد-١٩ من هذه الإبادة الإبداعية. كانت الأدوات الضعيفة لتجميع معلوماتٍ عن الصحة العامة والنقود المتداولة القذرة جيدة بما يكفي قبل جائحة كوفيد-١٩، لكنها لم تَعد كذلك. تَراجُع الإيرادات والعمل عن بُعد يعنيان، لكثير من الشركات، أن العمليات اليدوية التي ربما كانت مزعجة لكن جيدة بما يكفي في الماضي لم تَعد مقبولة؛ فستحتاج لأن تجرى رقمنتها. عندما تكون أغلب عمليات الشركات رقمية بالفعل، مثلما هو الحال في الدول المتقدمة، فإن الدافع لتجربة بنية جديدة، مثل نظامٍ معتمِد على سلسلة الكتل، سيكون قليلًا. لكن عندما تقرِّر وزارةٌ أو شركةٌ في سوق ناشئة رقمنةَ عملياتها لأول مرة، فبإمكانها الانتقال مباشرةً إلى أكثر التقنيات الملائمة المتوفرة اليوم. وللأسباب الكثيرة التي ناقشناها في هذا الكتاب، ستصبح تلك التقنية الأكثر ملاءمة في الغالب معتمِدةً على تقنية سلسلة الكتل.

ربما يمتلئ العالم فيما بعد جائحة كوفيد بحالةٍ من الضبابية ونحن نتعافى ببطءٍ من الجائحة، لكن مستقبل سلسلة الكتل يظل أكثر إشراقًا، ومعقَّدًا، كعهده دائمًا. بل صرنا الآن ننطلق بوتيرة أسرع نحو مستقبل معتمِد على سلسلة الكتل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤