الفصل الخامس

جَني المال

يحتاج عدد قليل من الأفراد الذين يعيشون في دول ذات اقتصاد متقدم إلى عملات مشفرة ليستمروا في عيش حياتهم اليومية بنجاح. فنُظم الدفع الحالية أسرع، وأرخص، وأسهل في استخدامها حتى من أكثر العملات المشفرة ابتكارًا في هذه المرحلة. يتمثل دور البنوك المركزية في ضمان استقرار العملة؛ لكن العملات المشفرة لا تتمتع بمثل هذه الرفاهية. وتقوم نُظم تأمين الودائع بالحفاظ على أمان الودائع البنكية. وتُوجَد العملات الأجنبية لتسهيل التجارة الدولية والسياحة. ولا يميل الأفراد إلى القلق من أن تصبح أموالهم مقيدة داخل الدولة أو أن تفقد قيمتها. بل إن التعامل بالعملات المادية أقل خطورة في الاقتصادات المتقدمة، في ضوء انخفاض متوسط معدلات الجرائم. ويمكن أن يُسلِّم الأفراد في الغالب بأن عملاتهم ستفي بكل أدوارها الرئيسية الثلاثة التالية.

  • (١)

    وسيلة تبادل: تتيح لنا العملات أن نتاجر من دون اللجوء إلى المقايضة. إذا كانت لديَّ دراجة أريد بيعها وأرغب في شراء ساندويتش، فأنا لست بحاجة إلى البحث عن بائع ساندويتشات يحتاج إلى دراجة. فيمكنني بيع الدراجة والحصول على عملة في المقابل، لأني واثق أنه بإمكاني استخدام تلك العملة في شراء ساندويتش.

  • (٢)

    مخزن للقيمة: الأمر لا يتوقَّف فقط عند غياب الحاجة إلى العثور على بائع ساندويتشات يحتاج إلى دراجة، إنما بعد بيع دراجتي يمكنني ادخار الأموال المحصَّلة من البيع لتمويل الاستهلاك المستقبلي، لأني واثق أن العملة التي حصلت عليها مقابل دراجتي ستحمل قيمةً مماثلة في المستقبل.

  • (٣)

    وحدة حسابية: بصفتي بائع دراجة يريد شراء ساندويتش، لا داعي يجبرني على حساب عدد الساندويتشات التي يمكن شراؤها بقيمة دراجة واحدة — لا أحتاج إلا إلى معرفة كمْ دولارًا أو يورو أو ينًّا تساويه قيمة دراجة واحدة وساندويتش واحد. أما كبائع ساندويتشات، فيمكنني بسهولة حساب عدد الساندويتشات التي أحتاج إلى بيعها وعند أي سعر حتى أغطي تكاليف المكوِّنات، والعاملين، ومكان البيع، والتسويق ويمكن في الوقت نفسه تحقيقُ ربح مناسب من أجل استمرارية العمل.

في الكثير من الاقتصادات النامية، لا يُسلَّم جدلًا بالأدوار الأساسية للعملة هذه بسبب المخاطر الأساسية الثلاثة التالية.1
  • التضخم المفرِط: لم تَعُد العملة مخزنًا فعالًا للقيمة لأن قيمتها تتضاءل، ولم تَعُد وحدة حسابية فعالة نظرًا لعدم استقرار الأسعار. يقلل عدم استقرار الأسعار أيضًا من استخدام العملة بوصفها وسيلةَ تبادل.
  • القيود الرأسمالية: إن التشريعات التي تحدُّ من قدرة الأفراد والشركات على مبادلةِ عملة أجنبية بعملة محلية أو نقل عملة أجنبية خارج البلاد تحدُّ من قدرة العملة المحلية على أداء دورها كوسيلة تبادل، لا سيما للمدفوعات الأجنبية.
  • المخاطر التي تهدِّد القطاع البنكي: إن حالات إفلاس البنوك إلى جانب خطر فقدان البنوك للأموال النقدية التي تحتفظ بها وعدم الإدارة الاحترافية لها يَحدُّ بشدة من فاعلية العملة بوصفها مخزنًا للقيمة.

صارت تلك المخاطر مؤخرًا واقعَ حياة الأفراد الذين يعيشون في البلدان النامية، من الأرجنتين إلى فنزويلا، ونيجيريا وزيمبابوي وغيرها. تاريخيًّا، كان البديل الرئيسي للعملات القومية هو الدولار الأمريكي، وكان غالبًا يعمل كسوق غير رسمية للنقد المادي. ومع ذلك، لن يحلَّ استيراد الدولارات إلا جزءًا من المشكلة، بل يمكن أن يطرح مشكلات جديدة. أحد الأسباب في ذلك تتمثل في أن السياسة النقدية الأمريكية وُضِعت لتناسب احتياجات الاقتصاد الأمريكي وربما تعيق دولةً تجاهد حتى تجعل صادراتها تنافسية. في الدول التي تفتقر إلى احتياطات من العملات الأجنبية، ستظل الدولارات عرضةً لخضوعها إلى قيود رأسمالية، مما يجعل الحصول على العملة الأمريكية صعبًا بالطرق القانونية وباهظَ الثمن بالطرق غير القانونية. بالنسبة إلى الشركات، لا يزال ضروريًّا تخزين الدولارات بنفسها أو في البنوك، التي ربما لن تتمكن من توفير خدمات مبادلة العملات الأجنبية بكفاءة.

لكن، بالرغم من مشكلات الدولار، فإنه لا يزال هو العملة المسيطرة. فهو يسيطر عالميًّا على الأسواق المالية وأسواق السلع وكذلك على التجارة الدولية — حتى لو لم يكن لأطراف المعاملة أي علاقة تربطهم بالولايات المتحدة.

هل حياة المستهلكين على مستوى العالم التي يزداد ترابطها على نحوٍ كبير تسمح بوجود عملة دولية؟ هل لعملة البتكوين أو الإيثر أن تكون «جيدة بما يكفي» أمام عملة محلية فُقدَت الثقة فيها وأمام دولار أمريكي غير متوافر بالقدْر الكافي، أم إنها ستدمِّر الاقتصاد المحلي؟

في حين تظل، حتى الآن، فكرةُ أن العملات المشفرة ستصبح عملات عالمية ذائعة الصيت ضبابية في ظل الحالة الأولية لدورة تطوير تلك النُّظم، فإنه ليس مستحيلًا أن يوجد سبيلٌ لذلك على المدى البعيد. ولكي تسود حقًّا العملات المشفرة في الدول النامية، فلا بد لها أن تتفوق على الأقل في بعض الأدوار التي تؤديها الأموال النقدية. من أجل ذلك، سنعقد مقارنةً الآن بين النقود المادية، والعملات المشفرة، والنقود الإلكترونية عبر مجموعة من الأدوار، مصنفين كلَّ عملة حسب قوَّتها النسبية.

المعاملات

تتمثل العقبة الأولى في إنشاء واجهة يسهُل الوصول إليها. تحتاج الواجهة إلى اتصالٍ بالإنترنت، أو على الأقل بجهاز كمبيوتر أو هاتف ذكي لإجراء معاملةٍ على سلسلة كتل. بالمقارنة، تتميز العملة النقدية بأنها هي الشكل الأسهل للعملات عند إجراء معاملة مادية فعلية. ومع ذلك، فإن قدرات العملات المشفرة تتفوق إلى حدٍّ كبير على النُّظم المرهِقة الخاصة بتحويل النقود الإلكترونية.

فيما يلي تصنيف العملات فيما يتعلق بالمعاملات:

التسوية

تتميز عمليات التسوية التي تتضمَّن عملات مشفرة بأنها سريعة وحاسمة، مقارنةً بتحويل النقود الإلكترونية. ففي حال وجود الأطراف في أماكنَ جغرافية مختلفة، فإن الإطار الزمني لتسوية المعاملات التي تتم بالنقود الإلكترونية يمتد إلى أيام وأسابيع، اعتمادًا على القيود المفروضة على رءوس المال، والتوافر وتحديات أخرى. وتصبح تسوية المعاملات التي تتم بالعملات المشفرة معروفةً وواضحة للجميع عبر سلسلة الكتل. وبكل تأكيد، تمتاز تسوية المعاملات التي تتم بالعملات النقدية المادية بأنها فورية وحاسمة.

التعامل

في حين أن التعامل بالأموال النقدية العادية مرهِق وعُرضة لمواجهة سلوك إجرامي، لا سيَّما عند التعامل مع مبالغَ ضخمة، فإن التعامل بالعملات المشفرة له مخاطره أيضًا. إذا فقدتَ السيطرة على محفظتك أو نسيتَ مفتاحك الخاص، فقد فقدت بذلك عملاتك المشفرة. يتيح لك النظام الخاص بالنقود الإلكترونية التعامل بقدر عالٍ من البساطة؛ إذ لا تحتاج إلا إلى امتلاك بطاقة بلاستيكية صغيرة ورقم تعريف شخصي. إلا أن المعاملات التي تتم عن بُعد تعتمد على شبكة معقَّدة من عمليات التحويل والإجراءات التي تتم بين البنوك، والتي تكون مبهمة للجميع. إن النظام البنكي، الذي يكون آمنًا ومؤمَّنًا في الدول المتقدمة، عادةً ما يكون أقل موثوقية في الدول النامية. يُظهِر التعامل بالعملات المشفرة بعضَ علامات التفوق حتى على نُظم النقود الإلكترونية، نظرًا للفساد وانعدام الثقة بوجهٍ عام في النُّظم البنكية المحلية. ومع تطور البنية التحتية لمَحافظ العملات المشفرة وزيادة سهولة استخدامها، فمن الأرجح أن يصبح التعامل بالعملات المشفرة «جيدًا بما يكفي» في الكثير من الاقتصادات النامية.

التخزين

يُعد تخزين النقود المادية مُكلِّفًا. وحتى لو كانت هناك بالفعل خِزانات محصنة جيدًا وعربات نقل مصفَّحة لنقل الأموال النقدية، فإن التأمين وحدَه في دول متقدمة مثل سويسرا تُقدر تكلفته بنسبة ١٪ من إجمالي المبلغ المُخزَّن.2 من المحتمل أن مثل هذا التأمين يصبح مكلفًا أكثر بكثير في الدول النامية، في حال توافره من الأساس، لو وضعنا في الاعتبار الزيادة المدركة للمخاطر وتدني مستوى نضج سوق التأمين. تميل كذلك المبالغ النقدية المادية في الدول النامية إلى أن يكون عدد أوراقها أكبر بكثير نظرًا لعدم وجود عملات من فئات كبيرة. يمكن لحقيبة يد عادية أن تحوي ٤ ,٢ مليون دولار في هيئة ما يعادل هذا المبلغ من أوراق نقدية فئة ٢٠٠ يورو، أو ما يزيد عن مليون دولار في هيئة ما يعادل هذا المبلغ من أوراق نقدية فئة ١٠٠ دولار، لكنها لا تسع إلا ٢٥٠ ألف دولار في هيئة ما يعادل هذا المبلغ من أوراق نقدية فئة ١٠٠ رينجت ماليزي أو ٤٧ ألف دولار في هيئة ما يعادل هذا المبلغ من أوراق نقدية فئة ١٠ آلاف شلن تانزاني.
مع أن النقود الإلكترونية أسهل وأرخص في تخزينها، فإنها لا يمكن تخزينها إلا على هيئة رصيد بنكي، مما يترك مودِع الأموال تحت رحمة جودة الائتمان الخاصة بالبنك. ورغم أن الضمانات على الودائع تحمي ودائع الأفراد، فإنها لا تضمن عادةً الودائع الأضخم بكثير والخاصة بالمودعين التجاريين.3

تتفوق العملات المشفرة بكل وضوح هنا. يعني تخزين العملات المشفرة الحفاظ على وجود المفتاحين العام والخاص وأمنهما — في حالة عملة البتكوين، رقم مكوَّن من ٢٥٦ بت ممثل باستخدام ٦٤ حرفًا سداسيًّا عشريًّا. لكن هذا النظام له أيضًا مخاطر. كثيرٌ ممَّا كُتب في الصحافة عن اختراق العملات المشفرة هو في الواقع حالاتٌ اختُلست فيها المفاتيح الخاصة بطريقة شيطانية، مما أتاح للصِّ نقل الأموال بسهولة إلى محفظة تحت سيطرته التامة. إن فقدان السيطرة على المفاتيح الخاصة لا يشبه فقدان كلمة المرور؛ فلا سبيل إلى استعادة حق الوصول مرة أخرى.

تلجأ بعض خدمات تخزين العملات المشفرة وأصحاب الأعداد الضخمة من تلك العملات إلى تقنية تُسمَّى «التخزين البارد»، حيث يجري إنشاء وتحديث المحفظة دون الاتصال بالإنترنت للحد من المخاطر التي قد تتعرض لها. فقط المفتاح العام هو ما يظل ظاهرًا على الإنترنت بوصفه نقطة انتهاء المعاملة. وعلى غرار جوانب كثيرة في العملات المشفرة، فإن حلول التخزين الآمنة لا تزال في مهدها.

تغيير المعاملات أو تصحيحها

بالنسبة إلى إجراء معاملةٍ بعملة مشفرة، ومثلما هو الحال مع النقد المادي، فإن عَكْس المعاملات بمجرد تنفيذها أو التغيير فيها أمرٌ مستحيل تقنيًّا لأن عدم قابلية التغيير هي إحدى السمات والأجزاء الرئيسية لتصميم النظام. سمح النظام الذي تطوَّر فيما يتعلق بالنقود الإلكترونية بالسهولة النسبية لتغيير المعاملات أو عكسها، حتى أحيانًا بعد فترة طويلة من تسوية المعاملة. هناك أفكار خاضعة للتجربة، مثل السند المعلَّق التسليم على سلسلة الكتل، والتأمين، وبنًى تحتية أخرى لتمكين المستخدمين من تغيير أثرِ المعاملة حتى بعد تنفيذها. وهكذا، فإن التفوُّق الحالي لنظام النقود الإلكترونية هو نتاج الحالة الوليدة للبنية التحتية للعملات المشفرة أكثر منه نتاجًا لانتقاد طويل الأجل.

القبول

إن قبول العملات المشفرة هي المرحلة التي تثبت فيها صلاحيتها. يتمثل المتجهان اللذان يُفهم بهما القبول في توسُّعها عالميًّا وكثافة قبولها داخل منطقة بعينها. التوسُّع العالمي للعملات المشفرة شيءٌ متأصل فيها، نظرًا إلى طبيعتها المعتمدة على الإنترنت. وبناءً على هذا المعيار، فإن قبول العملة المادية محدود، خاصة بمجرد أن تخرج من نطاق الدولة التي أصدرتها. لكن تعتبر النقود الإلكترونية مقبولة عالميًّا بوجهٍ عام: لقد تطورت أسواق صرف عملات أجنبية عميقة ومعقَّدة حتى تضمن معاملاتٍ يمكن إدارة مخاطرها وتبدو سلِسة إلى المستخدم النهائي بصرف النظر عن العملة المستخدمة.

فيما يتعلق بعدد المنافذ المتوفرة في منطقةٍ ما والتي تقبل الدفع، نجد أن قبول العملات المشفرة محدود للغاية. ومقارنةً بانتشار أي نوعٍ من العملات المادية المحلية، لا يزال أمام انتشار العملات المشفرة طريقٌ طويل لتقطعه، حتى في الدول التي تواجه فيها عملاتها المحلية تحدياتٍ أكبر. أما النقود الإلكترونية، على النقيض من ذلك، فقد حقَّقت انتشارًا ملموسًا حتى في أبعد المناطق.

فقط بعد أن تنضج النُّظم التابعة المعنية بدعم العملات المشفرة، سنتوصل إلى فهمٍ كامل لما إذا كانت تلك العملات في الحقيقة «جيدة بما يكفي» لتحل محلَّ العملات التقليدية في الاقتصادات النامية. لكن، حتى الآن، وبالرغم من جميع عيوبها، يمكن أن تؤدي العملات المشفرة بعض الوظائف التي تقوم بها الأموال في البلدان النامية مع مواجهة بعض أوجه القصور في العملات القومية. بوسع المدخرين امتلاك محافظهم من العملات المشفرة دون الحاجة إلى تقديم طلب بذلك إلى النُّظم البنكية أو تحمُّل التكاليف أو التعقيدات المرتبطة بامتلاك أموال نقدية. ربما تكون العملات المشفرة أقل عرضةً إلى انخفاض قيمتها وتضخمها نظرًا إلى وجود خوارزميات تقيِّد عملية العرض. وعلى عكس العرض المتوسع للأموال في كثير من الاقتصادات الأكثر هشاشةً، فإن عرض العملات المشفرة محدود للغاية. ويزداد الأمر صعوبةً على الحكومات والبنوك المركزية فيما يتعلق بوضع قيود على التجارة العابرة للحدود بالعملات المشفرة بالطريقة نفسها التي يمكن أن تتَّبعها مع التجارة بالدولار الأمريكي أو أي عملاتٍ أخرى — بالرغم من محاولة كثير من الدول ذلك، من بينها نيجيريا.

أحد الأسباب الرئيسية لفرض الحكومات القومية قيودًا على الحصول على عملات أجنبية هو تفادي حدوث انخفاض كبير في قيمة عملتها؛ إذ إن جميع حائزي العملات الورقية القومية سيُهرعون إلى الهروب عند وقوع أزمة، محاولين شراء المخزون المحدود من العملات الأجنبية الذي تمتلكه الدولة، مستخدمين العملة القومية التي لا يرغب أحدٌ فيها. ولكن، قد يحدث الشيء نفسه مع العملات المشفرة أيضًا: فحتى تتمتَّع بمزايا العملة المشفرة التي تميزها عن العملة الورقية الرسمية، فإنك تحتاج أولًا إلى العثور على شخصٍ مستعِد لمبادلة العملة النقدية المحلية مقابل العملة المشفرة. في دولٍ مثل زيمبابوي أو فنزويلا، حيث كانت العملة المحلية آخذة في الانهيار، كان الحصول على عملات مشفرة صعبًا ومكلفًا كما هو الحال مع الدولارات الأمريكية.4

دراسة حالة: أفريقيا — التجارة العابرة للحدود — شركة أزا للوساطة المالية

  • التجربة موضوع الدراسة: بدأت المصرفية إليزابيث روسيلو تبادل العملات الأفريقية من غرفة معيشتها باستخدام عملة البتكوين بوصفها قاسمًا مشتركًا أرخصَ وأسرعَ، وذلك نظرًا إلى الإحباط الذي استحوذ عليها من عجز المصدرين في كينيا أو أوغندا أو تنزانيا عن عَقد صفقات مع المستوردين في نيجيريا أو السنغال أو جنوب أفريقيا من دون تكبُّد تكاليف تحويل المدفوعات أولًا إلى الدولار الأمريكي ووقوع تأخير في هذا التحويل.
  • سير العملية: توظِّف شركة أزا الآن ما يفوق ٢٠٠ تاجر عملة وموظفين آخرين في مكاتب في لاجوس، ونيروبي، ولندن، وكامبالا، وداكار، ومدريد، وأكرا، وجوهانسبرج. وتُجرى شهريًّا من خلال أزا عمليات تبادل بين عملات أفريقية تزيد قيمتها عن ١٠٠ مليون دولار أمريكي، مما يجعلها أكبر وسيط عملات غير مصرفي في القارة. حاليًّا، قلة قليلة من عمليات التبادل تتضمَّن عملات بتكوين. وبعد أن أنشأت من الصفر أزواجًا من العملات الأفريقية، أصبح لدى أزا الآن حجمٌ كافٍ من المعاملات يسمح لها بالتبادل المباشر للعملات.
  • التقييم: أكثر شيء مذهل بشأن رحلة أزا هو الاستفادة من سلسلة الكتل بوصفها عاملًا محفِّزًا لإنشاء البنية التحتية — المالية في هذه الحالة. وفي حين أن النتيجة النهائية كان عليها أن تتطور لما يتجاوز سلسلة الكتل، لم يكن هذا ممكنًا من دون أن تُنشَأ أولًا السوق التي تستخدم البتكوين. ثاني أكثر شيء مذهل هو أن أزا شركة ربحية — وليس هناك الكثير من تلك الشركات بين مجموعة الشركات الناشئة في مجال سلسلة الكتل. وأن يحدث هذا في أفريقيا فإنه لأمرٌ عظيم.

ربما تبدو العملات المشفرة جذابة على المستوى الفردي مقارنةً بالعملة المحلية بوصفها مخزنًا للقيمة، إلا أن أي انتقال كبير للودائع من البنوك إلى مَحافظ العملات المشفرة الخاصة سوف يزعزع الاقتصادَ كله بشدة. قد يتسبَّب تراجع نمو الودائع البنكية في اعتراض سبيل النمو الاقتصادي عن طريق تقليل الإمداد الائتماني من جانب البنوك. في أغلب الاقتصادات، تُعد البنوك القناةَ الأساسية إلى الوساطة الائتمانية في الاقتصاد الفعلي، وإلى تحويل المدخَّرات المودعة من الأُسر والشركات إلى رأس مالٍ حتى تسمح للشركات بالنمو (على سبيل المثال، بتوفير قروض للشركات)، ولتمكين الأُسر من الإسراع في وتيرة استهلاكهم (على سبيل المثل، بتقديم قروض عقارية، وقروض سيارات). لا تزال النُّظم الموازية للعملات المشفرة بدائيةً للغاية ولا تُعد إلى الآن من الخيارات الجديرة بالثقة.

إن تدفُّق رأس المال من وديعةٍ بعملة رسمية إلى رأس مالٍ مقترَض ثم إلى فائدةٍ والعكس، لم يُطور بعدُ في أي نظامٍ للعملات المشفرة. فتطوير مثل تلك النُّظم للعملات المشفرة سيستغرق وقتًا. ومع ذلك، هذا يُعد تحديًا على المدى القصير نظرًا لأنه لا يزال جاريًا تطويرُ آلية استخدام النُّظم الائتمانية داخل وبين العملات المشفرة وأُطر العمل الأشمل المعتمدة على سلسلة الكتل. وهي ربما توفِّر خيارًا أفضل للمدخرين الذين لديهم استعداد أكبر نسبيًّا للمخاطرة. وظهور عملة رقمية يدعمها بنكٌ مركزي قد يمنح مصداقية تُستَقى من دعم البنك المركزي لأحد الأصول المشفرة ويعجِّل من تبنيها.

دراسة حالة: سيشل — الأسواق المالية — بورصة ميرج

  • التجربة موضوع الدراسة: بحثَ المؤسِّسان المشاركان بوبي برانتلي وإد توي عن طريقةٍ لتنفيذ العمليات على نحوٍ أكثرَ كفاءة لخدمة الاستثمارات والعروض العامة الأولية الأصغر حجمًا، وذلك نظرًا إلى إدراكهما أن البورصات الرئيسية مكلِّفة ومعقَّدة للغاية في أغلب الأحيان بوصفها وسيلةً لجمع الأموال أو الاستثمار المباشر.
  • آلية العمل: كان الحل الذي طرحاه هو استخدام تقنية سلسلة الكتل كأداة لتسجيل الملكية على هيئة أوراق مالية رقمية أو رموز أوراق مالية. وبقيامهما بذلك، تمكَّنا من خفض تكاليف الإجراءات الإدارية المتعددة الخاصة ببناء بورصةٍ عابرة للحدود ذات منتجات متعددة، وعملاتٍ متعددة تستطيع أن تصل إلى قاعدةٍ أوسع من المستثمرين.
  • سير العملية: أصبحت بورصة ميرج عام ٢٠١٩ أولَ بورصة على مستوى العالم تدرِج رموزَ أوراق مالية. بدأت البورصة بإدراج أوراقها المالية لاختبار الوضع، ثم انطلقت منذ ذلك الحين في إدراج رموز أوراق مالية لشركاتٍ أخرى. وهي تخطِّط لقبول فئاتِ أصولٍ جديدة — وفي ذلك سيارة فيراري تي دي إف بقيمة تصل إلى ١,١ مليون دولار مجزأة إلى مليون رمز ورقة مالية قيمةُ كلِّ منها دولار واحد. تضاعف رأس المال الخاص بميرج أربع مرات عام ٢٠١٩ — وهو معدل نمو لا يُضاهى إلا من قِبل البورصة السعودية «تداول»، التي أدرجت شركة أرامكو السعودية كأعلى الشركات قيمةً في العالم — وكانت أسرع البورصات نموًا على مستوى العالم في عام ٢٠٢٠. وهذا شيء ليس بسيئ لدولةٍ يقِل عدد نسماتها عن المليون.
  • التقييم: مع أن البورصات في لندن وزيورخ قد تحدثت عن إدراج رموز أوراق مالية مماثلة، فمن الجدير بالملاحظة أن جزيرة سيشل المتناهية في الصِّغر كانت أول مَن قامت بذلك — وهي الدولة الجديرة بالملاحظة لا سيما بسبب موقعها قُبالة الساحل الأفريقي الشرقي. وإلى جانب كونه سببًا في انخفاض الناتج القومي الإجمالي، فإن استثمار الأفارقة في البورصات المحلية الخاصة بهم ضئيلُ القيمة نتيجةَ ارتفاع رسوم المعاملات والوساطة. تثبت بورصة ميرج كيف بإمكان تقنية سلسلة الكتل أن تسهِّل سيرَ العمليات بدءًا من الإصدار وحتى تصويت المساهمين، وتنشئ نقطةَ وصول مناسبة إلى النُّظم البيئية التي تعطي أولويةً للعمل عبر الهواتف المحمولة في الأسواق الناشئة.

ماذا عن عملة «ديم» الخاصة بشركة فيسبوك؟

مثالٌ شائق عمَّا تحمِله العملات المشفرة من إمكاناتٍ هو عملة «ديم» الخاصة بشركة فيسبوك، التي صُمِّمت بوصفها عملةً مستقرة يدعمها الدولار الأمريكي حتى يستعين بها مستخدمو فيسبوك في إجراء المعاملات. تؤكد فيسبوك أن إحدى المزايا الرئيسية لعملة ديم ستكون هي مساهمتها في تلبية الاحتياجات المالية لما يزيد على مليار فرد في الدول النامية لا يتمتعون بإمكانيةِ امتلاك حساب بنكي.5 مع ذلك، فإن الخدمات المالية الحالية التي تقوم بعملياتها عبر الهاتف المحمول، بدءًا من إم-بيسا في كينيا وحتى بي كاش في بنجلاديش، تسهم بالفعل في سدِّ هذه الاحتياجات. ففي أغلب تلك الأسواق، يمكن لأي شخص شراءُ شريحة هاتف محمول مسبقة الدفع، وبإمكان أي فرد بشريحة هاتفٍ التحميلُ والإنفاق باستخدام النقود الرقمية المربوطة بهاتفه المحمول. ميزة أخرى لعملة ديم ربما تحملها إلى العالم النامي هي ارتباطها بالدولار الأمريكي، شريطة أن يستطيع فيسبوك الاستمرار في إثبات امتلاكه ما يكفي من الدولارات الأمريكية لدعم عملات الديم التي قد أصدرها.

رؤية خبير: الشمول المالي

كلاوديو ليسكو هو مدير في شركة كونسينسيس، وهي مقدِّم حلول تعتمد على سلسلة كتل الإيثريوم.

(١) ما الفكرة الرئيسية وراء الشمول المالي؟

بالنسبة إلى ٧ ,١ مليار فرد حول العالم، فإن الخدمات البنكية التقليدية ليست خيارًا متاحًا — سواء كان السبب في ذلك هو انعدام الثقة في البنوك، أو قلة الوصول إلى الخدمات المالية في المناطق الريفية التي يضعُف فيها الاتصال بالإنترنت، أو التكلفة العالية للرسوم، أو لعدم القدرة على تقديم المستندات الرسمية اللازمة لفتح حساب بنكي (مثل بطاقة تحديد الهوية، وغيرها). وهذا يجعل الممارسات المالية الجيدة مثل الادخار، وتكوين الثروات، وحماية الأصول والمشاركة في الاقتصاد الرقمي، بعيدةَ المنال.

يبدأ الشمول المالي بوصولٍ يتسم بالكفاءة، والمسئولية، والاستدامة إلى حسابِ معاملات يتيح للأفراد تخزينَ الأموال، وإرسال مدفوعاتٍ واستقبالها. ومع أن هذا قد يبدو أمرًا تافهًا في الدول المتقدمة، فهناك نسبة كبيرة من السكان في الأسواق الناشئة محرومة من الخدمات المالية الأساسية أو تتمتع بإمكانية وصول محدودة وغير فعَّالة إليها، وهذا له عواقب سلبية على الرفاهية المالية والتنمية الاقتصادية. إن الوصول إلى خدماتٍ مالية آمنة، وممتثِلة إلى القوانين، وفي المتناول أمرٌ يمكِّن أيَّ فردٍ من المشاركة في الاقتصادين المحلي والعالمي على حدٍّ سواء.

في حالاتٍ كثيرة، أخفقت المؤسسات المالية ومقدمو خدمات الدفع في توفير خدمات دفعٍ فعَّالة واقتصادية داخل الأسواق الناشئة. ففي الدول النامية، حيث يُعد الدفع النقدي هو الأساس، لا تتوفَّر غالبًا البنية التحتية المناسبة للمدفوعات الرقمية. إضافة إلى ذلك، تمثِّل التحويلات المحلية والدولية نسبةً مهمة جدًّا من المعاملات المالية في تلك المناطق؛ ولذا تستغل الجهات الوسيطة المحلية والدولية سيطرتها المطلقة على البنية التحتية للنُّظم المالية التقليدية لفرض رسوم عالية على خدمات تحويل أموالٍ تتسم على الأغلب بأنها بطيئة ولا يُعتمد عليها وغير آمنة.

في هذا السيناريو، توفِّر بروتوكولات سلسلة الكتل قنواتِ دفعٍ بديلة يمكن أن تتيح وصولًا أكثر «ديموقراطية» وكفاءة وبتكلفةٍ معقولة إلى خدمات إجراء المعاملات، مما يؤدي إلى تجاوز الكثير من الجهات الوسيطة الحالية وتوفير حسابات معاملات على نحوٍ مباشر إلى الأفراد الأكثر احتياجًا إليها.

بدأ الكثير من المؤسسات المالية والمنظمات غير الحكومية وشركات التقنية المالية الناشئة العالمية مشروعاتٍ للاستفادة من الحلول التي توفِّرها بروتكولات سلاسل الكتل في إدخال الشمول المالي في الأسواق الناشئة.

(٢) ما بعض الحلول التي طُبقت في البلدان النامية؟

أحد الأمثلة هو «سيمبو»، وهو برنامجُ إعانة نقدية وبقسائم شراء معتمِد على سلسلة كتل الإيثريوم والذي صُمم لإجراء تحويلات نقدية رقمية في بعضٍ من المناطق النائية جدًّا. إلى الآن، استُخدِم سيمبو بنجاحٍ لتوزيع عشرات الآلاف من الدولارات في المرة الواحدة إلى مئات الأفراد — في غضون دقائق — وبتكلفةٍ تكاد لا تُذكر. استعانت منظمة أوكسفام بهذا البرنامج من أجل إعانة آلاف المنتفعين، حيث يُستخدم في تحويل النقود الرقمية عبر الرسائل النصية القصيرة، أو تطبيق أندرويد، أو بطاقة مزودة بإمكانية الاتصال القريب المدى. صُمِّم هذا التطبيق وفي ذهنِ مطوريه المجتمعات المهمَّشة أو المحرومة، وبالفعل جرت تجربتُه في سوريا، واليونان، وفانواتو، وكينيا، وأستراليا.

مثال آخرُ يتمثل في الفلبين، وهي دولة ١٠٪ من ناتجها المحلي الإجمالي يأتي من التحويلات الدولية التي يرسلها العاملون في الخارج إلى أفراد عائلاتهم. أنشأ بنك يونيون بَنك منصةَ دفع بنكي في المناطق الريفية تتميز بأنها لا مركزية واقتصادية وفورية وتعمل على نحوٍ مستقل بعيدًا عن البنى التحتية للدفع والجهات الوسيطة الحالية مثل خدمة «سويفت» ونظام «فِيلباس» الخاصة بالفلبين. تربط المنصة البنوك الريفية والبنوك التجارية القومية أيضًا بالبنك المركزي، مما يساعد البنوك النائية على أن تندمج مع النظام المالي المحلي، وفي الوقت نفسه يحسِّن أيضًا من وصول المواطنين المحليين إلى الخدمات البنكية.

(٣) كيف تسير العملية بأكملها؟

تُقدَّم إلى الأفراد والشركات مَحافظَ رقمية معتمِدة على سلسلة الكتل يمكن الوصولُ إليها عبر برامجَ تصفُّح الإنترنت، أو الهواتف المحمولة — أو بطاقات ذكية للأفراد القاطنين في المناطق الريفية أو التي يكون الاتصالُ فيها بالإنترنت ضعيفًا. تسمح تلك المَحافظ للأفراد بسهولة تخزين عملات رقمية أو رموز تمثِّل عملات محلية وأجنبية، وإرسالها واستقبالها. ويمكن استخدام المَحافظ في إتمام عمليات الدفع المباشر بين الشركات، وبين المستهلكين، وبين الشركات والمستهلكين، ويمكن أيضًا إعدادها لتمكين نقاط البيع المحلية باستخدام رموز الاستجابة السريعة أو إمكانية الاتصال القريب المدى.

بفضل الترابط العالمي الذي وفَّرته بروتوكولات سلسلة الكتل وبنيتها التحتية اللامركزية، يمكن تنفيذ المعاملات المحلية والعابرة للحدود على نحو شبه فوري وبنسبة بسيطة من تكلفة العمليات البطيئة والمكلِّفة التي تديرها الجهات الوسيطة التقليدية حاليًّا. ويمكن أن يحلَّ على الأغلب محلَّ هذه النُّظم الحالية للدفع العقودُ الذكية التي تعمل على أتمتة قواعد توزيع المدفوعات وإنفاذ الامتثال وضوابط المراقبة.

في كثيرٍ من الحالات، توفِّر أيضًا المؤسسات والمنظمات المحلية (مثل البنوك، والمنظمات غير الحكومية، ومكاتب البريد، والمتاجر الكبرى للبيع بالتجزئة) خدماتٍ تتيح للأفراد تحويلَ الرموز الرقمية إلى مبالغَ نقدية، والعكس صحيح، مما يفسح المجال أمام العملات الرقمية لدخول الاقتصاد مرةً أخرى حسب ما يقتضيه الحال.

(٤) ما الذي أُنجر حتى الآن في هذا المجال؟

إن المشروعات التجريبية، مثل مشروع «أَنبلوكد كاش» المقدَّم من منظمة أوكسفام، قد أظهرت جدوى تلك الحلول ومزاياها وقدَّمت أساسًا لتكرارها والتوسع فيها.

في الوقت نفسه، تدرُس مشروعاتُ العملات الرقمية للبنوك المركزية التوزيعَ المجزأ لتلك العملات، وتنشئ نماذج من شأنها أن تسمح بإجراء عملياتِ توزيع نقدي مباشر إلى المَحافظ الفردية. ومع أن عمليات التطوير في هذه المجالات لا تزال في مراحلها الأولى، فإنه ثمة تركيز متزايد على مثل هذه الحلول لأنها قد تُيسِّر من التوزيع المباشر للإعانات، وهو شيء ثبتت عدم كفاءته الشديدة خلال جائحة كوفيد-١٩.

صار الآن مشروع «آي تو آي» الخاص بيونيون بَنك أمرًا واقعًا وهو يعمل على تسهيل التحويلات عبر الجُزر النائية والمناطق الريفية بتكلفةٍ بسيطة وبتجربةِ استخدام محسَّنة بصورة ملموسة.

(٥) ما التحدي الأكبر أمام تعميم تبني هذا التوجُّه؟

الوعي ومشاركة المعرفة. لا يزال هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة عن سلسلة الكتل والعملات الرقمية التي تعيق تبني هذا التوجه. من المهم للغاية أن نتأكد من أننا نفيد الاقتصادات المحلية (ولا نستفيد منها) عن طريق التعرف على احتياجات أصحاب المصالح المحليين، وتمكينهم من بناء حلولٍ يمكن أن يحسِّنوها، والتشديد على إتاحة الوصول وبساطة تجربة المستخدم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤