حبوبة

كانت أولنكا،١ ابنة المساعد الاعتباري المتقاعد بليميانيكوف، جالسة في فناء منزلهم على درج المدخل، وقد استغرقت في التفكير. كان الجو حارًّا، والذباب يضايقها بإلحاح، وكان من المبهج جدًّا التفكير في اقتراب المساء. ومن الشرق زحف غمام داكن ممطر، وكانت الرطوبة تتناهى أحيانًا من هناك.

وفي وسط الفناء وقف كوكين؛ المتعهد وصاحب حديقة ملاهي «تيفولي»، الذي كان يسكن جناحًا هنا في الفناء، وهو يتطلع إلى السماء.

وقال بأسًى: ثانيةً! ستمطر ثانيةً! كل يوم مطر، كل يوم مطر، كأنما عمدًا! هذا هلاك! هذا خراب! كل يوم خسائر رهيبة!

وأشاح بيديه ومضى يقول مخاطبًا أولنكا: ها هي ذي حياتنا يا أولجا سيميونفنا. شيءٌ يُبكي! تعمل وتبذل جهدك، وتتعذب، ولا تنام الليل، وتفكر دائمًا في التحسين؛ فما النتيجة؟ من ناحيةٍ هناك الجمهور الجاهل المتوحش. أقدم له أفضل أوبريت، أفضل مسرحية سحرية، أروع المغنين، ولكن هل هو بحاجة إلى ذلك؟ هل هو يفقه شيئًا في ذلك؟ إنه بحاجة إلى مولد! بحاجة إلى أشياء مبتذلة! ومن ناحية أخرى فلتنظري إلى الطقس. المطر كل مساء تقريبًا. منذ أن بدأ يسقط في العاشر من مايو وهو مستمر طوال مايو ويونيو، شيء فظيع! الجمهور لا يحضر، ولكن ألست أدفع الإيجار؟ ألست أدفع أجور الممثلين؟

وفي اليوم التالي قبيل المساء زحف الغمام ثانية، فقال كوكين وهو يقهقه بهستيرية: ثم ماذا؟ فليكن! فليغرق الحديقة كلها، فليغرقني أيضًا! فليحل بي البؤس في هذه الدنيا وفي الآخرة! فليشكني الممثلون إلى المحكمة! وهل تهمني المحكمة؟ فليحكموا عليَّ بالأشغال الشاقة، في سيبيريا! لتكن حتى المشنقة! ها … ها … ها!

وفي اليوم الثالث نفس الشيء.

كانت أولنكا تصغي إلى كوكين في صمت، وبجدية، وأحيانًا تغرورق عيناها بالدموع. وفي نهاية الأمر أثرت فيها مصائب كوكين، فأحبته. كان قصير القامة، هزيلًا، بوجه أصفر وصدغين ممشطين، يتكلم بصوت «تينور» ضعيف، وعندما يتكلم يلتوي فمه. وكان اليأس مكتوبًا على وجهه دائمًا، إلا أنه بعث فيها شعورًا حقيقيًّا عميقًا. كانت على الدوام تحب أحدًا ما، ولا تستطيع أن تعيش بدون ذلك. في الماضي أحبت أباها الذي أصبح يجلس الآن مريضًا في مقعد، في غرفة مظلمة، ويتنفس بصعوبة. وأحبت خالتها التي كانت تأتي من بريانسك أحيانًا، مرة كل عامين. وقبل ذلك، عندما كانت تدرس في المدرسة المتوسطة، أحبت مدرس اللغة الفرنسية. كانت آنسة هادئة، طيبة حنونًا، بنظرة وديعة ناعمة، وفي غاية الصحة. وعندما ينظر الرجال إلى خديها الممتلئين المتوردين، وإلى عنقها الأبيض الناعم ذي الشامة الدكناء، وإلى ابتسامتها الطيبة الساذجة التي ترتسم على وجهها عندما تسمع شيئًا سارًّا، كانوا يفكرون: «نعم، لا بأس بها …» ويبتسمون هم أيضًا، أما النساء فلا يتمالكن أنفسهن في أثناء الحديث من الإمساك بيدها والقول في غمرة السرور: يا حبُّوبة!

كان البيت الذي تعيش فيه منذ أن وُلدت وكتب باسمها في الوصية يقع في طرف المدينة، في محلة الغجر، غير بعيد عن حديقة ملاهي «التيفولي». وفي الأمسيات والليالي كان يسمع في الحديقة عزف الموسيقى وانفجارات الصواريخ النارية المزمجرة، فكان يخيل إليها أن كوكين يحارب قدره، ويهاجم عدوه الرئيسي: الجمهور اللامبالي؛ فكان قلبها يخفق بلذة، ويجافيها النوم، وعندما يعود كوكين قبيل الصباح كانت تدق خفيفًا على نافذتها من داخل غرفة نومها، وتبتسم له برقة، كاشفة له عبر الستارة عن وجهها وإحدى كتفيها فقط.

وخطبها، وعقدا قرانهما. وعندما رأى كما يجب عنقها وكتفيها الممتلئتين العفيتين، أشاح بيديه ودمدم: يا حبُّوبة!

كان سعيدًا، ولكن لما كان المطر يسقط يوم الزفاف ثم طوال الليل، لم يفارق وجهه تعبير الأسى.

وعاشا بعد الزفاف حياة طيبة. كانت تجلس في شباك التذاكر لديه، وتراقب النظام في الحديقة، وتسجل النفقات وتصرف الرواتب، وكان خداها المتوردان وابتسامتها اللطيفة الساذجة التي تشبه الإشعاع تومض تارة في شباك التذاكر وتارة وراء الكواليس، وتارة في البوفيه. وأصبحت تقول لمعارفها إن أروع وأهم وألزم شيء في الدنيا هو المسرح، وإنه لا يمكن أن تحصل على المتعة الحقيقية وأن تصبح مثقفًا وخيِّرًا إلا في المسرح.

– ولكن هل يفهم الجمهور ذلك؟ — كانت تقول — إنه بحاجة إلى مولد! بالأمس قدمنا «فاوست بالمقلوب»، وكانت جميع المقصورات تقريبًا خالية، ولو أننا، أنا وفانتشكا، قدمنا أي شيء مبتذل، لكان المسرح، صدقوني، ممتلئًا عن آخره. غدًا سنقدم أنا وفانتشكا «أورفيوس في الجحيم»، تعالوا.

وكل ما يقوله كوكين عن المسرح والممثلين كانت هي تردده. كانت مثله تحتقر الجمهور لعدم اكتراثه بالفن ولجهله، وتتدخل في البروفات وتصحح الممثلين، وتراقب سلوك الموسيقيين. عندما تكتب الجريدة المحلية بعدم استحسان عن المسرح تبكي ثم تذهب إلى إدارة التحرير للتفاهم في الأمر.

وكان الممثلون يحبونها ويسمونها «أنا وفانتشكا» و«حبوبة». وكانت ترق لحالهم وتقرضهم قروضًا صغيرة، وإذا حدث وخدعوها تبكي فقط بصوت خافت لكنها لا تشكو لزوجها.

وفي الشتاء أيضًا عاشا حياة طيبة. استأجرا مسرح المدينة لموسم الشتاء وكانوا يؤجرونه لفترات قصيرة تارة لفرقة أوكرانية، وتارة لحاوٍ، وتارة للهواة المحليين. وسمنت أولنكا وأشرقت كلها سرورًا، أما كوكين فنحف واصفر واشتكى من الخسائر الرهيبة، رغم أن الأمور طوال الشتاء سارت على ما يرام. وكان يسعل ليلًا فتسقيه شراب التوت ومنقوع زهر الزيزفون، وتدلكه بالكولونيا وتدثره في شيلانها الناعمة.

– كم أنت رائع! — كانت تقول بكل إخلاص وهي تداعب شعره — كم أنت حلو!

وفي الصيام الكبير سافر إلى موسكو لجمع فرقة تمثيل، فلم تستطع بدونه أن تنام، وجلست طوال الليل بجوار النافذة تحدق في النجوم. وفي تلك الأثناء كانت تقارن نفسها بالدجاجات التي لا تنام أيضًا في الليل وتشعر بالقلق إذا لم يكن الديك في الحظيرة. وتأخر كوكين في موسكو وكتب يقول إنه سيعود في عيد الفصح، وأصدر في رسائله تعليماته بخصوص «التيفولي». ولكن في ساعة متأخرة من المساء، قبيل أسبوع الآلام، دوى طرق مشئوم على البوابة. كان أحد ما يدق الباب وكأنما يضرب برميلًا: بوم! بوم! بوم! وركضت الطاهية الناعسة لتفتح وهي تطرطش بقدميها الحافيتين في البرك.

– افتحوا، اعملوا معروفًا — قال شخص ما من وراء البوابة بصوت غليظ — وصلتكم برقية!

كانت أولنكا تتلقى برقيات من زوجها قبل ذلك، ولكن الذهول تملكها الآن لسبب ما. وفضت البرقية بأصابع مرتعشة وقرأت التالي:

«تُوفِّي اليوم إيفان بتروفتش وفاةً مفاجئة في انتظار التعليمات عاجكا الدفد الثلاثاء.»

هكذا كان مكتوبًا في البرقية «الدفد»، ثم تلك الكلمة غير المفهومة «عاجكا»، والتوقيع لمخرج فرقة الأوبريت.

وأعولت أولنكا: يا حبيبي الغالي! يا فانتشكا العزيز، يا حبيبي الغالي! لماذا التقيت بك؟ لماذا عرفتك وأحببتك؟ لمن تركت أولنكاك المسكينة، المسكينة التعيسة؟

دفن كوكين يوم الثلاثاء، في موسكو، في مقابر فاجانكوفو. وعادت أولنكا يوم الأربعاء، وما إن دخلت البيت حتى ارتمت على السرير وأجهشت بالبكاء بصوت عالٍ سُمع في الخارج وفي الأفنية المجاورة.

وقالت جاراتها وهن يرسمن علامة الصليب: الحبوبة! أولجا سيميونفنا الحبوبة، انظروا، كيف تتألم!

بعد ثلاثة أشهر كانت أولنكا عائدة من صلاة الظهر، حزينة، مجللة بالسواد. وتصادف أن سار بجوارها أحد جيرانها، فاسيلي أندرييتش بوستوفالوف، رئيس مخزن الخشب التابع للتاجر بابكايف، وكان عائدًا من الصلاة أيضًا. كان في قبعة من القش، وفي صديري أبيض بسلسلة ذهبية، ويبدو أشبه بإقطاعي منه بتاجر.

قال لها برزانة وبنبرة تعاطف: لكل شيء نظامه. فإذا مات أحد من أقربائنا فمعنى ذلك مشيئة الله، وعلينا في هذه الحالة أن نتذرع بالصبر ونرضى بها.

وأوصل أولنكا إلى باب الفناء ثم ودعها ومضى إلى داره. وبعد ذلك ظل صوته الرزين يتردد في أذنيها طول النهار وما تغمض عينيها حتى تتراءى لها لحيته السوداء. لقد أعجبها غاية الإعجاب. ويبدو أنها هي أيضًا قد تركت في نفسه أثرًا؛ إذ جاءت إليها بعد فترة قصيرة لتشرب القهوة سيدة كهلة لم تكن تعرفها إلا قليلًا، وما إن جلست إلى المائدة حتى تحدثت على الفور عن بوستوفالوف، وإنه رجل طيب، رصين، وإن أي فتاة تقبله زوجًا عن طيب خاطر. وبعد ثلاثة أيام زارها بوستوفالوف نفسه. لم يمكث كثيرًا، حوالي عشر دقائق، وتحدث قليلًا، ولكن أولنكا أحبته، أحبته إلى درجة أنها لم تنم طول الليل وهي تحترق وكأنها مصابة بالحمى، وفي الصباح أرسلت تستدعي السيدة الكهلة. وسرعان ما خطبت، ثم عقد القران.

وعاش بوستوفالوف وأولنكا بعد الزفاف حياة طيبة. كان يبقى في مخزن الخشب عادة حتى الغداء، ثم يمضي لأعماله، فتحل محله أولنكا وتبقى في المكتب حتى المساء وتسجل الحسابات وتصرف البضاعة.

وتقول للمشترين والمعارف: أسعار الخشب ترتفع الآن عشرين في المائة كل سنة. عفوًا، كنا من قبل نتاجر في الخشب المحلي، أما الآن فإن فاسيتشكا مضطر أن يسافر كل سنة إلى محافظة موجيليوف لشراء الخشب. وأي رسوم! — تقول مغطية برعبٍ كلا خديها براحتيها — أي رسوم!

خيل إليها أنها تتاجر في الخشب منذ زمن بعيد، وأن أهم وألزم شيء في الحياة هو الخشب، وسمعت شيئًا عزيزًا، مؤثرًا في هذه الكلمات: عِرق، أرومة، لوح، بطانة، لطزان، بندقي، سقالة، تربيعة … وفي الليل تتراءى لها في المنام جبال من الألواح والعروق، وقوافل طويلة بلا نهاية من العربات التي تنقل الخشب إلى مكان بعيد خارج المدينة. ورأت في الحلم فوجًا كاملًا من الجذوع بطول اثنتي عشرة ذراعًا، وقطر خمسة فيرشوكات٢ للجذع يسير منتصبًا ويهاجم مخزن الخشب، وتصطدم الجذوع والعروق والترابيع فيصدر عنها صوت أجوف للخشب الجاف، وتتساقط كلها ثم تنهض ثانية وهي تتكدس فوق بعضها. وتصرخ أولنكا في المنام فيقول لها بوستوفالوف برقةٍ: أولنكا، ماذا بكِ يا عزيزتي؟ صلِّبي.

وكانت لها نفس الأفكار التي كانت لزوجها. فإذا ما ظن أن الجو في الغرفة حار أو أن التجارة أصبحت الآن راكدة فإنها تظن كذلك. ولم يكن زوجها يحب أي تسليات، وفي العيد يبقى في البيت، وهي أيضًا.

ويقول معارفها: أنتِ دائمًا في البيت أو في المكتب. هلا ذهبتِ إلى المسرح أو إلى السيرك يا حبوبة.

فترد برزانة: ليس لدينا أنا وفاسيتشكا وقت للذهاب إلى المسارح، نحن أناس عمل، مشغولون عن هذه التوافه. أيُّ خير في هذه المسارح؟

في أيام السبت كانا، بوستوفالوف وهي، يذهبان إلى صلاة المساء، وفي أيام الأعياد إلى القداس المبكر، ويعودان من الصلاة متجاورين، بوجهين متأثرين، وتفوح من كليهما رائحة زكية، ويهفهف فستانها الحريري بصوت لطيف. وفي البيت يشربان الشاي مع الخبز الدسم ومختلف أنواع المربى، ثم يتناولان الكعكة. وكل يوم في الظهر تفوح في الفناء وخلف البوابة في الشارع روائح شهية من حساء الكرنب ولحم الضأن أو البط المحمر، والسمك في أيام الصيام، فلا يمكن أن يمرَّ أحد بجوار البوابة إلا وتتفتح شهيته للأكل. وفي المكتب كان السماور يغلي دائمًا، وكانا يضيِّفان الزبائن شايًا بالسميط الطازج. ويتردد الزوجان على الحمام مرة في الأسبوع، ويعودان من هناك متجاورين. بوجهين أحمرين.

وكانت أولنكا تقول لمعارفهما: لا بأس، نعيش جيدًا، الحمد لله. فليهب الله الآخرين عيشة كعيشتنا أنا وفاسيتشكا.

وعندما كان بوستوفالوف يرحل إلى محافظة موجيليوف لشراء الأخشاب تشعر بوحشة شديدة ولا تنام الليل وتبكي، وأحيانًا كان يزورها في المساء طبيب الفوج البيطري سيميرنين، الشاب، القاطن لديها في الجناح. كان يروي لها شيئًا ما أو يلعب معها الورق، فكان ذلك يسرِّي عنها. وكانت أطرف الروايات هي تلك التي يتحدث فيها عن حياته العائلية. كان متزوجًا وله ابن، ولكنه انفصل عن زوجته لأنها خانته، وأصبح الآن يمقتها ويرسل لها كل شهر أربعين روبلًا للإنفاق على ابنه. وكانت أولنكا إذ تسمع ذلك تتنهد وتهز رأسها، وتشعر بالرثاء له.

– طيب، ليحرسك الله — كانت تقول له وهي تودعه وتمضي معه بالشمعة حتى الدرج — شكرًا على مشاركتك لي وحشتي، فلتهبك العذراء الصحة.

كانت تتحدث برزانة، بحكمة، مقلدة زوجها. وعندما يغيب البيطري وراء الباب في الأسفل تناديه قائلة: أتدري يا فلاديمير بلاتونيتش؟ هلا تصالحت مع زوجتك. هلا سامحتها ولو من أجل ابنك! … لا بد أن الصبي يفهم كل شيء.

وعندما يعود بوستوفالوف تحدثه بصوت خافت عن البيطري وحياته العائلية التعيسة، فيتنهدان … ويهزان رأسيهما ويتحدثان عن الصبي الذي لا شك يشتاق إلى أبيه، ثم وفقًا لتسلسل غريب في الأفكار يقف كلاهما أمام الأيقونة ويركعان بشدة ويدعوان الله أن يرزقهما أطفالًا.

وهكذا عاش آل بوستوفالوف في هدوء وسكينة وحب ووفاق تام ست سنوات. ولكن حدث ذات شتاء أن خرج فاسيلي أندرييتش من المخزن ليصرف خشبًا، بعد أن شرب شايًا ساخنًا، فأصيب بنزلة برد ومرض.

وعالجه أفضل الأطباء، لكن المرض تغلب عليه فمات بعد أربعة أشهر. ومرة أخرى أصبحت أولنكا أرملة.

– لمن تركتني يا عزيزي الغالي؟ — انتحبت بعد أن دفنت زوجها — كيف سأعيش الآن بدونك، أنا البائسة المسكينة؟ أيها الطيبون فلترقوا لحالي، أنا اليتيمة المقطوعة.

أصبحت ترتدي فستانًا أسود بأشرطة الحداد، وتخلت تمامًا عن القبعة والقفاز، وكانت لا تخرج من بيتها إلا نادرًا وفقط إلى الكنيسة أو إلى قبر زوجها، وعاشت في بيتها كراهبة. وفقط بعد مرور ستة أشهر نزعت أشرطة الحداد وأصبحت تفتح شيش النوافذ. وأحيانًا كانوا يرونها صباحًا وهي في طريقها إلى السوق لشراء المئونة وبصحبتها طاهيتها، ولكن لم يعد أحد يعرف كيف تعيش الآن وما الذي يجري في بيتها إلا تخمينًا. كانوا يخمنون ذلك مثلًا من رؤيتهم لها جالسة في حديقتها الصغيرة تشرب الشاي مع البيطري بينما يقرأ لها الجريدة، ومن قولها لإحدى معارفها عندما التقت بها في مكتب البريد: ليس لدينا في المدينة رقابة بيطرية سليمة، ولهذا فالأمراض كثيرة. كثيرًا ما نسمع أن الناس يمرضون من اللبن ويصابون بالعدوى من الخيول والأبقار. في الحقيقة ينبغي أن نهتم بصحة الحيوانات الداجنة مثلما نهتم بصحة الناس.

كانت تردد أفكار البيطري، وأصبح رأيها في كل شيء الآن مثل رأيه. كان واضحًا أنها لا تستطيع أن تعيش ولو سنة واحدة دون ارتباط، وقد وجدت سعادتها الجديدة في جناح بيتها. ولو كانت امرأة غيرها لأدانوها، ولكن لم يكن بوسع أحد أن يفكر بسوء في أولنكا، وكان كل شيء في حياتها مفهومًا تمامًا. ولم تذكر لا هي ولا البيطري لأحد شيئًا عن التغير الذي طرأ على علاقتهما، وحاولا إخفاءه ولكنهما أخفقا في ذلك … فليس من الممكن أن تكون لدى أولنكا أسرار. وعندما كان يزوره ضيوف، من زملائه في الفوج، كانت أولنكا، وهي تصب لهم الشاي أو تقدم العشاء، تشرع في الحديث عن طاعون البقر وعن مرض اللؤلؤ، وعن مجازر المدينة، فكان يشعر بالحرج الشديد، وبعد انصراف الضيوف يقبض على ذراعها ويصيح بغضب: ألم أطلب منك ألا تتحدثي فيما لا تفهمينه؟! أرجوك ألا تتدخلي عندما نتحدث نحن البيطريين فيما بيننا. هذا في النهاية شيء ممل!

أما هي فكانت تنظر إليه بذهول وقلق وتسأله: فعمَّ إذن أتحدث يا فولودتشكا؟

وتعانقه وعيناها مغرورقتان، وتتوسل إليه ألا يغضب، ويظل كلاهما سعيدين.

إلا أن هذه السعادة لم تدم طويلًا. فقد رحل البيطري مع فوجه، رحل نهائيًّا؛ إذ نقل الفوج إلى مكان بعيد جدًّا، ربما إلى سيبيريا. وأصبحت أولنكا وحيدة.

كانت الآن وحيدة تمامًا. فقد تُوفِّي والدها منذ زمن بعيد، وأصبح مقعده مطوَّحًا في المخزن العلوي يكسوه الغبار وقد فقد أحد قوائمه. وهزلت أولنكا وقبحت، ولم يعد من يقابلها في الطريق ينظر إليها كما في السابق أو يبتسم لها. يبدو أن أفضل سنوات العمر قد ولت وأصبحت خلف ظهرها، وبدأت الآن حياة جديدة، مجهولة، يحسن ألا تفكر فيها. كانت أولنكا تجلس في أوقات المساء على الدَّرَج، ويتناهى إلى سمعها عزف الموسيقى وانفجار الصواريخ النارية في «التيفولي»، بيد أن ذلك لم يعد يثير لديها أي أفكار. وكانت تنظر بلا اكتراث إلى فنائها الخاوي دون أن تفكر أو ترغب في شيء، وعندما يأتي الليل تذهب إلى فراشها وترى في المنام فناءها الخاوي. وكانت تأكل وتشرب كأنما قسرًا.

أما المهم، وأسوأ ما في الأمر، أنه لم تعد لديها أي آراء. كانت ترى من حولها الأشياء، وتدرك كل ما يجري حولها، لكنها لم تكن قادرة على تكوين رأي في أي شيء ولا تعرف عما تتحدث. وما أفظع أن تكون بلا أي رأي! ترى مثلًا زجاجة أمامك، أو المطر يسقط، أو فلاحًا راكبًا عربة، ولكن لأي غرض هذه الزجاجة، أو المطر، أو الفلاح، وما مغزى ذلك؟ هذا ما لا تستطيع أن تقوله، ولن تستطيع ولو دفعوا لك ألف روبل. عندما كانت أولنكا مع كوكين وبوستوفالوف، ثم بعد ذلك مع البيطري، كان بوسعها أن تشرح كل شيء وتدلي برأيها في أي شأن مهما كان، أما الآن فكان في أفكارها وقلبها الخواء نفسه الذي في الفناء. وكان ذلك فظيعًا ومريرًا كأنما أكلت حنظلًا حتى الشبع.

اتسعت المدينة شيئًا فشيئًا في جميع الاتجاهات. وأصبحت محلة الغجر تُسمى الآن شارعًا، وفي المكان الذي كانت تقوم فيه حديقة ملاهي «التيفولي» ومخازن الأخشاب، قامت المنازل وظهرت عدة حارات. ما أسرع مرور الزمن! ازداد منزل أولنكا قتامة، وصدئ سطحه، ومالت الحظيرة وغطى الحسك والأرقطيون الشائك أرض الفناء. أما أولنكا نفسها فهرمت وقبحت. وفي الصيف تجلس على الدَّرَج وتشعر في نفسها كما في السابق بالخواء، والضجر ومرارة الحنظل، وفي الشتاء تجلس إلى النافذة وتنظر إلى الثلج. وما إن تهب أنفاس الربيع، أو تحمل الريح رنين أجراس الكنائس، حتى تنهال عليها فجأة ذكريات الماضي، وينقبض قلبها بلذة، وتنهمر من عينيها الدموع الغزيرة، ولكن ذلك لا يستمر غير دقيقة ومن بعدها الخواء، ولا تعود تدري لماذا تعيش. وتتودد إليها قطتها السوداء «بريسكا» وتهر بصوت ناعم، ولكن ملاطفة القطة هذه لا تحرك في نفس أولنكا شيئًا. فهل هذا هو ما تبغيه؟ إنها بحاجة إلى حب يملك كل كيانها، كل روحها وعقلها؛ حب يهبها الأفكار واتجاه الحياة، ويدفئ دمها الهرِم. فتنفض «بريسكا» السوداء عن حجرها وتقول لها بأسًى: امشي، امشي … ابتعدي عني!

وهكذا … يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، دون فرحة واحدة، دون أي رأي. وما تقوله الطاهية مافرا فهو حسن.

وذات يوم حار من شهر يوليو، قبيل المساء عندما ساقوا قطيع ماشية المدينة في الشارع فامتلأ الفناء بالغبار، طرق أحدهم البوابة فجأة. وذهبت أولنكا لتفتح بنفسها، وما إن نظرت حتى ذهلت: فخلف البوابة وقف البيطري سيميرنين، وقد أصبح أشيب، وفي بدلة مدنية. تذكرت فجأة كل شيء، فلم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء ووضعت رأسها على صدره دون أن تقول كلمة واحدة، ولم تلاحظ في قمة انفعالها كيف دخلا البيت معًا، وكيف جلسا ليشربا الشاي.

وأخذت تدمدم وهي ترتعش من الفرحة: يا عزيزي الغالي! يا فلاديمير بلاتونيتش! من أين بعثك الله؟

– أريد أن أستقر هنا بصفة دائمة — مضى يحدثها — قدمت استقالتي وجئت أجرب حظي في حياة الحرية؛ لكي أعيش حياة استقرار. كما أن الوقت حان لإدخال ابني المدرسة. لقد كبر. أتدرين؟ لقد تصالحت مع زوجتي.

فسألته أولنكا: وأين هي؟

– إنها مع ابني في الفندق، وها أنا ذا أبحث عن شقة.

– يا إلهي، ماذا تقول؟ خذوا بيتي! ألا يصلح لكم كشقة؟ يا إلهي، لن آخذ منكم شيئًا — وهاجت مشاعر أولنكا فبكت من جديد — أي فرحة؟! يا إلهي!

في اليوم التالي كانوا يطلون سطح البيت ويبيِّضون الجدران، بينما كانت أولنكا تروح وتجيء في الفناء، ويدها في خصرها، وتصدر التعليمات. وتهلل وجهها بابتسامته السابقة، أما هي فدبت فيها الحياة وانتعشت، وكأنما استيقظت من نوم طويل. وجاءت زوجة البيطري، سيدة نحيفة قبيحة، بشعر قصير وتعبير نزق، ومعها الصبي ساشا، وكان يبدو أصغر من سنه (كان في عامه العاشر)، ممتلئًا، بعينين زرقاوين صافيتين وغمازتين في خديه. وما إن دخل الفناء حتى ركض وراء القطة، وعلى الفور ترددت ضحكاته المرحة الفرحة.

وسأل أولنكا: يا عمة، هل هذه قطتك؟ عندما تلد أهدينا من فضلك قطًّا. ماما تخاف جدًّا من الفئران.

وتحدثت أولنكا معه، وسقته شايًا، وأصبح قلبها دافئًا فجأة وانقبض بلذة، وكأنما كان هذا الصبي ابنها الحبيب. وعندما جلس مساءً في غرفة الطعام يراجع دروسه، نظرت إليه بتأثر وهمست بإشفاق: يا عزيزي الغالي، ما أجملك! … يا سلام يا ولدي، كيف خلقك المولى بهذا الذكاء وهذا البياض؟

وقرأ الصبي: الجزيرة هي ذلك الجزء من اليابسة الذي تحيطه المياه من جميع الجهات.

– الجزيرة هي ذلك الجزء من اليابسة … — رددت هي — وكان ذلك أول رأي تدلي به بثقة بعد هذه السنوات الطويلة من الصمت وخواء الأفكار.

وأصبحت لها آراؤها، وكانت تتحدث في أثناء العشاء مع والدَي ساشا عن مدى صعوبة الدراسة الآن في المدارس الثانوية بالنسبة للأطفال، وعن أن التعليم الكلاسيكي أفضل من التعليم العملي؛ لأن الطريق من المدرسة الكلاسيكية مفتوح إلى كل مكان: فإذا شئت فلتصبح طبيبًا، وإذا شئت فلتصبح مهندسًا.

وبدأ ساشا يتردد على المدرسة. وسافرت أمه إلى أختها في مدينة خاركوف ولم تعد بعد، وكان أبوه يرحل كل يوم إلى جهةٍ ما ليتفقد القطعان، فيتغيب عن البيت أحيانًا ثلاثة أيام، فخيل لأولنكا أن ساشا أصبح مهجورًا تمامًا، لا حاجة لأحد به، وأنه يهلك جوعًا؛ فأخذته إليها في الجناح وأنزلته هناك في غرفة صغيرة.

وها قد مرَّ نصف عام منذ أن استقر ساشا عندها في الجناح. وكل صباح تدخل أولنكا غرفته فتجده يغط في نوم عميق، وقد وضع يده تحت خده. وتشعر بالإشفاق من إيقاظه.

وتقول بحزن: ساشنكا، انهض يا عزيزي! حان موعد المدرسة. فينهض، ويرتدي ملابسه، ويصلي، ثم يجلس لتناول الشاي. ويشرب ثلاثة أكواب ويأكل سميطتين كبيرتين ونصف رغيف إفرنجي بالزبد. ومزاجه معتل لأنه لم يستيقظ بعدُ تمامًا.

– إنك يا ساشنكا لم تحفظ الخرافة جيدًا — تقول أولنكا وهي تنظر إليه كأنما تودعه في سفر طويل — كم أنا قلقة عليك. اجتهد يا عزيزي في المدرسة … أطعِ المدرسين.

فيقول ساشا: أوه، كفى أرجوك!

وبعد ذلك يسير في الشارع قاصدًا المدرسة، صغيرًا ولكن في عمرة كبيرة، والحقيبة المدرسية على ظهره. ومن خلفه تسير أولنكا بخطوات خفيفة.

وتناديه: يا ساشنكا!

فيلتفت، فتدس في يده بلحة أو حبة كراملة. وعندما ينعطفان إلى الحارة التي تقع فيها المدرسة، يشعر بالخجل من أن امرأة طويلة عريضة تسير خلفه. فيلتفت ويقول لها: عودي يا عمة إلى البيت، وسأصل الآن بنفسي.

فتتوقف وتنظر في أثره دون أن تطرف إلى أن يختفي خلف باب المدرسة. أوه، كم تحبه! لم تكن أيٌّ من عواطفها السابقة بمثل هذا العمق، ولم تذعن روحها من قبل قطُّ بمثل هذا التفاني والتجرد والبهجة كما أذعنت الآن عندما تأججت فيها أكثر فأكثر مشاعر الأمومة. فمن أجل هذا الصبي الغريب عنها، من أجل غمازتي خديه، من أجل عمرته، كانت على استعداد لأن تقدم كل حياتها، تقدمها في سرور ودموع التأثر في عينيها. لماذا؟ ومن ذا يعلم لماذا؟

وبعد أن تُوصل ساشا إلى المدرسة تعود إلى البيت في هدوء وهي راضية، قريرة، فياضة الحب. ويبتسم وجهها الذي عاد إليه الشباب في نصف السنة الأخير ويشع. ويشعر المارة وهم ينظرون بالرضا ويقولون لها: مرحبًا أولجا سيميونفنا الحبوبة! كيف حالك يا حبوبة؟

وتقول وهي في السوق: أصبحت الدراسة في المدارس صعبة الآن، بالأمس مثلًا أعطوا للتلاميذ في الصف الأول واجبًا: أن يحفظوا خرافة، ويترجموا من اللاتينية، ويحلوا مسألة … فهل يقوى الطفل على ذلك؟

وتشرع في الحديث عن المدرسين، وعن الدروس، وعن الكتب المدرسية، فتردد ما يقوله ساشا عن ذلك.

وفي الساعة الثالثة يتناولان الغداء، وفي المساء يحضران الدروس معًا ويبكيان. وعندما تضعه في السرير ترسم طويلًا علامة الصليب وتهمس بالصلوات، ثم تأوي إلى النوم فتحلم بالمستقبل؛ المستقبل البعيد الغامض، عندما يتخرج ساشا يصبح طبيبًا أو مهندسًا، ويقتني منزلًا كبيرًا وخيولًا وعربة، ويتزوج ويولد له أولاد … وتنعس وهي تفكر في ذلك، وتسيل الدموع على خديها من عينيها المغمضتين. وترقد القطة السوداء بجوارها وتهر: هر…ر … هر…ر … هر…ر …

وفجأة يدوي طرق شديد على باب الفناء. وتستيقظ أولنكا محتبسة الأنفاس من الخوف. ويدق قلبها بعنف. وتمر نصف دقيقة ويتردد الطرق ثانية.

«إنها برقية من خاركوف — تفكر ويبدأ بدنها كله يرتجف — أم ساشا تستدعيه إليها في خاركوف … يا إلهي!»

ويتملكها اليأس. ويتثلج رأسها وساقاها ويداها، ويبدو لها أنه لا يوجد من هو أتعس منها في الدنيا كلها. ولكن ها هي ذي دقيقة أخرى تمر، وتسمع أصواتًا: إنه البيطري قد عاد من النادي.

فتقول لنفسها: «الحمد لله.»

وشيئًا فشيئًا يخف الثقل عن قلبها، وتشعر مرة أخرى بالراحة. وترقد وتفكر في ساشا الذي يغط في نوم عميق في الغرفة المجاورة، ويردد أحيانًا في نومه: مهلًا سأريك! امشِ من هنا! لا تتشاجر!

١  تدليل من الاسم الكامل أولجا. (المعرب)
٢  الفيرشوك: مقياس روسي قديم يعادل بوصة واحدة. (المعرب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤