الفصل الثامن

الشدة خيرٌ من الحظ

ولكن لا تظن أني أشن حربًا على الحظ لا هوادة فيها، فأحيانًا ما يَكُف الحظ عن الخداع ويكون عونًا للمرء؛ أعني عندما يُفصح عن نفسه ويُسفر عن وجهه ويُعلن أحكام لعبته، لعلك لم تفهم بعدُ ماذا أعني، إنه شيءٌ غريبٌ هذا الذي أريد قوله؛ «مفارقة» paradox؛١ ولذا أجد صعوبةً في التعبير عنه بالكلمات، فأنا أعتقد أن الحظ السيِّئ أفضل للمرء من الحظ السعيد!
الحظ السعيد يبدو دائمًا كأنه يجلب للمرء السعادة، غير أنه يخدعه بابتساماته، بينما الحظ السيِّئ صادقٌ دائمًا لأنه يكشف له عن طبيعته الحقيقية المتقلبة، الحظ السعيد يخدع، والحظ السيِّئ يُربِّي ويُعلِّم، الحظ السعيد يستعبد بالعطايا الكاذبة عقول الذين يحبونها، بينما الحظ السيِّئ يحرِّر الناس إذ يُعلِّمهم أن السعادة شيءٌ هش، هكذا يمكنك أن ترى أن الأول قُلَّبٌ لا يعرف نفسه، وأن الآخر رصينٌ مُعتزمٌ حكيمٌ من خلال خبرة الشدائد ذاتها.٢
وأخيرًا فإن الحظ السعيد يُغوي الناس، بمداهناته، عن طريق الخير الحقيقي، بينما الحظ السيئ كثيرًا ما يَرُدهم إلى خيرهم الحقيقي كالراعي يردهم بعصاه، وهل بالقليل أن هذا الحظ القاسي الفظ قد كشف لك عن الأصدقاء المخلصين لك بقلوبهم؟ وكشف لك أصحاب الابتسامة الصادقة وأصحاب الابتسامة الكاذبة؟ عندما تخلَّى عنك الحظ فقط أخذ معه أصدقاءه وترك لك أصدقاءك، ولو أنك بقيت سالمًا ومحظوظًا كما تظن لما أتيح لك مثلُ هذه المعرفة بأيِّ ثمن، لا تأس، إذن، على ثروةٍ فَقَدْتها فقد عثرت على أثمن ثروةٍ على الإطلاق — أصدقائك الحقيقيين.٣
من خلال الحب
يَجترح العالم تغيراتٍ دائبةً،
بانسجامٍ دائم،
الحب يفرض تناغمًا بين أضدادٍ
لو تُركت لطبيعتها لتناحرت،
الشمس في عربتها الذهبية
تحدو النهارَ الوضَّاح،
ونجمُ المساء يسوقُ الليلَ؛
حيث يبسط القمرُ سلطانَه
للبحر الطامح حدٌّ
يوقف عنده أمواجه،
فلا تطغَى على اليابسة
كل هذه السلسلة من الأشياء،
في البر والبحر والسماء،
يمسكها حاكمٌ واحد
لو أرخَى الحب العنان؛
ستشنُّ كل الأشياء التي تحفظ السلام الآن،
سَتَشن حربًا دائمة،
وتحطم الآلة العظيمة
التي تحفظ وحدتها
بحركاتٍ جميلة
… … …
الحب أيضًا يحفظُ الناسَ متحدين
بميثاقٍ مقدس،
ويعقد بالود الصادق
عقدة الزواج المقدسة
الحبُّ يملي على الأصدقاء الخُلَّص
قوانينَ رابطة الصداقة
… … …
آه أيها الفانون السعداء،
لو أن قلوبكم محكومةٌ أيضًا
بما يحكمُ العالَمَ
بالحب.٤
١  المفارقة الأدبية irony غير «المفارقة» paradox، بالمعنى الفضفاض، هي كل عبارة أو نتيجة مُغْربة، وتنشأ المفارقة عندما تؤدي مقدماتٌ معينةٌ تبدو واضحةً لا خلاف عليها إلى نتائج متناقضة أو غريبة أو غير مقبولة، ولكي نحِلَّ مفارقةً ما فإن علينا أن نبيِّن أن هناك غلطةً خفيةً في المقدمات، أو أن الاستدلال مغلوط، أو أن النتيجة التي تبدو غير مقبولة هي في الحقيقة صوابٌ يمكن تقبُّله، وتكمن أهمية المفارقات في الفلسفة في أنها تضطرنا إلى مراجعة مفاهيمنا، وفي أن كل مفارقة منها يتطلب حلها جهدًا لا نفرغ منه إلا وقد تَكَشَّف لنا شيءٌ في تفكيرنا الاستدلالي لا نفهمه، ومن أبلغ استباقات بوئثيوس قوله في موضعٍ لاحقٌ من «العزاء»: «هل تود أن أطرح مفارقةً، أو تضاربًا في الحجج، لعل اصطدامًا من هذا النوع أن يولِّد شررًا جميلًا من الحقيقة؟»
٢  تحوَّلت هذه الفكرة البسيطة إلى فلسفة كاملة في التاريخ، هي نظرية «التحدي والاستجابة» challenge and response لأرنولد توينبي، يذهب توينبي إلى أنه ليس صحيحًا أن البيئة السهلة هي التي تنبثق منها الحضارة، فالظروف الصعبة لا السهلة هي التي تستحث الإنسان على التحضر، بل إن رغد العيش حائلٌ دون قيام الحضارة، فالشدائد وحدَها هي التي تستثير الهمم، وتتمثل الظروف الصعبة إما في بيئة طبيعية أو ظروف بشرية: تستحث البيئة الطبيعية القاسية الإنسان على تغيير موطنه أو تعديل بيئته، فالأرض الشاقة والموطن الجديد يُشكلان تحديين يستثيران قوى الإبداع في الإنسان، أما تحدي الوسط البشري فيتمثل في عدوان خارجي من دولة مجاورة أو جماعة بشرية (أرنولد توينبي: فضائل الشِّدَّة، دراسة في التاريخ).
٣  يقول الشاعر العربي في هذا المعنى:
فشكرًا للشدائد ألف شكرٍ
عَرَفتُ بها عَدوِّي من صديقي
٤  في القصيدة ٥ من الكتاب الأول تساءل «بوئثيوس» لماذا تشمل العناية كلَّ شيء في الكون عدا أفعال البشر، فتدعها بلا ضوابط، وتتركهم نهبًا لتقلبات القضاء، وتترك المجرمين يدوسون رقاب الصالحين، وتأتي هذه القصيدة (وكذلك القصيدة ٦ من الكتاب الرابع) فتأخذُ القصيدة السابقة إلى شيءٍ من القصد، وتُشير إلى قوة المحبة التي تحفظ السلام في العالم الطبيعي وتمنع الفوضى، وبها يشمل الله البشر أيضًا بعنايته من خلال سلطة المحبة التي تحفظ السلام بين الأمم، وتُبارك الزواج وتدعم الصداقة، غير أن القصيدة تتضمن أيضًا أن بإمكان البشر أن يتمرد ضد هذا الحب ويغترب عن مخطط الأشياء، ومن هذا الطريق فقد «بوئثيوس» الجادة وحاد عن سواء السبيل، إلا أن القصيدة تَعِده، ضمنيًّا، بأنه من طريق المحبة سوف يعود ثانيةً إلى وطنه الحقيقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤