في مهرجان الكتائب سنة ١٩٥٠

١٩ «نوفمبر» في الروكسي
لَا تَحْسَبِي أَنِّي رَمَيْتُ سِلَاحِي
مِنْ بَعْدِ مَا نَزَلَ المَشِيبُ بِسَاحِي
تِلْكَ الخُيُوطُ البِيضُ تَكْسُو هَامَتِي
هِيَ مِنْ غُبَارِ وَقَائِعِي وَكِفَاحِي
أَنْكَرْتُهَا زَمَنَ الشَّبَابِ فَمُذْ بَدَتْ
أَوْقَدْتُ تَحْتَ شُعَاعِهَا مِصْبَاحِي
وَأَبَحْتُ لِلْأَحْلَامِ مَيْدَانًا بِهَا
جَدَّدْتُ فِيهِ هِمَّتِي وَطِمَاحِي
تُبْدِي لِيَ المِرْآةُ مَا تَرَكَتْهُ بِي
غِيَرُ السِّنِينَ فَأَسْتَلِذُّ جِرَاحِي
وَأُحِسُّ أَنَّ وَرَاءَهَا قَلْبًا لَهُ
فِي ذِمَّةِ العَلْيَاءِ خَفْقُ جَنَاحِ
كَمْ سُطِّرَتْ لِلْحُبِّ فِيهِ آيَةٌ
تَبْقَى عَلَى رُغْمِ الزَّمَانِ المَاحِي
وَلَكَمْ هَمَزْتُ بِهِ جَوَادَ قَرِيحَتِي
فَشَدَا عَلَى دَقَّاتِهِ صَدَّاحِي
وَاليَوْمَ إِذْ شَطَّ المَزَارُ فَلَا أَرَى
فِي مَوْكِبِ المَاضِي سِوَى أَشْبَاحِ
وَخَبَتْ عَلَى الأَعْصَابِ ثَوْرَتُهَا فَلَا
سَكَرَاتُ أَحْدَاقٍ وَلَا أَقْدَاحِ
وَتَمَلَّتِ العَيْنَانِ وَالشَّفَتَانِ مِنْ
وَجَنَاتِ وَرْدٍ أَوْ ثُغُورِ أَقَاحِي
لَمْ يَبْقَ لِلْفِكْرِ المُشَرَّدِ غَيْرُ مَا
عَوَّدْتُ مِنْ سَطْوٍ عَلَى الأَرْوَاحِ
أُلْقِيهِ فِي حِضْنِ النُّجُومِ مَعَ الدُّجَى
وَأَرُدُّهُ لِلشَّمْسِ كُلَّ صَبَاحِ
وَأَقُولُ لِلْقَلَمِ المُهَلْهَلِ فِي يَدِي
هَلْ فِي مِدَادِكَ غَيْرُ مَا فِي الرَّاحِ؟
لَيْسَ التَّجَعُّدُ فِي الجَبِينِ بِضَائِرِي
السِّرُّ تَحْتَ جَبِينِكَ الوَضَّاحِ
وَصَرِيرُكَ الهَادِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
نَجْوَى البَلَابِلِ فِي ذُرَى الأَدْوَاحِ
وَاللَّذَّةُ الكُبْرَى لِنَفْسٍ حُرَّةٍ
هِيَ مَا تُنَمِّقُهُ عَلَى الأَلْوَاحِ
إِنِّي صَحَوْتُ مِنَ الهَوَى لَكِنَّنِي
مِنْ سَكْرَةِ الإِبْدَاعِ لَسْتُ بِصَاحِ

•••

بَلْ كَيْفَ أَصْحُو وَالكَتَائِبُ جَنَّتِي
أَشْدُو بِهَا فِي غُدْوَتِي وَرَوَاحِي
تُوحِي رَوَائِعُهَا البَيَانَ لِخَاطِرِي
فَأَعُودُ مِنْهَا بِالشَّذَا الفَوَّاحِ
أَنْشَدْتُهَا بِالأَمْسِ شِعْرًا خَالِدًا
أَطْلَقْتُ فِيهِ لِلنُّجُومِ سَرَاحِي
وَاليَوْمَ عُدْتُ بِعِيدِهَا، أَيَعُوقُنِي
مَا رَاحَ مِنْ عُمْرِي وَطِيبِ مِرَاحِي
وَأَنَا الَّذِي جَدَّدْتُ فِيهَا صَبْوَتِي
وَجَعَلْتُ مِنْ أَفْرَاحِهَا أَفْرَاحِي؟
قُلْ لِلَّذِينَ تَنَكَّرُوا لِلِوَائِهَا
فَطَوَاهُ جِدٌّ مِنْهُمُ بِمُزَاحِ
مَا المَالُ، مَا الآمَالُ، مَا الكَأْسُ الَّتِي
نَحْسُو بِهَا، وَالمَاءُ غَيْرُ قَرَاحِ
وَبِكُلِّ صَدْرٍ لَوْعَةٌ مَشْبُوبَةٌ
وَبِكُلِّ نَاحِيَةٍ صَدًى لِنُوَاحِ
وَالحَرْبُ لَمْ تَتْرُكْ بَقِيَّةَ رَحْمَةٍ
لِلْعَامِلِ المِسْكِينِ وَالفَلَّاحِ؟
إِلَّا الحَقِيقَةَ لَا عَزَاءَ لِمُؤْمِنٍ
نَشَدَ الصَّلَاحَ وَعَاشَ لِلْإِصْلَاحِ
وَهِيَ الَّتِي تُعْطِي الكَتَائِبَ لَوْنَهَا
مِنْ جُرْأَةٍ وَتَجَرُّدٍ وَسَمَاحِ

•••

يَا أَيُّهَا النَّشْءُ الجَدِيدُ تَبَارَكْتَ
لَكَ هِمَّةٌ شُحِذَتْ لِيَوْمِ كِفَاحِ
جِئْتَ الزَّمَانَ وَفِي السَّمَاءِ سَحَائِبٌ
سُودٌ وَفِي الآفَاقِ عَصْفُ رِيَاحِ
فَفَتَحْتَ صَدْرَكَ لِلْمَكَارِمِ وَالعُلَى
وَكَبَحْتَ بِالإِيمَانِ كُلَّ جِمَاحِ
قَرَّبْتَ نَازِحَةَ القُلُوبِ وَلَمْ تَزَلْ
حَتَّى فَرَشْتَ الوَرْدَ لِلنُّزَّاحِ
وَأَتَحْتَ جَمْعَ الشَّمْلِ وَهْوَ مُشَتَّتٌ
عَبْرَ البِحَارِ وَكَانَ غَيْرَ مُتَاحِ
هَذَا الشَّبَابُ، وَمَا أُحَيْلَى عَهْدَهُ
هَلْ كُنْتَ فِيهِ سِوَى الفَتَى المِسْمَاحِ
حَوَّطْتَ بِالعَمَلِ المَجِيدِ سَفِينَةَ الـْ
ـعَهْدِ الجَدِيدِ وَجُرْأَةَ المَلَّاحِ
شَمَخَتْ تَشُقُّ اللَّيْلَ، لَيْسَتْ تَنْثَنِي
عَنْ غَايِهَا إِلَّا مَعَ الإِصْبَاحِ
وَمَضَتْ بِمِجْذَافَيْنِ فَوْقَ عُبَابِهَا
مِنْ ذَاتِ أَسْوِرَةٍ وَذِي أَرْمَاحِ
فَإِذَا الأُنُوثَةُ كَالرُّجُولَةِ، قُوَّةٌ
تَطَأُ الصِّعَابَ بِوَقْدَةِ المِلْحَاحِ
وَتَدُورُ فِي الجِسْمِ الأَشَلِّ عَزَائِمًا
وَمَرَاحِمًا كَمَبَاسِمِ التُّفَّاحِ
مَرْحَى، فَتَاةُ الحَيِّ تَنْزِلُ لِلْوَغَى
وَسِلَاحُهَا بِالرُّوحِ خَيْرُ سِلَاحِ
أَدَبٌ وَتَضْحِيَةٌ، وَغَضْبَةُ ثَائِرٍ
كَمَنَتْ كُمُونَ النَّارِ فِي القَدَّاحِ
هِيَ قُوَّةُ الحَقِّ الصُرَاحِ يُعِدُّهَا
وَطَنِي لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَتَلَاحِي
لَكِنْ هُنَالِكَ فِي الأَضَالِعِ دُمَّلٌ
مَا زَالَ يُعْجِزُ مِبْضَعَ الجَرَّاحِ
الطَّائِفِيَّةُ ظُلْمَةُ الشَّرْقِ الَّتِي
كَادَتْ تَمِيلُ بِنُورِهِ اللَّمَّاحِ
هَيْهَاتَ تَفْرِيهَا حِكَايَةُ مُصْلِحٍ
أَوْ زَفْرَةُ الشَّاكِي وَلَوْمُ اللِّاحِي
أَقْسَمْتُ بِالحَرْفِ الَّذِي حَمَلَ الضِّيَا
وَالمَاءَ لِلْأَعْمَى وَلِلْمُلْتَاحِ
أَنْ لَيْسَ كَالحُبِّ الصَّحِيحِ مُرَوِّضٌ
لِلرُّوحِ يَهْدِيهَا لِكُلِّ صَلَاحِ
نَحَرَ الدُّجَى بِالنُّورِ مِنْ مِصْبَاحِهِ
فَإِذَا الدُّجَى شِلْوٌ عَلَى المِصْبَاحِ
وَإِذَا نُفُوسُ النَّاسِ مُشْرِقَةُ الكُوَى
عُدْنَ الصِّحَاحَ وَكُنَّ غَيْرَ صِحَاحِ
وَأَنَا الَّذِي صَحِبَ اليَرَاعُ يَدِي وَلَمْ
أَبْرَحْ لَهُ حَتَّى يَحِينَ بَرَاحِي
لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْحُبِّ فِيهِ دَعْوَتِي
لَا كَانَ لِي قَلَمِي وَلَا لِي رَاحِي١

•••

لُبْنَانُ يَا أُنْسَ القَرِيبِ وَوَحْشَةَ النـْ
ـنَائِي الغَرِيبِ وَقِبْلَةَ السُّيَّاحِ
كَمْ فِي كِتَابِكَ مِنْ مَعَانٍ أُنْزِلَتْ
لِلْحُبِّ بَيْنَ مَشَارِفٍ وَبِطَاحِ
نَوْحُ النَّسِيمِ وَبَوْحُ أَزْهَارِ الرُّبَى
وَشُجُونُ بَدْرِكَ وَالنَّهَارُ الضَّاحِي
وَاللَّيْلُ وَالأَمْوَاجُ وَالهَمْسُ الَّذِي
فِي الغَابِ أَوْ فِي النَّبْعِ أَوْ فِي الوَاحِ٢
إِنْ تَعْصِفِ الدُّنْيَا بِأَحْقَادِ الوَرَى
فَالقَلْبُ عِنْدَكَ فِي أَمَانِ جَنَاحِ٣
هَذِي جُنُودُكَ أَقْبَلَتْ وَبُنُودُهَا
مِنْ سُورَةٍ نُسِجَتْ وَمِنْ إِصْحَاحِ
بَارِكْ عَلَيْهَا، كَالأُلُوهَةِ عَانَقَتْ
أَبْنَاءَهَا فَهُمُ كَجُمْعِ الرَّاحِ٤
عَزَّتْ مَشَابِكُهَا عَلَى كَيْدِ الأُلَى
يَتَصَنَّعُونَ بِأَدْمُعِ التِّمْسَاحِ
وَانْشَقْ أَرِيجَ العِيدِ فِي أُغْنِيَّةٍ
رَيَّانَةِ الأَنْدَادِ وَالأَرْوَاحِ٥
مِنْ خَلْجَةِ القَلْبِ الطَّهُورِ جَبَلْتُهَا
وَغَمَسْتُهَا فِي طِيبِكَ النَّفَّاحِ
يَا أَرْزَتِي الخَضْرَاءَ تِيهِي وَاخْفِقِي
بِدَمٍ عَلَى الجَنْبَيْنِ، فِيكِ مُبَاحِ
لِي مْنِكِ حُلْمِي فِي الحَيَاةِ وَيَقْظَتِي
وَلَكِ الصَّلَاةُ عَشِيَّتِي وَصَبَاحِي
١  جمع راحة أي الكف.
٢  جمع واحة.
٣  الجناح: الكَنَف.
٤  كجُمْع الرَّاحِ أي كالكفِّ المقبوضة.
٥  جمع روح أي نسيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤