العادة١

بين نقائض الحياة

كلما ازددنا خبرة بالحياة، ظهر لنا أن أصعب ما فيها من المصاعب، إنما هو تغيير عادة، وأن الموت نفسه لا يفجعنا في أعزائنا، إلا لأنه يقتلع من نفوسنا عادات تعودناها، ويمنعنا مآلف طالما أوينا إليها، فلو مات نصف الناس — بل لو مات الناس جميعًا — دون أن يغيروا لنا عادة في الحس أو في العقل لما تحركنا لهذا المصاب، ولا هالنا أن تنقضي كل تلك الحياة ونحن نضيق صدرًا بحياة واحدة مألوفة لدينا تفارقنا، وينقطع ما بيننا وبينها، ولو رجعنا إلى مصائب النفوس كلها لم نجد بينها إلا ما هو تغيير لعادة نحس به فجأة، أو على تراخي الزمن حسبما فيه من مصادمة أو مجاراة.

يقال: إن الحيوان لا يعرف الموت ولا يدرك كنهه، وإن كان ليهرب منه بغريزته، ويعمل كل ما يعمله عارف الموت للتعلق بحياته، والظاهر أن هذا صحيح، وأن عرفان الموت حصة الإنسان وحده من هذه الأحياء، ولكن إذا فهمنا من ذلك أن الحيوان لا يحس فقد الموتى من ألفائه ولا يحزن عليهم، فذلك خطأ تكذبه المشاهدة وينفيه التأمل. إنما نختلف عن الحيوان في هذا الأمر بشيء واحد هو أننا نعلم إن دهم الموت عزيزًا علينا أن تغيير عاداتنا حاسم أبد لا رجعة له إلى آخر الزمان، وأن الحيوان يحس تغيير العادة، ولا يبعد بمداها إلى غير لحظته التي هو فيها، فالموت عنده والبعد إلى حين سواء في الواقع والصدمة وطبيعته من ثم أقرب إلى السلوان، وأبعد منه في آن واحد. أقرب إلى السلوان؛ لأن الفناء عنده كالفراق القريب لا يرجح أحدهما على الآخر عند حلول الكارثة، وأبعد من السلوان؛ لأنه هو ابن العادة وأسيرها فإذا تجمعت حياته على عادة من العادات، فقد يهلك عند تبديلها ولا يجد من العقل ذلك المعوان الذي يجده الإنسان، وذلك العزاء الذي يخلقه بالتأسي والأمل، وكلاهما محجوب عن الحيوان.

ومن خصائصنا نحن بني الإنسان اللغة، نحصر بها المعاني فنفهمها، ونحصرها أيضًا فلا نفهمها، أو لا نحسها كما ينبغي لها من الإحساس بها، فهذه كلمة «مات» ماذا يتبادر إلى الذهن من لفظها مفردة بغير «فاعل» يقترن بها؟ يتبادر إليه أن فعلًا واحدًا حدث هو الموت، وأن شيئًا واحدًا بطل هو الحياة، ولكن هل هذا تصور صحيح للحقيقة؟ هل هذا من الحصر الذي يحيط بجوانب الحوادث، أو من الحصر الذي يطمسها ويخفيها؟ الحقيقة أنه لا الموت فعل واحد ولا الحياة شيء واحد، وإنما الموت أفعال كثيرة، أو بطلان أفعال كثيرة، والحياة هي كل ما يشتمل عليه معجمنا من أقوال وأفعال.

يعرف هذه الحقيقة بحسه ووجدانه من جرب فقد عزيز عليه. يعرف أنه يأسى على أشياء لا عداد لها حين يأسى على ذلك العزيز، يأسى على كلمات سمعها لن يسمعها بعد ذاك، وعلى ملامح رآها لن تلم بها عيناه، وعلى مجالس حضرها لن ترجع بها الأيام، وعلى مسرات اشترك فيها لن يجد شريكه عليها أبد الأبيد، وعلى غدوات وروحات ومناظر ومسامع وأشواق وفجائع تنتزع كل منها انتزاعًا من مكانها في النفس الموجعة، فكأنما النفس بها مصرع أشلاء أو ميدان يئن فيه الجريح، ويبغت المصعوق، وكأنما في النفس مقتلة طائشة حين تنكب بفناء صديق له فيها ما له من الآثار، وكأنما كل أثر حفظته من صديقها روح حية، تعالج سكرات الردى وتستمسك بالبقاء، فالموت فعل واحد في اللغة، ولكنه أفعال لا حصر لها في طوايا النفوس، ومن مات له عزيز فهو هو الواقع في غمرة الموت يمشي في عالم الحياة بجيش من الجرحى والهالكين، والحياة بحذافيرها ما هي، أليست عادة واحدة كبيرة؟ أليست جملة عادات تجمعت في بنية واحدة؟ لقد كان المتنبي بصيرًا ملهمًا حين قال:

إلف هذا الهواء أوقع في الأنفـ
ـس أن الحِمَام مر المذاق

فإنما الحياة إلف هذا الهواء، وهي إلفة، أو عادة، من وقع في أسرها شق عليه الفكاك منها.

ولكن من نعني إذا قلنا: إن الإنسان يألف الحياة؟ نعني ذرات في الجسم الحي ألفت أن يتصل بعضها ببعض، وأن يكون اتصالها هذا على صورة خاصة بها، فإذا كانت جرأة من الإنسان على الموت فليست هي إلا تلك الجرأة النبيلة على اقتحام الحديد، وليست هي إلا الفتح للمجهول والغلبة على أسر القيود، وقد يتعود الإنسان ذلك أيضًا فلا يقدم على ترك الحياة إلا بقوة من الحياة.

إن تعقب الدرجات التي تترقى فيها الكائنات تهدينا إلى فروق بينها، يمكن إجمالها في فرق واحد، وهو أن الخليقة كلما ارتقت كانت آية ارتقائها القدرة على الابتداع؛ أي على اقتحام المجهول والغلبة على القيود، فبين الجماد والنبات والحيوان والإنسان فروق خلاصتها أن أرقى هذه الكائنات أقدرها على قهر العادة بعادة أكبر منها، بل لك أن تقول: إن أرقى هذه الكائنات من تم له الانتقال من العادة البسيطة إلى العادة المركبة، ومن العادة المحصورة في نفسها إلى العادة التي تشرئب لما فوقها، وسنعيد هذا القول بعبارة أسهل موردًا على الذهن، وأبعد عن أغراب الفلسفة التي تصد بعض الأسماع عنها، فنقول: إن الابتداع هو علامة الارتقاء، وإن الابتداع هو الخروج على العادة، وإن القدرة على الابتداع لن تخرج عن كونها عادة أخرى لا رأي للمرء في اتباعها أو اجتنابها، وإنما هي عادة أرفع من عادات وقيد أجمل من قيود.

•••

ألاحظ أنني كلما دخلت حجرة مظلمة مددت يدي إلى مفتاح الإنارة أديره، قاصدًا أن تضيء تلك الحجرة، فإذا تكرر هذا العمل مرات في أيام متواليات تعودت يدي أن تمتد إلى مكان المفتاح بقصد وبغير قصد، فإذا كان الوقت نهارًا وكنت مشغول الفكر في أمر من الأمور أدرت المفتاح، ولم ألتفت إلى ما صنعت إلا بعد حين، وقد يكون الوقت ليلًا والحجرة مضاءة فتتحرك يدي بغير تفكير إلى المفتاح تديره، فإذا الحجرة مظلمة فأنتبه إلى خطأ اليد في هذه الحركة، فالعمل الذي تتعوده يعفيك من مؤنة التفكير والتدبر، ويريحك من جهد الإنشاء والموازنة، ولكنها راحة لا تنال إلا على حساب ملكة معطلة، وقدرة في الذهن مهملة. أو كما قال أبو تمام:

بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تُنال إلا على جسر من التعب

ففي كل حرية تبعة ومشقة، وفي كل راحة إعفاء من تبعة وسلامة من مشقة، وهنا تتلخص محاسن العادة ومساوئها، فإذا هي تسهيل وحرمان في آن واحد.

تعود عملًا من الأعمال تسقط عنك كلفاته وتبعاته، ويسهل عليك أداؤه، ولكنك تخرج بذلك العمل من حيز الابتداع، وتدخل به في حيز الآلية، فأنت كاسب خاسر، ومستهدف لراحة الإعفاء وخطره في وقت واحد، ولن تسلم من مغبة العادة إلا إذا «تعودت» أن تكون مبتدعًا أبدًا تتخذ من تسهيل بعض الأشياء سلمًا إلى اقتحام ما فوقها، كما يصنع القائد الفاتح حين يأمن على أرض ذللها ليتخذ منها حصنًا يهجم منه على ما بعدها، فأما أن تخرج بالعادة من دائرة الابتداع أبدًا فتلك خسارة وعبودية، وكل ما فيها من راحة إنما هو راحة العبد يعفى على طوع أو كره من تكاليف الأحرار وتبعات «المسئولين».

ويقول ببليليوس سيروس الروماني: «في بعض الأحيان يكون من الشر أن تعود نفسك ما هو خير» وهذا قول حكيم، ونظر صحيح، فإن العادة خير إذا سهلت لك عمل الخير، وسوغته لطبعك، وأجرته من أخلاقك مجرى الأمر الذي لا تعسف فيه ولا إرهاق، ولكنها شر إذا سلبتك التصرف، وجعلتك عبدًا لشيء من الأشياء لا مفر لك منه، ولا علم لك بالمواضع التي يحسن فيها اجتنابه، فالابتداع — بعد كل ما يقال — هو أحسن عاداتنا؛ لأنه رفيق الحرية ورفيق التبعة، نتجدد به ولا نخسر بالتزامه، وسنة الحياة هي سنة الابتداع، فهي لا تفتأ في جديد وهي لا تطمئن على محصول حتى يلج بها القلق، ويحملها الشوق إلى سواه، وقد كانت الهجرة عادة حسنة لبعض الطير، وكانت له فيها سلامة ونجاة؛ فلما اعترض البحر طريق هجرته أصبحت وبالًا عليه أشد من الوبال الذي يخشاه؛ وكثير من الناس من يألف الشيء فيجني به خيرًا، أو يمهد به طريقًا وعرًا، ولكنه يتمادى فيه فينقلب عليه، ويحتاج إلى الخلاص منه، ولا ضير على الإنسان أن يعدل عن صواب أصبح خطأ، وإنما الضير أن يستعبده الصواب، فإذا هو مخطئ على الرغم منه، وإذا هو شر من المخطئ الذي يفكر ويريد.

وتعجبني كلمة لوزير إنجليزي — أظنه تشمبرلن الكبير — إذ عيره خصومه أنه تحول من رأي كان يؤيده ويشتد في تأييده، إلى رأي يناقضه كل المناقضة، فقال الوزير الأريب: إنني لا أحب أن أستعبد نفسي حتى لما كنت أقوله في أمسي! وتلك كلمة قد يقولها السياسي اللبق ليقضي بها لبانة ويخدع بها جمهورًا، ولكنها قد تجري على لسان الحكيم، فلا يعيبها مراء ولا يشوبها خداع.

وإن الخطأ لمعدود في بعض الأحوال من فضائل الإنسان، ودلائل الإدراك، فالنحلة لا تخطئ في شكل خلاياها، ولا تغلط في تقويم مكعباتها، والإنسان عرضة للغلط في كل شيء يرسمه، وفي كل بناء يقومه، ولا يكون غلطه إلا دليلًا على سعة الجوانب، واضطلاعه بأعباء الصواب، وقد نهبط من النحلة إلى الآلة المسيرة، فنقول: إن المطبعة لا تنحرف نسخة من كتابتها عن نسخة، وقد تنحرف كل نسخة يكتبها الإنسان عن الأخرى، فمن الاستعداد للصواب أن تكون مستعدًا للخطأ، ومما يشين الصواب ألا تكون قادرًا على غيره، ولا مختارًا في اتباعه والمواءمة بينه وبين زمانه ومكانه.

وفي تركيب الطبائع أن تحب الذين يدركهم ضعف الإنسانية، وتنفر ممن لا يدركهم ذلك الضعف في بعض جوانب الشعور، فإن النفس التي تشعر تخطئ، والنفس المعصومة ليست من بني الإنسان، فلا قرابة بيننا وبينها ولا تعاطف ولا محبة، والطفل أكثر الناس خطأ ولا يمنعه ذلك أن يكون أحب إلينا من الكهول الحكماء، والشيوخ المحنكين؛ لأن العطف من الحياة والحياة لا تنافي الخطأ وإنما تنافي الجمود، فلا الفكر إذن ولا العاطفة يمنعان الخطأ، ولكنهما يمنعان أن يظل الإنسان آلة تستعبدها العادة وتستكين بها السهولة، ولا أدري ماذا يعني من قال إن الحياة تضحية مستمرة، ولكني أستطيع أن أفهم من قوله هذا أن التزام العادة أثرة مريحة، وأن تغيير العادات تعب وتضحية، وأن الحياة لا تني تدفعنا في طريق تغيير العادات، فلا نطمئن إلى مألوف حتى نزهد فيه لنألف، ثم نزهد فيه دواليك بغير انتهاء، فالحياة بهذا المعنى فداء متجدد، وألفة بعدها فرقة، وفرقة تعود إلى ائتلاف.

الناس أحباء ما ألفوا، أعداء ما جهلوا، هذا صحيح، وقد يكون صحيحًا مثله أن الناس أعداء ما ألفوا، أحباء ما جهلوا، فإننا لا نزال على ما فينا من الاستراحة إلى المألوف الذي نهواه مدفوعين إلى المجهول الذي لا نراه، ولا نزال نألف ثم نترك ثم نألف، فنشقى بهذا النقل ولا يلوي بنا الشقاء، وقوام القولين أن العادة راحة وسكون، والحياة حركة وابتداع، فنحن بخير ما جرت عاداتنا على سنة الحياة، وبقيت لنا القوة التي تعيننا على تبدل الراحات، وتعاقب المألوفات حتى إذا فقدنا هذه القوة أصبحنا شيئًا آخر، لا يحسن التبدل أو لا يحسن الحياة، وفقدنا العادة الكبرى التي تنطوي فيها جميع العادات.

١  ٣١ أكتوبر سنة ١٩٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤