الفصل الخامس

روح الليدي هيستر ستانهوب المُستبشِرة، موت الآنسة ويليامز، الزيارة الأولى من زوجتي إلى الليدي هيستر، استدعاء المؤلِّف إلى دمشق للعناية بحسن أفندي؛ ورفضه الذهاب، نقاشات بين الليدي هيستر وزوجتي عقب ذلك، كُره الليدي هيستر للنساء، الليدي ترسل خادمتها لتهين زوجتي، المؤلِّف يقرر العودة إلى إنجلترا، إزعاج من الجنود أثناء زحفهم، الليدي هيستر تساعد عبد الله باشا في تصميم حديقته، حكايات عن اللورد تشاتام الأول، نقاشات جديدة حول الرحلة إلى دمشق، نوادِر عن السيد بيت، تعلُّقه بالآنسة «إ…»، إعجابه بالنساء، حلمه تجاه زلات الآخرين، الليدي هيستر وإيلين الجميلة، قصة غريبة، اهتمام السيد بيت براحة ضيوفه وخدمه، ارتقاء أحد خدمه على نحو عجيب، أسلوب الليدي هيستر المُثير للعواطف، المنصب المرتقب لباولو بيريني في المدفعية.

بذلت سيادتها ما في وسعها، في عدة مُحادثات، لتُطلعني على ما وقع من أحداث رئيسية أثناء غيابي في أوروبا، وكيف صارت علاقتها بالباشوات وحكَّام المدن والمُقاطعات المجاورة، حيث مضت في حديثها، بالتتابع، من الوقائع المتعلِّقة بأرفع الأشخاص منزلةً، إلى تلك المتعلقة بأدنى الأشخاص المحيطين بها. وقد تحدَّثت عن ديونها وأمراضها ومحنها ومُعاناتها، ولم تُنهِ يومًا واحدًا دون أن تُصوِّر لنفسها مستقبلًا أكثر إشراقًا، حين تصبح قيمتها أكثر تقديرًا، عندما تتبدد الغيوم التي غشيت حياتها، وحين يلقى التجاهل الذي وجدَته من أصدقائها عقابه العادل، وحين يَبزغ نجمها متألقًا من جديد، ببهاء متجدد ليسر به العالم، وخاصةً أولئك الذين كانوا مخلصين لقضيتها. وقد أنقذَتها رُوحها المشرقة هذه من اليأس الذي لا بد أن يشعر به من كان في مثل حالتها من الهجران. فقد كان عمل السنوات القادمة مرسومًا في مخيلتها النشطة؛ والخطط موضوعة؛ وكان من المُقرَّر فتح قنوات اتصال جديدة؛ وإعادة تصميم مسكنِها؛ وتشييد مبانٍ جديدة؛ وإجراء بحوث مُتقنة والتحصُّل على مخطوطات قيمة. من المستحيل القول بأنها تركت شيئًا دون أن تُخطِّط له؛ لكن ظلت الآنسة ويليامز الوفية لها المرتبة الأعلى في ذهنها، فكان اهتمامها الأول هو التأكُّد من إتمام المراسم الأخيرة المُتبقية لتبجيل ذكراها.

ولأنَّ هذه الشخصية الرائعة كانت قد احتلَّت مكانة مهمة في منزل الليدي هيستر ستانهوب وشئونها، فسوف أفسح المجال هنا للحكاية التالية عن مرضها ووفاتها، كما حكتها لي أم أيوب، وهي أرملة مُوقَّرة من قرية جون. كان من دأب هذه السيدة القيام بأعمال التطريز والحياكة عند الليدي هيستر؛ حيث كانت تقضي أيامًا كاملةً مُتوالية في المنزل. وفي أحد الأيام، وهي جالسة مع الآنسة ويليامز في نفس الحجرة تحيكان (كان يوم جمعة)، قالت لها الآنسة ويليامز: «ويحي، كم أشعر بالبرد؛ إنَّ جسدي كله يَرتجف!» كان موسمًا (موسم الخريف) انتشَرَت فيه الأسقام، ورقد كثير من الخدم مرضى، وكان أحدهم في مرحلة خطيرة جدًّا؛ إذ ظلت تُراوده الحُمى الصفراء بلا انقِطاع. بيد أن نوبة الارتجاف انتهَت. ورجعت أم أيوب إلى بيتها ليلًا، وفي اليوم التالي عادَت لعملِها. ووقفت الآنسة ويليامز على قدمَيها مرة أخرى. وفي اليوم التالي انتابَتها نوبةُ حُمى على فترات متقطِّعة. كان هذا اليوم هو الأحد، ويوم الاثنين كانت بصحة جيدة ثانيةً. ولأنها توقَّعت عودة النوبة يوم الثلاثاء، سألت الأرملة الطيبة الآنسة ويليامز عما إذا كان يجبُ أن تبقى معها بالمنزل، لكن الآنسة ويليامز قالت لها: «لا، لقد أصابت ابنتكِ القشعريرة مثلَما انتابتني؛ لذا اذهبي واسهَري عليها؛ فقد تحتاج إليك في الليل؛ ثم تعالي إليَّ يوم الخميس، فلن أحتاج خدماتكِ غدًا، حيث أنوي البقاء في هدوء طوال اليوم.» لذا لم تذهب أم أيوب إليها يوم الأربعاء. ويوم الخميس، كانت تخبز حين جاءها خادم قائلًا: «أسرعي بالله عليك! مطلوب منكِ رعاية الآنسة ويليامز.» ولما كان خبز السيدة العجوز خارجًا من الفرن لتوِّه، فقد خطر لها أن تأخذ معها بعض الكعك الساخن في منشفة نظيفة، مُعتقدة أن الآنسة ويليامز قد تحبُّ تناوُله مدهونًا بالزبد لإفطارها. وقالت أم أيوب وهي تخبرني بتلك القصة الحزينة: «وهكذا وبينما كنت أحثُّ الخطى في الأرض المنخفضة التي تفصل بين القرية ودار جون، قابلَتني جايبي الصغيرة وهي تبكي قائلة: «آه، هيا، هيا؛ أسرعي، أسرعي!» فسألتُها «ماذا حدث؟» فنشجت قائلة: «آه، آه! لقد ماتت! ماتت!» فصرخت وقد أخرجني الهلع عن شعوري «من مات؟» فأجابت: «الآنسة ويليامز.» داهَمَني الفزع، وأسرعتُ خُطاي بأقصى ما استطعت، ووصلتُ لاهثة مُنقطعة الأنفاس، فوجدت القصة صحيحة تمامًا؛ فقد لفظت الآنسة ويليامز أنفاسها الأخيرة.»

اتَّضح أنه في صباح يوم الأربعاء، كانت الليدي هيستر، هي الأخرى مريضة مُلازمة الفراش، فكان أن أعطَت أوامر للفتاة الصغيرة، جايبي، كي تُجهِّز جرعة من الأملاح والسنا مكي من صندوق الأدوية؛ إذ كانت أشد مرضًا من أن تستطيع الإشراف عليها بنفسها. هذه الجرعة، حسبَما أكَّدت نصرة، إحدى الخادمات، التي كانت تسهر على رعاية الآنسة ويليامز، أحدثت تأثيرًا غير عادي خلال النهار والليل، ولم تَستطِع الآنسة ويليامز التخلص من آثارها إلى أن أسلمت الروح. بجانب تلك الجُرعة المشئومة، تناولت الآنسة ويليامز أيضًا ثلاثة أقراص، لكنَّني لا أعرف شيئًا عن طبيعتها. كان الأشخاص الذين اعتنوا بالآنسة هم نصرة وجايبي وفطوم، وفطوم هذه هي التي يرد اسمها كثيرًا في هذه الصفحات، وكانت في ذلك الوقت في سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة. أم أيوب، التي أحبت الآنسة ويليامز والْتاعَت لفراقها (مثلما فعل الجميع حقيقةً)، جلسَت بجوار جثمانها طوال بقية اليوم. وأثناء العصر، اندهشَت أم أيوب حين اكتشفت أن الجثمان، الذي لم يبرُد البتَّة، قد ظل تقريبًا بنفس حرارتِه الطبيعية للأحياء. وقد صدف وصول طبيب من البلدة إلى منزل الليدي هيستر في اليوم السابق على ذلك، والذي جاء للاعتناء بموسى الخادم؛ حيث كان يرقد في حالة مرَضية خطيرة، وتُوفي بعد الآنسة ويليامز بيومين. واستدعت أم أيوب الطبيب إلى حُجرة الآنسة ويليامز، وناشدته أن يجس الجثمان، ليرى إن كان فيه حياة أم لا. وكان الرجل من نفس رأي الأرملة أن مظهَر الجثمان كان مُدهشًا للغاية، لا سيما أن الخدين ظلا محتفظين ببعضٍ من لونهما، وأيضًا (حسب تعبير أم أيوب) أن شيئًا ما كان لا يزال يُبقبِق بداخلها وكأنه ماء يَغلي. وذهب الطبيب إلى الليدي هيستر وأبلغها ما رآه، وطلب إذنها كي يَفتح وريدًا في جسد الآنسة ويليامز. فقالت له الليدي هيستر، وقد ران عليها الأسى لفقدانها شخصًا عزيزًا عليها للغاية: «افعل ما يحلو لك.» وبِناءً على ذلك فتح الطبيب وريدًا في قدم الآنسة، وتدفق الدم، وكأنه آتٍ من شخص حي، على حدِّ وصف أم أيوب. وبعد أن سحب ما رأى أنها كمية كافية، ربط الطبيب الجرح؛ ولكن الحياة لم تعد للجسد قط، وفي يوم الأحد وارى جثمانها الثرى في مدفنِ دير المخلص، وسار خلف النعش نائبُ القنصلِ الفرنسي وبعض التجار من صيدا.

لا بد هنا أن أُبدي ملاحظة، وهي أنَّ فصد الدم في هذه الحالة كان وسيلة غير حَصيفة لاستعادة الحياة للجسد، فهو لا يعدو أن أكمَلَ الإعياء الذي كان قد وصَل إلى أقصاه لما سبق ذلك من نضوب الأمعاء. فهذه الحالة ليست مثل حالة الانهيار أو السكتة الدماغية، حيث قد يُؤدِّي فتح وريد من الأوردة إلى تنشيط الدورة الدموية المتوقِّفة، تمامًا مثلما تلمس بإصبعك عجلة اتِّزان الساعة لتُعيدَها إلى الدوران حين تتوقَّف عن العمل. أما في حالة الآنسة ويليامز، فكان لا بدَّ من إنعاش الجسم وتغذيته بكل الوسائل المُتاحة لتعود إليه الحرارة الحيوية، وكان يتوجَّب السماح للطبيعة بالحفاظ على موارِدها الداخلية إلى أن تدبَّ الحياة في الجسد من جديد.

زرت قبر الآنسة ويليامز بصحبة عائلتي، ولم أملك دموعي أن تَنسكِب على قبرها؛ فقد عرفتُها لسنين عدة. كانت مخلوقًا ذا عقلٍ فريد من نوعه، ونقاء لا تشوبه شائبة، ومحبوبة للغاية من العالم أجمع، لدرجة أن أهل المنطقة المُجاورة والفلاحين لا زالوا يتحدَّثون عنها كنموذج للفضيلة والخير. كان النصب التذكاري الوحيد الذي نُصبَ فوق قبرها عبارة عن جدار بسيط، بيضاوي الشكل، تعلوه شجيرات شائكة، لمنع الثعالب من نبش قبرها.

في سجلِّ الدير قيَّدوها (كما قيل لي) بوصفها كاثوليكية، وتناقلوا الخبر بأنها ماتت على تلك العقيدة، حتى لا يُؤدِّي التعصب الشعبي إلى اعتراض على دفنها في الأراضي الكاثوليكية. وتُظلِّل القبر شجرة أثل، تمُوج أغصانها الرقيقة، دائمة الخضرة، الشبيهة بالريش مع الرياح. وتنتصب واضحة المعالم بعيدًا عن الطابع الصخري القاحل للمَكان، قليل من قبور الأساقفة الموقرين، والتجار الورعين، والرهبان الأتقياء، منقوش عليها عبارات عربية تخليدًا لتقواهم وفضائلهم. المؤسِف فقط أنه لم يوضع نصب تذكاري مماثل للآنسة ويليامز.

الآن قد مرَّ على وفاة الآنسة ويليامز أكثر من عامين، ولم يدخل أحدٌ غرفتها التي تُوفيت فيها قط، منذ الساعة التي خرج فيها جثمانها منها. وقد أُغلق الباب بألواح خشبية مُتصالبة ومثبتة بمسامير عليه، وبسبب ما رددته الليدي هيستر ستانهوب مرارًا أنها لن تقوى على ولوج هذا الباب ثانيةً أبدًا، سرى نوع من الرهبة في قلوب الخادمات والعبيد، على غرار ما هو شائع في إنجلترا حين يُعلن أن غرفة في منزل ما مسكونة. ومن ثَم فإنه حين تقدم النجار ليزيح الألواح الخشبية، ساد في الدار صمت مُترقب، وتوقعٌ لوقوع شيء خارق للطبيعة، وعبر الغبار وخيوط العنكبوت أدخلتُ المفتاح الصدئ ببعض الصعوبة في ثقب المفتاح، وبجهد كبير فتحت الباب عنوة. كانت الأرضية مكسوَّة بالغبار وشبكات عنكبوت سميكة وطويلة معلقة عبر الغرفة من الجدار إلى الجدار، وعلى الأرض تبعثرت في فوضى بعض الكتب، وفرشاة شعر، وأوراق مختلفة. وقد تبدَّى نوع من الفوضى على الأثاث، كما يحدث في غرفة غادرها الناس على عجل. واستقر في كوة بالجدار صندوق أوراق مفتوح يحوي قائمة لديون الليدي هيستر ستانهوب والإشعارات المتعلِّقة بها، ويبدو أنه كان آخر شيء شغل اهتمام الآنسة ويليامز؛ فقد أرهق عقلها وللأسف الارتباك المتزايد الناشئ عن مشكلات الليدي هيستر ستانهوب المالية كما كان مُفترضًا بطبيعة الحال؛ إذ رأت راعيتها النبيلة التي نشأت فيما مضى في كنفِ الرفاهية، وقد انحدر بها الحال دفعة واحدة إلى درجة الاضطرار إلى بيع ٤٠ جنيهًا إنجليزيًّا مُقابل وزنها (لأن تلك الجنيهات لم تكن عملة مُتداوَلة)، الجنيهات التي أعطاها لها شقيقها جيمس حين افترقا، والتي نجَت عندما غرقت سفينة الليدي، باعتها وزنًا وهي لا تعلم بعد فقدانها، أين ستجد قرشًا آخر. وانقلبت على الأرض سلة أدوات حياكة فارغة؛ وقد وشى جو الخراب والفوضى الذي عم الحجرة والخزائن بأن كل ما يستحق السرقة قد اختطفَه الخدم الخبثاء خلال الوقت الذي انقضى بين موتها ودفنها.

قلت في نفسي: «مسكينة يا آنسة ويليامز! يا لَلمُعاناة التي كابدتِها في تلك الساعات الحزينة، ولا أحد من بني جلدتكِ بجواركِ ليُغمِض عينيكِ، ومحاطة بخادماتٍ وفلاحاتٍ سرقوكِ بدلًا من العناية بكِ! وأي إخلاص وتعلُّق جعلك لا تُحجمين عن السير خلف راعيتكِ المُحسنة وتنتقلي من بيت مريح تغمره السعادة، فيه أناس أحزنَهم ذهابُك، إلى حيث تقاسين أشكالًا لا حصر لها من الحرمان، يجلبُها بالضرورة الحبس الدائم، والافتقار إلى الرفقة، والإقامة في بلد غير متحضِّر! وحتى أنا، لو لم يتأخَّر وُصولي، لربما كنت ساهمت في التخفيف عنكِ في ساعاتك الأخيرة، أو لربما أنقذت حياتك!»

عند فتح خزاناتها التي كانت موصدة، وجدنا ملاءاتها، وطاولة الكتابة الخاصَّة بها، وعلبة ألوانها، وعدة أشياء أخرى مُرتبة بعناية، كما يُفترض بامرأة إنجليزية أن تضعها. فتحت طاولة الكتابة، وتخلصت من الخطابات التي كتبها أقاربها إليها، بالإضافة إلى بعض الأوراق التي اعتقَدَت الليدي هيستر أنني لا بدَّ أن أجدها هناك؛ ثم أغلقت الخزانة ثانية، وانسحبت تملؤني أفكار كئيبة حول آمال البشر وريب الدَّهر، وعزمت على تأجيل جرد متاعها وأغراضها إلى يوم آخر.

في اليوم التالي بقيت مع الليدي هيستر ستانهوب من الحادية عشرة صباحًا وحتى العاشرة ليلًا، حيث قضَيت الجزء الأكبر من هذا الوقت في تصفُّح أوراق الآنسة ويليامز، والتي كانت في أغلبها مُسودات لخطابات أملَتْها عليها سيادة الليدي.

بعد أن استقرَرت أنا وأسرتي في كوخِنا الصغير بالقَرية ووجدنا فيه راحتَنا، حدَّدت الليدي هيستر صباح أحد الأيام لاستقبال زوجتي، بمناسبة زيارتها الأولى للمكان. وحين وصلنا دار الليدي، أخذتُ زوجتي إلى الصالون، وهناك، وبعد تقديمها إلى الليدي والجلوس لبرهة، انسحبَت من المكان، انصياعًا لعُرف الليدي هيستر المُعتاد؛ حيث لم تحبَّ قط أن يكون معها أكثر من شخص واحد في نفس الوقت. ومكثَت زوجتي في المكان لأكثر من ثلاث ساعات ثم استأذنت؛ وبعد أن أرسلتُها إلى المنزل في رعاية أحد الخدم، تقدَّمتُ لسماع رأي الليدي حول زوجتي، وهو أمرٌ ضروري كان يَعقُب دائمًا رحيل أي شخص تكون الليدي قد استقبلَته للمرة الأولى. واستمرَّ اجتماعي مع الليدي حتى بعد مُنتصَف الليل. وكانت الليلة عاصفة جدًّا؛ فقد جعلت الرياح تعوي، والبرق يُدَوِّي، والأمطار تنهمر على مصاريع النوافذ؛ وحين عدتُ إلى القرية، مُبللًا حتى النخاع، وجدتُ زوجتي تجلس مُغتمَّة، ومرعوبة من اضطراب الأجواء، وحيدة، إن صحَّ التعبير، في وسط أهوال تلك الليلة، وغير قادرة على جعل كلامها مفهومًا للخدم، الذين كانوا لا يَعرفون سوى اللغة العربية.

في الصباح التالي، على الإفطار، تحدثت أنا وهي حول المحادثة التي دارت بينها وبين الليدي هيستر ستانهوب. كانت الليدي قد استعمَلَت ألطف العبارات؛ وفي ختام زيارتها، نهضت الليدي ودقت الجرس لإحضار سترة تركية أنيقة من الديباج المُطرَّز بخيوط الذهب، ووضعتها بيديها على كتفَي زوجتي، ولفَّت حول رأسها عمامة من الموصلين مُطرَّزة بأشكال جميلة. زوجتي، التي لم تفهم طبع الليدي هيستر، التي كانت تُقلِّد بكل ذلك الطريقة الشرقية في منح الناس كسوة حين يُغادِرون المكان، خلعَت السُّترة والعمامة ووضعتهما على الطاولة، من أجل إرسالهما إلى منزلها في اليوم التالي. وهذا التصرف يُعد، كما أعلم، إهانة فادحة في نظر الليدي هيستر.

غير أنَّ الأمور سارت على ما يرام حتى الخامس والعشرين من شهر يناير، حين وصل رسولٌ قادمٌ من دمشق، أرسله شخص من عائلة عريقة وكريمة يُدعى أحمد بك، من عائلة آدم؛١ إذ جاء برسالة إلى الليدي هيستر ستانهوب يقول فيها: «بلَغ الباشا خبر وصول طبيبِها من إنجلترا، وقد طلب سموُّه من أحمد بك أن يكتب إلى الليدي يَرجُوها أن تستغني عن الطبيب، لوقت قصير، لعلاج شَكوى أحد أصدقاء الباشا، ويُدعى حسن أفندي طاعة الدِّين؛ حيث كان قد أصيب في سقف فمِه، ممَّا سبب له ألمًا عظيمًا، وأسفًا عميقًا لدى المؤمنين، لكونه من أكثر مُقرئي القرآن الكريم تميزًا.»

أحمد بك هذا كان صديقًا قديمًا جدًّا لليدي هيستر ستانهوب، وهو رجل نبيل أكرمني باهتمام خاصٍّ منه قبل بضع سنوات، خلال إقامتنا في دمشق؛ لذا شدَّدت الليدي على ضرورة ذهابي إليه، وناشَدَتني أن أستعدَّ على الفور للمُغادرة.

ونظرًا لعدم اعتقادي أنه من الصواب أن أترك عائلتي لثلاثة أسابيع أو شَهر بمُفردهم في كوخ؛ حيث لا مخلوق يَفهمهم، اقترحتُ على الليدي هيستر أن تكتب اعتذارًا مُهذبًا لأحمد بك، تُعرب فيه عن عدم قدرتي على تلبية رغباته في الوقت الحالي. لكن الليدي كانت مُصمِّمة جدًّا على أن أمتثل لرغبة الباشا، لذا اتَّفقنا على أنها سوف ترعى زوجتي بنفسها، وتسعى لإزالة مخاوِفها، مُسترضية إياها بقُدرتها على أن تتدبر، بسعة حيلتها المُعتادة في مواجهة كل الصعاب، بعض الوسائل لتتأقلَم مع رحيلي، وتُظهر لها أن مَخاوفها لا أساس لها من الصحة. وبِناءً على ذلك، قامَت زوجتي بزيارة ثانية لليدي هيستر؛ حيث بدأت الليدي بالسعي لاستمالة زوجتي، بإخبارها أن سُمعتي الطيبة ستَفسد وسط جميع الباشوات، إذا رفضتُ الذهاب إلى رجل عظيم الشأن مثل حسن أفندي، وأنَّ الليدي نفسها ستَنخفِض مكانتها تبعًا لذلك؛ وأكثر من ذلك أن سفيرَنا في القسطنطينية سوف يَسمع عن الأمر وسيكون له وقع سيئ عنده، بالإضافة إلى الكثير من الحُجج المشابهة. لكن حين وجَدَت الليدي أنَّ هذا الأسلوب المنطقي لم يُجدِ مع زوجتي، حاولَت إخافتَها بأن أكَّدَت لها بشدة أن الدراويش الذين يهتمُّون بعافية الأولياء، وخاصةً المنشدين الذين يترنَّمُون بكلام النبي، سوف يُصيبونها، مُستخدمين تعاويذ غامضة، بأنواع شتى مِن الأذى، مثل أن يجعلوا الشَّعر ينمو في وجهها، والبُقَع تَنتشِر في جسدها … إلخ، إلخ. وسيندهش القارئ حين يُقال له إن الليدي هيستر ستانهوب تظاهَرَت بتصديق كل ذلك. وزوجتي استمعَت لها بتهذيبٍ لا يخلو من ارتياب. ثم سعَت الليدي إلى استمالة رضاها باستعراض المنافع التي ستعُود عليَّ من الناحية المالية، والشالات والمنسوجات المطرزة بالقصب التي سأعود إليها محملًا بها كهدايا من أولئك الرجال العِظام. لكن التوجُّس من العيش منعزلة في القرية أثناء الشتاء، وهو الشعور الذي أثارَتْه لديها الأمسيات العديدة التي قضتها بالفعل هناك وحيدة، كان قد أثَّر بشدة في ذهنِها، لذا أجابت باحترامٍ وحزم أنه إذا أنا اخترتُ الذهاب، فهي بالطبع لا تَملِك منعي، لكن ذلك لن يكون أبدًا إلا على حساب شقائها؛ وعندئذٍ افترَقَتا، دون أن تصفو نية الليدي تجاه زوجتي؛ ومنذ تلك الساعة بدأ نهجٌ من العداوة نحو زوجتي، ولم يتوقَّف قط حتى يوم رحيلنا عن المكان.

يقودُني ذلك إلى الإدلاء بكلمة عن الكراهية الاستثنائية التي تكنها الليدي هيستر ستانهوب لبنات جنسها، وإن كنت لا أعرف لها سببًا؛ لكن أثناء ترحالها ثم إقامتها في جبل لبنان، وفي كل الزيارات التي تلقَّتْها من أشخاص أيًّا كانت منزلتهم، كانت نادرًا ما تَستقبِل زوجاتهم، إذا كنَّ يُسافِرن معهم، أو لا تَستقبلهنَّ مطلقًا. وقد أقرَّت بكراهيتها عمومًا للنساء، وقالت إنها لم تعرف قط، من بين مئات النساء اللواتي تعرَّفت إليهن، سوى ثلاث نساء فقط يمكن أن تتحدَّث عنهن بإعجاب مطلق. لذا كانت تعتبر الرجال المُتزوِّجين بائسين لا محالة، وكثيرًا ما استشهدت بحالة السير «…» لتُدلل على وجهات نظرها في ذلك الأمر. وفي نفس ليلة لقائها بزوجتي وبَّخَتني لرضوخي لمَخاوف فارغة من امرأة، وجعلت تصفُ أمثلة ساخرة ومُضحكة جدًّا عرَفَتها على امتداد حياتها لأزواج تُسيطِر عليهم زوجاتهم، أبرزهم اللورد «…»، وأكثرهم مُعاناةً البارونيت الذي ألمحتُ إليه من قبل. وختامًا لحديثِها أخبرتني أنها سوف تكتب ردًّا لأحمد بك تُخبره فيه أنَّني خاضع لزوجتي، ولا أستطيع الحضور.

كان من عادتها أن ترسل إلى القرية كل صباح خادمًا وحصانًا لإحضاري؛ لكن في أيام السادس والعشرين، والسابع والعشرين، والثامن والعشرين من يناير لم يأتِ ذلك الخادم؛ وكنتُ أعلم جيدًا أن بركان غضبِها سيَنفجر؛ فقد كان خطأً لا يُغتفر من وجهة نظرها أن يُعارِض أي كائن حي مقاصدها، والأشد سوءًا أن تفعل ذلك من أجل امرأة. وفي مساء يوم الثامن والعشرين جاء تابعها، وكيلُ أرضِها، برسالة تسأل فيها إذا ما كنتُ قد تغلبتُ على وساوس زوجتي، وإذا لم يكن قد حدَث ذلك، فإنَّ الليدي ترغب في إقرار ذلك كتابةً. بِناءً على ذلك، كتبتُ رسالة لها، بررتُ فيها رفضي الذهاب إلى دمشق، على أساس أن زوجتي جديدة كليةً على هذه البلاد، وليس لها أحد لتتحدَّث معه؛ لأنها وفقًا لرغبة الليدي هيستر لم تَصطحِب معها خادمة تتحدَّث لغتها؛ ولأنني لا أجد أنه من الصواب تركُها وحدَها، بقَدر أسفي على ما سوف تُسبِّبه خطوتي هذه من خيبة أمل وضيق لسيادتها، ولصديقِنا المشترك، أحمد بك.

الثالث من فبراير ١٨٣١: لم يَصِلني شيء من الليدي هيستر حتى هذا اليوم، عندما أُرسل الحصان لإحضاري، ولدى دخولي إلى صالونها، نشبَت بينَنا مشادَّة عاصفة، في وجود سكرتيرها. وكانت النتيجة النهائية لتلك المشادة أن أبدَيتُ رغبتي في اصطحاب أسرتي عائدًا إلى أوروبا، حالَما أنتهي من أداء كلِّ ما باستطاعتي لها، مُبديًا أسفي على قُدومي كل هذه المسافة بلا طائل. وقالت هي: «لقد منحتُ الكثير من النصائح للعديد من الأشخاص الذين أهتمُّ لأمرهم، وأنتَ آخر من ظننتُ أنَّ بإمكاني أن أصنع منه شيئًا جيدًا من أتباعي، لكن الأمر أشبه بنزع شعر ساق أفراس هجينة؛ فكلَّما نزعته نما ثانية، وكثيرًا ما قد ينالك منها رفسة في الوجه مقابل تعبِك معها. أنت تعرف حسن ظن الناس بك في هذا البلد، وهو ما حافظت عليه؛ لكن سلوكُك الحالي أفسدَ كل شيء؛ لأنه حين يُسلم الرجل ذقنه لامرأة، يُلمُّ به الخراب. فلتتذكَّر كلماتي هذه، ودوِّنها.»

لكن الليدي لم يكن من السهل إحباطها. فقد عادت إلى المحاولة، وحثَّتني من جديد على القيام بالرحلة إلى دمشق. ولفتَت انتباهي إلى كلمات أحمد بك في رسالته، واصفًا مرض حسن أفندي: «إنه لا يشكو ألمًا في صدره، ولا في حلقِه، ويبدو أن المشكلة تكمن في فمه.» وقد فسرت هي هذه الكلمات على أنها إشارة واضحة إلى أن هذا الرجل العظيم كان لديه ما يقوله لها، لكنه أمر بالغ الأهمية بحيث لا يُمكن أن يُودعه برسالة، وأن هذا هو المقصود من قوله: «المشكلة تكمن في الفم». ولما كانت متلهِّفة لمعرفة ماهية هذا الأمر السري، فإنها لم تفكر لا في حالة الطقس (فقد كانت الثلوج متراكمة في أعلى سلسلة جبل لبنان، حيث يقع الطريق المؤدِّي إلى دمشق)، ولا في الوحدة المطلقة التي سأترك فيها عائلتي. صحيح أنه في كوخ آخر بالقرية، يعيش السيد تشاسود وزوجته، وقد أعربا عن استعدادهما لفعل ما بوسعهما لتخفيف عُزلة زوجتي؛ لكنه كان موسم الأمطار؛ حيث تمرُّ أيام يستحيل فيها الانتقال من منزل إلى آخر، من عصف الرياح وسيول الماء المُنهمِرة من السماء، وحين يَنحسِر المطر، تمتلئ الدروب تمامًا بالوحل المخلوط بروث الماشية، لدرجة يستحيل معها السير لخمس خطوات.

ربما يُمكن رؤية سبب للتوجُّس من تركها وحدَها، بِناءً على ما حدث سابقًا في الرابع والعشرين من يناير. كانت تُمطِر بغزارة، وكنتُ جالسًا في المساء أكتب، عندما أبلغني العبد الأسود أن هناك نحو مائتي جندي قد توقَّفوا لقضاء الليل في القرية، في طريقهم للانضمام إلى عبد الله باشا، والي عكا، الذي كان يحاصر قلعة نابلس، حيث كان السكان في حالة تمرُّد، بسبب الإجراءات التعسفية التي اتخذتها الحكومة المحلية هناك. وخلال تلك الأيام، ارتكب الجنود في القرى تجاوزات عديدة. لم يكن لدينا مزلاج لبابنا الأمامي، ولا أي شيء يُحكِم غلق مصاريع النوافذ سوى شنكل فقط. وفي حوالي التاسعة مساءً، جاءتني هذه الرسالة عن طريق خادم السيد تشاسود:

«عزيزي الدكتور،

هناك عدد كبير من القوات في القرية هذا المساء، وبعض منهم تبدو عليهم سيماء السفاحين. أنا مسلح جيدًا، ولا أعبأ بهم. ومن الصواب أن تأخُذ حذرك أنت أيضًا.

المخلص،
جاسبر تشاسود.»

لكنَّني لم يكن لديَّ من سلاح سوى بندقية صيد الطيور، والتي كانت مُثبتة بالمسامير في صندوق لم أكن قد وجدت وقتًا لفتحه بعد، لذا اعتمدت على التقدير الذي يخلعُه اسم الليدي هيستر ستانهوب على كل مَن ينتمي إلى جماعتها، وعلى الأمطار الغزيرة، وعاودت الكتابة، وإن لم أخلُ تمامًا من القلق، حين جعلت الرياح في هبوبها تهزُّ باب الكوخ ومصاريع النوافذ من آنٍ لآخَر، وتجعلني حائرًا ما إن كان ذلك من فعل الأجواء أم مِن فعل البشر.

كان يبدو أن هدنة قد أُبرمت بينَنا وبين الليدي هيستر، وتوقَّفَت الأعمال العدائية، لكن لم تكن تلك الهدنة إلا لتحضير هجوم جديد علينا. كان عبد الله باشا قد ظلَّ مُنشغلًا لعدة أشهر في إنشاء حديقة على الطراز الأُوروبي في ضواحي مدينة عكا، لتكون موضع استجمام له ولحريمه، وقد قدمت له الليدي هيستر العديد من الإرشادات المُفيدة في تصميم الحديقة، وكانت من وقتٍ لآخر تُرسل خادمها الإيطالي، باولو بيريني، لمدِّ يد العون للباشا. ومن أجل هذا الغرض، انقضى اليوم التالي في كتابة رسالة حول بناء مقصورة في الحديقة، وأُمليَ الخطاب بالفرنسية، ثم ترجمَه إلى العربية سكرتيرها العربي، خليل منصور، الذي كان صاحب متجر في صيدا، ويحضُر إليها متى كانت هناك حاجة لكتابة خطابات بالعربية. وثار الكثير من التفكُّه حول بناء جملة ذُكرت فيها إقامة أعمدة على الطراز الأيوني. وألمحَ منصور إلى أن كلمة أيوني لها مدلولٌ في اللغة العربية يجعل من المستحيل استخدامها في الخطاب. وكنت قد وضعتُ رسمًا للطُّرُز المعمارية الخمسة، وكان يتعين كتابة شرح للاختلافات بينها، لذلك أمضيت ساعة كاملة في التغلُّب على هذه المُعضِلة.٢ بعدها كتبت رسالة إلى عبد الرحمن بربر، وهو تاجر تركي، مرفق معها حوالة قدرها ٥٠٠ دولار، تُمثِّل الفائدة المستحقَّة على المال المقترض منه؛ ونظرًا لأنه كان على وشك الانطلاق في رحلة الحج إلى مكة، فقد كانت الحوالة مصحوبة بزاد مِن الأدوية ومُؤَن صغيرة لرحلته، من شاي وشوكولاتة وأشربة وغيرها.

الرابع من فبراير: هذا اليوم مرَّ في كتابة خطابات المشورة والكمبيالات إلى لندن، وخطاب إلى الأمير حيدر، أمير قرية شملان؛ وكذلك في ترتيب أوراق الآنسة ويليامز. وأثناء كتابة العناوين على الكمبيالات المُرسَلة إلى شركة السادة كوتس وشركاه، استعادَت الليدي هيستر ذكرياتها أيام هذا المصرفي المُوسِر. فقالت: «ذات يوم عند زيارتي للسيد كوتس، تصادَفَ أنه كان مبتهجًا للغاية، وعند دخولي لحُجرته بادرني بقوله: «سيدتي، أنا أعتبر نفسي أحد أسعد الرجال حظًّا؛ فقد زارني اليوم واحدة، اثنتان، ثلاث، أربع، خمس، ست من أجمل نساء لندن، وأنتِ السابعة.» كانت الآنسات من عائلة جابينز قد غادرنَ الحُجرة لتوهن لدى دخولي إليها؛ كم كنَّ جميلات يا دكتور! وفي مُناسبة أخرى، وضع العجوز كوتس يدَيه على جانبَي وجهي، وقبَّلني في جبهتي، وهو يهتف: «يا إلهي الرحيم! كم تُشبهين جدكِ، صديقي القديم! يجبُ أن تَعذري رجلًا عجوزًا لم يَملك نفسه فكاد يضمُّكِ في أحضانه، فإن لكِ نفس رنة صوته.» وأكمل قائلًا: «أحسب أنني أرى جدَّكِ الآن جالسًا في ذلك الكرسي؛ وبعد أن أشرح له وجهات نظري في السياسة، أو في أي شيء آخر، يُفنِّدها جميعًا في الحال بشيء لا يقبل الجدل.» هكذا كان جدي يا دكتور، تمامًا مثل شخص يُسهب في شرح وجهة نظره حول طفلٍ ما، ثم يقول له شخص آخر: «كل ما تقولُه بلا طائل؛ فالطفل ميت.» كان جدي يغوص في المستقبل، كما أفعل أنا. والسيد بيت كذلك، كان كثيرًا ما يُخبرني كم أنا شبيهة بجدي، لورد تشاتام. أحيانًا، وأنا أتكلم، كان يهتف: «يا إلهي! لو أغمضتُ عينيَّ لظننتُ أن المتحدِّث هو أبي! ويا لَلغرابة! فقد سمعته يقول نفس الكلمات تقريبًا منذ ٤٠ سنة مضت».» وتكمل الليدي هيستر قائلة: «جدي، يا دكتور، كانت له عينان رماديتان كعينَيَّ، لكنَّهما في ضوء الشموع، كان المرء يظنُّ من التعبير الذي يملؤهما أنهما سوداوان. وحين كان يَغضب، أو يتحدَّث بجدية شديدة، لم يكن أحد ليَقوى على النظر في وجهِه. وكانت قوة ذاكرتِه ومُلاحظاته، حتى عن الأشياء الاعتيادية، فريدة من نوعها. وعند مرورِه بمكان كان قد زاره قبل عشر سنوات، كان يُلاحظ أن ثمة شجرة، أو صخرة أو أي شيء آخر، لم يَعُد موجودًا بالمكان، وعند التحقُّق من كلامه يتبيَّن أنه على حق؛ رغم أنه كان دائمًا ما يُسافر بعربة ذات أربعة خيول، تَنطلِق بسرعة كبيرة.»

الخامس من فبراير: انقضى اليوم كلُّه في رسم شكل يشرَح طبيعة عمل مضخَّة دفع، أو محرِّك، لريِّ الشُّجيرات والزهور في حديقة عبد الله باشا.

السادس من فبراير: من الساعة الواحدة ظهرًا وحتى العاشرة مساءً، دون استثناء وقتِ الغداء، ظلَّت الليدي هيستر تتحدَّث حول موضوع دمشق، في مُحاولة لتثبت لي كيف أن رفضي الذهاب من شأنه أن يُعرِّض حياتي للخطر، وأن يفسد ما بين حكومة دمشق والسيد فارين، القنصل العام الجديد المُنتظر وصوله من إنجلترا؛ وموضحة أنه من ناحيتها، حيث تتوقَّف مكانتها وسط أهل البلاد كليًّا على تقديرهم لها، من الوارد أن تُؤدِّي معارضة زوجتي لإرادتها، إذا لم تُقمع تمامًا، للنَّيل من سلطتها، وتجعل الناس يَفترضون أنها لم تكن شخصية عظيمة كما كانوا يظنُّونها؛ نظرًا لأنَّ السائد في الأمم الشرقية، في جميع العشائر، والمجتمعات، والحكومات المتفرِّقة، ألا يكون هناك سوى إرادة واحدة، وهي إرادة الرئيس. وأقررتُ لها بصحة كل ذلك؛ لكنني قلت لها إنه لا يوجد فيما يبدو سبيل آخر لتسوية المسألة سوى رجوعنا فورًا إلى أوروبا. فأوحت إليَّ بأن بإمكاننا السفر متى شئنا ذلك بالتأكيد، لكنَّنا سنجد الأمر أكثر صعوبة مما أظن. ولم يكن هذا مجرَّد تهديد أجوف منها، فأنا أعلم أنه لا يوجد فلاح واحد سيجرؤ على ترك جماله أو بغاله أو حميره ليستخدمها شخص معروفٌ عنه أنه أثار استياء الليدي؛ وكان من المستحيل أيضًا أن نُرسل لاستئجارها من صيدا؛ حيث لا يُمكن لأحد أن يؤدي هذه المهمة عن طيب خاطر؛ وحتى لو قَبِلَ ذلك، فإن نفوذ الليدي كان مُمتدًّا بشكل كافٍ كي يُرهب سائقي الجمال والبغال من الموافَقة على العمل. انتهت هذه المحادثة بافتراق أبعد ما يكون عن الود؛ لذا لم أقابلها في الثامن ولا التاسع ولا العاشر من فبراير.

الحادي عشر من فبراير ١٨٣١: أُرسل الحصان من أجلي، وبقيت عندها من الظهر حتى وقت العشاء. وسار اليوم كله بكياسة وتحضُّر. دارَ الحديث حول السيد بيت، ووالدها، وأشقائها؛ وعن توم بين، والسيد واي، والسيدة ناش، وآخرين. وبدت الليدي مُستعدَّة للجوء إلى تكتيكاتها المعتادة، وهي شنُّ هجمات على فترات، ثم الانتظار ليوم أو اثنين، لترى ما إذا كانت هجماتها قد أتَت بنتيجة أم لا. وسأقصُّ هنا بعضًا من النوادر التي حكتها.

قالت الليدي هيستر ستانهوب: «أحب السيد بيت ابنةَ اللورد «إ…» حبًّا جمًّا؛ وكانت المرأة الوحيدة التي تمنَّيت أن يتزوَّجها. لم أكن قد رأيتها من قبل؛ ونظرًا لأنها كانت تتردَّد على كنيسة بيكنام، فقد ذهبت في زيارة لمنزل السيد جروت، المصرفي، كي أراها. وذهبَت إلى الكنيسة مع شقيق السيد لونج، وكان عميدًا لكاتدرائية ما لا أذكُرها الآن، وهو رجل عظيم الوسامة. وبمُجرَّد أن ظهرنا في المقصورة، عرفتني على الفور، واصطبغ جسدُها كله بحُمرة شديدة. ثم شحَب لونُها؛ وأحنَت رأسها، ووضعت يدها على وجهها، وانحنَت فوق كتابها وكأنَّها تُصلي. وحين انتهى القداس، ارتأيت أن شرفة الكنيسة ليست بالمكان المناسب للقائي بها، لكنني قررت إلقاء نظرة عليها عن قُرب. وأثناء اقترابنا منها، تظاهَرَت هي بأنها تتحدَّث بحماس مع بعض رفقتِها، لكن كان من الواضح أن انتباهَها قد تحوَّل تجاهي. وعندما ألقَينا عليها التحية رأيت أنَّها جميلة، جميلة جدًّا يا دكتور.

في اليوم التالي، جاءت مركَبة بأربعة خيول تدقُّ الأرض بحوافرِها إلى باب السيد جروت. ووجدنا من يقول: «إنَّنا جيران منذ زمن طويل يا عزيزي السيد جروت، لكنَّني لا أعلم كيف أننا لم نتزاوَر كثيرًا كما كان يجدُر بنا أن نفعل.» كان هذا اللورد «إ…» ووالدة الفتاة. وكانت الفتاة ساعتها أكثر رصانة، وسارَت المُحادثة بشكلٍ جيد جدًّا. وفي اليوم التالي، ذهبتُ أنا والسيد جروت إلى منزل اللورد «إ…»، لكن نظرًا لأنَّ حارس منزله لم يكن قد تلقَّى أوامر باستقبالنا، فقد صرَفنا بوقاحة. ولم تكد عربتُنا تَبتعِد عن المنزل ٢٠ ياردة، إلا وجاء اللورد خارجًا من داره ومعه حشد كامل مِن رجاله، يُكثرون الاعتذار عمَّا بدَر من خطأ فادح من الخدم؛ وعدنا ثانية، ودخلنا المنزل. كانت الفتاة تتمشَّى بالخارج، أو ترسم، أو شيئًا من هذا القبيل؛ وعندما رفعت غطاء رأسها، وأزاحت شعرها جانبًا، كشفت عن جبينِها، وكم كان جبينها جميلًا يا دكتور!

مسكين السيد بيت، لقد انفطَرَ قلبُه حين تراجع عن الزواج منها. لكنَّه رأى أنها لم تكن المرأة التي يُمكن للمرء أن يتركها حين يُحتِّم العمل ذلك، وضحَّى بمَشاعره نحوها من أجل واجبه العام. غير أن السيد بيت كان رجلًا مجبولًا على الحياة الأسرية، ممَّن قد يَستمتِع بالتقاعد في منزله، وزراعة حديقته الخاصة، بل التفنُّن في ذلك. لكن مشيئة الله أرادت غير ذلك. ولم أرَ الفتاة ثانية بعدها سوى مرةٍ واحدة، حين أصبحَت تُدعى الليدي «ﺑ…». وا عَجَباه! كم كانت قد تغيَّرت! أذكر أنني رأيتها في منزل الليدي تشاتام. وقد كان لها فمٌ صغير عندما رأيتها أول مرة. فيا لَلعجب! فإنَّني حين دخلت الحجرة عند الليدي تشاتام حيث كانت الفتاة موجودةً بعد زواجها ببضع سنوات، لم أَستطِع التعرُّف عليها، كما لو كنتُ لم أرَها من قبل قطُّ. ولاحظَت هي ذلك، وبدأت تتحدَّث عن أناس كنتُ أعرفُهم. هذا جعلني أُفكِّر أكثر عمَّن يُمكن أن تكون؛ وعندما لاحظَت هي حرجي، قالت: «أرى أنكِ قد نسيتِني يا ليدي هيستر.» كان فمُها، يا دكتور، قد صار واسعًا وقبيحًا، وقد لاحظتُ أن ذلك يَحدُث للناس حين يتقدَّمون في العمر، ولا أعرف له سببًا؛ لكن انظُر إلى فمي، وسترى نفس الشيء بالضبط.

كان السيد بيت يقول: «ثمَّة أسبابٌ أخرى أيضًا، منها أمها، فيا لها مِن امرأة ثرثارة! وعائلتها وما تُدبِّره من دسائس. لن أستطيع إبعادهم عن منزلي؛ لذا في سبيل بلادي والملك، يجب أن أبقى عَزَبًا».»٣

قالت الليدي هيستر إنه كان من المُمتع رؤية تلك الأمهات الخاطبات يَجلبن بناتهنَّ إلى والمر لمُحاولة الاقتراب من السيد بيت والتعامُل معه، وتعمُّده الابتعاد عنهنَّ بمسافات طويلة. وفي بعض الأحيان، إذا اقتربنَ منه أو أردن وضع بناتهنَّ مُلاصقات له، كان يتحجَّج بأن نار المدفأة تبثُّ حرارة شديدة، أو أن هناك تيار هواء قادمًا من النافذة، أو بعُذر ما كي يُقصي مقعده بعيدًا عنهن.

قلت لها مُعلقًا: «لم يكن ممَّا يَخطر على بال أحد أن رجلًا مغمورًا في شئون الدولة، يُمكن أن يلقي بالًا للعواطف الرقيقة.»

أجابت الليدي: «عفوًا، الأمر ليس كذلك؛ لقد سمعتُه يتحدَّث بجَذَل عن بعض النساء. واعتاد أن يقول إنَّ مَن لا يستطيع أن يُعطي نصيبًا ملائمًا من وقته لزوجته فحريٌّ به ألا يتزوَّج؛ إذ كيف سيكون الوضع حين يكون هو دائمًا في البرلمان أو في أعماله، وهي على الدوام في الأوبرا، أو تتجوَّل بعربتها هنا وهناك؟»

«كان الناس يظنون أن السيد بيت لا يُلقي بالًا للنساء ولا يعرف عنهن شيئًا، لكنهم كانوا على خطأ كبير جدًّا. فالسيدة «ﺑ…»، من ديفونشاير، عندما كانت تُدعى الآنسة «و…»، كانت رائعة الجمال، لدرجة أن السيد بيت شرب الخمر مِن حذائها. لم يفهم أحد معايير القوام والجمال والملابس أفضلَ منه؛ فمن نظرة خاطفة من عينه كان يرى كل ذلك دفعة واحدة. لكن العالم كان يَجهل الكثير عنه. مَن عساه يظن أنه كان هناك خبير أفضل منه فيما يتعلَّق بالنساء في لندن؟ ولم تكن خِبرته بالنساء محدودة بالصورة التي يَظهرن بها للعيان، إنَّما كانت معرفته بالغة الدقَّة لدرجة قُدرته على تحليل ملامحهنَّ وشخوصهنَّ بأكبر قدر من البراعة. ولا يُفلت منه عيب، ولا خلل؛ فكان يُلاحظ ارتفاع كتف عن الأخرى، والعرَج في المشية، حين لا يراها أحد: وكانت المَحاسن التي تروق له حقيقية، وطبيعية. وفي الملابس أيضًا، كان ذوقه راقيًا بالقَدر نفسه. ولا أنسى أبدًا، حين كنتُ أرتِّب ثنيات وكسرات ثوب جميل لأرتديه في إحدى الأمسيات، وكيف قال لي: «الحق يا هيستر، إنك ستفُوقين الجميع أناقةً الليلة، لكن هل تكون جرأة زائدة منِّي إن اقترحت عليكِ لو أنَّ هذه الطية بعينها — وأشار إلى ثنية مثلَّثة الشكل مُتدلية كنت وضعتها في جانب من الثوب — تحوَّلت لأعلى قليلًا؟» وهل تصدق يا دكتور أنها كانت بالضبط ما ينقص الثوب كي يَكتمِل شكله الكلاسيكي. كان هذا ديدنه في كل شيء.

واعتاد السيد بيت أن يقول، حين كنتُ أخرج بملابس الفروسية وسترة مِن الفراء، إنَّ النساء حين يَركبن الخيل، يبدون عمومًا على تلك الهيئة المُعتادة؛ أما أنا فقد ابتدعتُ من تلك الملابس زيًّا جميلًا للغاية.

كان أيضًا بالغ التحضُّر! أذكر إنني حين عودتي متأخِّرة من حفل راقص، كان هو قد آوى إلى فراشه مُنهكًا، وكانت برفقتي أُخريات، وأحدَثنا قدرًا كبيرًا من الضوضاء. وفي صباح اليوم التالي، قلت له: «أعتذر عن إزعاجِنا لك الليلة الماضية.» فأجابني: «لا على الإطلاق، لقد كنتُ أحلم بمسرحية «كوموس» يا هيستر، وعندما سمعتكنَّ جميعًا مُبتهِجات، تراءى لي الحلم كواقع مُمتع.»

ولأُبرهن لك كم كان قلب السيد بيت طيبًا، وكم كان مليئًا بالتعاطف مع الأشخاص الذين يَزدريهم الآخرون، سأُخبرك بما حدث ذات يوم حين كنا في والمر. فقد قلت له: «أتعلم من سيأتي الليلة للعشاء؟» فقال: «لا أعرف يا هيستر، أخبرِيني أنتِ.» قلت: «حسنًا، إنها عشيقة «ﻫ… ﺪ…»، يا إلهي! إنني عازمة على إحراجها.» لكنَّني كنت أمزح فقط يا دكتور. «ﻫ… ﺪ…» كان شقيق اللورد «د…» من نفس الأم، لكنها أنجبَته قبل زواجها، وكانت له عشيقة، وهي امرأة من طراز رفيع، وكان الكلُّ يتحدَّث عن سلوكها الممتاز، لذا خطر لي أن أشاكسها قليلًا، وأخبرت السيد بيت أن «ﻫ… ﺪ…» سوف يحضرها معه على العشاء. فصاح السيد بيت قائلًا: «بالله عليكِ يا عزيزتي هيستر، لا تُحرجي المرأة المسكينة، وإن كانت على وصول الآن، فأرجوكِ ألا تفعلي!» فرددت عليه قائلة: «مهلًا! بل سأفعل، سأُحرجها.» قال السيد بيت: «إنني أتضرع إليكِ إذن ألا تفعلي.» فصحت أنا قائلة: «ها هي قادمة»، ومرَّت أمامنا عربة بأربع عجلات، قريبًا من الجسر المُتحرِّك. والتفَت نحوي السيد بيت حين مرَّت بنا العربة، مُتظاهرًا بالحديث معي. قلت له: «إنها جميلة جدًّا.» قال السيد بيت: «حسنًا، سأذهَب الآن لإعطاء بعض الأوامر بشأن الغُرفة التي ستُقيم فيها»، والحقيقة أنه كان يَنوي استضافتها في أفضل غرفة في المنزل، واستدعاء عدد آخر من الخدم كانوا سيُرسِلون إلى القرية، وعندها قلت له إنني كنتُ أمزَح معه في كل ما قلتُه له؛ وإن العرَبة كان بها فقط خادم «ﻫ… ﺪ…»، وقد حضر قبل وصول سيده.»

وهنا توقَّفَت الليدي هيستر عن الكلام لبرهة من الوقت، كما لو كانت تفكر؛ وأخيرًا حين استأنفت حديثها، مُنساقة خلف تأمُّلاتها، أعربت عن عواطف معينة، سأتشجَّع وأدونها هنا، حتى وإن كانت مُدهشة مقارنةً بالمعايير الأخلاقية التقليدية للمُجتمع. قالت الليدي بنبرة مِلؤُها التأثر: «لقد رأيت في الصحف يا دكتور قصة عن مخلوقة مسكينة وُجدت على عتبةِ باب منزلٍ في أحد شوارع ويستمنستر. لقد أطلقوا عليها اسم إيلين الجميلة؛ تلك البائسة المنبوذة من المجتمع، التي كانت على مَشارف الموت جوعًا. وجدَتْها امرأة فقيرة بائسة مثلها، وأخذتها معها إلى منزلها، وباعت تنورتها كي تُنجدها، وقد يكون حرصها الزائد على إطعامها بما يُقيم أودها، جعلها تُغذيها بطعام يفوق قدرتها على الهضم، فماتَت إلين الجميلة. والآن يا دكتور، لو جاءَتني صديقة إيلين هذه لاستقبلتُها بذراعَين مفتوحتَين، ولأصبحَت صديقتي، فإنني أينما وجدت مشاعر طيبة مثل مشاعرها احترمتُها وأكرمتها.» ومضت الليدي في حديثها قائلة: «كم هو غريب أنَّ الفساد الأخلاقي في إنجلترا حين يأتيه بعض الأشخاص يُواجَه بصَرامة مُفرطة، وحين يفعله آخَرُون يُفلت من الانتقاد! الفقراء يُقابلون بالازدراء على أخطاء ليست بنصف فداحة أخطاء يفعلُها اللوردات الأثرياء في وضح النهار، ويتحدُّون الناس أن يُنكروها عليهم.»

ومضَت تقول: «فلتتصوَّر الواحدة من قوادات إحدى اللوردات المرموقين في سفرِها إلى ويلز، أو منطقة أخرى بعيدة من مُقاطَعات إنجلترا، بهدف إحضار المُومسات لبيوت الدعارة، والعشيقات للأثرياء. إنها تذهب برُفقة خادم ثقة، مُدعية الإبقاء على خدماته لما كان لزوجها العزيز المسكين من ارتباطٍ شديد به؛ ثم تتَّخذ لها مسكنًا راقيًا في مدينة ما، أو كوخًا جميلًا في إحدى القرى. وفي ذلك المكان تزور الفقراء والمرضى، أو تقوم ببعض الأعمال الخيرية لتجعل من نفسها حديث الناس، وفي نفس الوقت تُفتِّش عن فتاة جميلة. وعندما تجد واحدة تظنُّ أنها مُلائمة لغرضها، تتَّخذها في البداية خادمة وتعاملها بلُطف بالغ، وحين ينمو لدى الفتاة استحسان نحوَها، تتظاهَر فجأةً بأنها تلقَّت خبرًا من لندن بوفاة أخٍ لها، أو بمرض صديق مقرب منها، وتقول إنَّ عليها الرحيل في الحال. وترغب الفتاة في أن تأخُذَها معها، بعد أن تكون قد منَّتها بالآمال عما يُمكن أن تصير إليه ذات يوم، بإخبارها أنها ليس لها أقارب يُهمها أمرهم، وأنها ربما تترك لها شيئًا ثمينًا حين تموت؛ وهنا تقول القوَّادة، مُتظاهرةً بالمشاعر الكريمة نحوها، إنها لن تتركها إلا بعد أن تضمَن لها وضعًا أفضل، وتُناشد والدَي الفتاة أن يُحرِّرا لها اتفاقًا ينص على أن تبقى الفتاة معها لخمس سنوات أو سبع، هذا وإلا دفعت لها السيدة ٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا. والوالدان، فَرحَين بالعرض النزيه المقدَّم من السيدة التي تَعمل لديها طفلتهما، يحصلان على الاتِّفاق مكتوبًا بالصيغة القانونية ويُوقِّعان عليه، ومن ثَم يُوافقان على ضياع ابنتهما.

وحالما تَصلان لندن، تُقدِّم إلى الفتاة الملابس والمُتع، وغيرها من المُغريات. وتنسى منزلها المُتواضِع، وتُصبح ألعوبة في يد غاويتها الداهية. وإذا حدَث وسأل الوالدان عنها، فربما يحصلان على الخمسين جنيهًا؛ وبذلك يُصبح الاتفاق الذي كان يُفترض أن يؤمِّن سلامتها هو صك هلاكها.

الليدي هاميلتون كانت قد جُلبَت من ويلز بنفس الطريقة، فتاة ريفية، جميلة، متورِّدة الوجه، وشعثاء إلى حدٍّ ما. وأراد مجموعة من الفنانين عارضةً لصُنع تمثال لفينوس، وكان بعضهم على معرفة بالليدي هاميلتون فاختاروها، لكن السير ويليام هاميلتون التقطها من بين أيديهم، وأخذها إلى نابولي. مع ذلك إلامَ انتهى بها الحال؟ لا تَملِك مالًا يكفي حتى لدفنها، وكذلك السيدة جوردان.»٤

من ١٢ إلى ١٨ فبراير: أمطرت السماء بغَزارة، لدرجة أننا ظلَلنا شبه محبوسين في المنزل لأسبوع. وكلَّما أمكن، كان صديقانا الطيبان، السيد والسيدة تشاسود، يأتيان لتمضية المساء معنا، أو نذهب نحن إلى كوخهما. وعندما استيقظنا في صباح يوم السادس عشر، وجدنا غرفة نومنا ولحاف سريرنا مبلَّلَين من المطر، الذي اخترق السقف بالكامل، باستثناء الجزء الذي يعلو سرير الأطفال لحُسنِ الحظ. واضطُررنا إلى نقل أغطية الفراش والسجاد إلى غرفة أخرى. وكان ذلك اليوم عاصفًا جدًّا؛ واضطُررنا ليومَين أو ثلاثة تاليَين إلى الإقامة والمبيت في نفس الغرفة، لكونها هي الوحيدة التي كانت منيعة ضد الماء. وهبَّت عواصف مُفاجئة بين الحين والحين في غاية العنف، لدرجة أن نفخة من الريح كانت تجعل إبريقًا كبيرًا من النحاس يدور حول نفسه لمسافة ياردة. وطارت سقيفة شرفتنا بأكملها، كأنها قشَّة في زوبعة.

الحادي والعشرين من فبراير: أمضيتُ تسعَ ساعات في حوار مع الليدي هيستر، من الساعة الثالثة بعد الظهر حتى مُنتصَف الليل. وتحدَّثت عن اللورد ستيوارت دي روسي، ودوق ساسكس، والسيد بيت، والعديد من الأشخاص الآخَرين. كان الطقس جميلًا، ورغم أن الثلوج كانت تُغطي جوانب جبل لبنان، على بُعد بضعة أميال، فقد جلسنا حتى غروب الشمس والنوافذ مفتوحة. فربما يكون مناخ سوريا واحدًا من أنقى المناخات وأكثرها اعتدالًا في العالم.

تنقَّلَت الليدي هيستر من موضوع إلى آخر، ثم عادت إلى موضوعِ طِيبِ سجايا السيد بيت. قالت الليدي: «إن المرء ليندهش إذا علم بطبيعة السيد بيت. فما كان أحد ليتصوَّر مدى اهتمامه براحة الناس الذين يأتون لزيارته. فأحيانًا كان يقول لي: «فلتَعلَمي يا هيستر أن فلانًا آتٍ للإقامة عندنا. وأعتقد أن جرحَه لم يَطِب بعدُ، وقد سمعته يقول إنه يشعر براحة كبيرة بوضع كمَّاداتٍ من عُشب طبي ما؛ فلعلكِ تحرصين على أن يجد في غرفته كل ما يحتاجُه منها.» فيما كان يقول عن شخص آخر: «أعتقد أن فلانًا يشرب حليب الأتان، فأودُّ أن يحصل على جرعتِه الصباحية منه.» وأنا، وقد ولدتُ بمثل تلك الحساسية، لدرجة الاهتمام بشئون كل شخص، بصرف النظر عمَّن يكون، كنتُ على الدوام حريصة على تلبية رغباته وزيادة.

هل تتصوَّر يا دكتور أنه في الأسابيع الأخيرة من مرضه الأخير كان يجد الوقت للتفكير في سائس خيوله، لدرجة لم يكن يتوقَّعها أحد منه؟ كان له أربعة سياس، ماتُوا من السل، لاضطرارهم العدو بالخيل في رحلات مُرهقة خلفه؛ إذ إنهم يَشربُون الخمر ويُصيبهم البرد، مما يضعف صحتهم. أما هذا الذي أتحدث عنه، فإنه أول ما أُصيب في رئتيه، أودعناه في نايتسبردج، ثم أرسلناه إلى بلدة ساحلية. وذات يوم قال لي السيد بيت مُتحدثًا عنه: «أخشى أن صحة ذلك المسكين مُتدهوِرة جدًّا، وكنت أفكر في طريقة لمنحه بعض السلوى. وأظن أنه يحبُّ ماري الخادمة بالمنزل؛ فقد رأيتُهما ذات صباح باكر يتحدَّثان وهما مُتقاربان، وكانت الفتاة مُتورِّدة الخدين. أفلا يُمكنكِ أن تتدبري طريقة، دون إيذاء مشاعره، تجعلها تعتني به في مرضه؟»

هكذا، وبعد فترة وجيزة، عندما كان السائس على وشك الذهاب إلى هاستينجز، ذهبت لرؤيته. وسألته: «هل لديك أحد تودُّ أن يذهب معك في رحلتك إلى الساحل؟ أختك أو والدتك؟» فأجاب: «لا، شكرًا لكِ سيدتي.» فقلت له: «الخادمة القائمة على إعداد المشروبات متوفرة، هل تودُّ أن تذهب معك؟» فقال: «كلا يا سيدتي، إن لديها الكثير من المهام لتقوم بها، ودائمًا ما تحتاجونها.» فتنقلت من خادمة لأخرى أعرضها عليه، وفي النهاية أشرت إلى ماري، ولاحظتُ أنني قد ذكرتُ الشخص الصحيح؛ لكنه مع ذلك لم يَقُل سوى إنه يودُّ رؤيتها قبل أن يذهب. لذا أرسلت له ماري؛ وكانت نتيجة محادثتهما معًا أن أخبرها بأنه سيتزوَّجها إذا تعافى من مرضه، أو سيترك لها كل ما يَملك إذا مات، وهذا هو ما فعله.

ذات مرة حصل السيد بيت على خادم بطريقة عجيبة جدًّا، كان يتنزَّه بالخيل في منطقة المستنقعات مع صديق، حين وجدا أحد أسراب الإوز، منتوف الريش، يقودُه صبي يمسك بعصًا طويلة في نهايتها خِرقة حمراء اللون. وقال السيد بيت: «لا بدَّ أن ندُور حولها، فلن نستطيع أبدًا المرور وسط هذا القطيع الهائل.» فهتَف الغلام الحاد الملامح قائلًا: «بلى تستطيع، فقط إذا حافظتَ على هدوء خيولك. هششش هششش!» ولوَّح الغلام بعصاه هنا وهناك، ودقيقة أو اثنتَين افترق القطيع، وانقسم يمينًا ويسارًا في طوابير مُنتظِمة، ليفسح ممرًّا، سار فيه السيد بيت وصديقه. علَّق السيد بيت على ذلك قائلًا: «هذا الصبي ماهر ولا شك، لقد حرَّك جيشه الصغير بطريقة رائعة، فما كان لجنرال أن يتصرَّف على نحوٍ أفضل»، وأمر السائس الذي معه أن يَستفسِر عن هذا الغلام. وبعد يوم أو يومَين أحضره، وألحَقَه بالعمل في الإسطبلات. وبعدها، أصبح الصبي يعمل مُساعدًا للسائس؛ ثم انتقَل إلى المدينة لمساعدة الدرجة العُليا من الخدم، وبعدها أصبح من خدم المائدة؛ إلى أن سافر السيد بيت ذات يوم جنوبًا إلى قرية هوليوود مع السيد دانداس وثلاثة أو أربعة من أصدقائه، للحديث عن بعض أعمال البرلمان (كما كانت عادته حين يرُوم مناقشة خطَّة معينة في هدوء)؛ وإذ فجأةً، سقط الطباخ مُصابًا بسكتة دماغية، ومات؛ وعندما رأى كبير الخدم ذلك أمامه، تأثَّر بشدة وأصيب بنوبة نقرس. وكان هذا الأخير هو أيضًا الخادم الشخصي للسيد بيت في مثل هذه المناسبات حين يسافر خارج المدينة ليوم واحد. انتاب السيد بيت القلق والكدر بشأن العشاء، لكن الخادم الشاب، موضوع حديثنا، قال له: «لا تُرسل يا سيدي في طلب طباخ؛ وإذا وافقت، فبإمكان الخادمة إعداد العشاء. إنهم جميعًا أصدقاؤك المُقرَّبون، ولن يُلاحظوا أي شيء، فخدَمُهم لم يعرفوا أي شيء عمَّا حدث حتى الآن؛ ذلك لأنني اعتقدت أنهم ربما سيَرتعبُون من الوجود في مكان به رجل ميت. اسمح لي أن أُرتِّب الأمر، وسيضحى كل شيء على ما يرام، ودون إثارة أي جزع.» وتبعًا لذلك، ألبس الشاب السيد بيت ملابسه، وأشرف على كل شيء، وتدبَّر الأمر على أكمل وجه، لدرجة أن السيد بيت كان في غاية الرضا عنه، وبعدها بوقتٍ قصير جعله خادمَه الخصوصي؛ لكنه لم يَعِش طويلًا بما يكفي ليُكافَأ على خدماته. لقد تُوفيَ شابًّا في السابعة والعشرين. كان شُعلة من الحماس والنشاط. فكان السيد بيت يقول له: «يجب أن تذهب اليوم إلى مكان كذا، وسأذهَب أنا هناك بعد الغد.» فكان الشاب يرد قائلًا: «اعذرني يا سيدي ولكنَّني لن أذهب؛ لأنني إن فعلتُ ما تقول، فمن سيعتني بك حين تأخذ دواءك في الغد؟ ستكون مشغولًا، وستُؤجِّل تناول الدواء؛ ولا أحد سوايَ يعرف كيف يعطيك إياه.» وكان السيد بيت يردُّ عليه قائلًا: «حسنًا، حسنًا، افعل ذلك إذن»؛ ويسمح له بفعل ما يريد قائلًا: «أوه! إنه شديد الحِرص على صحتي، ويجب أن أدعَه يُنفِّذ ما يراه».»

كانت تلك الحكايات دليلًا واضحًا على قوة ذاكرة الليدي هيستر ستانهوب، وأن لدَيها معينًا لا يَنضب من الحكايات الجاهزة لتَحكيَها عن أي موضوع يُصادفها؛ فإنها حين تطرقت لموضوعات الخدم، بدَت آنسة لها كموضوعات الطبقات العليا من المُجتمع. وقد أخبرتني بقصة مُثيرة للشجن لخادم مُخلص، ظلَّ عدة سنوات يخدم سيِّدَه بأنقى أشكال التضحية، حين كان يعاني مِن ضائقة مالية. وقد أثَّر فيَّ شدة أسلوبها البليغ والقَوي في سرد القصة، وكذلك مُقارنتي بين القصة وموقفي حين تأخَّرت في القدوم إليها في محنتها، بالإضافة إلى نيتي الحالية في هجرها بسبب خلافاتنا الأخيرة، حتى إنني انفجرتُ في البكاء، وانتحبت بمرارة، كما يقولون. وهدأت الليدي من روعي، وحاوَلَت أن تُهوِّن عليَّ، ونفت أي نية للتلميح إليَّ في قصتها. وهذا قادها إلى الحديث عن ضآلة ما تُكنُّه من ضغينة تجاه أي شخص، حتى تجاه من آذَوها، ناهيك عن أن تُضمرها لي، أنا الذي طالَما أبديتُ تعلُّقِي بها، وقالت إنه حتَّى الآن وبرغم أنها على وشك أن تَفقدني بذهابي، فلم تكن أفكارها مشغولة بمَوقفِها بقدر ما هي مُنشغلة بما سيَحدُث لي بعد ذلك، وقد صدَّقتها فيما قالت تمامًا.

من الثالث والعشرين حتَّى السادس والعشرين من فبراير ١٨٣١: طرأت مُشكلة أخرى جديدة ضايقت الليدي هيستر. خادمها الإيطالي، باولو، الذي كانت قد أرسلته إلى عكا للمساعدة في إنشاء حديقة الباشا، قدَّم أو تلقى عروضًا هناك لشغل منصب جيِّد في المدفعية، وكان قد خدم سابقًا كجُندي في حملات نابوليون بونابرت. لذا عاد إلى الليدي ليبدي لها نيَّته في ترك عمله لديها، آملًا منها أن تُعطيه، نظير خدماته لها، شهادة حسن سلوك موجَّهة إلى الباشا. ولما كان هناك شيء من المراوَغة في الموضوع من جانب باولو، فقد قرَّرت الليدي أن تلعب عليه حيلة، مثلما احتال عليها. لذا بدلًا من كتابة شهادة بحُسن سلوكه، وضعت الليدي ورقة فارغة داخل الظرف، ووجهت الخِطاب إلى الباشا، وجعلته مُعنونًا بالألقاب والعناوين المُعتادة لسموِّه، وأعطت الخطاب لباولو، ومنَحَته رواتبه، وصرفته، وهو مُبتهجٌ بأمل الفوز بالمنصب المجزي الذي هو على وشك الترقي إليه. وحين سُمح له بالدخول إلى الباشا، قدَّم له الخطاب، وعندما كسر الباشا الشمع المختوم على الظرف، وجد ورقة بيضاء هي كل ما يَحتويه الظرف. وكانت رسالة أخرى قد أُرسلَت مع مبعوث خاصٍّ إلى الباشا، أوضحت فيها الليدي هيستر عدم كفاءة باولو لمنصب المدفعي، وحثَّت الباشا على عدم تعريض رجاله لخطَر التمزُّق أشلاءً عند فوَّهة المدفع بسبب جهل رجل يَصلح أن يكون خادمًا جيدًا، لكنه سيكون مدفعيًّا غايةً في السوء. وأخذ الباشا برأي الليدي، وصرَف باولو إلى حال سبيله، فأسرع بالعودة إلى بيروت، ثم انسحب إلى أوروبا خائب الرجاء.

لم نتحدَّث بعد ذلك ثانيةً في موضوع ذهابي إلى دمشق. وإنما استهلك الوقت كتابة رسالة طويلة إلى عبد الله باشا حول تنظيم هيكل من القوات النظامية. فقد استغرقت هذه الرسالة، مع مشقَّة ترجمتها إلى العربية، ثلاثة أيام أو أربعة. وكُتبَت رسائل إلى الدكتور دوساب في القاهرة تتعلَّق بشراء بعض العبيد السود، من أجل اللورد إبرينجتون، وآخَرين، واستغرقت هذه الرسائل الوقت المُتبقِّي حتى السابع من مارس. واستأثر الحديث حول قدوم المسيح المنتظَر الجديد بالفترات التي تخلَّلت كتابة الخطابات؛ حيث اجتهدت الليدي هيستر بشدة لتجعلني أعتنق مذهبها في هذا الصدد. وأعربَت عن أسفها أن الغرباء هم من سيَستفيدُون حين تتحقَّق نبوءاتها، وليس أصدقاؤها.

١  هناك تاريخ لأصل عائلة آدم في جريدة «الأوبزرفر» البريطانية والباريسية الصادرة في ٣٠ يونيو ١٨٣٩. ومن لديهم شكوك حول وجود نبالة توارثية في تركيا يُستحسن أن يقرءوا ذلك التاريخ. فالسلطان يخلع لقب الباشوية على الأفراد، مثلما يخلع الملك هنا ألقاب النبالة على هذا الشخص أو ذاك، ولكن لا يتكسَّب أصحاب تلك الألقاب مكانة العائلات العريقة إلا بعد فترة من الزمن، حسب صفاتهم الرسمية.
٢  لا يبدو أن القبطان ميدوز تيلور تحرَّى الدقة في كتابه «اعترافات بلطجي»؛ حيث أورد المقطع التالي: «سقطت عند قدمَيه أسيرة مهزومة؛ لكنَّها فازت بقلبه، وتمَّ النكاح.» كم تبدو الكلمات بلا ضرر حين تكون غير مفهومة!
٣  في عام ١٨٣٧، حين زرت الليدي هيستر ستانهوب للمرة الثانية، كنت أقرأ مذكرات السير ناثنيال وليام راكسال، حيث قال فيها: «كان هناك شيء بخصوص السيد «إ…» يجعل المرء لا يشعر بالثقة فيه»؛ وقاطعتني الليدي هيستر بقولها: «كان هذا هو سبب عدم زواج السيد بيت من ابنته. كانت على عكس كل الأخوات الأخريات. وكانت أمها مثل الدجاجة مع أفراخها، فكانت أحيانًا تجلس في حفلة ما، وتكاد تفترس أحد النبلاء الموجودين، لترى إن كان باستطاعتها الفوز به لواحدة من بناتها. وهنَّ يجلسن جميعًا، مستنفرات، استعدادًا للانقضاض عليه.»
٤  أعتقد أن الليدي هيستر ستانهوب كانت مُخطئة فيما يخص السيدة جوردان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤