الفصل السابع

تأمُّلات، خطاب الليدي هيستر إلى المؤلف تطلُب منه العودة، زيارة المؤلف لسوريا مرة أخرى، التحولات التي حدثت في بيروت، السيد جاسبر تشاسود يُصبح قنصل أمريكا، القداس الإلهي الذي يُؤدِّيه المبشرون الأمريكيُّون، رسالة من الليدي هيستر إلى المؤلف، مُعاداتها المتواصلة لزوجة المؤلف، المؤلف يصطحب عائلته إلى صيدا، وصفٌ للباس سيدة من صيدا وسلوكها، استقبال المؤلف في دار جون، فزع عائلته من أحد الهاربين من الجندية، الاستقرار في دير مار إلياس، زلزال أول يناير ١٨٣٧.

نصل الآن إلى حقبة في حياة الليدي هيستر ستانهوب؛ حيث يُمكن القول إن سمعتها في أوروبا قد وصلت إلى ذروتها، وإن ما تعرَّضت له من إهانات محلية قد هبطت بها إلى أسفل سافلين. وقد زارَها في عزلتها الكثير جدًّا من الرحالة من كل أمم القارة الأوروبية، لدرجة أنه يجوز القول بأن نمط حياتها الفريد صار معروفًا لكل إنسان تقريبًا. فقد أذاعت حكاية السيد لامارتين عن مُقابلته معها نوعًا مُبهمًا من الاندهاش بآرائها الصوفية والمتفرِّدة بالخارج، وقرأ العامة بشغف كل ما استطاعوا الوصول إليه من تفاصيل تتعلَّق بها.

كانت قد مرَّت ست سنوات منذ افتراقنا؛ وبرغم أنها كانت تتفضل عليَّ من آنٍ لآخر برسالة منها، فقد كنتُ تخلَّيت تمامًا عن فكرة رؤيتها مرة أخرى أبدًا، حتى كنت في مدينة نيس، حيث كنت قد أثَّثت منزلًا هناك، بقصد تمضية عامين أو ثلاثة مع أسرتي، وتلقيت منها الرسالة التالية.

من ليدي هيستر ستانهوب إلى الدكتور «…».
الحادي والعشرون من أغسطس ١٨٣٦.

آمُل ألا يكون طلبي المساعدة من صديق قديم بلا طائل، في هذه اللحظة وأنا في أشد الحاجة إلى شخص يُمكنني الاعتماد عليه، لتسوية مسألة ديوني، وغيرها، والتي انكشفت على الملأ الآن. لقد تُرك لي مبلغ من المال، لكنه أُخفيَ عني. ولم أستطع في البداية أن أُصدق ذلك، إلى أن تأكدت من محامٍ شاب، كان قد عرف الحقيقة من أحد معارفي الأيرلنديِّين. وأتمنى منك أن تأتي في أقرب وقت يناسبك، ثم تعود حين يَنتهي الأمر.

[قد حَذَفْتُ فقرة من الرسالة ليس لها أهمية عامة، وفيها تذكر الليدي هيستر وسيلة الانتقال التي سوف أزورها بها، وتُطمئنني أنها «ستُفكِّر في أسرتي قبل أي شيء آخر»، وتُشير إلى الخسائر التي تكبَّدَتها بسبب عدم دفع فواتير معينة.]

ثمة رحَّالة إنجليزي كان قد كتب، حسبما علمت، عملًا شديدَ العُمق، وقد أخبر شخصًا أنه حين صدر كتاب المسيو لامارتين لأول مرة في إنجلترا، كان تأثيره قويًّا للغاية، لدرجة أن كثيرًا من الناس، الذين لا يعرفونني شخصيًّا، تحدَّثوا حول المجيء هنا لاستطلاع أحوالي، وكي يعرضوا عليَّ خدماتهم، لكنَّهم قد مُنعوا من ذلك. وامرأة من طبقة عالية وذات ثروة كبيرة،١ والتي كانت قد شيدت لنفسها قصرًا في منطقة نائية في أمريكا، أعلنَت عزمها على قضاء ما تبقى من حياتها معي، بعد أن صُدمت للغاية من وضعي والعيشة التي أعيشها. إنها من نفس عمري تقريبًا؛ ومن ٣٧ أو ٣٨ عامًا مضت، لم تكن تعرفني شخصيًّا، لكنها كانت مفتونة بمظهري بوجه عام، لدرجة أنها لم تَستطِع قطُّ أن تتحرَّر من أفكارها عني، والتي ظلت تُطاردها منذ ذلك الحين. وأخيرًا بعد أن علمتُ أين أنا من كتاب المسيو لامارتين، فقد عزمت عزمًا استثنائيًّا أن تأتي، وأنا أتوقَّع وصولها في الربيع. وهي الآن تبيع إقطاعيتها الواسعة، تمهيدًا لحُضورها هنا. هي مذكورة في النبوءة، بالإضافة إلى الفرس ليلى (انظر الفصل السادس). والغلام الجميل مكتوب أيضًا بالنبوءة، وهو يَهيم على وجه الكرة الأرضية، إلى أن يُحدِّد القدر زمان لقائنا.

يا لها من غرائب يا دكتور! انسخ هذه العلامات التي ذكرتها لك في ورقة أخرى، والتزم الصمت بشأن هذا الموضوع. وأحضِر معك الملاحظات التي دوَّنتها حول مدينة تدمر وغيرها، ولا تنسَ ذلك. عسى أن أتلقَّى منك ردًّا على رسالتي السابقة على القارب البخاري القادم، لكن بما أنه لن يَمكُث سوى ساعة في بيروت، فيجب إرسال هذا الخطاب ليكون في انتظاره هناك. بارك الله فيك!

[دون توقيع.]

(يبدو أن الليدي هيستر قُوطِعت أثناء كتابتها الرسالة فتوقَّفت، لكنها استأنفتها ثانية على النحو التالي:)

الفتاة السوداء التي لم تبلغ ١٢ عامًا، لكنها تُرتب غرفة نومي وتجيب على الجرس؛ وهي السوداء الوحيدة التي رأيتها دمثة الخلق، لذا أُحاول إسعادها، هذه المسكينة! لذلك إذا جئت، فأرجو منك (إن لم يكن ذلك مُكلفًا) أن تُحضر معك، كنوع من التشجيع لها، زوجًا من الأقراط، وعِقدَ خرز، وزوجًا من الأساور، وكُشْتِبان. فأُذناها، بعد أن تضرَّرتا من ثقبهما ومن الأقراط الثقيلة، اضطُررنا إلى ثقبهما من جديد، في مكان مُرتفع، بالقرب من وجهها، وإن لها أذنًا جميلة فعلًا.

والآن، ما أريده لنَفسي هو ستة فناجيل وأطباقها؛ يكون قطر فوَّهة الفنجان حوالي أربع بوصات، والارتفاع أربع بوصات، وقاعدته بوصتين. كان عندي فنجان كنتُ مغرمة جدًّا به، لأن مذاق الشاي والقهوة فيه كان طيبًا جدًّا! كان من البورسلين الصيني المتين الجيد، لكنَّه ضاع؛ وكانت سعة الفنجان الواحد منه كافية لإفطاري؛ إذ كان يُعادل كوبًا ونصفًا من الحجم المتوسِّط. وأريد أيضًا إبريق شاي، أسود أو أحمر أو كما تُحب؛ وإبريقَين للقشدة؛ وأربعة أباريق للحليب، تحسبًا لتحطُّم اثنين منها — حيث يستخدمون باستمرار — واحدًا للحليب الساخن والآخر للبارد؛ وستة صحون؛ وأربعة أوعية من الزجاج للزبدة والعسل؛ وحمالة للتوست غير مطليَّة، وواحدة أخرى مطلية من أجل الضيوف الغرباء؛ ودزينة من الطسوت؛ وبعض القوارير الصغيرة والفلينات؛ وقليلًا من الشمعدانات العادية، تكون من النحاس، أو من شيء أقوى؛ وقليلًا من أمشاط الشعر؛ وقليلًا من فرش التنظيف من أجل المطبخ، وهذا كل ما أريده.

لا أريد أيَّ كتب؛ فليس لديَّ من يقرؤها لي، فحتى كتابة هذا الخطاب تُرهق عيني.

قد سمعتُ عن وضعك، وذلك يؤلمني لدرجة تفوق الوصف. أعتقد أنك كان من الممكن أن تكون سعيدًا هنا، وكنتُ سأضحى مُطمئنة أنا كذلك، لأنَّني أثق في نزاهتك؛ وبينما كنت تدير كل شيء على النحو الذي أتمناه، كنت ستُتابع في الوقت نفسه هواياتك الأقرب لذوقك. لكن بما أنصحك وقد نصحتك ٥٠ مرة من قبل؟

أما عن أحوالي، فالأخبار ليست مُبهجة؛ لأنه منذ وقت دخول القوات المصرية لهذا البلد وحتى الآن، وأنا في وضع مُضطرب. وبعد الحصار،٢ كل من تبقى من السكان البؤساء لجأ هاربًا إلى هنا، فأصبح بيتي والقرية ولمدة ثلاث سنوات مثل برج بابل. حقًّا إنني لم أتخلص من آخر ١٨ شخصًا كانوا من العائلة نفسها، كلهم أيتام وأرامل، إلا في بداية هذا العام؛ وبقي فقط صبيٌّ كان غير قادر على كسب أي شيء لنفسه أو لأسرته، لافتقاره للتعليم. وفي وقت من الأوقات، كنتُ قد أخرجت من عندي ٧٥ غطاءً من أجل الغُرباء، الذين كان مُعظمهم من الجنود — وكانت القرية مليئة بالعائلات — والمتردِّدين على صيدا والأماكن الأخرى طلبًا لقليل من المال لشراء خبزهم اليومي.

لقد أنقذتُ أرواحًا كثيرة بما أوتيت من طاقة وعزيمة، وقد صمدت وحدي في تلك الكارثة! الجميع ارتجف، الفرنجة مثلهم في ذلك مثل الباقين؛ وحتى لو تظاهَرُوا بالتحلِّي ببعض الشجاعة، فإنهم كانوا لا شكَّ حمقى، ولم يكونوا مُدافعين عن العدالة، وأُجبروا في النهاية على الإذعان؛ لكن مُعظمهم شارك قلبًا وقالبًا مع الغاصبين المحتلين، وهؤلاء عاملتهم دون رحمة، وفي النهاية تغلَّبت عليهم جميعًا. قد أعانني الله في كل ذلك؛ ولولاه لما استطعتُ قطُّ الصمود حتى النهاية، من دون أي سند من أي نوع بجانبي.

لوناردي، تابع السيد ويب، الذي رشحته لي بحماس شديد، جعل من نفسه طبيبًا، وانشغل للغاية بمِهنته الجديدة، لدرجة أنه لم يَعُد له أي فائدة تذكر لديَّ؛ مع ذلك فإن لوناردي عديم الفائدة هذا شخص طيب. بيد أنك لن تَعرفه إذا رأيته الآن؛ إذ تحسَّن سلوكه وكذلك فهمه، وأعتقد أنه هو أيضًا مُتعلق بي.

القلق والتوتر والإرهاق، مُجتمعين مع الانفعالات العنيفة التي أُورِّط نفسي فيها أحيانًا، أدَّت بي، قبل عام واحد فقط، إلى التقيؤ دمًا عدة مرات كافية لقتل حصان. وبعد سبعة أيام توقَّف؛ لكنَّني مع ذلك اضطررت لفصد دمي ١١ مرة في ٤ أشهر ونصف، خوفًا من عودة القَيء الدموي مرة أخرى. وبالأمس كنت أعمل في حديقتي مثل الفلاح. أنا هزيلة جدًّا، لكنني راضية عن وضعي الصحي؛ لأن هذا دليل على قوتي البدنية. وحين كان الدم يسيل من فمي، استجمعت ما يكفي من قوتي لإصدار أمرٍ بخصوص رجل، والذي كان سيُعدم، لو كان قد قُبض عليه؛ ولم يعلم أحد في العائلة بهذا الأمر سوى شخص واحد، والذي أصرَّ على رؤيتي في الحالة التي كنتُ عليها؛ وعلى الرغم من أنني كنتُ بالكاد قادرة على الكلام، فقد فكرت مليًّا، وسويت كل شيء على الوجه الذي يُرضيني، والحمد لله.

لقد أساء عبد الله باشا التصرف تمامًا في القسطنطينية؛ فهو شخص مُتغطرِس وأحمق وغبي، وبلا قلب وعديم الإحساس، لكنَّني عملت معه فقط من أجل السلطان؛ إذ أكنُّ نحوه ولاءً شديدًا، كونه شخصية رفيعة المقام.

صديقك أوركهارت سوف يكون ذا نفع كبير للورد بونسنبي، الذي برغم كونه رجلًا عاقلًا إلا أنه كسول. ومن الوارد إذا نال أوركهارت ثقة الأتراك، أن يطلع على رأيهم فيَّ، لكن عليه ألا يُردِّده على مسامع الفرنجة؛ حيث إنهم يَغارون كثيرًا من نجاحي في مجال السياسة. ولقد تنبَّأت منذ زمن طويل بالتغيير الذي لا بد أن يحدث لدى الفرنسيين والإنجليز، والآن أقول إن النصر سيكون للسلطان محمود.

لقد قامَرَ «ﺑ…»٣ بنحو ٥٠٠ دولار كنت قد أعطيتها له منذ نحو أربع سنوات لشراء أشياء أردتها، لكنه لم يُرسل لي أي شيء منها قط.

لا تقلق على صحتي، فقد قال لي طبيب إنجليزي، كان قد زارني بعد مرضي، إنه لم يرَ قطُّ في حياته مثل هذه البِنية الجسدية، وإنَّ نبضي كان وقتها أفضل من نبضه هو نفسه.

أنا يَعتبرونني هنا السياسية الأولى في العالم، والبعض يعتبرونني نبيَّةً من نوع ما. حتى الأمير بشير يتعجب من ذلك ومندهش؛ فهو لم يُصادف من قبل هذه الموهبة الخارقة؛ غير أن الجميع يقولون — أقصد أعدائي — إنني أكون أسوأ من الأسد حين ينتابني الغضب، وإنهم لا يستطيعون إنكار أنني أناصر الحق.

اكتب لي متى شئت، ولا تتوقَّع مني أن أكتب إليك؛ إذ تتأذَّى عيناي كثيرًا من الكتابة، وليس لديَّ من يساعدني.

[توقيع] هيستر لوسي ستانهوب

تفاجأت بعض الشيء بهذه الدعوة من الليدي هيستر ستانهوب. ولم أُصدِّق حقًّا القصة التي بنت عليها آمالها لسداد ديونها؛ حيث لم أعتقد أنه من المحتمَل أن يَخفى عنها عمدًا مالٌ تُرك لها، أو أن يَحجبه عنها أقاربها، لكنني بالرغم من ذلك لم أتردَّد في الكتابة لها فورًا، وقلت إنني سوف أذهب إليها بمجرَّد أن أتمكن من ترتيب شئوني الخاصة، وهي الفترة التي حددتها بالربيع التالي.

تبعًا لذلك، وبعد أن وظفت مربية لابنتي، لتكون في نفس الوقت رفيقة لزوجتي في الأمسيات الطويلة التي سأقضيها مع الليدي هيستر ستانهوب، غادرنا نيس في الرابع والعشرين من مايو ١٨٣٧ متَّجهين إلى مرسيليا؛ وهناك اتفقنا على السفر على متن السفينة زواف، بقيادة القبطان روبرت، وهي سفينة شراعية قوية، ودفعنا مُقابل الرحلة والكابينة والمؤن ألف فرنك. أقلعنا في السادس من يونيو؛ حيث كان عيد ميلادي الرابع والخمسين، وبعد رحلة ناجحة نزلنا في بيروت في أول يوليو ١٨٣٧.

كانت مدينة بيروت قد شهدت تغيرات كبيرة منذ غزو إبراهيم باشا لسوريا، تغيرات ليست في تعرج شوارعها، ولا أرصفتها المكسرة، ولا قَذارة مداخل بيوتها، ولكن في شكل سكانها. في السابق كنت تشاهد عددًا قليلًا من الأوروبيِّين أو الشوام الشاردين بملابس أوروبية، يتسكَّعون قرب متجر أو اثنين في الحي الإفرنجي، ومن حين لآخَر ترى امرأة أوروبية، زوجة قنصل أو تاجر، تنسلُّ من منزل إلى آخر كما لو كانت خائفة أن تُهان في الطريق من أحد الترك المتعصبين. أما الآن فقد بدا صخب السوق المزدحم جليًّا، والأوروبيون وزوجاتهم يتجولون في المكان بحرية تَكشِف عن ذراع قوية تُسيطر على المسلمين المُتعجرفين. في عام ١٨٣١، كان مجرد ظهور سيدة فرنسية في الشارع، ترتدي فستانًا حريريًّا أخضر يُعتبَر عملًا بطوليًّا شديد الجرأة؛ إذ يترتَّب عليه غالبًا مُضايقات لمن ترتديه بسبب الادِّعاء القائل بأن هذا اللون خاصٌّ فقط بنسلِ النبيِّ محمد؛ وكذلك لم يكن أيُّ رجل نبيل يجرؤ على إعطاء ذراعه لتُمسك بها سيدة في الشارع؛ لكن أصبح كِلا الأمرَين يَحدثان دون كبير اعتراض عليهما. وإن كان المسلمون المتشدِّدون يُضمرون بداخلهم شعورًا بالانتقام من أولئك الذين ينتهكون علانيةً أعرافهم الدينية والأخلاقية. وبعد أن شجَّعَتني هذه التحوُّلات، أخذت عائلتي للتجوُّل في البازارات، وفرجتهم على المسيحيين والأتراك المنهمكين في العمل بأيديهم وأرجلهم لصنع تلك المشغولات الحريرية الجميلة، وحقائب اليد، والمخمل المُضلع، والشرائط، وغيرها من الأشياء التي تُثير إعجاب كل مَن يزُور بلاد الشام.

كُنَّا قد سكنَّا في نُزل يُديره بارسكيفا، وهو خادم سابق للسيد جون مادوكس، النبيل الإنجليزي، والذي كان قد أقام في سوريا لعامَين أو ثلاثة. استطاع هذا الرجل اليوناني، بسبب نظافته وعنايته، الحصول على شهادات كثيرة بحُسن الضيافة من الرحَّالة الذين حطُّوا رحالهم في نُزله، يضعُها في ألبوم يحتفظ به لهذا الغرض، حتى إنَّ مخالفة ذلك الرأي كان يتطلَّب بعض الشجاعة، لكنَّه حافظ على سُمعته التي نالها بجدارة، بالمداومة على نفس مستوى العناية بنزلائه.

لطالَما كانت ضواحي بيروت مليئة بالفيلات والأكواخ ذات الحدائق، لكن ها قد نشأت فيما بينَها الآن بعض المنازل الريفية الجميلة جدًّا. كذلك بُنيَت منازل جديدة في البلدة، ومن بينها منزلان يَمتلكُهما أحد معارفنا القدامى وهو السيد جاسبر تشاسود، الذي أصبح الآن القنصل الأمريكي، ويُقيم في أحدهما. وقد سعدنا بتهنئته على مقامه الرفيع الجديد؛ حيث أكرم ضيافتنا في صالون فاخر يُطلُّ على السفن والميناء، له إطلالة واسعة على جبل لبنان. كما استضافنا المسيو جاي، القنصل الفرنسي، وزوجته الموقَّرة؛ ولو كانت إقامتنا هناك طالت، لكنا استمتعنا أكثر بمجتمع نيس المبهج متمثلًا فيهما.

سارعت بإبلاغ الليدي هيستر ستانهوب بوصولنا، وأثناء انتظار الجِمال والبغال التي ربما تُرسلها الليدي، قمتُ بالتحضيرات الضرورية من أجل الطريق. ووظَّفت طاهيًا، يُدعى كابور، والذي كان يعمل خادمًا لي وهو صبي قبل ٢٠ أو ٢٥ عامًا. وكم كانت فرحتُه عظيمة لرؤية سيده القديم. إلا أنه لم يبقَ معنا إلا فترة وجيزة؛ حيث اكتشفت أنه كان قد سبق طردُه من طاقم خدم الليدي هيستر ستانهوب، وهو ما جعل من المستحيل بالطبع أن أحتفظَ به.

حضرنا القدَّاس الإلهي الذي أقامه المبشرون الأمريكيون في الصالون الكبير بمنزل السيد تشاسود، وقد تأثَّرنا جدًّا بالتقوى المثالية لهؤلاء الرجال الصالحين، الذين كانوا يجتهدون في نشر المعرفة العامة بين السوريِّين، بالتدريس مجانيًّا لأطفال السكان، وطبع الكتب المفيدة في المعارف العمَلية باللغة العربية، وإرشادهم، من خلال القراءة والتفكُّر حتى يشقوا طريقهم الخاص إلى الخلاص، مؤمنين بأن المعرفة بالكتاب المقدَّس وبمنافع الحضارة ستُحقق في سلام الهدف الورع الذي يرُومونه، دون اللجوء لتلك المحاولات العنيفة لتحويل الناس عن دينهم، والتي تُسبب العداء بين الإخوة، وتقضي على غايتهم التي يسعون إليها.

أعارنا السيد جاي خيمة كبيرة مُزدوجة خضراء اللون وجميلة، وكانت كل تحضيرات مُغادرتنا قد تمَّت حين وصَل خادمان من لدن سيادتها، ومعهما الرد التالي على رسالتي.

من الليدي هيستر ستانهوب إلى الدكتور «…»، في بيروت.
دار جون، الأول من يوليو ١٨٣٧.
مساء السبت.
عزيزي الدكتور،

قد أرسلت لك بطرس مَتَّى، مع البغال اللازمة لحَمل صناديق ملابسك وكل ما تُريد استعماله على الفور. أما الأمتعة الثقيلة فمن الأفضل أن تأتي عبر البحر.

وأتمنَّى عليك قبل أي شيء أن تأتي إلى هنا بمُفردك، لتبحث عن منزل لعائلتك في صيدا، وحتى يفهم بعضُنا بعضًا جيدًا قبل أن تُحضرَهم إلى هنا. ولأجل خاطرك، سأعمل دائمًا على التعامل بلياقة مع كل مَن ينتمي إليك، لكن لن يكون لي شأن أبدًا بأيِّ أهواء؛ لأنَّني ومنذ شبابي المبكر تعلَّمت احتقارها. إذا كان وجود بطرس مَتَّى يُمكن أن يفيد زوجتك، فليبقَ معهم حتى عودتك إليهم، وإذا لم يكن كذلك، فليَعُد معك إلى هنا. أتمنَّى أن تكون قد استعدتَ صحَّتك، وألَّا تجد في النهاية سببًا يدعوك إلى الندم على رحلتك.

المخلصة
هيستر لوسي ستانهوب.

قلت في نفسي هكذا إذن، الماضي لم يُنسَ قط؛ فإننا لم نكد نضع أقدامنا على سواحل سوريا، وأعلَنَت الليدي الحرب على زوجتي. والليدي هيستر ستانهوب لم تُخفِ ما تحبُّه وما تكرهه، وبطرس مَتَّى في مُسامراته مع كابور (مثلما يتحدث الخدم عمومًا عن سادتهم وسيداتهم) ركَّز على العاصفة المتصاعدة، التي يُحتمل اندلاعها قريبًا. ولم يكن كابور صافي النية تجاه سيادتها. كان قد تعلَّم القليل من اللغة الفرنسية، وجاءت تعليقاته على وضعي دون أن تنقصها الفِطنة. فقد هتف: «آه! إن الأمر سيكون تمامًا كما كان منذ ستِّ سنوات — سيدتي تبكي، وسيدتي الليدي تَستشيط غضبًا، وسيدي الدكتور يُحاول استرضاء الاثنتَين — يا لها من مُهمة عسيرة! وستَهمس إحداهما في أذنه بشيء، والأخرى بالعكس في الأذن الأخرى؛ مهلًا! سيكون رجلًا بارعًا لو تمكَّن من إصلاح ذات بينهما!»

نظرًا لأنه لم يكن من اللائق أن أترك عائلتي في فندق، فقد قررتُ أن آخذَهم معي في الحال إلى صيدا، برغم اقتراح الليدي عكس ذلك. وفي الثالث من يوليو، عند غروب الشمس بدأنا رحلتنا؛ حيث إن الطقس كان شديد الحرارة على السفر نهارًا. كان الظلام دامسًا ولا يمكن رؤية أي شيء، فلم نستطع حتى رؤية الطريق أمامنا، لكن عبده، سائق البغال، وبطرس، قادا الرَّكب، وكان كل شخص منا يسير إلى جواره حوذي. وهكذا تجنَّبنا أهوال المشهد المحيط بنا، والتي وصفها المسيو دي لامارتين بأسلوبٍ خيالي جدًّا. وخلال أربع ساعات وصلنا إلى خلدة؛ حيث نصبنا الخيمة على ساحل البحر؛ وبعد أن تعشَّينا بمعجنات بكبد الإوز، كانت مدام جاي قد تكرمت بتزويدنا بها، وتناولنا فنجانًا من قهوة الموكا، تمددنا بملابسنا، ونمنا حتى بزوغ نجم الصباح؛ ثم ركبنا البغال ثانيةً، وسِرنا لأربع ساعات أخرى أوصلتنا إلى قرية النبي يونس؛ حيث أفطرنا على قهوة وحليب وبقايا سلة المؤن. وفي هذا المكان استرحنا حتى الثالثة بعد الظهر، ثم تقدَّمنا على طول ساحل البحر حتى صيدا. وعندما كنَّا على بُعد حوالي ربع ميل من بوابات المدينة، قابلنا المسيو كونتي، وكيل القنصل الفرنسي، وعرفنا منه أن الزلزال قد أضرَّ بالمدينة بشدة، وخاصةً الخان الفرنسي، لدرجة أنه لا يُمكن تسكيننا فيه، لكنه عرض علينا بتهذيب حديقته الخاصة، حيث يُمكننا نصب خيمتنا، تحت ظلال الأشجار. الحدائق، أو بالأحرى بساتين صيدا، كانت تحتلُّ قطاعًا مُستويًا من الأرض يتداخل بين الشاطئ وسفح جبل لبنان، بعرض يَتراوح بين ربعٍ إلى نصفِ ميل، ويمتدُّ لفرسَخ بطول الشاطئ. وكانت حديقة المسيو كونتي على حافة الرمال، وبالقُرب من المكان الذي قابلناه فيه. لذلك قبلنا عرضَه شاكرين؛ وبمجرَّد الدخول من بوابة البستان، في غُضون نصف ساعة كنا قد أتمَمنا ترتيبات مُعسكرنا، وانهمَكَ كابور، الذي تراصَّت أواني الطبخ الخاصة به حول نار المعسكر، في إعداد العشاء لنا.

زوجة المسيو بيير جيراردين الجميلة، التي كانت قد عادَت لتوِّها من بيروت بعد رحلة لسبع ساعات على ظهر كديش،٤ ترجَّلت عن حصانها عند بوابة البُستان عندما علمَت مَن بالداخل، وقامت بزيارتنا. هذه السيدة كانت مُتزوجة من نجل جيراردين الذي عاملنا بفظاظة ماكرة عام ١٨٣١، والذي كان قد مات بعدها. كانت تَرتدي ملابس كسيدة سورية؛ إذ انسدل شعرها خصلات مسترسلة على ظهرها، تُخالطه جدائل سوداء من الحرير حتى يبدو طويلًا حتى ثنية ركبتَيها. وكل شعرها كان مُزينًا بقِطَع نقدية صغيرة من الذهب، تُسمى روبيات، عددها نحو مائتي قطعة أو أكثر، وقد أحاطَت برأسها على مستوى جبهتها، مثل التاج، عصابة مُرصَّعة بقِطَع من النقود الذهبية؛ وعلا كل ذلك غطاء رأس بلون أحمر داكن، مُطرز بالذهب بكثافة. وكانت ترتدي ثوبًا كريميَّ اللون، مفتوحًا من الأمام، ومُزرَّرًا فقط عند الخصر، ويكشف عن قميصِها الحريري الشفاف، الذي غطَّى بنطالها المصنوع من الحرير المطرَّز، وغطى كذلك رقبتها مثل المنديل. كانت قدماها دون جوارب، لا يُغطيهما إلا حذاء بابوش أصفر اللون. كانت شابَّة مُفعمة بالحيوية؛ ونظرًا لأنَّ الشائع في الشام افتراض أن السيدات الأوروبيات اللاتي يخرجن للعلن من دون حجاب لا بدَّ بذلك أن يكنَّ مُتهورات بدرجة كبيرة؛ فقد حاولت الشابة بحرية مُفتَرضة أن تحاكي ما تخيَّلت أنه أسلوب لباس أهل البلاد، وهو الأمر الذي صدم بالتأكيد النساء الأوروبيات.

قُدم لنا التوت وتناوَلناه بأعواد خشبية صغيرة مدبَّبة، كي لا نُلطخ أصابعنا. وحينما رحل أصدقاؤنا الجدد، تناولنا العشاء، وقضينا الليلة تحت الخيمة، يَلدغنا الناموس والبراغيث بشكل مرعب.

الرابع من يوليو: في الصباح تمشَّيت إلى صيدا لرؤية المنزل المقرَّر نزولنا فيها؛ لكنه كان غير مناسب، وما زال في حوزة مُستأجريه، وهم عائلة تركية؛ لذلك استبعدت فكرة انتقالنا إليه. ثم تركت عائلتي في الخيمة، وانطلقتُ إلى دار جون، حيث وصلتها قرب الغروب، بعد مسيرة ثلاث ساعات بالحصان من صيدا.

استقبلتني الليدي هيستر استقبالًا لطيفًا ودافئًا، لكن بجدِّية أكبر من استقبالها لي عام ١٨٣٠، ويمكن القول بأنها رحَّبَت بي كما لو كنتُ لم أتركها إلا من شهر فقط وعدت ثانيةً؛ لأنها بمجرد الترحيب بي انتقلت على الفور للحديث في العمل، على حدِّ قولها. وأخبرتني أنه كان سيسرُّها لو كنتُ تركت أسرتي في بيروت، لعدم توافر منزل لديها لتُقدمه لهم؛ وبسبب الآثار المروِّعة للزلزال الذي وقع في الأول من يناير ذلك العام وأدَّى إلى سقوط أو تصدُّع ثلث المنازل في أنحاء فلسطين، سيكون من الصعب العثور على منزل، ما دمتُ لم أقنع بذلك الذي خُصص من قبل لإقامتنا في صيدا.

الخامس من يوليو: شغلَت هذه المحادثة مع الليدي اليوم التالي كله؛ عندما وصَلني، بحلول المساء، خطاب من أسرتي يقولون فيه إنهم في مأزق وخوف عظيمَين، وإن حُضوري مطلوب فورًا. وهكذا قرَّرتُ على عجالة أن أصطحبهم إلى دير القدِّيس إلياس (أو دير مار إلياس، كما يُطلق عليه هنا)، والذي كان أول مكان أقامت فيه الليدي هيستر ستانهوب حين استقرَّت في هذا البلد.

السادس من يوليو: في الصباح ركبتُ جوادي إلى الخيمة، ووجدتُ أسرتي كلها تبكي، وبدا أن تهدئتهم كانت أمرًا ميئوسًا منه. ولفَهم هذا الوضع، يجب أن يتخيَّل القارئ نفسه وقد انتقل من بيتٍ مُريح جيد التأثيث إلى بلد بعيد، نصف مُتحضِّر، لا يفهم كلمةً من لغته، ليُوضَع في خيمة على أطراف المدينة، دون قفل أو مزلاج، دون طاولة أو مقعَد، وليس من أحد يترجم احتياجاته سوى خادمتَين، إحداهما تتكلم فرنسية ركيكة، وعلى ذلك غير مفهومة، والثانية لا تَفهم سوى العربية. صحيح أن سيدات عائلة نائب القنصل زُرنَ أسرتي، وأكَّدن أنه لا يوجد أي خطر نخشاه، لكن حين تركتُهم ومضيت في الجبال، كانت المضائق الجبلية والوديان والمنحدرات التي يُمكن رؤيتها من الخيمة، كافية لاستحضار الذهن لكل الفظائع الجائز حدوثها، من دون حتى خيال مُتشائم.

تصادف ليلة رحيلي عنهم للذهاب إلى الليدي، أن كان أحد الفارِّين من الجُندية، والذي كان ينتظر الضرب بالفلقة أو الإعدام بالرصاص في الصباح، قد هرب من سجن الثكنات العسكرية٥ القائم على أسوار صيدا باتجاه البحر، بإلقاء نفسه في المجارير التي تصبُّ حمولتها في أمواج البحر. وركض للنجاة بحياتِه على طول الساحل، إلى أن رأى ضوءًا مُشتعلًا في حديقة المسيو كونتي وخيمة، فزحف عبر سياج من التين الشوكي بحالته المُزرية، وظنَّ أنه قد يجد مَن يرثي له، ويُوفِّر له مخبأً مؤقتًا. وأيقظ الحفيفُ والضجيج زوجتي، ورأت أمامها رجلًا يرتدي زيَّ الجيش، مبتلًّا وقَذرًا، يقف عند فتحة الخيمة. وأيقظَت صرخاتها الأطفال والمربية والطبَّاخ والبستاني وعبده، الذي كان ينام في سقيفة البستان القريبة من الخيمة. وقبضُوا على الرجل، الذي لم يُحاول الفرار وإنما أخبرهم بقصته؛ ونظرًا لأن الطبقات الدنيا من الناس كانت تُعاني كلها من التعسف في فرض التجنيد، وغيره من الأعباء الشاقة التي فرضها عليهم إبراهيم باشا، الذي أبغضوا حكمه، فقد زوَّدُوا الهارب المسكين بغطاء بسيط، ووجَّهُوه إلى درب عبر الحدائق يتَّجه إلى الجبال؛ حيث يُمكن أن يجد فجوات في الصخور ليُخبئ نفسه فيها، إلى أن يستطيع الحصول على عون من الفلاحين.

لم يكن مُستغربًا أن يُخيفهم جميعًا ظهور رجل غريب بهذا الشكل؛ لأنهم حتى عودتي إليهم، كانوا بالكاد فهموا الظروف التي أدَّت إلى تلك الحادثة، وذلك بسبب جهلهم باللغة. التوسُّلات والدموع، حتى بعد عودتي، جعلت من المحتم عليَّ العمل على نقلهم فورًا، ولما كانت البغال مُقيَّدة إلى الأرض وجاهزة للرحيل، فقد أُعيد تحميلها، وشققنا طريقنا عبر الدروب الحالمة المارة وسط الحدائق، حيث أشجار الليلك والموز والكُروم والبرتقال والليمون، ذات الارتفاع غير العادي، وزهرة الآلام، وغيرها من النباتات المتسلقة، التي نبتَت بوفرة وسط أوراق الأشجار الكثيفة، صانعة كلها ظلًّا طيبًا، خرجنا منه عند سفح الجبل.

ثم مررنا بقرية الهلالية، حيث على أبواب باستيداتهم الريفية،٦ وقف آل خلَّة وضبعاني، أصدقاء أيام شبابي، يَنتظرُون للترحيب بعودتي بينهم، بينما يُشير كبار السن إلى أبنائهم، الذين كبروا الآن، عسى أن أتعرَّف إليهم، ونزلنا مُنحدرًا شديدًا إلى قاع مجرى سيل صغير، ثم صعدنا ثانية دربًا وعرًا ومُتعرجًا ووصلنا إلى التلَّة التي انتصب فيها، على جرف قاحل ومجدب، الدير الصغير لمار إلياس في عبرا، أو دير سانت إلياس، في بلدة عبرا، على بُعد حوالي ساعة ركوب من بوابات مدينة صيدا.
كان مار إلياس في الأصل مُسكنًا لقليل من الرهبان، الذين كانوا يُؤدُّون الطقوس في كنيسة صغيرة مُلحَقة بالدير. ونظرًا لكونه منعزلًا وموقعًا صحيًّا، فقد اختاره أسقف الأرثوذكس اليونانيين (والذي يتبع الدير أبرشيتهم الآن) مكانًا لإقامته، وفي عام ١٨١٣، حين ذهبت الليدي هيستر ستانهوب في البداية لتعيش هناك، كان يَقطن الدير أحد خلفاء الأسقف، ويُدعى مكاريوس، والذي كان أيضًا بطريرك أنطاكية. وبِناءً على طلب الأمير بشير، أمير الدروز، تخلَّى البطريرك٧ عن الدير لتُقيم فيه الليدي هيستر؛ حيث عاشَت هناك لخمسة أعوام أو ستة، إلى أن انتقَلَت إلى دار جون. وبعد تلك الفترة كانت الليدي تزُور الدير بين الحين والآخر، ومنذ وفاة الآنسة ويليامز لم تذهب هناك قط. وشغل الجنرال لوستانو٨ إحدى الحجرات، وعاشت امرأة عجوز، هي أرملة مَتَّى طبيب القرية، مع ابنها في كوخ الحرس، وعملت وابنها حراسًا للدير.

كانت الإصابات الناجمة عن الزلزال واسعة النطاق. ويبدو أنه قد بدأ في مكان ما بالقرب من بحيرة طبرية، ودفن البلدة المسمَّاة بالاسم نفسه، وبلدة صفد وبعض البلدات الأخرى، وتركها أطلالًا، وهدم أو أضرَّ بالجزء الأكبر من المنازل في كل المدن والقرى على طول الساحل المُمتد إلى بيروت، التي لم تتضرَّر منه. وارتجَّ دير مار إلياس حتى أساساته؛ وحين اتخذنا فيه مسكننا الجديد، بدا واضحًا من حالته مدى فظاعة الهزة الأرضية التي حدثت. وقد وصفها لي الجنرال لوستانو كالتالي: كان جالسًا تحت الشرفة التي تحيط بجزء من الباحة الصغيرة، يقرأ في الإنجيل، حين مال الكرسي تحته. فرفع عينَيه عن الكتاب، ورأى جانب المبنى المُواجه له يترنَّح. وعلى الفور ارتفعت سحابة من الغبار فوق سطح المبنى. فعرف أنه زلزال، لكنه لم يَرتعب، أو بالأحرى لم يجد الوقت ليرتعب؛ لأنه قبل أن يستوعب ما يحدث، كان الزلزال قد انتهى، ووجد نفسه سليمًا معافًى. ولم يترك مكانه قطُّ، إلى أن استصرخته خادمته والبواب ووالدة البواب بصرخات مُرتفعة. وحين جاءوا لتفقُّد ما وقع من ضرر، وجدوا غرفة الخزين، القائمة في زاوية الباحة من الشمال الغربي، وقد انهارت تمامًا، ودُفن في أنقاضها أكثر من مائتَي مثقال من الأواني النحاسية. وجدار الغرفة التي كانت سابقًا غرفة نوم الليدي هيستر ستانهوب، والمُجاورة لغرفة الخزين، سقط ملاطُه من أعلى إلى أسفل، وقد سقط نصف الجدار، وظلَّ النصف الآخر مُنتصبًا. وسقف المطبخ سقط بداخله. وفي منتصف الباحة، كانت الروضة المُحاطة بصخور مستطيلة قد ارتفعت عن مكانها عموديًّا لنحو قدمَين، ومعها شجرة الزنزلخت وشُجيرات الزهور ونخلة بلح فوقها؛ ووجدناها نحن على هذه الحال حين جئنا، وكانت الأرضية المرصوفة تُصدِر صوتًا أجوفَ حين نخطُو فوقها. وانتُزع قوس بوابة الإسطبل من مكانه، وسقط مخزن الخشب. والغرفة التي كان يقطنها سابقًا المسيو بودان، الذي كان آنذاك سكرتير سيادة الليدي، والآن نائب القنصل الفرنسي في دمشق، كانت كثيبًا مهيلًا؛ وتجلَّى في كل مكان شقوق وتصدُّعات لا حصر لها. ونجت تمامًا الكنيسة وغرفة الجنرال لوستانو والصالة وحجرة أخرى كبيرة بنفس الحجم، بالإضافة إلى الحمام، وغرفتَين أو ثلاث غرف مُجاورة له. عارضاتُ ما كان سابقًا غرفة نوم الليدي هيستر أصبحت الآن مدعومة بكتل من الخشب؛ وهكذا أصبح لدينا ثلاث غرف كبيرة تحت تصرفنا.

في هذا المكان أسكنت أسرتي، وعيَّنت لخدمتهم امرأتَين، هما تابيثا وحيلون، وفتاة تدعى وردة، وصبي يُدعى حبيبًا، من بلدة عبرا التي كانت على بُعد عشر دقائق سيرًا على الأقدام من مار إلياس، وبدا أن هناك أملًا أن نجد جميعًا راحة كبيرة وطمأنينة، بينما أتمكَّن من منح اهتمامي الكامل لصحة الليدي هيستر وشئونها، موزِّعًا وقتي بالتناوب بين المكانين.

١  هي البارونة دي فيريات.
٢  تقصد حصار عكا.
٣  شخص إيطالي.
٤  اسم كديش يُطلَق على الخيول المدرَّبة على السير ببطء.
٥  الثكنة كانت هي القصر القديم لفخر الدين.
٦  باستيدات هو الاسم الذي يُطلق في منطقة بروفانس على الأكواخ الريفية المربَّعة.
٧  هذا البطريرك مات عام ١٨١٤، وقد حنطتُه بيدي. وحُفِر محراب في الجدار الصلد للكنيسة الصغيرة في مار إلياس، ودُفن فيه الجثمان جالسًا على كرسي، ثم أُغلق المحراب، وسُوِّي بالحائط.
٨  من الآن فصاعدًا سوف تظهر بعض الحكايات عن تاريخ هذا السيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤