فن الجاذبية في قصة سليمان

يُعتبر الأستاذ توفيق الحكيم من أعظم كُتَّاب العرب ثقافة؛ فهو يجيد الفرنسية. وقد تعلَّم أصول الفن الأدبي في باريس في عشرينيات هذا القرن، ثم ظلَّ متابعًا لأحدث أصول الفن القصصي والمسرحي. وهو أيضًا يُجيد قراءة الإنجليزية، وهذا بالطبع إلى جانب ثقافته العربية التي لا تحتاج إلى إبانةٍ أو تفصيل. وقد كتب الأستاذ توفيق الحكيم روايته الخالدة عودة الروح في مطالعِ حياته الأدبية عند عودته من باريس، بل لعلَّه كتبها أو كتب معظَمها في باريس. وقد كان فن الرواية في ذلك الحين قد استوى عند الفرنسيين على أصوله وقواعده، التي ما زالت حتى اليوم من أهم أصول وقواعد فن القصة.

وقد تكلَّم توفيق الحكيم في هذه الرواية عن فكرة وحدة الكون، فكان كلامه مباشرًا بطريقة تدعو إلى الدهشة. ألا يجد أستاذنا الكبير وسيلةً إلى التعبير عن رأيه في فكرة وحدة الكون إلا هذه الوسيلة المباشرة التي تُوشِك بأن تكون مقالةً أكثر منها فصلًا في قصة؟ ولا يشفع له أن هذه الرواية هي من أوائل أعماله؛ فهو حين كتبها كان قد انتهى من أهم مقوِّمات ثقافته. وقد يشفع له أن الفكرة عند الكاتب المفكِّر كثيرًا ما تتغلَّب عليه وعلى فنِّه، فتجعلُه يحيد بهذا الفن إلى شرح الفكرة بطريقٍ مباشر لا فنية فيه ولا إبداع.

إذا كان هذا العرضُ الفجُّ هو العرض الذي لجأ إليه واحدٌ من أكبر كُتَّاب الفن الأدبي في عصرنا الحديث، فدعونا ننظر معًا إلى الإعجاز الفني الذي تناول به القرآن الكريم فكرةَ وحدة الكون. والمقصود طبعًا به أبعدُ ما يكون عن فكرة وحدة الكون الفلسفية التي لا تعدو أن تكون شطحةً من شطحات أحد الفلاسفة العقليين وهو اسبينوزا. دعونا منه ولنعُد معًا إلى أحسن الكلام:

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ١* حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (سورة النمل: من آية ١٦–١٩).

أرأيتَ كيف عبَّرَ القرآن عن وحدة الكون في هذه الآيات؟ فالجن والإنس لم يعُد يجمعهم جميعًا عِلم سليمان. وأين الحيوان إذن؟ هل يُغني الطير عن الحيوان؟ إن كان لا يغني أفلا يغنيك هذا الحديث كله عن النمل وما هي من الطير. إذن فسليمان يعرف أيضًا منطق الحيوان. وأي حيوان. النملة تلك الساعية في الأرض لا تكاد تراها فهو إذن يعرف لغة الحيوان جميعًا ما دام يعرف لغة تلك المخلوقة الضئيلة الهزيلة الهيِّنة. هل هناك تعبيرٌ عن وحدة الكون أروعُ أو أبرعُ من هذا؟

وهناك شيءٌ آخر. هذا الحديث من النملة إلى قومها، ولفظة القرآن الكريم منطق الطير ألا تُشير إليك بشيءٍ آخر؟ إن هذه الحيوانات وهذه الطيور في مدارات الأرض والسماء لها لغتُها فيما بينها، فهي إذن تتفاهم. وهي إذن لها منطقُها الخاص بها. إن هذه الحيوانات والطيور لا يعنيها أن تتسنَّم القمر أو تركب الطائرات؛ فقد خلقها الله وخلق لها في جسومها ما تحتاج إليه في حياتها. هي لا تفكِّر في شأنها، إذن فلعلها أكثر منك سعادة. وما لها لا تكون؟ لعلها بإيمانها المُطلَق الذي لا تحتجزه فلسفة أو تشويه أو تظاهُر بالعلم أسعدُ منكَ أنتَ أيها الإنسانُ الذي يطغى حين يستغني، والذي قال عنه ذو الجلال سبحانه وتعالى قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ.

دعونا نسير هونًا مع هذه الآيات:

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ٢* فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (سورة النمل: من آية ٢٠–٢٤).

أرأيتَ الهدهد يخاطب سليمان؟ هل أحسستَ بوحدة الكون بصورةٍ أوضحَ من هذه؟ أنت أولًا ترى سلطة سليمان على الطير سلطةً مُطلَقة؛ فهو يهدِّد بقتله إن لم يأتِ باعتذارٍ مقبول عن غيبته. وهكذا الحُكْم لا يصلح فوضَى لا قوام له. وانظر أيضًا كيف يكلِّم الهدهدُ الضعيفُ سليمان جميعه. أحطتُ بما لم تُحِط به، وجئتُكَ من سبأٍ بنبأٍ يقين؛ فعبادة الله في هذا المُلك هي أهم شيءٍ يسعَون له. ولا يهمُّ بعد ذلك شيءٌ من المظهر. هذا الكون كلُّه من إنسانِه إلى طيرِه إلى جانِّه لا يهمُّهم شيءٌ إلا أن يعبد الجميعُ ربَّ السموات والأرض. ماذا فعل سليمان؟

اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (سورة النمل: من آية ٢٨–٣٢).

سليمان إذن يدعو إلى دين الله، والملكة تستفتي قومها، فالحكم إذن شورى عندها، مع أنها لا تعبُد الله. وترى ويرى معها قومُها أن يُجرِّبوا إرسال هديةٍ لترى كيف يستقبل قوم سليمان الهدية، وهل يلهيهم المال عن ذكر الله. ماذا يصنع سليمان؟

قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (سورة النمل: من آية ٣٨–٤٠).

وهكذا وأخيرًا جاء دَورُ الجن لتكتمل الصورة أمامك. جميعًا مُسَخَّرُون لسلطان سليمان، وسليمان لا يُعنَى بشيءٍ إلا أن يدعو إلى عبادة ربه، حتى وهو يرى هذه القُوى جميعًا مُسخَّرةً له. لا يفكِّر فيما بلغ من مجد، وإنما يذكُر في خشوعٍ فضلَ الله عليه؛ أأشكر أم أكفر، ومن كفر فإن ربي غنيٌّ كريم.

وهكذا نرى القرآن قد أورد فكرة وحدة الكون دون أن يذكُر هذا العنوان، وإنما أنت لا تجد مناصًا إلا أن تُدرِك هذه الوحدة، مُتمثِّلة في هذا المُلك العظيم من سوابح السماء، ومن الإنسان والجان جميعًا في زُمرةٍ واحدة، فيها النبي وفيها الطير، وفيها الجان، تسعى إلى هدفٍ واحد، وتشرئب إلى إلهٍ واحد، لا إله إلا هو، فاطر السموات والأرض سبحانه.

•••

أقوى وسائل الإقناعِ الإقناعُ بالصورة؛ أي الإقناع بالحدث، ما الذي هدف إليه سليمان من أن يأتي بعرش بلقيس، وبها جميعًا، قبل أن يرتد إليه طرفُه؟ أهو مجرد الاطمئنان أنه يملك هذه الوسائل التي لم تتهيَّأ لإنسانٍ من قبلُ أو من بعدُ؟

القصة هنا تُبيِّن كيف استطاع سليمان أن يُقنِع تلك الملكة التي تسجد هي وقومُها للشمس، أن تسجد لله رب الشمس ورب العالمين. انظر معي ماذا فعل سليمان:

قَالَ نَكِّرُوا٣ لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (سورة النمل: من آية ٤١–٤٣).

أعظم بهذا القرآن! إنه العرض الفني في إعجازه. لم يقل إنها حين رأت آمنَت من فَورِها. لا .. إن القرآن هو الصدق المُطلَق، وهو حين يذكُر لنا القصص، لا يؤلِّفها، وإنما يرويها في عرضه هذا المُعْجز الرفيع، والنفس الإنسانية لا تترك دينها هكذا عند الوهلة الأولى وإلا فهي ليست نفسًا إنسانية. أو هي لم تكن مقتنعةً بما كانت تؤمن به، ولو لم تكن مقتنعةً لتركَت هذا الذي تعتبره، دون حاجة إلى الصورة أو الحدَث أو الحديث، لا بد إذن للنفس التي كانت مؤمنة بشيء أن تتروَّى وترى وتُمعِن النظر، وتتأكَّد، حتى تطمئن إلى هذا الدين الجديد الذي تنوي أن تعتنقه. ونتذكَّر شيئًا آخر، تلك الهدية التي أرسلَت بها إلى سليمان.

إن سليمان لم يُعطِها ردًّا على هذه الهدية. لقد آن له أن يُريَها أمثلةً وهو من سخَّر له الله كل قوى الطبيعة، لا يقبل هديةً منها، وهي لا تزيد عن مجرد ملكةٍ إن أطاعها أبناءُ بلَدها، فما كانت لتُطيعَها الرياح، ولا الطيور، ولا الجان.

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ٤ مِنْ قَوَارِيرَ٥ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

العرض في هاتَين الآيتَين يبلغ ذروة الإعجاز؛ فقد يسأل سائل: كيف لا تؤمن بلقيس حين ترى عرشَها، وترى نفسها منقولةً إليه قبل أن يرتد إليه طرفه، ثم تؤمن لمجرد أن ترى صرحًا مُقامًا من قوارير؟ ولو كان الراوي بشرًا، لقال عن وقوع المعجزة الأولى، وخُيِّل لبلقيس أن ما تراه ما هو إلا من عمل السحر، فهي تأبى أن تؤمن أو تتأكَّد أن هذا الذي تراه إنما هو معجزةٌ إلهية، سُخِّر لها الجن والطير. وقد يقول القصَّاص البشري: إن الملكة وهي ملكة، أبت أن تُخدَع في المظاهر، منذ الوهلة الأولى، فهي تُصرُّ على كفرها وتأبى أن تتزحزح عن دينها بسهولة ويسر، وقد يقول القصَّاص البشري: إنها حين رأت الصرح عاودَتها طبيعة المرأة، فأُخذَت بهذا البناء الشاهق الضخم. وقد يقول: إن الملكة قد كبُر عليها أن تحسب هذه القوارير لجةً من ماء، فهي تكشف عن ساقَيها خشيةَ أن يمسَّ الماءُ ثيابها، فحين عرفت أنها إنما تمشي على قوارير من زجاج، آمنَت لأن الذي يصنع هذا لا يستطيع أن يُتقِنه إلا أن يكون الله قد سخَّر له ما لم يُسخِّره لغيره من قوًى لا حدود لها، فآمنَت.

هكذا قد يقول القصَّاص من البشر. إنما القرآن الكريم يُلوِّح به تلويحًا، ويشير إليه إشارةً معجزة قادرة صانعة فيُصبِح كل حديث بعد ذلك عبثًا من العبث. ونمضي مع سليمان منتقلين إلى سورةٍ أخرى فنرى ذلك الإعجاز الضخم:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ٦ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ٧ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ.

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ٨ وَتَمَاثِيلَ٩ وَجِفَانٍ١٠ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (سورة سبأ: من آية ١٢–١٤).

أرأيتَ هذا الإجمال السريع لِما سخَّره الله سبحانه وتعالى لسليمان، ثم النقلة الغريبة العجيبة المعجزة، هذه النقلة الإلهية؟ إن هذا الذي سخَّرنا له الريح والجن لا يستطيعون أن يعصوا له أمرًا أو يذوقوا عذاب السعير؛ هذا الرجل جميعه ليس إلا إنسانًا يقضي عليه بالموت ربُّ العالمين، كما يقضي بالموت على جميع الناس. إنه مع كل هذا الذي سُخِّر له ليس إلا بشرًا عاش، فلا بد أن يموت؛ ولذا فلا بد أن ينتهي.

يموت نعم، ولكن موته معجزة، لقد اتَّكَأ على مِنسَأتِه، فلم يتصوَّر الجن أنه مات، فظلُّوا على ولائهم له، يسعَون ويروحون ويجيئون في أداءِ ما كلَّفَهم به من مهام، لا يجرؤ واحدٌ منهم أن يقترب منه، أو يسألَه شيئًا. ظانِّين أنه في سِنَة من النوم حتى أكلَت دابة من الأرض مِنسأتَه، فلما خرَّ تبيَّنَت الجن أنه مات.

سبحان رب العالمين، فالجن إذن لا يعرفون الغيب. أليس هذا ما تقوله الآية؟ إنها إذن مخلوقاتٌ هزيلة هيِّنة ضعيفة، لا تعرف إلا ما يشاء الله لها أن تعرف؛ فهي تسعى في خدمة الملِك الميت، في رهبةٍ خائفة هالعة من عذاب رب العالمين، إن هي خرجَت عن أوامره، وهي لا تستطيع أن تعرف موته إلا حين تأكُل دابة الأرض مِنسَأتَه، فلتخجل إذن هذه المخلوقات التي تدَّعي علمًا، وهي لا تعلم شيئًا. لم تقُل الآيات شيئًا من هذا في صريح نصِّها، وتلك هي المعجزة في عرضها.

وهناك شيءٌ آخر لا شكَّ أنك أدركتَه، سليمان هذا النبي الذي آتاه الله كل هذه النعم .. سليمان الذي سُخِّرَت له الرياح سوانح السماء، وسُخِّرَ له الجن، تجعله الدابة التي لا تُرَى يَخِر؛ فعند الذات الإلهية العظمى يظل البشر مهما يعظُم شأنهم بشرًا لا يزالون، وسبحان رب العالمين!

١  يُوزَعُون: يُحبَسُون.
٢  سلطان مبين: حُجَّة بيِّنة.
٣  نكِّروا لها عرشها: اجعلوه مجهولًا عندها بتغيير هيئته.
٤  مُمَرَّد: مُمَلَّس.
٥  قوارير: زُجاج.
٦  القِطر: النحاس المُذاب.
٧  يَزِغ: ينحَرف.
٨  المحاريب: القصور الحصينة سُمِّيَت بهذا الاسم، لأنه يُحارَب من أجلها.
٩  والتماثيل: الصور المجسَّمة.
١٠  والجِفان: جمع جَفْنة وهي الصِّحاف. الجَواب: الحياض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤