الفصل الرابع

مرونة المشابك العصبية

تختص الخلايا العصبية بمعالجة المعلومات، وتواصُل إحداها مع الأخرى باستخدام لغة الكيمياء الكهربية. تُنتج هذه الخلايا نبضاتٍ كهربيةً تشفِّر المعلومات وتحملها عبر أليافها الدقيقة، فتنقل هذه الإشارات بعضها إلى بعض من خلال رسائل كيميائية. والمشابك العصبية هي تلك الوصلات التي تقع بين الخلايا العصبية حيث تحدث عملية إصدار الإشارات (النقل الكيميائي العصبي)، ويشير مصطلح «المرونة المشبكية» إلى الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها التغيير في هذه المشابك.

لمعظم العَصَبونات العديد من الزوائد الشجيرية أو الفروع، ومحور واحد فقط. تستقبل الزوائد الشجيرية الإشارات من الخلايا الأخرى، وتبدأ في معالجتها محليًّا قبل نقلها إلى جسم الخلية. وهناك، تتجمَّع الإشارات الواردة، وحينها تولد إشارة استجابة على الجزء الأولي من المحور بالقرب من جسم الخلية ثم تُكرَّر على طول المحور حتى طرف الخلية العصبية. لا يمكن للنبضات العصبية عبور المشبك، ولهذا فحين يصل نبضٌ ما إلى طرف الخلية يُحوَّل إلى إشارة كيميائية.1

البنية الوظيفية للمشابك العصبية في الدماغ

للمشابك العصبية مكوِّنان بنيويان وظيفيان يُسمى الأول منهما بالغشاء قبل المشبكي، وهو يرسل الإشارات الكيميائية، ويُسمى الآخر بالغشاء بعد المشبكي، وهو يستقبل الإشارات الكيميائية. يمكن للعَصَبونات تكوين مشابك مع عناصرَ أخرى غير الخلايا العصبية، مثل الألياف الهيكلية العضلية والغدد المنتجة للهرمونات، وهي تُسمى بالأعضاء «المستفعِلة» أو المؤثِّرة. بالرغم من ذلك، ففي الدماغ لا تكوِّن الخلايا العصبية علاقات إلا مع بعضها بعضًا؛ إذ يتقابل الليف العصبي الطرفي لإحدى الخلايا مع محور خلية أخرى أو إحدى زوائدها الشجيرية أو جسم الخلية.

غالبًا ما يُشار إلى أطراف الخلايا العصبية باسم الأزرار المشبكية — وتترتَّب العناصر بعد المشبكية للمشابك الاستثارية داخل نتوءات صغيرة للغاية تُسمى بالأشواك، بينما تقع العناصر ما بعد المشبكية للمشابك التثبيطية في مناطقَ مخصصة من الغشاء ما بعد المشبكي — وتوجد أطراف الخلايا العصبية على جذع الزائدة الشجيرية نفسها أو حول جسم الخلية.2 يبلغ اتساع الصدع المشبكي، وهو تلك الفجوة الضئيلة بين الزر والشوكة، من ٢٠ إلى ٤٠ نانومترًا فحسب (النانومتر يساوي جزءًا واحدًا على المليار من المتر). وبالرغم من أنَّ حجم المشابك شديد الضآلة، فهي بنًى ثلاثية الأبعاد شديدة التنظيم، وتتسم الأزرار والأشواك بدرجةٍ عالية من التخصص في أداء وظائفها، كما أنَّ سلوك مكوناتها منسَّق للغاية.

بصفة إجمالية، يمكن تقسيم نوعَي المشابك العصبية الموجودة في الدماغ إلى نوعين: المشابك الاستثارية التي تطلق الناقل العصبي جلوتامات الذي يزيد من احتمالية توليد الخلية بعد المشبكية لنبض عصبي، والمشابك التثبيطية التي تستخدم الناقل العصبي جابا الذي يقلِّل من احتمالية تنشيط الخلية بعد المشبكية.

بالرغم من أنَّ حجم المشابك شديدُ الضآلة، فهي بنًى ثلاثية الأبعاد شديدة التنظيم، وتتسم الأزرار والأشواك بدرجةٍ عالية من التخصص في أداء وظائفها، كما أنَّ سلوك مكوِّناتها منسَّق للغاية.

في الخلايا العصبية الساكنة، تُخزَّن جزيئات الناقل العصبي في بنًى كروية دقيقة محاطة بغشاء تُسمى بالحويصلات المشبكية، التي «ترسو» في «المنطقة النشطة» أسفل الغشاء الطرفي بالضبط، في انتظار وصول نبض عصبي. حين يصل نبضٌ عصبي إلى الطرف، يتسبَّب في تدفُّق أيونات الكالسيوم عبر الغشاء قبل المشبكي؛ مما يؤدي بدوره إلى التحام بعض الحويصلات بالغشاء وإطلاق مكوناتها في الصدع المشبكي. فور الإطلاق، تنتشر جزيئات الناقل العصبي عبر الصدع ثم ترتبط بمستقبل البروتينات المدمج في الغشاء بعد المشبكي؛ مما يحفِّزه على توليد نبضه العصبي الخاص به. يُقال إنَّ هذه العملية «محدَّدة الكم»؛ إذ تحتوي كل حويصلة على عدد محدَّد من جزيئات الناقل العصبي؛ ومن ثَم تشكِّل كمًّا (بمعنى «حزمة») من الناقل العصبي.3
fig3
شكل ٤-١: المكونات قبل المشبكية والمكونات بعد المشبكية في المشبك العصبي (https://commons.wikimedia.org/wiki/File:Synapse_Illustration2_tweaked.svg, CC BY-SA 3.0).
تلتحم الناقلات العصبية التي تُطلَق على هذا النحو بجزيئات المستقبِل المدمجة في الغشاء بعد المشبكي. يكون بعض هذه المستقبلات من قنوات الأيونات التي تشكِّل مسامَّ تدور بالغشاء بعد المشبكي، وتنفتح عند الالتحام فتسمح للتيار الكهربي، في شكل أيونات الكالسيوم الموجبة الشحنة أو البوتاسيوم أو الصوديوم أو في شكل أيونات الكلوريد السالبة الشحنة، في اجتياز الغشاء؛ مما يغيِّر قدرته على التوصيل. يقترن البعض الآخر من المستقبلات بما يُسمى بسلاسل المرسال الثاني، وهي مساراتٌ تَلَوية للإنزيمات وغيرها من البروتينات، ويؤدي ارتباط ناقل عصبي بهذه المستقبلات إلى حدوث تغيرات كيميائية حيوية تدوم لفترةٍ أطول داخل الخلية بعد المشبكية.4
في الخلية بعد المشبكية، تُنظَّم حركات مستقبلات النواقل العصبية والمكونات المختلفة من سلاسل إصدار الإشارة التَلَوية الخاصة بها، من خلال شبكة معقدة من البروتينات السقالية تُسمى «الكثافة بعد المشبكية»، يمكن رؤيتها بمجهر إلكتروني على شكل سُمك وبري يوجد تحت الغشاء مباشرة. تتكوَّن الكثافة بعد المشبكية من عشرات البروتينات المختلفة التي تتعاون جميعها للتحكم في حركات المستقبلات والجزيئات المرتبطة بها داخل الخلية بعد المشبكية.5

من بين جميع أشكال المرونة العصبية المعروفة، ثَمَّة شكل من المرونة المشبكية يُدعى بالتقوية الطويلة الأمد، هو الذي خضع لأكبرِ قدر مكثف من الدراسة؛ ومن ثَم فهو الشكل الذي نفهمه على أفضلِ نحو. إنَّ التقوية الطويلة الأمد هي عملية تزيد من كفاءة النقل المشبكي الذي يُعتقَد الآن أنه الأساس العصبي لمعظم أشكال التعلم والذاكرة، إن لم يكن جميعها. للتعديل في المشابك دورٌ مهم أيضًا في الإدمان، وهو شكل غير سوي من المرونة العصبية ينطوي على نوع شاذ من التعلم (انظر الفصل الثامن).

التقوية الطويلة الأمد والإخماد الطويل الأمد

يمتد عمر الفكرة القائلة بأنَّ تشكيل الذاكرة يتضمن تعديل الوصلات المشبكية العصبية إلى أكثرَ من مائتَي عام. ففي المراسلات التي دارت بين عالِم الطبيعة السويسري شارل بونيه وعالِم التشريح الإيطالي ميكيلي فينشينسو مالاكارني، خلال ثمانينيات القرن الثامن عشر، ناقش العالِمان فكرة أنَّ التمارين الذهنية يمكنها تحفيزُ نمو الدماغ. وافَق مالاكارني على اختبار الفكرة بأخذ كلبَين وطائرين وتدريب واحد من كل زوجين. وبعد بضع سنوات، فحص أدمغة الحيوانات ووجد أنَّ مخيخ الحيوانات المدرَّبة كان يحتوي على ثنياتٍ أكثرَ من تلك الموجودة في نظيره لدى الحيوانات غير المدرَّبة.6

بعد ذلك بمائة عام تقريبًا، اقترح الفيلسوف ألكسندر بين أنَّ «كل فعل من أفعال الذاكرة وكل تمرين يستلزم كفاءةً جسدية، وكل عادة وكل ذكرى وكل تسلسل من الأفكار يحتاج إلى تركيبة معينة من الأحاسيس والحركات أو تنسيقًا معيَّنًا بينها، وهذه التركيبة تنتج عن أشكالٍ محدَّدة من النمو في الموصلات الخلوية.»

وفي أربعينيات القرن العشرين، لاحظ عالِم النفس الكندي دونالد هيب، أنَّ فئران المختبر التي أخذها معه إلى البيت لتكون حيواناتٍ أليفة لأطفاله، تفوَّقت على الفئران الأخرى في مهامِّ حلِّ المشكلات حين عادت إلى المختبر بعد بضعة أسابيع. بدا أنَّ ذلك يوضح أنَّ الخبرة المبكِّرة يمكن أن تترك تأثيرًا كبيرًا على نمو الدماغ وأدائه لوظائفه. أورد هيب هذه النتائج في كتابه المهم الصادر عام ١٩٤٩ بعنوان «تنظيم السلوك»، واستنتج أنَّ «التجربة الأكثر ثراءً التي تعرَّضت لها مجموعة الحيوانات الأليفة … جعلتها أكثرَ قدرة على الاستفادة من الخبرات الجديدة عند النضج، وتلك إحدى السمات المميزة للإنسان «الذكي».»

في ذلك الكتاب، طرح هيب فرضيةً مُفادها أنَّ الذكريات تتشكَّل من خلال تقوية الوصلات المشبكية العصبية. فكتب: «لنفترض أنَّ استمرار نشاط ارتدادي («مسار») أو تكراره، غالبًا ما يحفِّز تغيرات خلوية دائمة تضيف إلى استقراره. وحين يكون محور الخلية «إيه» قريبًا بما يكفي لإثارة الخلية «بي»، ويشارك في تنشيطها على نحوٍ متكرر أو مستمر، تحدث عمليةٌ ما من النمو أو التغيُّر الأيضي في إحدى الخليتين أو كليهما؛ مما يؤدي إلى زيادة كفاءة الخلية «إيه» بصفتها إحدى الخلايا التي تنشط الخلية «بي». بعبارةٍ أخرى، فإنَّ الخلايا العصبية التي تنشط معًا ترتبط معًا.

كانت الفكرة سابقةً لعصرها بوقت طويل؛ فقد مرَّ خمسة وعشرون عامًا قبل ملاحظة آلية مشابهة لتلك التي وصفها هيب، وكان مَن لاحظها هما تيموثي بليس وتيري لومو. كان بليس ولومو يعملان على الأرانب المخدَّرة، واستخدما أقطابًا كهربية دقيقة لإجراء تحفيز كهربي لألياف المسار المثقب بالتزامن مع تسجيل الاستجابات الكهربية للعَصَبونات في التلفيف المسنَّن بالحُصَين، والتي تقع في نهاية ذلك المسار.

أدَّى تحفيز ألياف المسار المثقب إلى تحفيزِ استجابةٍ كهربية في خلايا التلفيف المسنَّن، مثلما كان متوقعًا. بالرغم من ذلك، فقد وجد بليس ولومو أيضًا أنَّ التحفيز المتكرر للألياف (بتردد يتراوح من ١٠ إلى ٢٠ هرتز بالثانية أو نبضة بالثانية) أدَّى إلى زيادة ضخمة في حجم الاستجابة الكهربية في التلفيف المسنن. وإضافةً إلى هذه الزيادة الضخمة في الحجم، استمرَّت الاستجابات أيضًا فترةً أطول؛ فاستغرقت الخلايا فترةً أطول كثيرًا للرجوع إلى حالتها الأساسية.7

أدَّى التحفيز المتكرر إلى زيادةٍ كبيرة في فعالية إصدار الإشارات الكيميائية العصبية بين ألياف المسار المثقب والخلايا العصبية في التلفيف المسنن؛ مما عزَّز الوصلات المشبكية العصبية فيما بينها. في تجارب بليس ولومو الأولية، استمر هذا التعزيز لفتراتٍ تراوحت بين ٣٠ دقيقة و١٠ ساعات، فأطلقا عليها اسم التقوية الطويلة الأمد، لكننا نعرف الآن أنها يمكن أن تستمر لأيام وأسابيع، وربما حتى لفترات أطول.

يعتمد تحفيز التقوية الطويلة الأمد على ارتباط الناقل العصبي الاستثاري، جلوتامات، بمستقبلات «إن-ميثيل دي-أسبارتات» (نمدا). إنَّ مستقبِل «نمدا» هو قناة أيونية نفَّاذة للصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم، لكنَّ الفتحة المركزية التي تسمح بمرور هذه التيارات الأيونية محجوبة بأيون من الماغنسيوم.

في الظروف المعتادة، يبقى هذا العائق من الماغنسيوم، ويعمل الجلوتامات الصادر من طرف عصبي على نوعين آخرين من المستقبلات: مستقبلات «أمبا» ومستقبلات «كاينيت». يزيد التحفيز العالي التردد من النوع الذي يحفِّز التقوية الطويلة الأمد، مقدارَ الجلوتامات الذي يطلقه الطرف العصبي ويزيل عائق الماغنيسيوم؛ مما يسمح للتيارات بالتدفق عبر مستقبلات «نمدا». يتخذ تدفُّق الكالسيوم أهميةً كبيرة؛ إذ إنه يحفِّز الإنزيمات المختلفة اللازمة للعمليات الخلوية التي تقوم عليها التقوية الطويلة الأمد.8
وبهذا، تتَّسم مستقبلات «نمدا» بخواص فيزيائية حيوية فريدة تجعلها مناسبة تمامًا لتحفيز التقوية الطويلة الأمد. يضمن عائق الماغنسيوم عدم تنشيطها إلا في حالة الاستجابة للتحفيز العالي التردد من الخلية قبل المشبكية، وتكون تيارات الكالسيوم التي تتدفق خلالها شديدة التمركز فتنتج «نطاقات مصغرة» واضحة للغاية بها تركيز مرتفع من أيونات الكالسيوم؛ وذلك حتى يمكن حصر التقوية الطويلة الأمد على أشواك الزوائد الشجيرية المفردة، أو على مجموعات فرعية منها في خلية عصبية محددة.9

تتضمن التقوية الطويلة الأمد حدوث تغييرات في المكونات قبل المشبكية للاتصال الذي يخضع للتقوية، ومكوناته بعد المشبكية أيضًا. فعند الطرف العصبي، عادةً ما يوجد في كل منطقة نشطة تجمُّع من مئات الحويصلات، لكنَّ نسبةً صغيرة منها فقط هي التي تكون متاحة للتحرُّر في أي وقت.

يؤدي التحفيز العالي التردد إلى تحسين إطلاق الجلوتامات في الطرف العصبي؛ وذلك إما بزيادة عدد الحويصلات التي تلتحم بالغشاء، وإما بتوسيع مجموعة الحويصلات المتاحة، وإما بإسراع عملية إعادة التدوير، وإما من خلال توليفة من كل ذلك.

من خلال وسائل مثل الفحص المجهري المتحد البؤر، صار من الممكن الآن تحديد جزيئات مفردة من جزيئات المستقبلات، وذلك باستخدام جزيئات الفلوريسنت أو النقاط الكمية، ثم إظهار توزيعها وتتبُّع حركاتها في خلايا حية تُعزَل من أدمغة حيوانات، وتُحفظ حية في أطباق بتري. وباستخدام مثل هذه الوسائل، أثبت الباحثون وجود تجمعات متحركة وأخرى غير متحركة من مستقبلات الجلوتامات ومستقبلات «جابا» على أسطح الخلايا العصبية، وأنَّ جزيئات المستقبلات يمكن أن تتحرَّك بسرعة وتدخل الخلايا العصبية.

يمكن لانتقال المستقبلات هذا أن يحسِّن من استجابة الخلية بعد المشبكية. يؤدي تحفيز التقوية الطويلة الأمد إلى حشد مستقبلات «أمبا»، ويدخلها إلى الغشاء ثم ينقلها خلاله حتى تصبح مركزةً للغاية عند المشبك دونًا عن غيره من الأجزاء الأخرى في شوكة الزائدة الشجيرية. وبالطريقة نفسِها، يُعتقَد أنَّ التقوية الطويلة الأمد تؤدي إلى إيقاظ المشابك «الخامدة» من خلال إدخال مستقبلات «أمبا» التي تفتقر إليها عادة. تُنقَل المستقبلات المحشودة في بنًى كروية محاطة بغشاء تشبه الحويصلات المشبكية، وتدخل إلى الغشاء من خلال الطرح الخلوي، وهي العملية نفسُها التي تلتحم بها الحويصلات مع الغشاء قبل المشبكي خلال إطلاق الناقل العصبي.10
في المشابك الاستثارية، تُنسَّق حركات مستقبلات «أمبا» من خلال بروتينات السقالة الموجودة في الكثافة بعد المشبكية التي تقتصر على قمة شوكة الزائدة الشجيرية، وهي التي تحافظ أيضًا على المستقبلات وشريكاتها التلوية المصدرة للإشارة، في أماكنها الملائمة. بعد تحفيز التقوية الطويلة الأمد، تقوم تيارات الكالسيوم التي تتدفَّق عبر مستقبلات «نمدا» بتنشيط الإنزيمات التي تعيد توزيع المستقبلات بإعادة ترتيب السقالة.11

فور تحفيز التقوية الطويلة الأمد، ترسل الخلية بعد المشبكية إشارة إلى شريكتها قبل المشبكية، وتقوم هذه الإشارة المرسلة إلى الخلف بتنشيط الجينات التي تكوِّن البروتينات الخلوية المتعددة اللازمة للحفاظ على التقوية الطويلة الأمد. وأشار الباحثون إلى أنَّ الناقل العصبي الغازي أكسيد النيتريك هو هذا المرسال الارتجاعي.

إنَّ هذه الآليات جميعها قابلة للانعكاس. فعلى سبيل المثال، يمكن تقليل معدل إعادة تدوير الطرف العصبي للحويصلات المشبكية المستهلكة؛ مما يؤدي إلى نضوب عدد الحويصلات الجاهزة في المنطقة النشطة. ويمكن إزالة المستقبلات من الغشاء بعد المشبكي بالسرعة نفسِها التي دخلت بها. ومعًا، يكون لهذين الحدثين التأثير المقابل للتقوية الطويلة الأمد؛ إذ يقللان من كفاءة النقل العصبي مما يؤدي إلى إضعاف الوصلات المشبكية، في عمليةٍ يُشار إليها باسم الإخماد الطويل الأمد. إنَّ هذه العملية تعتمد هي أيضًا على مستقبلات «نمدا»، لكن ما يستدعيها هو التحفيز المتكرر المنخفض التردد لعَصَبون قبل مشبكي، مع عدم وجود استجابة بعد مشبكية.12

ختم بليس ولومو ورقتهما الكلاسيكية الصادرة عام ١٩٧٣ بوصف التقوية الطويلة الأمد في عبارة تحذيرية: «سواء أكان الحيوان السليم يستفيد من التقوية الطويلة الأمد في واقع الحياة أم لا … فذلك أمرٌ آخر.» لكنَّ حقيقة أنها اكتُشفَت في الحُصَين، الذي كان من المرجَّح بشدة حينها بالفعل أنه يشترك في الذاكرة، تشير بقوة إلى أنَّ التقوية الطويلة الأمد هي أساس التعلم، ومنذ ذلك الوقت والأدلة على أنَّ التعزيز المشبكي ضروري بالفعل لتكوين الذكريات وكافٍ له، تتراكم ببطء مؤيدة لذلك.

فعلى سبيل المثال، حين توضع الفئران في حوضٍ دائري من المياه يمكنها تحديد مواقع الأرصفة المغمورة، وسرعان ما تكوِّن ذكريات مكانية عن مواقعها المحددة؛ فتتمكن من السباحة إلى الأرصفة مباشرةً عند وضعها ثانية في الماء بعد ذلك. غير أنَّ إعطاء الفئران لعقاقير تعوق مستقبلات «نمدا» خلال عملية التعلم، يمنع تكوين الذكريات المكانية؛ فلا تتمكَّن فيما بعدُ من إيجاد الأرصفة المغمورة.13

يمتلك الباحثون الآن وسائلَ أكثرَ تعقيدًا، وإحدى هذه الوسائل على وجه التحديد، وهي تقنية البصريات الوراثية، تسمح بالتحكم في النشاط العصبي بدقةٍ غير مسبوقة. تنطوي تقنية البصريات الوراثية على إدخال الجينات التي تشفِّر بروتينات طحلبية تُسمى «تشانل رودوبسين» في أنواع محدَّدة من الخلايا العصبية. حينها تستخدم الخلايا جيناتها الجديدة لتكوين جزيئات بروتين «تشانل رودوبسين»، وإدخالها في الغشاء مما يجعل الخلايا حسَّاسة للضوء. بعد ذلك يمكن تنشيط الخلايا أو إيقافها على نطاقٍ زمني يتمثَّل في ملِّي ثانية بملِّي ثانية، وفقًا لنوع بروتين «تشانل رودوبسين» الذي تكوِّنه.

باستخدام هذه الوسيلة، يستطيع الباحثون الآن تحديدَ العَصَبونات الحُصَينية التي تنشط خلال تكوين الذكريات، وإعادة تنشيطها بنبضات من ضوء الليزر الموجَّه لأدمغة الحيوانات من خلال ألياف بصرية. تؤدي إعادة تنشيط العَصَبونات الحُصَينية التي نشطت خلال تعلم الفئران ربطَ تجربةٍ غير سارَّة بموقع محدَّد من البيئة، إلى توليد استجابة خوف لدى الحيوانات؛ مما يشير بقوة إلى أنَّ إعادة التنشيط تؤدي إلى استرجاع ذكريات الخوف. يمكن استخدام هذه الطريقة نفسِها للتلاعب بالذكريات بطرق مختلفة: تبديل الذكريات المخيفة إلى ذكريات سارَّة أو العكس، أو زرع ذكريات مزيفة تمامًا في أدمغة الفئران.14

تقدِّم مثل هذه الدراسات أقوى الأدلة حتى الآن على أنَّ التغيير المشبكي هو الأساس العصبي للتعلم والذاكرة، ويعتقد غالبية الباحثين الآن أنَّ كلًّا من تقوية المشابك وإضعافها ضروري لكلتا العمليتين. يتمثل الرأي الحالي في أنَّ الذكريات تتكوَّن عند تعزيز مجموعات محددة من المشابك العصبية ضمن شبكة موزعة من العَصَبونات الحُصَينية وإضعاف مجموعات أخرى، وأنَّ استعادة الذكريات تستلزم إعادة تنشيط الشبكة العصبية نفسها.

تكوين المشابك العصبية

تُعَد التقوية الطويلة الأمد نوعًا من المرونة الوظيفية التي تتضمن تغيرات جزيئية مؤقتة على كلا جانبَي المشبك العصبي، لكن التعلم والذاكرة يتضمنان أيضًا تغيرات بنيوية يمكن أن تغير البنية العصبية تغييرًا كبيرًا. فعلاوةً على تغيير قوة الوصلات المشبكية القائمة، تؤدي الخبرة والتعلم إلى تشكيل مشابك جديدة تمامًا.

إنَّ الغالبية العظمى من عمليات النقل العصبي الاستثاري في الدماغ تحدث في أشواك الزوائد الشجيرية؛ ولهذا ركَّز الباحثون اهتمامهم على فهم الكيفية التي يغيِّر بها التعلم والخبرة من شكل هذه البنى الدقيقة. كان كاخال قد اكتشف أشواك الزوائد الشجيرية قبل ما يزيد عن قرن من الزمان في مخيخ الطيور، لكن الباحثين لم يتمكنوا من دراستها بتفصيل كبير إلا بعد تطوير الفحص بالمجهر الإلكتروني في ثلاثينيات القرن العشرين.15 ومن خلال تقطيع نسيج الدماغ إلى شرائح رقيقة للغاية، وتصوير كلٍّ منها ثم ترتيب الصور كلها من جديد، بدءوا يكوِّنون فكرةً أفضلَ عن الكيفية التي تترتَّب بها الأشواك والمشابك على الزوائد الشجيرية للعَصَبونات بعد المشبكية، إضافةً إلى الكيفية التي يمكن أن تترتَّب بها من جديد استجابة للخبرات الحسية.
أدَّت الدراسات المبكرة إلى أدلةٍ متضاربة. فقد أوضح بعضها أنَّ حجم الأشواك يزداد بمقدار ١٥٪ خلال فترة تتراوح من دقيقتين إلى ست دقائق من تحفيز التقوية الطوية الأمد في الحُصَين، ثم يزداد بدرجةٍ أكبر في الفترة ما بين ١٠ دقائق و٦٠ دقيقة، بينما أوضحت بعض الدراسات الأخرى أنَّ التقوية الطويلة الأمد تؤدي إلى زيادة مساحة سطح الكثافة بعد المشبكية. ولاحظ بعض الباحثين زيادةً في عدد الأشواك والمشابك العصبية بعد تحفيز التقوية الطويلة الأمد، دون أي تغيير في الحجم، بينما لاحظ البعض الآخر زيادةً كبيرة في حجم الأشواك دون زيادة عددها.16

في تسعينيات القرن العشرين، تطوَّرت تقنيات التصوير العالي الدقة على فترات، مثل الفحص المجهري بالليزر الثنائي الفوتون؛ مما مكَّن الباحثين من دراسة هذه العمليات بتفصيلٍ أكبر وأكبر. في بادئ الأمر، أُجريت مثل هذه التجارب في النسيج الدماغي المأخوذ من أدمغة الحيوانات ومحفوظ في أطباق بتري، لكن يمكن إجراؤها أيضًا على الحيوانات الحية من خلال «فتحات الجمجمة» أو أجزاء مرققة من جمجمة الحيوان. وعند الجمع بينها وبين استخدام جزيئات الاستشعار التي تومض استجابةً للزيادة الموضعية في تركيز أيونات الكالسيوم الناتجة عن تنشيط مستقبل «نمدا»، يمكن استخدام التصوير «في الجسم الحي» لمراقبة هذه العمليات على مدار فترات طويلة من الوقت خلال الخبرات الحسية أو تعلم مهارة حركية جديدة.

تؤكد هذه الطرق الجديدة الاستنتاجات السابقة؛ إذ توضح مجددًا أنَّ الخبرة الحسية يمكن أن تنتج تغيرات بنيوية في تركيب أشواك الزوائد الشجيرية، وأنَّ التقوية الطويلة الأمد يمكن أن تحفِّز تغيرات سريعة في حجم المشابك العصبية وشكلها وعددها. بعد تحفيز التقوية الطويلة الأمد، تتكوَّن أشواك جديدة على الزائدة الشجيرية، وتشكِّل في بعض الأحيان وصلات مع الزر المشبكي نفسِه الذي حفَّز تكوينها. تصبح رءوس الأشواك الموجودة بالفعل أكبر، بينما تصبح أعناقها أقصر وأعرض. يمكن لحجم رأس الشوكة أن يزداد بمقدار ثلاثة أضعاف في غضون دقيقة من التحفيز الكهربي المتكرر. وجميع هذه التغيرات تسهل نقل المستقبلات إلى رءوس الأشواك؛ مما يجعلها أكثر حساسية للجلوتامات.

من المحتمل أنَّ التعلم والخبرة يؤديان إلى التشكيل المنمَّط لأشواك جديدة على طول غصن الزائدة الشجيرية نفسه، وعلى أغصان أخرى في الزائدة الشجيرية نفسِها أيضًا. يحفز التعلم الحركي تشكل تجمعات من الأشواك الجديدة في مواقع متلاصقة على الزوائد الشجيرية لخلايا القشرة الحركية لدى الفئران، ويؤدي إلى إضعاف التجمعات المتجاورة وتضاؤل حجمها، وتكوُّن التجمعات الجديدة من الأشواك أدوم من تلك التي تتشكَّل بمفردها.17
ثَمة إغراء في افتراض أنَّ دوام الذاكرة يرتبط باستقرار أشواك الزوائد الشجيرية الجديدة، والنشاط المتزامن في المشابك المجاورة. فالتغيرات البنيوية التي تطرأ على الزوائد الشجيرية تتضمَّن إعادة تنظيم البروتينات الخيطية التي تؤلف الكثافة بعد المشبكية، وذلك من خلال مسارات إصدار الإشارات نفسِها التي حفزها مستقبل «نمدا» بعد استدعاء التقوية الطويلة الأمد. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ المهام الحركية المختلفة تنشط مستقبلات «نمدا» لإنتاج نطاقات دقيقة من الكالسيوم على أفرعٍ مختلفة في خلية عصبية هرمية واحدة في القشرة الحركية للفأر. بناءً على هذا، يمكن استخدام الفروع المفردة في الزوائد الشجيرية أو مجموعات الأشواك التي توجد عليها، بمثابة وحدات أساسية لتخزين المعلومات. ويمكن لهذه الآليات أن تساعد في تفسير قدرة الدماغ الاستثنائية على تخزين الذكريات.18

بالرغم من ذلك، فلا تزال العلاقة المحدَّدة بين التعديل المشبكي وتكوين الأشواك والذاكرة غير واضحة، وتشير بعض الأدلة إلى أنَّ الأشواك الجديدة ليست ضرورية في واقع الأمر للذاكرة. فعلى سبيل المثال، تقل كثافة الأشواك في أدمغة السناجب بدرجةٍ كبيرة خلال البيات الشتوي ثم تزداد مجددًا بعد ذلك، لكنَّ الحيوانات تظل قادرة على تذكُّر المهام التي تعلمتها قبل بدء البيات الشتوي. يحدث الأمر نفسُه أيضًا؛ إذ تقل كثافة الأشواك في منطقة الحُصَين في ٣٠٪ من إناث الفئران خلال دورة الشبق، لكنها تظل قادرةً على تذكُّر الأشياء التي تعلمتها قبل الدورة.

تشير مثل هذه النتائج إلى أنَّ استمرار وجود أشواك الزوائد الشجيرية ليس ضروريًّا لتخزين الذكريات على المدى الطويل. بالرغم من ذلك، ربما يكمن جزء من السبب وراء النتائج المتضاربة بشأن الكيفية المحددة التي تغيِّر بها الخبرة والتعلم من بنية الزوائد الشجيرية، في اختلاف نوع التحفيز المستخدم أو منطقة الدماغ الخاضعة للدراسة. ذلك أنَّ بعض الأدلة تشير إلى أنَّ التعامل مع النسيج الدماغي استعدادًا للتجربة، يمكن في حد ذاته أن يغيِّر من كثافة الأشواك الموجودة بداخله.

ومما يزيد من تعقيد الأمور أنَّ أشواك الزوائد الشجيرية توجد بأشكال متعددة، ويعتقد الباحثون أنَّ أي شوكة يمكن أن تتحول بين الأشكال المختلفة وتتخذها كلها. توجد بعض الأشواك التي تتخذ شكل الفطر فيكون لها رءوس كبيرة مستديرة تتصل بزائدتها الشجيرية من خلال عنق ضيق، وتوجد أشواك طويلة تبدو كنتوءات رفيعة لها شكل الأصابع، وتوجد أشواك صغيرة قصيرة وممتلئة وليس لها عنق ملحوظ. ربما يسهم كل شكل من هذه الأشكال في جوانب مختلفة من تخزين الذكريات، أو ربما تتسبب الأنواع المختلفة من الذاكرة في أنواع مختلفة من التغيرات البنيوية التي تطرأ على بنية الزائدة الشجيرية.19

من الممكن أيضًا أن تضعف المشابك العصبية، وتتضاءل الأشواك المرتبطة بها، وتبتعد عن شريكاتها قبل المشبكية، أو حتى تنكمش وتُلغى تمامًا. يحدث إلغاء المشابك العصبية أو التقليم المشبكي على نحوٍ موسع خلال نمو الدماغ، وهو ضروري للغاية من أجل تشكيل الدوائر العصبية وضبطها على النحو الدقيق في أثناء تشكُّلها (انظر الفصل الثالث). يحدث التقليم على نطاق واسع أيضًا في الدماغ البالغ، ويُعتقد أنه ضروري أيضًا في التعلم والذاكرة، مثله في ذلك مثل التقوية الطويلة الأمد.

من المرجَّح إذن أنَّ التعلم والذاكرة وغيرها من الخبرات، تنتج أنماطًا واسعة الانتشار من التعديل المشبكي على نطاق شبكات بأكملها من الخلايا العصبية في مناطق محدَّدة من الدماغ، بناءً على نوع الخبرة. يحدث التعديل المشبكي باستمرار في الدماغ بأكمله، والأرجح أنَّ ملايين المشابك العصبية تُعدَّل في الدماغ البشري كل ثانية بطريقة أو بأخرى. لا تزال وسائل التصوير الحالية محدودةً بعض الشيء فيما يتعلق بمجال رؤيتها؛ إذ تقتصر على عدة فروع من الزائدة الشجيرية، لكنَّ بعض الأساليب الحديثة الظهور مثل الفحص المجهري الفائق الدقة، ستكشف بلا شك عن المزيد من ديناميكيات أشواك الزوائد الشجيرية ومساهمتها في الذاكرة الطويلة الأمد.

الخلايا الدبقية: شركاء في المرونة

تُعَد الخلايا الدبقية هي الخلايا غير العصبية في الجهاز العصبي، ويتفوق عددها على عدد الخلايا العصبية بمقدار عشرة إلى واحد تقريبًا. اكتُشفت الخلايا الدبقية حينما اكتُشفت الخلايا العصبية تقريبًا، لكنَّ الباحثين اعتقدوا أنَّها لا تؤدي سوى أدوار داعمة فقط تتمثَّل في توفير المغذيات وعزل الألياف العصبية، ومن هنا تأتي تسميتها بالخلايا الدبقية glia بمعنى «صمغ». تؤدي الخلايا الدبقية هذه الأدوار بالفعل، لكننا نعرف الآن أنها تقوم بإسهامات مهمة في معالجة المعلومات بالدماغ والحبل الشوكي، وأنها لا تقل عن الخلايا العصبية أهميةً في هذه المهام.

كان يُعتقد سابقًا أنَّ المشابك العصبية لا تتألَّف إلا من عنصرَين فقط هما الزر قبل المشبكي والغشاء بعد المشبكي. لكن في تسعينيات القرن العشرين، بدأت تظهر أدلةٌ تشير إلى أنها بنًى ثلاثية في حقيقة الأمر، وأنَّ خلايا دبقية تُدعى بالخلايا النجمية تنظم الإشارات الكيميائية التي تُنقَل بين الخلايا العصبية.

تتخذ هذه الخلايا النجمية شكل النجمة، وكان يُعتقد في بادئ الأمر أنها تملأ الفراغات التي تقع بين الخلايا في النسيج الدماغي. بالرغم من ذلك، فقد اتضح الآن أنها لا تستجيب إلى نشاط الخلايا العصبية فحسب، بل تستطيع أيضًا إنتاج إشاراتها الكهربية الخاصة بها، كما أنها تكوِّن مجموعةً كاملة من النواقل العصبية مثل «جابا» والجلوتامات وتُطلقها.

تُعَد الخلايا النجمية هي أكثر أنواع الخلايا عددًا في الدماغ. يحتوي كلٌّ منها على العديد من الفروع الدقيقة التي تتلامس مع مئات الزوائد الشجيرية وما يصل إلى ١٥٠٠٠٠ من المشابك العصبية المفردة. تتسم هذه العمليات بدرجةٍ مرتفعة من الحركة، وتمتد الخلايا النجمية نحو المشابك النشطة بسرعة وتغلفها. يوضح الفحص المجهري الإلكتروني للنسيج الدماغي أنَّ ألياف الخلايا النجمية تتفاعل مع أشواك الزوائد الشجيرية الكبيرة استجابةً للنشاط العصبي، وأنَّ هذه الألياف أقل في الحركة من تلك المرتبطة بأشواك صغيرة.

غالبًا ما تبقى الأشواك الكبيرة لفترة أطولَ من فترة بقاء الأشواك الصغيرة؛ لذا يبدو أنَّ الخلايا النجمية تساعد في استقرار تلك الأشواك من خلال المشابك العصبية. توجد أيضًا بعض الأدلة على أنَّ الخلايا النجمية تستطيع تغيير الإشارات المشبكية من خلال إحكام قبضة المشابك لتقييد انتشار النواقل العصبية، أو إرخاء قبضتها لتسمح بتدفُّق النواقل العصبية بحريةٍ أكبر.

تكوِّن الخلايا النجمية شبكاتٍ بعضها مع بعض، ومع جيرانها من الخلايا العصبية. وبينما لا يستمر نشاط النقل العصبي إلا على نطاق الملِّي ثانية، يستمر نشاط الخلايا النجمية لبضع ثوانٍ. فحين تطلق إحدى الخلايا النجمية، الجلوتامات، تنشط تجمُّعات بأكملها من الخلايا العصبية، وربما يكون نشاطها الممتد طريقةً لمزامنة نشاط تجمعات كاملة من الخلايا العصبية. من الممكن أيضًا أن يسهم نشاط الخلايا النجمية الممتد في التقوية الطويلة الأمد من خلال الاستمرار في تنشيط الأغشية بعد المشبكية لتتزامن مع الإشارات الواردة.20

إضافةً إلى ذلك، تؤدي الخلايا الدبقية الصغيرة أدوارًا مهمة في المرونة المشبكية. فهذه الخلايا هي الخلايا المناعية المقيمة في الدماغ، والتي توفِّر خط الدفاع الأول ضد الإصابة بالعدوى والجروح. تُعيَّن هذه الخلايا في المواقع المتضررة حيث تبتلع مسبِّبات الأمراض والحطام الخلوي من خلال تغليفها في قِطع صغيرة من الغشاء ثم استيعابها بداخلها في عمليةٍ تُعرف باسم البلعمة أو «أكل الخلايا».

يتضح أنَّ الدماغ النامي يتعامل مع الوصلات المشبكية غير المرغوب فيها بالطريقة نفسِها تمامًا. يجري «وسم» الوصلات غير المرغوب فيها من أجل تدميرها بجزيئات من الجهاز المناعي تُدعى بالبروتينات المكملة. تميز الخلايا الدبقية الصغيرة هذا الوسم على أنها إشارة تقول: «كلني»، وتبتلع جميع المشابك الموسومة التي تقابلها. يعتقد الباحثون الآن أنَّ الخلايا الدبقية الصغيرة مسئولة عن التقليم المشبكي على نطاق الدماغ النامي، إضافةً إلى التقليم الموسَّع الذي يحدث في المراهقة (انظر الفصلين الثالث والتاسع).

يجري «وسم» الوصلات غير المرغوب فيها من أجل تدميرها بجزيئات من الجهاز المناعي تُدعى بالبروتينات المكملة.

تُلغى المشابك العصبية على الدوام في الدماغ البالغ، ويبدو أنَّ الخلايا الدبقية الصغيرة مسئولة عن ذلك أيضًا. فهي تتجول باستمرار في بقعتها من النسيج الدماغي، وتفضِّل الاتصال بالأشواك القصيرة الممتلئة، وهي الأسرع زوالًا في الأشواك الحديثة التشكيل. ومن هذا يبدو أنَّ الخلايا الدبقية الصغيرة تراقب حالة المشابك العصبية في بقعتها وتبتلع غير المرغوب منها.21

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤