روح تسكن ملجأ العامرية

جاسم هدى

لهيب الملجأ أحرق تسعةً من أفراد عائلتها بينهم ابنتها (العروس)، غيداء ذات الستة عشر ربيعًا أسماها كلُّ العراقيين الذين زاروها «أم غيداء»، وسمَّاها ثلاثة آلاف عربي وأجنبي اطَّلعوا على آثار جريمة الملجأ «خنساء العامرية» و«قوة العامرية» و«أم الشهداء». ومنذ ١٣ / ٢ / ١٩٩١م لم تغادرْه البطلة العراقية الفذَّة (قوة صبرها وعظمة إيمانها) بيتها الدائم في الملجأ نفسه، فصارت روحًا تسكنه، تهدي الباحثين عن خفايا العدوان الثلاثيني جرائمية دولة إلى كل المعلومات التي تمنح صوتهم الحرَّ مصداقية الرفض والإدانة والدعوة إلى حفر الحقائق في ضمير الإنسانية. لقد أضحت «خنساء العامرية» مرشدةً إعلامية ترفض الإخلاء إلى حيث يعيش الناس حياتَهم الطبيعية؛ لتظلَّ — كما تقول — وفيةً لكل شهداء تلك الليلة المشئومة بيوم ١٣ / ٢ / ١٩٩١م.

تشرد الخنساء لتقول: في تلك الليلة كانت ابنتي الشهيدة غيداء كعادتها في سبات العائلة إلى الملجأ لتهيِّئ مكان الاحتماء من القصف الوحشي. ولما ذهبنا جميعًا كانت العوائل تفعل الشيء ذاته، لكن عندما قاربت الساعة الثانية بعد منتصف الليل رجعت إلى البيت كي أغسل ملابس الأطفال، ترافقني ابنتي «ميساء». وعندما هممتُ بالخروج تناديني غيداء: «ماما، لا تنسي تجهيز بدلتي البيضاء لعيد ميلادي!» كانت آخر ما سمِعته منها، ومنذ تلك الحظة نذرت نفسي لأحيا وأموت في هذا الملجأ، وأترك وصيَّتي عندكم بدفني في هذا المكان الطاهر عندما يحين أجل الله عزَّت قدرته. تضيف خنساء العامرية قائلة: في الساعة الرابعة والنصف سمِعنا دويًّا قويًّا أعقبه دويٌّ أقوى بعد خمس دقائق، ثم سمعت أخي صارخًا: لقد قُصف الملجأ! هُرِعنا إلى المكان، فلم نرَ غير النار تأكل كل شيء … كل شيء … كل شيء!

العبور : علمنا بإقامتك الدائمة في هذا الملجأ، وعلمنا أيضًا، بل وشاهدنا أنك أصبحت مرشدةً إعلامية لجميع زوَّاره. هل استطعتِ الوصول إلى الهدف الذي نذرتِ نفسَك له من خلال شرحكِ لما حدث في هذا المكان، لا سيما وأنكِ قد فقدتِ تسعة من أفراد عائلتك؟
الخنساء : لن أحاول التحدُّث عن هذا الموضوع طويلًا، بل إنَّني سأزوِّدك بما قال هؤلاء الزوَّار، وبخطِّ يدهم، ولكِ أن تختاري ما شئتِ من هذه الأقوال لنشرها في العبور، ولكن ليَ الحقُّ في القول إنَّ الألم الذي أحمله جعلني مقتدرةً على إيصال المعلومة وبشكلٍ صحيح إلى الآخرين، حتى الشخصيات كانت توقِّع بدموعها قبل أقلامها، وكانوا يقولون فورًا: إنها جريمة كُبرى بحقِّ الإنسانية، ولن تُغتفر أبدًا!
العبور : هل تدور نقاشات معك داخل الملجأ عن هذه الجريمة من قِبل الزوار؟ ما هي أكثر الأسئلة التي تُكرَّر من قِبلهم؟
الخنساء : في العام نفسِه الذي وقع فيه الحادث كانوا يردِّدون أسئلة كثيرة، وأكثرها ترديدًا هو: «هل تعتقدين أنَّ هذا الملجأ «عسكري»؟ وهل هو السبب الرئيس لضربه؟» وكنت أجيبهم: لو كان عسكريًّا فعلًا لما ذهب كلُّ هؤلاء الأطفال ضحيةً لضربه، فهل تعتقدين أنَّ الأطفال هم ضباطٌ في الجيش العراقي؟ وفعلًا كانت إجابتي تجعلهم يصمتون طويلًا، بل ويذرفون الدموع أحيانًا كثيرة، وكنت أطلب منهم أن يحفظوا دموعَهم، وأن يحاربوا الظلمَ الذي جعل هؤلاء الأبرياء يذهبون ضحيةً له.
وتضيف: أمَّا في الأعوام التي تَلَتْ ذلك العامَ فكنتُ معروفة جدًّا من قِبلهم، والجريمة أصبحت واضحةً أمامهم وضوحَ الشمس؛ لذلك كانت زيارتهم فقط ليثبتوا موقفهم من هذه الجريمة.
العبور : لقد كان ضمن زوَّار هذا الضريح الجماعي عدد كبير من الشخصيات المعروفة والصحفيين من أرجاء المعمورة، فما هي أصداء هذه الجريمة في الخارج؟ وهل وصلتْ عبارتك التي تردِّدينها في شرحكِ اليومي إلى قلوب من سمعوها؟
الخنساء : لقد تعرَّفتُ من خلال وجودي في هذا المكان على عدد كبير من الشخصيات المعروفة الذين أطلقوا عليَّ ألقابًا كثيرة، كذلك تعاملتُ مع صحفيين كبارٍ من العالم، وكانوا يكتبون عن الملجأ وعنِّي الكثيرَ في بلدانهم، بل إن إحدى الصحفيات الألمانيات قامت بتأليف كتاب كامل عني وعن جريمة الملجأ، إضافةً إلى أنَّ زيارات هؤلاء الناس أصبحت بمثابة دَين في أعناقهم، عليهم أن يوفوه عند عودتهم لبلدانهم بإقامة التظاهرات والكتابة في الصحف والمجلات، ومطالبة الرأي العام بمناصرة هذا الشعب الذي تعرَّض لأكبر جريمة في العصر الحديث، وأيضًا سأزوِّدكم، ولأول مرة، بما نُشر عن الملجأ في بلدان العالم بعد زيارتهم لنا.
fig1
خنساء العامرية (أم غيداء).
العبور : لقد سمِعنا قصصًا كثيرة عن هذا المكان، بعضها نشرته الصحف الأجنبية نقلًا عنك، هل بإمكاننا التعرُّف على جانبٍ منها؟
الخنساء : ذكرتِ أنها قصص، والقصص كما أعتقد تحمل بين طياتها شيئًا من الخيال، وما سأقوله لا يمتُّ للخيال بأية صِلة، بل إنها حقيقة يوقِّع عليها كلُّ مَن يسكن منطقة العامرية. أقول لك وهذا ما حدَّث به الزوار والأجانب الذين كانوا يؤكِّدون ما أسمع، فأصوات الأطفال ما زالت تتردَّد بين جدران الملجأ، وأحيانًا أسمعهم ينادون بعضهم بعضًا. وعندما يقترب يوم الحادث تلبس العامرية لباسًا آخر تمامًا، وكأن التأريخ يعود إلى ما قبل أربع سنوات، فالليل لا ينامه أحد، وعندما تقترب الساعة السوداء تنهالُ أصوات الأطفال وكأنهم يطلبون النجدة. وتنهض الخنساءُ من مكانها لتنظر عبر «الكرفان» الصغير الذي تسكنه، وتنظر إلى الملجأ القريب منها، وتقول: سأقصُّ عليك حكايةً أخرى بالقرب من هذا الملجأ، وسأذهب بك إليه. مدرسة الجنائن التي تديرها السيدة «سميرة داخل عبد» منذ تسعة أعوام … أربعون طالبًا وطالبة كانوا ينتسبون لهذه المدرسة ذهبوا ضحيةَ جريمة الملجأ … ومنذ ذلك التاريخ لحدِّ الآن جميع منتسبي المدرسة يشعرون بوجودهم من خلال الطيور الصغيرة التي تحطُّ في إدارة المدرسة وعلى الأماكن القديمة لجلوس الشهداء الأربعين بشكل مستمر، وبإمكانك التأكُّد من هذه الحقيقة المعجزة بنفسك، إضافةً إلى أنَّ بعض أولياء أمور هؤلاء الطلبة ما زالوا ينتظرون أولادهم عند بوابة المدرسة بشكلٍ يوميٍّ، ويذهبون عندما يخرج آخر طالب وآخر طير من المدرسة. وما ذكرته السيدة «أم غيداء» — خنساء العامرية — كان واقعيًّا؛ فقد شعرت بوجودهم أثناء جلوسي مع مديرة المدرسة، فقد حطَّت طيور صغيرة كثيرة لم أستطِع إحصاءها … وربما كانت أربعين طائرًا من طيور الجنة!
أخيرًا أقول: خلال وجودي في الملجأ ولمدَّة خمس ساعات متواصلة زار الملجأ أكثر من «٥٠» شخصًا عربيًّا وأجنبيًّا، تحدَّثت إليهم الخنساء، وكان بعضهم يشعر بالخجل لأنَّ بلدانهم شاركت بالعدوان على العراق، وكان آخرون يبدون الأسفَ على ما حصل، ويَعِدون أمَّ غيداء بأخذِ ثأر الشهداء بطريقتهم الخاصة.
نُشرت في جريدة الجمهورية ٨ / ٢ / ١٩٩٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤