فؤاد زكريا يستأنف النزاع
بينما تستعد روز اليوسف لقفل باب المناقشة بين الدكتور فؤاد ومعارضيه حول موضوع «جمال عبد الناصر واليسار»، أبى الدكتور إلا أن يفتح الباب من جديد!
صمَّم على أن يكتب مقالًا يرد به على الكتاب السبعة الذين ردوا عليه: فتحي خليل – أبو سيف يوسف – نجيب محفوظ – أحمد طه – فيليب جلاب – أديب ديمتري – محمد عودة.
هذا هو المقال، وبعده نستأنف الحوار بتعليقات القراء وردودهم على د. فؤاد.
لسنا بصدد محاكمة عبد الناصر!
لم تكن الانتقادات العديدة التي ظهرت في «روز اليوسف» (وفي غيرها)؛ ردًّا على دراستي عن اليسار والتجربة الناصرية مفاجأة لي، فأنا لم أكن أتوقع من اليسار، وبخاصة فئاته التي خاطبتْها مقالاتي، أن يقف مكتوف الأيدي، أو أن يشكرَني على ما كتبت، ويعدني — في هدوء ووداعة — بأن يستمع إلى نصائحي؛ ذلك لأن الأمر كان متعلقًا بالمسار الذي قطعه اليسار، وخطة العمل التي اختارها لنفسه منذ فترة طويلة وليس لأحد أن يتوقَّع تراجع اليسار بسهولةٍ عن مساره بعد كل هذه السنوات، وحتى لو كان اليسار قد سكت لما سررت لهذا السكوت؛ لأن معناه هو ألَّا تثار معركة فكرية في موضوع نحن أحوج ما نكون إلى إثارته، وإلى معرفة مختلف وجهات النظر التي تقال فيه.
ومن ثم فقد كنت سعيدًا بالحوار الذي دار، وبالأفكار التي طرحت، ولست أشكُّ لحظة واحدة في أن المواطن المصري الذي تابع هذا الحوار قد خرج منه وقد ازدادت نظرته إلى الموضوع تعمقًا، وتكشفت له أبعاد جديدة ربما لم تكن قد طافت بذهنه من قبل.
- أولهما: أن الردود المنشورة كانت في معظمها مخالفةً لآرائي، وقد يعطي هذا انطباعًا بأن رد الفعل على هذه المقالات كان في أغلب الأحيان سلبيًّا، ولكن الواقع أن المؤيدين لا يتجشَّمون في العادة عناءَ الإمساك بالقلم وكتابة مقال تأييد، بل يكتفون بالتأييد الشفوي أو الصامت، أما المعارض فهو الذي تعطيه معارضتُه قوةً دافعةً تحفزه إلى الكتابة، وبقدر ما أستطيع أحكم في نطاقي المحدود فإن اتجاه الردود لا يعبِّر عن موقفٍ عامٍّ إزاء هذه الدراسة، وإن كان يعبِّر بلا شكٍّ عن تيار قوي لم يكن أحدٌ يتوقَّع منه إلا أن يعارض.
- أما الأمر الثاني: فهو أن بعض أصحاب الردود قد تصوَّر أن المسألة معركةٌ بين خصوم، واستخدم في بعض الأحيان لهجة معادية، كانت تشتدُّ بقدر اقتراب صاحبها من الفئة التي انتقدت موقفها في مقالاتي، ولست أنكر أن هناك ردودًا أخرى اتسمت بالتعقُّل والهدوء والمناقشة الموضوعية، وأخص منها بالذكر رد الأستاذين أحمد طه وأديب ديمتري، ولكن ظهر في بعض الردود الأخرى قدر من العصبية، بل من التشنج، وهو أمر لم يكن له داعٍ، ولا أرى له مبررًا سوى أن مقالاتي قد مست وترًا حساسًا.
مع سبعة ردود
وسوف أبدأ هذه المرحلة الثالثة من الحوار بملاحظات سريعة عن بعض المقالات التي انتقدتني، على أن أرجئ مناقشة المسائل العامة التي أثيرت في هذه المقالات إلى الجزء الثاني من هذه المناقشة.
لعل أهمَّ النقاط التي تركز عليها رد الأستاذ فتحي خليل، هي تأكيده وجود ما أسماه «بالعلاقة العضوية» بين اليسار وبين ثورة ٢٣ يوليو حتى قبل قيامها، وقد أتى للتدليل على ذلك ببعض الشواهد التي هي بالفعل صحيحة من حيث هي تعبير عن حقيقة جزئية، ولكنها ليست صحيحة إذا وُضعت في الإطار العامِّ للأحداث.
فمن المؤكد أن بعض الضباط الأحرار كان على اتصال بتنظيمات يسارية، ولكن من المؤكد أيضًا أن بعضهم الآخر كان على اتصال بتنظيمات أخرى، بعضها ديني كالإخوان المسلمين، وبعضها حزبي كالحزب الوطني ومصر الفتاة، والقاسم المشترك بين كل هذه التنظيمات التي اتصل بها الضباط الأحرار قبل الثورة هو أنها كانت تنظيمات رافضة، ولذلك بحث الضباط الأحرار عن طريقهم بينها؛ لأنهم كانوا بدورهم رافضين، ولكن بهذا المنطق الذي اعتمد عليه فتحي خليل يستطيع الإخوان المسلمون أو غيرهم أن يؤكدوا وجود «علاقة عضوية» بينهم وبين ثورة ٢٣ يوليو.
ومن جهةٍ أخرى فقد رد الأخ فتحي خليل على نفسه ردًّا قاطعًا حين أكد أن هذه العلاقة العضوية بين الثورة واليسار قد غابت، لا عن اليسار نفسه «في فترات تقصر أو تطول» وبناءً على ذلك اعترف فتحي خليل، نصًّا، بأن سلبيات ثورة ٢٣ يوليو، والتطرف العدائي لليسار، والتصرفات الرجعية والانحرافات والاستغلال، كل هذه قد دخلت — على حد تعبيره — من باب «غياب حقيقة العلاقة العضوية والفكرية والكفاحية عن واحد من الطرفين أو عنهما معًا.»
الآن، أود أن أتساءل بإخلاص: ما قيمة هذه «العلاقة العضوية» المزعومة إذا كانت قد غابت عن طرفيها معًا «لفترات تقصر أو تطول»؟ إن كل علاقة — بقدر ما أعلم — تتوقف على الطرفين اللذين يدخلان فيها، ولا يعود لها وجود أو معنى إذا غابت عن الطرفين معًا، وأقصى ما يئول إليه أمرها عندئذٍ هو أن تصبح كعلاقة الزواج بين زوجين منفصلين روحيًّا وجسديًّا!
أما الأستاذ فيليب جلاب فقد غضب لتفسير خروج اليساريين من المعتقلات في عام ١٩٦٤م بأنه مجاملة للاتحاد السوفيتي مؤكدًا أنه لا بد أن يكون راجعًا إلى تطور السياسة الداخلية إلى حد لم يعد يوجد معه مبرر لهذا الاعتقال، وأنا أعلم جيدًا أن كل من كان في المعتقل يغضب لهذا التفسير.
لكن لنناقش الأمر بهدوء: إن التطور الحاسم في السياسة الداخلية قد حدث منذ عام ١٩٦١م، فإذا كان هذا التطور هو السبب، فلمَ كان الانتظار ثلاث سنوات شبه كاملة؟ ولماذا «تصادف» حدوث الإفراج قبل زيارة خروشوف مباشرة، وهي الزيارة التي حدثَت كتتويجٍ للمساعدة السوفيتية في بناء السد العالي، والتي تعد أول زيارة في عهد الثورة يقوم بها زعيم الاتحاد السوفيتي!
لقد كان من بديهيات السياسة في تلك الفترة مجاملةُ كل دولةٍ من الدولتين الكبريين، بإبراز شخصيات مصرية وضعت عليها بطاقة اليسار، أو شخصيات أخرى وضعت عليها بطاقة اليمين، وقد تكون البطاقة مزيفةً أحيانًا، ولكن المهم أن أصحاب هذه البطاقة أو تلك كانوا يصعدون أو يهبطون تبعًا لرغبتنا في مجاملة هذه الدولة أو تلك، وإظهار غضبنا من الأخرى.
ولنتأمل واقعة أخرى، ربما كانت أكثر دلالة، وهذه الواقعة لا أسوقها لفيليب جلاب فقط، بل أهديها أيضًا للأستاذ محمد عودة؛ تعليقًا على الرواية التي نقلها عن رغبة عبد الناصر في بناء حزبٍ ثوريٍّ يضم الماركسيين والناصريين بعد حل الحزب الشيوعي المصري. فبعد القرارات «الاشتراكية» بسنتين كاملتين، وقع انقلاب علي صالح السعدي في العراق وذبح من اليساريين — حتى المعتدلين منهم — عشرات الألوف في ليلة واحدة، وفي هذه الليلة كان الإعلام المصري — وعلى رأسه جريدة «الأهرام» نفسها، بكل ما كان يربطها من علاقات خاصة بقمة السلطة — أشبهَ بغرفة عمليات تتابع تطورات عملية ذبح اليساريين ساعة بساعة، وتصفق لها مهللة، فهل يمكن أن يصدر تصرف كهذا عن جهاز اقترب من اليسار، ولو إلى ربع الطريق؟ وهل يظل من الممكن بعد ذلك أن تفسر الإفراج عن اليساريين بأنه نتيجة طبيعية لتقارب التجربة الناصرية معهم؟
هذه كلها حقائق لم أخترعها، وإذا كانت تؤدي في النهاية إلى تفسيرٍ لا يتفق تمامًا مع تضحيات من دخلوا المعتقلات فإني آسف لذلك أسفًا حقيقيًّا، ولكني لا أستطيع أن أشتري لهم الراحة النفسية على حساب الحقيقة التاريخية.
وقد تصور الأستاذ جلاب أنه اهتدى إلى تناقض صارخ وقعت فيه حين قلت في ملاحظة عابرة وضعتها بين قوسين إنني كنت أفضِّل لو لم يختتم الأستاذ مكرم عبيد جهاده بتأليف الكتاب الأسود، وأبدى تعجُّبه من استنكاري للتنديد بسلبيات الوفد، على حين أنني ركزتُ على سلبيات التجربة الناصرية، وأي قراءة متمهلة لهذا الجزء من مقالي تبيِّن أن القضية التي دافعت عنها عندئذٍ هي أن الانحرافات والاستثناءات التي عدَّدها مكرم عبيد أقل عددًا، وأضيق نطاقًا، إلى حد لا يقارن بنظيرتها في التجربة الناصرية، فهل يحقُّ لشخص درس قواعد المنطق — كما فعل الأستاذ جلاب — أن يرى في هذا تناقضًا؟
وأخيرًا، فقد استخدم الأستاذ جلاب بعض العبارات البلاغية التي لا تصمد أمام أي تفكير نقدي، حين تساءل: إذا كانت التجربة الناصرية قد خربت نفس الإنسان المصري فكيف حقق الإنسان العبور في ٦ أكتوبر؟ إنك تعلم ولا شك، يا أخ فيليب، أن هناك مَن يقولون إن الإنسان المخرب داخليًّا، هو الذي هُزم في ٥ يونيو، وأنه لم ينتصر في أكتوبر إلا لأن التخريب بدأ يزول عن نفسه. وقد لا يكون هذا التعليل بدوره صحيحًا كل الصحة، وقد يكون الانتصار راجعًا إلى أسباب أعمق من هذا بكثير، ولكن المهم أن من السهل الرد على كلامك بأن «الإنسان» في الحالة الأولى لم يكن هو «الإنسان» في الحالة الثانية.
أما مقال أو حوار الأستاذ نجيب محفوظ فقط أثار عنوانه دهشتي؛ إذ كان العنوان هو «نجيب محفوظ يردُّ على فؤاد زكريا»، على حين أن أي قارئ يدرك فورًا أن العنوان المطابق لكلامه هو «نجيب محفوظ» يتفق مع فؤاد زكريا.
لأنه كان بالفعل متفقًا معي في الجزء الأكبر مما قال، وعلى أية حال فالذنب في هذا ذنب «كاتب العناوين» في روز اليوسف أمَّا نقطة الخلاف الوحيدة بينه وبيني، فكانت ما يسمَّى ﺑ «رشوة الشيوعيين في العهد الناصري» وهو موضوع سأناقشه فيما بعد بالتفصيل.
على أن أغرب الردود جميعها كان رد الأستاذ أبو سيف يوسف. ونظرًا إلى أن هذا الرد ينتمي كله تقريبًا إلى باب المناقشات التفصيلية ولا يكاد يتضمَّن مبادئ عامة، فسوف أناقشه الآن بشيءٍ من التفصيل، حتى أعود إليه فيما بعد.
أراد الأستاذ أبو سيف يوسف، الذي اتسمت بعض أجزاء مقاله بعدوانية شديدة لا أدري لها سببًا، أن يواجه مقالاتي الأخيرة بكتاباتٍ سابقةٍ لي؛ لكي يجعل «فؤاد زكريا يرد على نفسه»، ولا شك أنه بذل جهدًا خارقًا في قراءة كل ما كتبتُ في مجلة «الفكر المعاصر» وهو أكثر بكثيرٍ من أربعين مقالًا ودراسة؛ لكي يجد فيها ما يتناقض مع موقفي الأخير، ومن المؤكد أنه ظل طوال قراءته يشعر بخيبة أمل شديدة؛ لأن مواقفي كانت دائمًا متسقة مع نفسها، بدليل أنه لم يتوصل في النهاية إلا إلى تقديم مقالين فقط، وعلى هذين المقالين بنى كل آماله في كشف تناقضي المزعوم.
والشيء المؤلم حقًّا أن هذين المقالين كانا قد ظهرا بعد موت جمال عبد الناصر مباشرة، فهما مقالان كُتبا في فترة الرثاء والتأبين، فهل يصح أن يحاسب أحدٌ على ما يقوله في كلمة تأبين؟ ألا يتبع الجميع في مثل هذه الظروف قاعدة «اذكروا محاسن موتاكم»؟ وهل من الأمانة العلمية، بل والأخلاقية، أن تختار هذه المناسبة بالذات؟ وهل يمكن أن يكتب تاريخ أية تجربة في الحكم، أو يحكم على أي زعيم، من خلال كلمات الرثاء التي تقال بعد الوفاة مباشرة؟ ألَا تذكر كلمات الرثاء الرائعة التي قالها عن ستالين في عام ١٩٥٢م نفس أولئك الذين أدانوه في عام ١٩٥٦م؟
هذا من حيث المبدأ العام، ولكنني مع هذا كله أستطيع أن أقول بثقةٍ واطمئنانٍ إنني، حتى في هذه الحالة، لم أبتذل فكري، ولم أخالف ما أومن به، رغم أن أحدًا لا يملك أن يلومني في تلك الظروف لو كنت قد فعلت.
فقد استشهد الأستاذ أبو سيف بمقالين؛ أحدهما ظهر في عدد أكتوبر ١٩٧٠م بعنوان «الكل في واحد»، والثاني ظهر في الشهر التالي بعنوان: «كلمة عن المستقبل». ولنترك المقال الأول مؤقتًا ونتحدَّث عن المقال الثاني.
ففي هذا المقال، وبرغم كل الظروف التي أحاطت به، قلت (وأنا أكتفي هنا بالعبارات التي استشهد بها الأستاذ أبو سيف نفسه) أنه رغم كل محاولات تشويه الاشتراكية، فإن الجميع أصبحوا ينادون ولو بأطراف اللسان عند البعض، بالشعارات الاشتراكية، وعبارة «ولو بأطراف اللسان» تعبِّر بوضوحٍ عن تحفُّظ شديد، وفيها معنى لا يمكن أن يخفى عن القارئ الذكي، فضلًا عن أن استخدام تعبير «الشعارات الاشتراكية» يتمشَّى تمامًا مع ما أقوله الآن، في عام ١٩٧٥م من أننا لم نشهد من الاشتراكية في التجربة الناصرية إلا شعاراتها.
وفي موضعٍ آخر قلت: «أما اليوم فإن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية هي السياسة الرسمية للدولة.» وعبارة السياسة الرسمية تتضمَّن تفرقة بين ما يعلن على المستوى الرسمي وما يتم على مستوى التطبيق الفعلي، فأنا لم أقل إن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية تحققتا بالفعل، بل قلت إنها أصبحت سياسة رسمية، ومعلنة، وهذا في ذاته يعدُّ تقدمًا بالقياس إلى ما سبق، ولكن المشكلة الكبرى، والمعضلة التي لم تحلها التجربة الناصرية، هي كيف تتحول السياسة المعلنة رسميًّا إلى واقع فعلي.
وأعجب ما في الأمر أن الأستاذ أبو سيف يتصور أنني في عام ١٩٧٠م فقط حذرت من الارتداد عن الأسس والمبادئ الأولى للطريق الاشتراكي، على حين أنني خرجت عن هذا الخط بمهاجمتي للتجربة الناصرية في عام ١٩٧٥م مع أن كل ما قلتُه في دراستي الأخيرة لم يصدر — كما قلت في الدراسة نفسها مرارًا — إلا بدافع الحرص على المبادئ الاشتراكية الصحيحة، واعتقادًا بأن هذه المبادئ لم تكن هي التي تطبق.
إن الأمثلة كثيرة، ويكفيني أن أقول — دون إطالة — إن كل الاقتباسات التي استشهد بها الأستاذ أبو سيف يمكن أن تفسر لصالح وجهة نظري الأخيرة، وخاصة إذا ما فُهمت في ضوء الظرف غير العادي الذي كتبت فيه، وإذا أدركنا أن مضي خمس سنوات، بعد عام ١٩٧٠م، لا بد أن يفتح أمام الذهن آفاقًا جديدة، ويلقي على التجربة السابقة مزيدًا من الضوء، ومن المؤكد أن الأستاذ أبو سيف قد اعترف ضمنًا، دون أن يدري، بما أطلق عليه بسخرية تعبير «مناقب الدكتور فؤاد زكريا» بدليل أنه لم يجد شيئًا يستشهد به في كل ما كتبتُ على مدى أعوام طويلة سوى مقالٍ كان لا بد في اللحظة التي كتبتُه فيها، أن تكون لهجته مخففة، لا خوفًا من شيء بل احترامًا لجلال الموت.
وما دام الأستاذ أبو سيف قد فتح الحديث عن «مناقبي»، فلا بد أنه قرأ في عدد أكتوبر ١٩٧٠م من مجلة «الفكر المعاصر»، (وهو العدد الذي أشار إليه في نقده مرارًا) مقالًا آخر لي، كتب قبل وفاة جمال عبد الناصر (التي حدثت في آخر لحظة حيث كان العدد كله معدًّا للنشر، مما حتم تغيير الغلاف وإضافة مقال «الكل في واحد» في اللحظة الأخيرة). فقد كان طبيعيًّا ألَّا يشير إلى هذا المقال بكلمة واحدة؛ لأنه يتضمن تكذيبًا قاطعًا لما يدعيه عني من «تناقض».
في هذا المقال تحدثتُ عن بعض سلبيات «اشتراكية العالم الثالث» (ولم يكن القارئ عندئذٍ يجد أية صعوبة في فهم نوع الاشتراكية التي أعنيها)، فاعتبرت سكوتها عن التفكير الغيبي أو تعايشها معه انتهازية أو نفاقًا رخيصًا من جانب السلطة الحاكمة، فضلًا عن أنه يُساعد على إبقاء الجماهير في حالة تخلُّف معنوي لا يرجى معها أي نهوض حقيقي للمجتمع، وفي مثل هذا الجو العقلي المتناقض يستحيل أن تحقِّق الاشتراكية إمكانياتها وتقدم إلى المجتمع أفضل ما لديها، بل إن مثل هذه الاشتراكية لا بد أن تكون «جوفاء مبتورة»، ولقد كان من الممكن أن تخف أضرار التفكير الغيبي لو كانت تلك الاشتراكية تقدم للناس «مكاسب واضحة»، أما إذا كانت الاشتراكية مترددة خائرة، وإذا كانت مكاسبُها أمرًا مشكوكًا فيه على الدوام، فعندئذٍ تستطيع الخرافة أن تطل برأسها في شماتة ثم تحدثت عن عيب آخر لهذا النوع من الاشتراكية هو أنها مفروضة من أعلى، وليست نابعة عن ثورة شعبية بالمعنى الصحيح، وقلت بالحرف الواحد إننا نجد في هذه الاشتراكية أن «الانحراف في الطبقات الحاكمة أمر مألوف؛ حيث يبدو إغراء السلطة، والافتقار إلى التقاليد الثورية الأصلية عاملًا مشجعًا على تكوين طبقة جديدة ربما استخدمت الاشتراكية ذاتها أداة لدعم مركزها وصرف أنظار الجماهير عن انحرافاتها.»
هكذا كنت أكتب أثناء حياة جمال عبد الناصر، فكيف كان نقادي يكتبون؟ وهل يعاب علي أن أكتب في العدد التالي مباشرة، وهو المخصص لرثاء جمال عبد الناصر، مقالًا أخف لهجة من ذلك الذي كان مفروضًا أن يظهر وهو حي؟
ولأنتقل الآن إلى المقال الآخر الذي استشهد به الأستاذ أبو سيف كدليل على تناقضي، وعنوانه «الكل في واحد» فقد استنتج بذكاء شديد أنني لا بد أن أكون كاتبه، إذ قال: «ونفهم من أسلوبه أيضًا أن كاتبه هو د. زكريا نفسه.» ثم أخذ يقتبس جملة بعد جملة وهو يردِّد: «ويقول د. زكريا»، ولكن ما رأي الأستاذ أبو سيف في أن كل من قرأ لي شيئًا يعرف أن أسلوبي التقريري المباشر لا يتسم — للأسف — بشيءٍ من شاعرية أسلوب الدكتور مكاوي؟
إنك تعلم أنني كيف أستطيع أن أصنع من هذه السقطة «فضيحة»، وكنت أستطيع أن أكتب في السخرية من استنتاجك ومما بنيته عليه من نتائج، صفحتين على الأقل، تعادلان الصفحتين اللتين شغلتهما من روز اليوسف في هذا الموضوع، ولكني سأكتفي بتقرير الحقيقة وأسكت؛ مراعاة مني لآداب المناقشة، وتمسكًا بفضيلة «العفو عند المقدرة».
على أني لا أودُّ أن أترك هذا الموضوع دون أن أوجِّه عتابًا آخر، أشد في هذه المرة، لكاتب العناوين في روز اليوسف، فقد وضع على صدر مقالة الأستاذ أبو سيف، وبالخط العريض، ثلاث عبارات ذكر أنني قلتها في سنة ١٩٧٠م، وأنها تناقض ما أقوله الآن في سنة ١٩٧٥م، ومن بين هذه العبارات الثلاث عبارتان لم أكن أنا قائلهما على الإطلاق، الأولى جاءت في كلمة الدكتور عبد الغفار مكاوي، وهي «عبد الناصر ترك لنا إرادة الصمود والإصرار على الانتصار»، والثانية مأخوذة من كلام الأستاذ أبو سيف نفسه، وتعبر عن رأيه الخاص، وهي «إنجازات يوليو ديموقراطية أساسًا وبعضها كبير جذري» أما العبارة الثالثة والخاصة بالشعارات الاشتراكية، فهي وحدها التي قلتها، وقد شرحت دلالتها من قبل.
وإذا كان الخطأ الذي وقع فيه كاتب العناوين في العبارة الأولى غير مقصود؛ لأنه ساير الأستاذ أبو سيف في اعتقاده أن ما كتبه الدكتور مكاوي منسوب إلي، فإن الخطأ في العبارة الثانية لا بد أن يكون مقصودًا، ومن واجب كاتب العناوين أن يعتذر، إن لم يكن لي، فعلى الأقل لقرائه الذين ضللهم.
وأخيرًا، فإن الأستاذ محمد عودة قد كتب في نقدي مقالًا طويلًا بدا لي في معظمه أشبه بمنشورات الدعاية التي كانت توزعها هيئات الإعلام الرسمية في عهد التجربة الناصرية، وقد لفت نظري في هذا المقال أنه سار إلى أبعد مدى في ممارسة أسلوبٍ، هو في نظري، أقرب إلى الإرهاب الفكري، حين خوَّفني من نقد التجربة الناصرية لأن اليمين يكرِّر نفس الانتقادات …
هذا الأسلوب يذكرني بما تلجأ إليه الدعاية الصهيونية حين تخيف كل من ينتقد تصرفات إسرائيل، بأنه يردد ما كان يقوله هتلر عن اليهود، وهو أسلوب نجح فعلًا في تخويف نقاد إسرائيل في العالم الغربي حتى اليوم، أما العرب فيردون على هذا الإرهاب بقولهم إن صدور نقد لليهود من طاغيةٍ مثل هتلر لا يعني سكوت العالم عن انتقاد إسرائيل، ما دام سجلها حافلًا بالجرائم.
لذلك أودُّ أن أقول بهدوء تام للأستاذ عودة، ولكل من استخدم ضدي هذا الأسلوب، إن مثل هذا الإرهاب الفكري لا يخيفني، وإنني لن أرغم نفسي على السكوت عن باطل لمجرد أن اليمين يردِّده لأغراض أخرى مضادة تمامًا لأغراضي، وإنني كنت أنبِّه إلى هذا الباطل قبل أن تهبط على اليمين، في أيامنا هذه، الشجاعة المفاجئة التي جعلته يتشدق به، وإن المنطق السليم يفرق تمامًا بين النقد، من حيث مضمونه الفعلي، وبين المصدر الذي يأتي منه هذا النقد.
على أن الأستاذ عودة لا يقف عند هذا الحد، بل يكاد يجعلني جزءًا من مؤامرة يمينية هدفها التنكيل باليسار، ويؤكِّد أن الوقت الذي اخترتُه لكتابة مقالاتي يخدم في النهاية أهداف اليمين، ولو كان قد فهم مقالاتي جيدًا، لأدرك أنه لا شيء يضرُّ بقضية اليمين، في هذه الأيام بالذات، أكثر من أن ينتزع منه ذلك السلاح الذي أعترف آسفًا بأن اليمين قد استخدمه ببراعة، وهو استغلال أوجاع الشعب المترتبة على التجربة السابقة من أجل كسب أرض جديدة لنفسه، وليس هناك وقت أنسب من الوقت الحالي لتنبيه اليسار إلى هذه الحقيقة قبل فوات الأوان، وإن كنت أعترف بأن الردود التي قرأتها تجعلني أميل إلى التشاؤم من قدرة اليسار على الخروج عن جموده القديم.
وقرب نهاية مقال الأستاذ عودة، يلمح تلميحًا غريبًا إلى أن انتقادي للتجربة الناصرية يستهدف إعادة الديموقراطية الرأسمالية، وهو اتهام لا يليق توجيهه لأستاذ كتب ضد الرأسمالية بصراحة في كتاب رسمي ظل مقررًا على طلبة الجامعات المصرية كلها، في المادة القومية لمدة سنوات عديدة (وهو كتاب «الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية») وأسهم بذلك في فضح الرأسمالية أمام عقول الشباب المصري الجامعي بأكثر ما أسهم به نقادي مجتمعين.
لقد ساير الأستاذ محمد عودة زميله أبو سيف يوسف في الكلام عن التناقض المزعوم بين ما كتبته في عام ١٩٧٠م وما كتبتُه في ١٩٧٥م، وأخذ أقواله، بكل ما فيها من أخطاء، دون أي تحقيق أو تدقيق، بل إنه أضاف إلى ذلك جملةً أخيرةً اختلقها اختلاقًا، ولم أجد في كل ما كتبت عن هذا الموضوع. فأرجو إذا كان صادقًا، أن يحدِّد لي المقال والصفحة اللذين ظهرت فيهما تلك الجملة المنسوبة إلي، كما أرجو أن يطمئن إلى أنه لو طال العمر به وبي حتى عام ١٩٩٥م فلن يجد تغييرًا في مواقفي الأساسية، وكل أملي هو أن يتمكن من أن يقول عن نفسه شيئًا مماثلًا.
مشكلات أثارها الحوار
ولا أود أن أكتفي، في مناقشة الردود التي وجهت إلى مقالاتي، بالملاحظات التفصيلية التي طرحتها بل إن من المفيد لصالح هذا الحوار بأكمله، أن أناقش الاتجاهات العامة التي كشفت عنها ردود النقاد، والمشكلات التي أثيرت فيها.
ومن الممكن تصنيف هذه المشكلات إلى فئاتٍ ثلاث: الأولى تتعلق بنطاق دراستي السابقة والهدف منها، والثانية بالمنهج الذي اتبعته فيها، والثالثة بمضمون هذه الدراسة.
الثورة … غير التجربة
ولأبدأ أولًا بنطاق الدراسة وهدفها، فقد تصور بعض النقاد أن دراستي منصبة على تقييم حكم عبد الناصر، أو أنني أقوم بمحاكمته، وعلى الرغم من أن جزءًا كبيرًا من دراستي هو بالفعل تقييم، فإن هذا التقييم لم يكن مقصودًا لذاته، بل إن الهدف الحقيقي هو القيام ببحثٍ نقديٍّ للعلاقة بين اليسار والتجربة الناصرية، وقد قمت بهذا البحث، لا من أجل تقديم سردٍ تاريخي مفصل لهذه العلاقة، بل بهدف تقديم رأي مخلص إلى اليسار، أبين فيه أن النكسة التي تعانيها الاشتراكية في الوقت الراهن لا ترجع إلى ضراوة هجمات اليمين ورغبته في استعادة نفوذه فحسب، بل ترجع أيضًا إلى أخطاء سابقة لليسار، هذا هو الهدف الأصلي، وكل ما عدا ذلك وسيلة لتحقيق هذه الغاية.
وقد استخدمت تعبير التجربة الناصرية لأن هدفي لم يكن الحديث عن عبد الناصر شخصيًّا، وإنما عن تجربة كاملة، أسهم فيها عبد الناصر نفسه، وأسهم فيها جهاز كامل أحاط نفسه به، وصحيح أن بعض أقطاب هذا الجهاز كانوا يتغيرون من آنٍ لآخر — وهو ما أصبح يُعرف باسم تغيير مراكز القوى، التي شهدنا منها حتى عام ١٩٧٠م «أجيالًا» ثلاثة على الأقل — ولكن المهم أن السمات المميزة للتجربة ككل كانت هي موضوع اهتمامنا، أيًّا كان الدور الذي أسهم به عبد الناصر شخصيًّا أو أسهم به المحيطون به.
وبهذا المعنى يكون هناك فارق واضح بين تعبيرَي «التجربة الناصرية» و«ثورة ٢٣ يوليو» فالتجربة الناصرية كان لها نطاقٌ محدد، بدأ منذ أحداث ربيع سنة ١٩٥٤م، وانتهى في ٩ يونيو ١٩٦٧م؛ لأن السنوات الثلاث التي أعقبت ذلك لم تكن سوى رد فعل على هزيمة يونيو، ولم تكن حرية الحركة أو المبادرة مكفولة فيها للتجربة الناصرية، ومن هنا فإن التجربة الناصرية أضيق في نطاقها الزمني من ثورة ٢٣ يوليو، ومن جهةٍ أخرى فإن ثورة ٢٣ يوليو ما زالت قابلةً لمزيد من التطورات في الحاضر وفي المستقبل، وهي تطورات قد تختلف في قليل أو كثير عما كان موجودًا في فترة التجربة الناصرية؛ ولذلك كله لا يكون هناك معنى لاتهامي بأنني تجنبت ذكر ثورة ٢٣ يوليو بالاسم، أو بأنني كنت أهدف إلى «إهالة التراب على ثورة ٢٣ يوليو».
ستالين مرة أخرى
وقد أثارت المناقشة مشكلات طريفة وهامة تتعلق بالمنهج الذي اتبعته في دراستي، وكان أهم الاعتراضات التي وجهت إليَّ في هذا الصدد اعتراضين رئيسيين: أولهما أن نظرتي إلى الموضوع كانت جزئيةً ولم تكن شاملة، والثاني أن رؤيتي كانت «مكتبية» أي نظرية تجريدية أكثر مما ينبغي.
أما عن النقد الأول، القائل إن نظرتي لم تكن كلية أو شاملة، فقد تمثل بوضوح فيما كتبه الأستاذ أديب ديمتري في بداية مقاله، وإن لم تخلُ منه بعض الردود الأخرى. ولست أدري من أين أتى اعتقاد الناقد بأنني أحاكم عبد الناصر شخصيًّا، وأبني أحكامي السياسية على أسس أخلاقية، ومن ثم فإنني أقيم لعبد الناصر «محكمة للآلهة» أحسب فيها حسناته الشخصية وسيئاته لكي أحدِّد إن كان يستحقُّ الجنة أو النار، هذا الكلام لا أساس له على الإطلاق في دراستي التي حذرت فيها مرارًا من الخلط بين الاعتبارات الأخلاقية والاعتبارات السياسية، ولم يكن إصراري على استخدام تعبير «التجربة الناصرية» إلا دليلًا على رغبتي في تجاوز أسلوب الحكم على شخص فردي بعينه.
وربما كان الخلاف الحقيقي في هذا الصدد راجعًا إلى اعتقاد الأستاذ أديب بأن الناصرية لا يصح، من وجهة نظر المنهج العلمي، أن تبحث إلا كظاهرة عامة في بلاد العالم الثالث، ولكن الذي أعلمه هو أن تجارب التحرر الوطني في هذه البلاد لم تكن كلها «ناصرية» أي أن الناصرية كانت جزءًا من كلٍّ أعم منها وبهذا الوصف فهي تشترك مع حركات التحرُّرِ الوطني الأخرى في سمات معينة، وتنفرد بسمات أخرى هي التي تجعلها تجربةً قائمةً بذاتها. وليس المنهج العلمي السليم هو وحده الذي يبحث في السمات المشتركة بين جميع التجارب، بل إن بحث السمات النوعية المميزة لهذه التجربة بالذات يمكن أن يكون بحثًا علميًّا بمعنى الكلمة، وأخشى أن يكون الأستاذ أديب لا يزال متأثرًا بموقف أرسطو الذي يقول إنه «لا علم إلا بما هو عام» في الوقت الذي اعترف فيه العلم الحديث بإمكان قيام دراسة علمية لما هو نوعي متميز.
أما الشق الآخر من هذا النقد، فيقول إن الأخطاء التي نبهت إليها يسيرةٌ إذا قيست بالصورة الكلية لإنجازات التجربة الناصرية، وهو نقدٌ كنت أتوقعه في دراستي السابقة، ورددتُ عليه مقدمًا، ولكن لا بأس من أن أضيف الآن مثلًا آخر، فيه ذكرى تنفع المؤمنين. فقد حوكم ستالين بعد موته (وأنا آسف إذا كنت قد عدت مرة أخرى إلى الكلام عن ستالين، ولن تكون هذه المرة هي المرة الأخيرة، لا لأنني — أشبه كلًّا من الحالتين بالأخرى، بل لأن للمثل دلالةً بالغةً في موضوع دراستنا) وكانت محاكمته لأسباب من هذا النوع الجزئي الذي لا يعجب نقاد مقالاتي. فمع كل إنجازات ستالين الخارجية والداخلية الهائلة، أدانه خلفاؤه من أجل الاستبداد بالرأي، ونشر عبادة الفرد، واضطهاد الخصوم بمحاكمات صورية … (وربما أضفنا أن القائمة لم تكن تشمل استغلال أعوانه لنفوذهم أو عدوانهم على أموال الشعب) ومع ذلك لم يقل أحدٌ إن خلفاء ستالين قد نصبوا له «محكمة الآلهة» وإن مقياس الحكم عليه كان ينبغي أن يكون أوسع وأشمل.
وأنتقل الآن إلى النقد الثاني الذي وجه إلى منهجي في الدراسة، وهو أنه كان منهجًا «مكتبيًّا» ولقد كان الأساس الأكبر لهذا النقد هو نوع المهنة التي أمارسها؛ إذ أشار الكثيرون، بالغمز تارة وبالتصريح تارة أخرى، إلى أن أستاذ الفلسفة يعالج هذه الموضوعات كما لو كانت مشكلات فلسفية تجريدية. وأعجب ما في الأمر أن معظم نقادي كانوا من دارسي الفلسفة! ولكن هذه، على أية حال حجة لا أكترث بها؛ لأن ما يعنيني هو مضمون الكلام فقط.
والأمر الذي أومن به إيمانًا عميقًا هو أن عدم انتمائي إلى اليسار «المحترف» (وهو لفظ لا أستخدمه على سبيل السخرية أو التنديد، بل على سبيل التمييز فقط)، يعطيني حريةً في التفكير والتحليل قد لا تتوافر لدى الكثيرين ممن تقيِّدهم «النظريات» أكثر مما ينبغي، فهؤلاء تجدهم يستخدمون في تحليلاتهم مجموعةً محدودةً من الألفاظ والمصطلحات، يحشرون فيها كل الظواهر حشرًا، وكلما طرأ واقع جديد لجئوا إلى ما أسمِّيه بأسلوب تفنيط الكوتشينة: إذ تفنط مجموعة المصطلحات المعروفة والمستخدمة دائمًا، بطريقة مختلفة، وكأننا بذلك قد فسرنا كل موقف جديد، هؤلاء هم الأكثر تعرضًا، «للرؤية المكتبية» من غيرهم، وإنا لنعلم جميعًا كيف أن اليسار في مصر وسوريا ولبنان قد أعاد تقييم التجربة الناصرية مرات متعددة، وكان في كل مرةٍ يتصوَّر أن هذا التقييم هو وحده العلمي، وأن من يصدر تقييمًا مخالفًا لا بد أن يكون «مكتبي» الرؤية.
ولأضرب في هذا الصدد مثلًا عايشتُه بنفسي في السنوات الأخيرة: ففي أيام العبور الأولى، وفي الوقت الذي كنا فيه جميعًا نحبس أنفاسنا مبهورين من الإعجاز الذي حققه الجندي المصري، سمعتُ بنفسي يساريين (من حسن الحظ أنهم قلة، ولا يمثِّلون الجميع)، يفسِّرون ما حدث في السادس من أكتوبر بأنَّه محاولة البورجوازية المصرية لتلهية الشعب في مغامرة خارجية بعد أن تراكمَت عليها المشاكل وخنقتها المتناقضات! هكذا كانت «تفنيطة الكوتشينة» في ذلك الحين، ومن الجائز أنها «فنطت» فيما بعد — بالنسبة إلى هذه الظاهرة نفسها — بطريقة مختلفة، ولكن المهمَّ أن التقيُّد المفرطَ بمقولات نظرية معينة، توصف بأنها وحدها العلمية، هو الذي يؤدي إلى الرؤية المكتبية.
وفي اعتقادي أن الرؤية المكتبية هي التي تعلِّل استنكار نقادي ودهشتهم مما قلته عن تخريب التجربة الناصرية لنفس الإنسان المصري؛ ذلك لأن هذه حقيقة كان كل مصري يعايشها بنفسه، حين يتكلَّم في بيتِه لغةً معينةً ويتكلَّم في أي مكانٍ عام لغةً أخرى، بل إن اليساريين الذين انتقدوني لو كانوا صرحاء مع أنفسهم لاعترفوا بأنهم كانوا بدورهم يستخدمون هذه اللغة المزدوجة على أوسع نطاق.
ولكن، لمَ نذهب بعيدًا؟ لقد كانت «سنوات الواحات» هي ذاتها دليلًا حيًّا على ما أقول؛ ذلك لأن اليساريين الذين قضوا سنوات الاعتقال الرهيبة في هذا المنفى النائي، إذا تمسكوا بالدفاع عن التجربة الناصرية ضد تهمة تخريب نفس الإنسان المصري، فسيكون عليهم أن يعترفوا بأنهم اعتقلوا؛ لأنهم كانوا يستحقون ذلك، ولما كانوا بالطبع لا يرضون لأنفسهم بهذا الوصف — ولا أنا أرضاه لهم — فلا بد أن يكون ما حدث لهم من تعذيب وتنكيل وصل إلى حد القتل، نموذجًا حيًّا لما أعنيه، وإذا كانوا هم قد تحملوا العذاب بشجاعة وخرج معظمهم من المحنة سالمًا، فكم من المواطنين الآخرين كان يستطيع أن يتحمَّل ذلك دون أن تخرب نفسه؟ وكم من الذين ظلوا خارج المعتقلات لم يلجم الخوف لسانهم، ويلوذوا بالسلبية أو النفاق خوفًا من أن يلقوا نفس المصير؟
إن نقادي هم أنفسهم تجسيدٌ للفكرة التي أقولها، ومع ذلك فقد استنكروها بشدة، وهذا أمر ليس له من تعليل سوى أن الرؤية المكتبية قد غلبت لديهم على الواقع الذي عاشوه وعاشه غيرُهم يومًا بيوم؛ ذلك لأن كل شيء كان على ما يرام، وأن الإنسان المصري تحرَّر و«رفع رأسه» … إذن فليسقط الواقع، ولتسقط التجربة اليومية!
اليمين وآلام الناس
فإذا انتقلت الآن من مناقشة المسائل المنهجية إلى المضمون نفسه، فإني أود أن أقدِّم إيضاحًا لبعض الأمور التي التبست على نقادي، وأرد في الوقت نفسه على أسئلتهم التي تصوروا أنها محرجة.
فقد استنكر البعض (فتحي خليل وفيليب جلاب) تلك العبارة التي قلت فيها إنه إذا استغل اليمين ما أكتب، فسيكون الخطأ في ذلك خطأ اليسار أيضًا، ورأَوْها عبارةً متجنية، أو غير مفهومة، على أن المعنى المقصود، ببساطة، هو أن اليسار إذا حاول اتهامي بأنني أخدم قضية اليمين وأردِّد شعاراتِه، وإذا تصوَّر أن أي نقد للتجربة الناصرية لا يمكن أن يصدرَ إلَّا من منطلق يميني، فإنه بذلك يُعطي اليمين فرصةً ذهبيةً؛ لكي يستغل ما أقول لصالحه. وقد حدث بالفعل ما توقعت، ولمح فتحي خليل إلى أنني أخدم اليمين بطريق غير مباشر، وزادت جرعة الصراحة عند فيليب جلاب، واقتربت من الاتهام بالعمالة لليمين عند أبو سيف يوسف، أما محمد عودة فكان في هذا الاتهام أصرح الجميع.
والأمر الذي لن أملَّ من تأكيدِه هو أن هجمةَ اليمين الضاريةَ في هذه الأيام ليست مبنيةً على فراغ، بل هي تستغل عيوبًا ونقاط ضعف أساسية كانت موجودة بالفعل، ومصدر قوة الهجمة اليمينية هو أنها تضرب على نغمة أوجاع الناس وشكاواهم، ثم تنحرف بالناس — بعد أن تكتسب ثقتهم — في اتجاهها الخاص، ولتحقيق مصالحها الجشعة. أما عن نفسي فقد كنتُ أشير إلى هذه العيوب صراحةً في الوقت الذي كان اليمين فيه لا يزال يحرق البخور للتجربة الناصرية؛ ولذلك فإني لا أشعر إزاء اتهامي بالعمالة لليمين إلا بالازدراء، ولا أقابل هذا الاتهام إلا بالترفُّع.
وكم كنت أود أن يسير اليسار في طريقه المستقل، ويكشف مدى تباعد هذه التجربة عن الاشتراكية بمعناها الصحيح، وعندئذٍ كان الطريقُ سيصبح مسدودًا أمام اليمين ولو كان اليسار أبعدَ نظرًا لما واجه هجمة اليمين بالإصرار على إنكار حقائق لم تعد تخفى على أحد، أو بالإقلال من أهمية ظواهر عانى منها الناس أفدح الآلام، بل لكانت طريقة مواجهة هذه الهجمة هي فضح الأغراض الخبيثة التي يسعى إليها اليمين، وبهذا الأسلوب وحده كان اليسار يستطيع أن يضمنَ احترامَ الجماهير، التي لم تعد تحتمل تسترًا على الجرائم، وكان يستطيع أن يجردَ اليمين من أقوى سلاح يستخدمه في مهاجمة اليسار، وفي تضليل الشعب.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن بعض النقاد رأوا ما قلتُه عن دلالة استقبال الشعب لنيكسون هو كلام غير مقنع، وإلا فكيف نعلِّل خروج جموع أكبر بكثير يوم جنازة عبد الناصر، وفى ٩، ١٠ يونيو؟ وردي على ذلك هو أن يوم الجنازة ويوم الهزيمة كانا مقترنينِ بانفعالٍ شديد، صدمة مفاجئة، أما استقبال نيكسون فقد جاء في أعقاب معركة كانت فيها أسلحة نيكسون تقتل شبابًا من كل قرية استقبلته بالترحاب، وليس أقوى من ذلك دليلًا على مرارة التجربة السابقة، وتعلق الناس بأمل كاذب.
على أن استقبال نيكسون ليس هو المظهر الوحيد لخيبة أمل الناس في التجربة الاشتراكية. فهناك مظاهر أخرى مثل رد فعل رجل الشارع العادي — وليس فقط أصحاب المصالح — على خروج الخبراء السوفيت، وربما كان المظهر الأكثر دلالة، والذي تعبِّر عنه أرقام وإحصاءات، هو أن جريدة اليمين أصبحت أوسع الجرائد انتشارًا، والتغيير الوحيد الذي طرأ على هذه الجريدة هو أنها أصبحت تعزف باستمرار، وبطريقةٍ مملة، على نغمة الظلم والاضطهاد وسلب أموال الشعب، واختفاء سيادة القانون في أيام التجربة الناصرية.
ولكم أودُّ لو قام واحد أو مجموعة من شباب الباحثين في العلوم الاجتماعية بإجراء دراسة استقصائية على عينات مختلفة من الفئات الشعبية، يستكشف فيها الجوانب المختلفة لمفهوم الاشتراكية لديهم، ويستطلع ردود أفعالهم إزاءها، ولا شك أن دراسةً كهذه، إذا أجريت بدقة، ستغنينا عن جدل كثير، وستبيِّن بجلاءٍ إن كانت التجربة السابقة قد نجحت، أو أخفقت في تقريب معنى الاشتراكية إلى أذهان الناس وفي زيادة تمسكهم بها.
إن مشكلة اليسار تنحصر، في رأيي، في أنه يتغاضَى عن الأخطاء الجسيمة كما لو كانت الإنجازات تلغيها أو تحجبها ولا يكتفي بذلك، بل يفرض على هذه الأخطاء ستارًا من الصمت لمجرد أن اليمين أصبح في هذه الأيام يقول بها. وهنا أجد نفسي مضطرًّا للعودة مرة أخرى — وأخيرة — إلى مثال ستالين؛ ذلك لأن كل ما أدين بسببه ستالين كان قد تردد على ألسنة اليمين العالمي طوال ما يقرب من ثلاثين عامًا قبل إدانته في بلاده، ولكن أحدًا لم يقل لخلفاء ستالين الذين أدانوه ما يقوله لي اليساريون المصريون اليوم: إنكم تخدمون اليمين لأنكم ترددون نفس اتهاماته!
أما أنا فلست أعتقد أن تدهورَ مستوى الخدمات والمرافق، وانتشار الأمية وهبوط مستوى التعليم، وشيوعَ السرقات والاختلاسات، والاستخفافَ بالقانون وإشاعةَ الرعب والجبن والنفاق؛ لست أعتقد أن هذه أمور هينة، أو أن إنجازًا آخر يمكن أن يغفر لأي نظام في الحكم تفريطه فيها.
ولست، أعتقد أن في وسعِنا استبعادَ هزيمة ٥ يونيو ببساطة على أساس أن المهم هو الوقوف في وجه الإمبريالية العالمية، فهذه الهزيمة، التي يمرُّ عليها اليسار المصري مرًّا سريعًا وكأنها مجرد انتكاسة عابرة، ستظل آثارُها البعيدة المدى تؤثِّر فينا حتى أواخر القرن الحالي على الأقل، حتى لو أزلنا على الفور آثارها المباشرة؛ وهي احتلال الأرض. وإذا كان اليسار يصوِّرها بأنها مؤامرةٌ خسيسةٌ من الإمبريالية العالمية للقضاء على تجربةٍ اشتراكية، فإني أضيف إلى ذلك أنه لولا التفسخ والانحلال الداخلي لهذه التجربة ذاتها لما نجحت الإمبريالية في مؤامراتها؛ إذ إن هذه المؤامرات مستمرةٌ ليل نهار، ومع جميع الشعوب، ولكنها تنجح مع البعض ولا تنجح مع البعض الآخر، أما في حالتنا نحن فقد نجحت بامتياز، وإلى مدى لم تكن هي ذاتها تحلم به.
ولهذا السبب أحسست بالدهشة والألم حين قرأتُ منشور الدعاية الطويل الذي كتبه الأستاذ محمد عودة عن السياسة الخارجية في عهد التجربة الناصرية، والذي جعل فيه السياسة هي المحك الوحيد لنقد الثورة، فقال بالحرف الواحد: «يقاس نقد الثورة — إذا كان علميًّا وموضوعيًّا ونزيهًا — بإنجاز واحد: هو ما حققته للقضية المصرية.» متجاهلًا بذلك كل المقاييس الأخرى المتعلِّقة بحياة الإنسان وأمنِه وطمأنينته وحرياته ومأكله وصحته وتعليمه، بل متجاهلًا التداخل الوثيق بين هذه العوامل الداخلية وبين أي تحرك يمكن تحقيقه بالنسبة إلى القضية المصرية، والأمر المؤسف هو أن الأستاذ عودة لم يعمل أي حساب لذلك الانهيار الذي طرأ على معياره الوحيد — وهو القضية المصرية — بحيث أعادها نصف قرن إلى الوراء بعد ٥ يونيو ووصل ذلك التجاهل إلى ذروته حين قال: «إذا كانت قد حدثت أخطاء في السياسة الخارجية العربية أو الدولية، فإنها لم تقض علينا ولم تكسرنا ولكنها عركتنا.»
أرأيتم إلى أي حد يزيف اليسار الناصري تاريخنا بعد٥ يونيو؟
سؤال ورد غطائه
وهنا يأتي أوان الإجابة عن سؤالٍ وجهه إلي، على سبيل الإحراج، عددٌ كبير من نقَّادي، وهو: إذا كانت التجربة الناصرية فاشلةً في مجال الاشتراكية إلى هذا الحد، فلماذا حاربها اليمين بضراوة؟ ولماذا تآمرَت عليها الإمبريالية العالمية؟
أما عن اليمين، فأنا لم أقل في أي وقتٍ أنه انتفع من التجربة الناصرية، بل إنني أعترف بأنه أصيب بأضرارٍ بالغةٍ تفسِّر هجومَه الحالي عليه، ولكن المشكلة هي أن الضربة التي وجهت إلى اليمين لم تكن لحساب الاشتراكية الحقيقية، بل لحساب النظام نفسه، وهذا هو العنصر المميز، والفريد، في التجربة الناصرية.
وأما الإمبريالية العالمية، فإن هجومها على التجربة الناصرية يرجع، في رأيي، إلى اعتبارات التوازن الدقيق بينها وبين المعسكر الاشتراكي العالمي، فقد توسع الوجود السوفيتي في أواخر العهد الناصري إلى الحد الذي قررتْ معه الإمبريالية العالمية ضرورة توجيه ضربة إليه، وكان هذا الوجود، بالنسبة إلى التجربة الناصرية، إجراء تكتيكيًّا، أما بالنسبة إلى الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة فكان إجراء استراتيجيًّا أي أن ما كانت التجربة الناصرية تراه سياسة مرحلية تخدم أغراضًا مؤقتة، كان في نظر العملاقين الدوليين سياسة بعيدة المدى، تؤثِّر على التوازن الدقيق الذي يحرص عليه كل طرف إزاء الآخر.
وهكذا كانت المساعدات الأمريكية لإسرائيل، قبل حرب يونيو وأثناءها وبعدها، موجهة في المقام الأول ضد النفوذ السوفيتي لا ضد التجربة الناصرية من حيث هي نظام داخلي، على أنه كان من النتائج التي ترتبت على هزيمة ٥ يونيو، بطبيعة الحال، كشف البناء الهش للاشتراكية المطبقة محليًّا، وأظهر عيوبها من خلال منظار مكبر، فكان ذلك مكسبًا آخر لم تتردَّد الإمبريالية العالمية، ولا اليمين المحلي، في استغلاله لتشويه سمعة الاشتراكية كمبدأ، لا كتجربة محلية فاشلة فحسب.
لقد استكملت هذه الاشتراكية المحلية معظمَ المقومات الشكلية لأي تجربة اشتراكية: تصفية الإقطاع ورأس المال المستغل — التمصير ثم التأميم — إقامة قطاع عام قوي واسع النطاق … كل ما تتطلبه الاشتراكية كان موجودًا، فيما عدا شيئًا واحدًا، هو لب الاشتراكية، وقلبها، وجوهرها، هذا الجوهر الذي افتقده الشعب المصري، وهو الذي لم تفتقده شعوب أخرى تغلغلت الاشتراكية في حياتها وفي وجدانها، فوقفت تُدافع عنها حتى آخر قطرة من دمائها.
ولقد كان من الطبيعي أن ينعكس فقدان هذا «الجوهر» على قدرتنا على الصمود أمام الإمبريالية، وهكذا حدث الانهيار بسرعة، وكانت الإمبريالية هي الرابحة في نهاية الأمر.
والحق أن الكفاح ضد الإمبريالية العالمية ليس غايةً في ذاته، وإنما هو وسيلة تستهدف آخرَ الأمر غايةً عليا، هي النهوض بالإنسان وإتاحة الفرصة أمامه لكي يمارس قدراته وملكاته الإبداعية دون قهر أو ظلم، وكل المكافحين الكبار ضد الإمبريالية كانوا يعرفون هذه الحقيقة، ويرددونها خلال كفاحهم، وهكذا كانت الإمبريالية، في نظرهم، قوة غاشمة تتسلَّط على الإنسان، وعقبة كبرى في طريق نموه السليم، ولذلك فلا بد من إزاحتها من الطريق، أما أن يكافح نظام ضد الإمبريالية ويسحق الإنسان في داخله، فإنه يكون بذلك قد ناقض نفسه، وحكم على كفاحه بالإخفاق.
تهمة الرشوة
بقيت نقطة أخيرة لا أودُّ أن أتركها دون إيضاح، وهي ما قيل من «رشوة» الماركسيين فقد استخدم فتحي خليل تعبير «الرشوة» في سؤال وجَّهه إلى نجيب محفوظ، فكان من الطبيعي أن يرد عليه بالنفي القاطع، ولست أختلف مع الإجابة في شيء، بل إن اختلافي كله مع السؤال.
إنني أعترف بأن عدد الماركسيين الذين تولوا مناصب هامة ليس كبيرًا، وبأن معظمهم كانوا من أصحاب المواهب والكفاءات؛ ومن ثم لم تكن هذه المناصب أكبر مما يستحقون، ولكن العبرة ليست بعدد من تولوا المناصب من اليساريين، وإنما كان هؤلاء هم «واجهة» اليسار أمام الشعب، ومن ثمَّ فإن ارتباطَهم بالتجربة لا بد أن يترتب عليه ارتباط أعم بين اليسار ككل، وبين التجربة الناصرية في نجاحها أو إخفاقها، حتى لو كان هناك قطاعٌ من اليسار قد رفض هذا الارتباط (وهو ما حدث فعلًا).
ومن جهة أخرى ليست المسألة هي كون هؤلاء اليساريين يستحقون هذه المناصب أو لا يستحقونها، بل إن لبَّ المشكلة هو أن تولي الثوريين اليساريين لهذه المناصب كان معناه أنهم أصبحوا يسيرون في طريق غير ذلك الذي نذروا أنفسهم له، وأن ارتباطهم بالسلطة وتكوينهم جزءًا منها، كان معناه تقديمَ تنازلات، قد تكون بسيطة في البداية، ولكنها تزداد بالتدريج إلى أن ينتهي الأمر إلى مرحلة التبرير المطلق لكل الأخطاء، ولعلنا جميعًا نذكر كيف وصل الأمر ببعضهم إلى استعداد السلطة على زملاء سابقين لهم في الكفاح.
أما لفظ «الرشوة» فهو لفظ سطحي لا يعبر أبدًا عن حقيقة ما حدث؛ فالرشوة تقدم إلى من لا يستحقها، ولم يكن اليساريون غير جديرين بما نالوا، ولكن كل ما في الأمر هو أن هذا ليس هو الطريق الذي كرسوا حياتهم له، وعلى حين أن الرشوة عملية بسيطة مباشرة، فإن ما حدث مع هؤلاء اليساريين كان موقفًا دراميًّا شديد التعقيد، عناصره سنوات الاعتقال والتعذيب السابقة، والمنصب الجديد المعروض، والاعتقاد بأن الأهداف التي كانت غاية قصوى للكفاح الطويل قد تحققت وبأنه لم يعد هناك ما يمنع من المشاركة في الحكم، وأكاد أجزم بأن معظم من تعرضوا لهذه التجربة قد مروا، في لحظة أو أخرى، بأزمات نفسية حادة ناجمة عن التوتر بين الواقع والمثل الأعلى المنشود.
وبالاختصار، فقد كان في الكلام عن «الرشوة» تسطيح للمشكلة لا أوافق عليه، ومن ثم فإن نفيَ تهمة الرشوة لا يتعارض مع موقفي الأساسي في شيء.
كلمة ختامية صريحة أود أن أوجهها إلى اليساريين المصريين الذين أغضبتهم مقالاتي، ولخص فيها جوهر القضية:
إنكم تتمسكون بأن الدفاع عن الاشتراكية ينبغي أن يرتبط بالدفاع عن التجربة الناصرية، وتتصورون أن هذا هو وحده الطريق الكفيل بصد هجمات اليمين.
وأنا أقول إن الاشتراكية لن يكون لها مستقبل في هذا البلد، حتى المدى المنظور، إلا بالفصل بينها وبين التجربة السابقة، وكشف أخطاء هذه التجربة بصراحة، والسير في سياسة جديدة، وطريق جديد، يواجه الشعار الذي يرفعه اليمين، وهو «لنجرب شيئًا آخر عن فقر الاشتراكية وذلها»، بشعار مضاد هو: «… ولكن الاشتراكية أفضل كثيرًا من كل ما عرفتم».
هذا ما تقولونه، وهذا ما أقوله.
وبيني وبينكم التاريخ.