مقدمة

في كل مرة كنت أذكر فيها أمام الأصدقاء أو المعارف أنني أكتب كتابًا عن اضمحلال الحضارة الغربية، كان الرد غالبًا لا يخرج عن: «حسن! وهل هي في اضمحلال أم لا؟» وحينذاك، كان عليَّ أن أُشيرَ إلى أنه كتاب عن فكرة الاضمحلال الغربي كجزء من التفكير الحديث، وليس حكمًا شخصيًّا عمَّا إذا كان من المقدَّر بالفعل للحضارة الغربية أن تضمحلَّ أو لا.

وكان عليَّ أيضًا أن أُشير إلى أنه في الوقت الذي كان المثقفون يتنبَّئون فيه بالانهيار الوشيك للحضارة الغربية، ولمدة تزيد عن مائة وخمسين عامًا، كان تأثيرها يتزايد عنه في أي مرحلة سابقة في التاريخ. فالقيم والمؤسسات الثقافية الغربية تحظى الآن باحترام أكثر مما كان لها في أوج الاستعمار الأوروبي والإمبراطورية. إنَّ إسهامات الغرب الرئيسية في عالمنا المعاصر تشمل الدور الذي يقوم به العلم والتكنولوجيا في تحسين حياتنا المادية، وإيماننا بالديمقراطية، وحقوق الفرد، وحكم القانون، إلى جانب الآثار التحررية لرأسمالية السوق الحرة والملكية الفردية. والآن، ونحن نقترب من القرن الواحد والعشرين، تبدو تلك القيم — أكثر فأكثر — أنها الأعمدة الراسخة للنظرة الكونية الحديثة.

إلا أنني عندما أُشير إلى أن (مفسرًا کلامَ «مارك توين»)، ما يقال عن أُفُول الغرب فيه مبالغة شديدة، أُواجَه عادةً بتشكك كبير. لقد أصبح واضحًا لي أنني إذا أجريتُ اقتراعًا بين جمهور محاضراتي في Smithsonian Institution — وهم أكبر سنًّا من جمهور كليتي — فسوف تكون النتيجة هي الإجماع على أنَّ الحضارة، أي الغرب الحديث، على شفا حفرة من الفناء.
إننا نعيش حِقبة أصبح التشاؤم فيها هو القاعدة أكثر مما هو الاستثناء. ومنذ عقدَين كان «جون كينيث جالبريث» John Kenneth Galbraith قد لاحظ أنَّ كل ناشر يريد أن يكون عنوان الكتاب الذي ينشره «أزمة الديمقراطية الأمريكية»؛ لأنه يعرف أنَّ ذلك العنوان سوف يُباع جيدًا، وهي ملاحظة تبدو اليوم أكثرَ صدقًا، فقد ظهرت سلسلةٌ طويلة من كتب الأزمات تُعِدنا لاستقبال القرن الواحد والعشرين كمرحلة من التشوش العميق وعدم الثقة يبدو فيها الغرب، الذي يعني — إلى حد كبير — الولايات المتحدة، عاجزًا عن التأثير على ما ينتج عنه بأي شكل من الأشكال.

لقد فقدت أمريكا وأوروبا الوضعَ الذي احتفظتا به طويلًا من أجل السيطرة الكونية، ويدور الآن جدلٌ مفادُه أنه كان من الأفضل أن نستعدَّ للأسوأ، أكثر مما كنَّا نستعد للأفضل. على أي حال، هذه افتتاحية قد تبدو معبرةً ودالة:

«بعد أكثر من ربع القرن بقليل من إعلان «هنري لوس» Henry Luce: «القرن الأمريكي»، هبطت الثقة الأمريكية بشدة؛ فالذين كانوا يحلمون بالسلطة العالمية، يائسون الآن من حكم مدينة نيويورك. الهزيمة في فيتنام، الكساد الاقتصادي، النضوب الوشيك للموارد الطبيعية … كلها عوامل أدَّت إلى إحداث حالة من التشاؤم في الدوائر العليا، تنتشر الآن في أرجاء المجتمع؛ حيث فقد الناس الثقة في قيادتهم، كما تُحكم أزمة الثقة، هذه نفسها، قبضتَها على الدول الرأسمالية الأخرى.»١
العبارات السابقة من مقدمة كتاب بعنوان «ثقافة النرجسية»، صدر في سنة ۱۹۷۹ ليحذِّر من أنَّ «المجتمع البرجوازي قد فقد كلًّا من القدرة والإرادة على مواجهة المصاعب التي تُهدِّد بإحكام سيطرتها عليه»، ومن أنَّ «الأزمة السياسية للرأسمالية تعكس أزمةً حادة في الثقافة الغربية». كما يقتبس «کریستوفر لاش» Christopher Lash مؤلف الكتاب عن مؤرِّخ متميِّز وهو «ديفيد ﻫ. دونالد» David H. Donald قوله: «لقد انتهى عصر الوفرة.» مؤذِنًا ﺑ «جدب الحِقبة الجديدة».
وبعد أقل من عقدٍ من الزمن، شهدَت السياسة الأمريكية والأوروبية عودةً قوية إلى مزايا المؤسسات الحرة والقيم البرجوازية وإلى «عصر وفرة» جديد؛ وذلك عندما هبطت أسعار النفط وبدأت الدول غير الغربية تعود إلى الرأسمالية على النمط الأمريكي — وليس إلى الاشتراكية — لكي تُنعش اقتصادها الصناعي. إلا أنَّ بول کیندي Paul Kennedy كان يُجادل في كتابه «قيام وسقوط القوى الكبرى» (۱۹۸۷)؛ حيث يرى أن الأمريكيِّين كانوا على وشك أن يواجهوا المصير نفسه الذي واجهه البريطانيون في نهاية القرن التاسع عشر، ألَا وهو الاضمحلال كقوة عالمية.
كانت الولايات المتحدة تُعاني مما يدعوه «بول کیندي»: «التوسع الإمبريالي المفرط»، وكانت تضغط عليها القوى العنيدة نفسها التي حطَّت «السلم البريطاني» Pax Brittanica، وأدَّت إلى الحربَين العالميتَين الأولى والثانية. وبالوقوع في فخ الالتزامات العسكرية إبان الحرب الباردة، والتحديات الاقتصادية الجديدة على امتداد الإطار الباسيفيكي، انتهى وضع السياسة الأمريكية. يكتب «بول کندي» Paul Kennedy سوف تكون المهمة التي تواجه رجال الدولة الأمريكيِّين في العقود القادمة هي «إدارة الأمور على نحوٍ يجعل التآكل النسبي في وضع الولايات المتحدة يحدث ببطء وهدوء».٢

وقد ثبتت صحةُ نبوءة «کیندي» بخصوص التوسُّع المفرط في الحرب الباردة، ولكن ذلك حدث بالنسبة للاتحاد السوفيتي أكثر مما هو للولايات المتحدة، وبعد أقل من ثلاث سنوات على ظهور كتاب «بول کیندي»، اختفَت الإمبراطورية السوفيتية (التي نادرًا ما كان يذكرها)، بينما تحركت أمريكا نحو وضع «القوة الكبرى الوحيدة في العالم».

وبالطبع، فإنَّ الوقائع وحدها لا يمكن أن تصنع، أو لا تصنع نظريةً في التاريخ، فالتشاؤم والتفاؤل اتجاهات يُضفيها الدارس على تحليلاته أو أحداثه، وليست استنتاجات لتلك التحليلات. أما مزاعم «كيندي» بخصوص «التوسع الإمبريالي المفرط» فهي تتناسب تمامًا مع جوِّ الكآبة السائد حول مصير المجتمع الأمريكي وهو يقترب من نهاية القرن العشرين. وقد استخدم المحلل السياسي «کیفن فيليبس» Kevin Phillips أفكارَ «كيندي» للمقارنة بين «واشنطن دي سي»، وبين «روما الإمبراطورية»، و«لندن القرن التاسع عشر»، تلك «العاصمة المتغطرسة، المتعجرفة لإمبراطورية منهارة تحكمها «نخبة فاسدة محصنة». يكتب «کیفن»: «إن كثيرًا مما حدث حينذاك يحدث الآن». «الاستقطاب الاقتصادي»، و«طبقة وسطی مضمحلة» يتحركان يدًا في يد، يصاحب ذلك «انتشار للترف والانحلال الأخلاقي»، و«فقدان للوطنية القديمة»، و«كثرة الشكوى من الانهيار الأخلاقي»، وكما يقول «فیلیبس»، فإنَّ «أعراض الاضمحلال تقف دليلًا على الاضمحلال ذاته».٣
ويستخدم الناقد الأسود «کورنل وست» Cornel West الصورةَ التي رسمها «بول کیندي» عن «أُفُول السيطرة الأمريكية على العالم» كخلفية لتلخيصه لويلات وكروب الولايات المتحدة في كتابه «قضايا العرق» ۱۹۹۳، وقد نبَّه «وست» إلى أنَّ المجتمع الأمريكي كان يتمُّ تخريبه بواسطة «کساد صامت» في الأعمال الصناعية المنهارة والدخول الهابطة وتدهور المجتمع. «الانهيار الثقافي» في إمبراطورية منهارة خلق شعبًا «يتدلَّى هكذا بلا جذور»، و«مواطنين لا حول لهم ولا قوة … لا أقصد الفقراء فقط وإنما نحن جميعًا».٤ كتاب «وست»، وكتابَا «فیلیبس»: «رأس المال المتغطرس» و«نقطة الغليان»، كانت إضافةً إلى كتب أخرى عن مستقبل أمريكا، عناوينها كلها مثيرة للاكتئاب، مثل: «فجر الديمقراطية الكاذب»، و«شرك الديمقراطية»، و«محاكمة الديمقراطية»، و«فقدان الأمل في الديمقراطية»، و«الجمهورية المجمدة»، و«بيع أمريكا»، و«إفلاس أمريكا»، و«الحلم الأمريكي المهدد»، و«مَن سيخبر الشعب».٥
وبالرغم من العلاقة المفترضة بين تلك الكتب وموضوعنا، إلا أنَّ كثيرًا من المزاعم الخاصة بالاضمحلال والمصير، لا يخلو من نظرة سابقة أو على الأقل نغمة مألوفة. فإذا كانت تحذيرات «کیفن فیلیبس» المخيفة عن حقبة «ريجان» … «حقبة الجشع»، تبدو مشابهةً للهجوم الشفاهي على عصر أمريكا الذهبي من قِبل براهمة بوسطن، مثل «هنري آدمز» Henry Adams، فإن تحذيرات «بول کیندي» من أنَّ القرن الواحد والعشرين سيفتح الباب لصراع «الغرب ضد الباقي»، مع بروز «تجمعات سكانية سريعة النمو، مراهقة، فقيرة الموارد، هزيلة رأس المال، قليلة التعليم»، يقابلها في الجانب الآخر «مجتمعات قليلة السكان، تزداد ثراءً باستمرار»، تُشبه «تحذيرات كيندي» ما قاله «أرنولد توينبي» Arnold Toynbee، و«أوزوالد شبنجلر» Oswald Spengler، و«بنيامين كيد» Benjamin، أو أي عدد آخر من المتنبِّئين المتشائمين في العقود الأولى من هذا القرن. والحقيقة أنَّ هؤلاء الكُتَّاب أنفسهم هم الذين صاغوا في الأصل مصطلح «الغربي» لكي يصفوا به حضارةً أوروبية مترنحة، كانوا يعتقدون أنها تُذوَی باضطراد مثل شمس تغرب.
بعد ذلك جاء كتاب «تشارلز موراي» Charles Murray، و«ريتشارد هرنشتاین» Richard Herrnstein: «منحنى الجرس» ۱۹۹٤م، والذي انتشر على نطاق واسع لكي يقدِّم صورةً لمستقبل أمريكا تذكِّرنا بدرجة كبيرة بكتابات علماء تحسين النسل، و«علماء الأجناس» في نهاية القرن التاسع عشر، نهاية القرن التي أخذت فيها صورةُ الاضمحلال الغربي شكلَها المحدد لأول مرة. وقد نبَّه «تشارلز موراي» إلى أنَّ المجتمع الأمريكي، المتحرك أكثر من اللازم، كان على وشك أن ينشقَّ إلى مجتمعين بناءً على معامل الذكاء والقدرة المعرفية. الولايات المتحدة متجهةٌ بسرعة لأن تُصبح «أمَّتَين»: نخبة منفصلة، معزولة ثقافيًّا تستحوذ على الكم الرئيسي من الموارد الاقتصادية والاجتماعية، وطبقة دنيا من البيض والسود معًا، تزداد بؤسًا وعجزًا عن العناية بنفسها. أما الإجراءات السياسية اللازمة للتعامل مع هذا التشعُّب المجتمعي فسوف تكون كما تنبَّأ «موراي»: أكثر سلطوية وعلى نحوٍ متزايد، مع تنامٍ في القوة البوليسية، وانتشار العداوات العِرقية وأعمال التمرد وقمع الحريات الشخصية، مع «خلق شكل متطور من الأسلوب الهندي للاحتفاظ بأقلية أساسية من السكان»، ويقول … إنه إذا لم تتمَّ السيطرة على هذه التوجُّهات، فإنها سوف تقود الولايات المتحدة نحو شيء أشبه بمجتمع اﻟ caste،٦ ويضيف «إن هذه الرؤيا التشاؤمية تُشبه كلَّ الرؤى الأخرى الخاصة بمستقبل أمريكا … ولربما كانت مغرقةً في التشاؤم. ومن ناحية أخرى، هناك الكثير الذي يدعو للتشاؤم.»٧
وكأنَّ كلَّ هذه الهموم لا تكفي، فنجد هناك أيضًا المخاوفَ الحالية بسبب تدهور أحوال البيئة، ونتيجة ذلك على بقاء المجتمع الغربي الحديث، وربما كوكب الأرض نفسه. وقد وصل هذا القلقُ إلى أعلى مستوى له مع صدور كتاب «الأرض في الميزان» ﻟ «ألبرت جور» Albert Gore، نائب الرئيس الأمريكي في سنة ۱۹۹۲. «إذا لم نتمسَّك بالحفاظ على الأرض، جاعلين ذلك مبدأً تنظيميًّا جديدًا لنا، فإنَّ بقاء حضارتنا نفسها، يصبح موضعَ شك.»٨
«سخونة الكرة الأرضية، نقص الأوزون، تدمير الغابات الطبيعية، انقراض السلالات المهددة، تلوث الهواء والماء، كل ذلك يشكِّل تهديداتٍ قاتلةً لوجودنا ذاته»، والنتيجة «أننا ننجرُّ إلى الأدوات والتكنولوجيا المغرية التي جاءت بها الحضارة الصناعية، ولكنَّ ذلك يخلق مشاكلَ جديدةً؛ حيث نُصبح منعزلين عن بعضنا منفصلين عن جذورنا»، بدلًا من ذلك، فإنَّ كلَّ البشر في جميع أنحاء العالم «لا بد أن ينظروا نظرةً جادة إلى عاداتهم الذهنية والعملية التي تعكس هذه الأزمة الخطرة والتي أدَّت إليها بداية». «ومن بين هذه العادات والممارسات: الرأسمالية الجديدة المولعة بالكسب، والتي عميَت عما تُسبِّبه للبيئة من دمار»،٩ ثم إنَّ هناك طبيعة الحضارة التكنولوجية ذاتها:

إنَّ صرْحَ الحضارة قد أصبح شديدَ التعقيد بدرجة كبيرة، ولكنه كلما كَبُر وأصبح أكثرَ تطوُّرًا، يتزايد شعورُنا بالابتعاد عن جذورنا في الأرض … وبمعنى ما، فإن الحضارة نفسها … في رحلة من أساسها في عالم الطبيعة إلى عالم أكثر تخطيطًا وانضباطًا، عالم مصنوع بمبادرتنا وأحيانًا من تصميمنا المتعجرف.

ویری «جور» أن هذه الحضارة تُواجه الآن «أزمة هوية جماعية» كما أنَّ هناك دلائلَ تتجمَّع وتُثبت أنَّ «هناك بالفعل أزمةً روحية في الحضارة الحديثة؛ بسبب خواء مركزها وغيبة هدف روحاني أكبر»،١٠ يقول «جور»: «من السهل أن نشعر بالارتباك وبالعجز الكامل عن إحداثِ أيِّ تغيير من أي نوع.» عندما نكون في مواجهة كارثة بهذا الحجم، ولكن قلة من البشر، على أي حال، قد أثبتوا أنهم على استعداد لمواجهة هذا التحدي.
في ٢٥ أبريل عام ١٩٩٥م، انفجر طردٌ بريدي مفخَّخ في مكتب «جيلبرت موراي» Gilbert Murray المدير التنفيذي لإحدى شركات تصنيع الخشب في «سكرامنتو»، وقُتل الرجل على الفور، بعد ذلك قالت تحرِّيات الشرطة إنَّ الجريمة كانت من تدبيرِ مفجِّر قنبلة مجهول، خارج على القانون، قتل ثلاثةَ أشخاص وأصاب وشوَّه أو أقعد ثلاثةً وعشرين آخرين في عملية حرب عصابات قادها رجلٌ واحد ضد «الدولة بكاملها». والحقيقة أنَّ مفجِّر القنبلة المجهول قد أتْبَع هجومَه هذه المرة ببيان من ۳٥۰۰۰ كلمة، بعنوان «المجتمع الصناعي ومستقبله»، لخَّص فيه بالفعل كلَّ الأفكار المتشائمة، بخصوص المجتمع الحديث ومستقبل أمريكا ومستقبل کوکب الأرض، التي ظهرَت على مدى العقود الماضية.

وقد بدأ هكذا: «كانت الثورة الصناعية وما خلَّفته من آثار، كارثةً على الجنس البشري، لقد أفقدت المجتمع توازنه، وجعلَت الحياة مستحيلة، وأخضعت البشر لأوضاع مهينة ودمار نفسي — ولمعاناة فيزيقية أيضًا في العالم الثالث — كما أحدثَت دمارًا شديدًا في عالم الطبيعة.» ولا يوجد إطار عمل مستقر للجنس البشري كما يقول، سوى تلك التغيُّرات الخرقاء التي لا تهدأ. أما الأوغاد الحقيقيون فهم التكنولوجيا، والرأسمالية «بسعيها الذي لا يكلُّ من أجل الكسب المادي»، والعلم الذي «يواصل مسيرته العمياء دون الالتفات لصالح الجنس البشري»، تنفيذًا لأوامر المسئولين الرسميِّين ومُدَراء المؤسسات، لقد شاركوا جميعًا في صنْع مجتمع لا يتوفر فيه سوى «الحد الأدنى من الجهد الضروري لإشباع احتياجات الفرد المادية».

وقد حرم المجتمع الصناعي الناسَ من استقلالهم الشخصي وما يربط بينهم، بواسطة ما أطلق عليه مفجِّر القنبلة المجهول «عملية القوة»، التجربة الشخصية للمكان والهدف في العالم، ونتيجة لذلك كله، اختفت الحرية الحقيقية.

فمفجِّر القنبلة اتَّهم الأمريكيِّين المحدثين بأنهم يعيشون حياةَ الأرستقراطيِّين «المترفين المتفسخين»، وأنهم ضجرون لأبعد الحدود، هدفهم اللذة، محبطون …» و«قد تمَّ عمل غسيل مخ للناس لكي يصبحوا في حالة من الامتثال والانقياد تُشبه حالةَ الحيوانات المروَّضة، فيُملَى عليهم كل جانب من جوانب حياتهم ويتمُّ التحكم فيه من قِبَل النخبة المتحدة.» لم يكن مفجِّر القنبلة يهدف إلى شيء أقل من ثورة كونية «تقلب الأسس التكنولوجية والاقتصادية للمجتمع القائم وليس الحكومات فقط، بعد ذلك سيكون من الممكن أن تقوم أيديولوجية جديدة مضادة للمجتمع التكنولوجي الصناعي؛ لأنَّ النظام عندما ينهار ستكون بقاياه عصيَّة على الإصلاح؛ ولذلك يصبح من المستحيل أن يعود ذلك النظام مرة أخرى». وكان مفجِّر القنبلة يعتقد أن حركة البيئة الثورية هي تلك الأيديولوجية، وما حدث هو أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي اكتشف نسخةً من كتاب «آل جور»: «الأرض في الميزان»، وكانت النسخة مستهلكة من كثرة القراءة، وعليها تعليقات كثيرة وبعض زوايا الصفحات مطوية، وذلك عندما أُلقيَ القبض عليه في شهر أبريل عام ۱۹۹٦، ولكنَّ المجرم لم يكن لديه أيُّ أوهام حول سهولة إقامة المجتمع الجديد المثالي، فهو يتحدث باسمه: «إنَّ هدفنا ليس سوى تدمير الشكل الحالي للمجتمع — الغرب الحديث.»١١
إنَّ بعض الناس يتحدثون عن اضمحلال الحضارة، والبعض الآخر يعيشونه، وهذا كتاب عن أصول وانتشار فكرة ثقافية قديمة هي فكرة «اضمحلال الغرب». وسوف نرى كيف شكَّلت هذه الفكرةُ الأساسَ المظلم للفكر الأوروبي الحديث في القرن التاسع عشر، وكيف أصبحت، تقريبًا، الموضوعَ الأكثر سيادة وتأثيرًا في الثقافة والسياسة في القرن العشرين. إنها لم تؤثر فقط على حياة الناس بصورة غير متوقعة ومروعة نتفحَّصها ببعض تفاصيلها، ولكنَّها أيضًا ليست منبتَّةَ الصلة بفكرة الحضارة ذاتها. وفي الوقت نفسه، سوف نجد أن فكرة الاضمحلال مكوَّنة من فكرتَين قديمتَين مائزتين، في مقابل كل مثقَّف غربي يخشی اضمحلال مجتمعه (مثل «هنري آدمز»، أو «أرنولد توينبي»، أو «بول کیندي»، أو «تشارلز موراي»)، هناك مثقَّف آخر يتطلَّع إلى ذلك بلهفة وفرح. وعلى مدى معظم عقود ثلاثة كان المفكرون والنقَّاد الأمريكيون المبرزون، من «نورمان مایلر» Norman Malier، و«جور فيدال» Gore Vidal، و«توماس بنشون» Thomas Pynchon، و«کریستوفر لاش» Christopher Lasch، و«جوناثان كوزول» Gonathan Kozol، و«جاري ويلز» Garry Wills، إلى «جوزيف كامبل» Joseph Campbell، و«جوان ديديون» Goan Didion، و«سوزان سونتاج» Susan Sontag، و«جوناثان شل» Jonathan Schell، و«روبرت هیلبرونر» Robert Heilbroner، و«ريتشارد سينيت» Richard Sennett، و«نعوم تشومسکي» Noam Chomsky، و«بول جودمان» Paul Goodman، و«میشیل هارنجتون» Michael Harrington، و«إي. إل. دوکترو» E. L. Doctorow. وذلك طبعًا إلى جانب «کورنل وست» Cornel West، و«ألبرت جور» Albert Gore، ومفجِّر القنبلة المجهول، يقدِّمون صورةً للمجتمع الأمريكي أكثر رعبًا مما قدَّمه أيُّ متشائم؛ مثل «تشارلز موراي»، أو «کیفین فیلیبس».

أما كنقدٍ للمجتمع الصناعي الغربي، فذلك يعود للقرن التاسع عشر، ومن وجهة النظر هذه، يبدو المجتمع الحديث مادیًّا بشراهة، مفلسًا من الناحية الروحية، ومجرَّدًا من القيم الإنسانية. في العصر الحديث، الناس دائمًا موجودون في الموضع الخطأ، لا جذور لهم، نفوسهم مليئة بالندوب، منعزلون عن بعضهم، أو كما قال مفجِّر القنبلة: «محبطون!»

والآن لا يصبح السؤال الرئيسي المنتصب أمامنا هو: «هل بالإمكان إنقاذ الحضارة الغربية؟» ولكنَّ السؤال هو: «هل تستحق الإنقاذ أم لا؟» وسوف نُطلِق على هذه النظرة القاتمة، والأكثر رادیکالية: «التشاؤمية الثقافية»، هذه التشاؤمية الثقافية تجسِّد رؤيا خاصة للتاريخ الحديث متمثلة عنوان الكتاب العمدة ﻟ «أوزوالد شبنجلر»: «أُفُول الغرب»؛ فالمتشائم الثقافي يدَّعي أن العالم الحديث والإنسان الحديث مأسوران في فخِّ عملية اضمحلال وتدهور وسقوط حتمي، والتشاؤمية الثقافية تعتمد إلى حدٍّ كبير على فلسفة «فردريك نيتشة» Friedrich Nietzsche، وإدانته الشديدة للمجتمع الأوروبي في أيامه، ووصفه بأنه «مریض»، و«متفسِّخ». في سنة ۱۸۸٥ کتب «نيتشة»: «هناك عنصر تآكل في كل شيء يميِّز الإنسان الحديث.» والواقع أن هناك خطًّا مباشرًا للسقوط ممتدًّا من «نيتشة» وتلاميذه («مارتن هيدجر» Martin Heidegger، و«هربرت مارکیوز» Herbert Marcuse) وصولًا إلى مفجِّر القنبلة المجهول وما بعده، خط هبوط، هو الذي أفرز الرؤية المفردة للغرب الحديث، والتي لخَّصها «هربرت مارکیوز» في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد»، «نوع من الحرية المريحة، الناعمة، المعقولة، الديمقراطية، يسود في الحضارة الصناعية المتقدمة، علامة مميزة على التقدُّم التكنولوجي». أما قضية المستقبل الملحَّة أمام المتشائم الثقافي فليست هي بقاء أو زوال الحضارة الغربية، إنَّ ما يشغله هو «ماذا سيحلُّ محلَّها؟» التشاؤمية الثقافية في مضمونها الأوروبي الأصلي، تتقاطع عبر المنظور السياسي والأيديولوجي. «مارکیوز» کان مارکسیًّا، «هيدجر» اتَّجه نحو «هتلر» في حماس شدید، «أوزوالد شبنجلر» اتَّجه مرتابًا، «نيتشة» احتقر كلَّ الشعارات السياسية التقليدية. التشاؤمية الثقافية هجوم على الثقافة الغربية الحديثة التي تسبق وتتخطَّى التقيُّد والالتزام بأي عقيدة ماركسية أو اشتراكية.
وإذا كانت الأصوات القيادية في الجوقة المعادية للحداثة في أمريكا اليوم تنطلق من ناحية اليسار، فإنَّ أشخاصًا مثل «ت. س. إليوت» T. S. Eliot، و«وليم فوكنر» William Falkner، و«إيفيلين وو» Evelyn Waugh، و«ووكر بیرسي» Walker Percy، و«مالكولم ماجردج» Malcolm Muggeridge، و«ألكساندر سولجنتسین» Alexander Solzhenitsyn، و«توماس مولنر» Thomas Molner قد استطاعوا أن يحافظوا على اللازمة المتكررة في أغنية اليمين كذلك. وبصرف النظر عن الموطن والحِقْبة والالتزام السياسي، فإنَّ أولئك المؤلفين يشتركون في الرؤيا ذاتها: الحضارة الرأسمالية البرجوازية في أيامهم، سواء في سنة ١٨٦٤م، أو ۱۸۸٦م، أو ١٩٤٦م، أو ١٩٩٦م، مصيرها الدمار الذاتي … فالرأسمالية ليست مجردَ نظام مؤلم أو صعب بالنسبة لأولئك المحرومين من مزاياها، أو قادرة على إحداث التدمير المادي الشامل، أو نزَّاعة إلى تفجُّرات من الغباء والسوقية أو غافلة عن «المثل العليا» وتقاليدها الروحية الخاصة. التشاؤمية الثقافية ترى — وبإصرار أكيد — أنَّ المسار الطبيعي للمجتمع المدني على النموذج الغربي، كمجتمع رأسمالي أو «تجاري» قائم على مبادئ عقلانية أو علمية ومؤسسات سياسية ديمقراطية، واتجاهات ثقافية واجتماعية حديثة واعية بنفسها … ينتظر رؤياه النبوئية العلمانية الخاصة … الفناء. سُحُب النهاية الحتمية تلوح على أفق منتوجاته وإنجازاته: وكما کتب «أوزوالد شبنجلر»: «لقد استسلمنا، وارتضينا حياةً ضائعة.»١٢ الإنسان الحديث يعيش حياةً تنزلق عميقًا في مستنقع الكآبة، إلى أن يقوم نظامٌ افتدائيٌّ جديد تمامًا، يخلِّصه من ذلك. هذا الفكر الثقافي التشاؤمي القديم هو الذي شكَّل نظرتَنا إلى أنفسنا وإلى مجتمعنا بوسائل نادرًا ما نُدركها: أفكار مفجِّر القنبلة المجهول، ثوَّار العالم الثالث الماركسيون، علماء الدراسات الأفريقية، نائب الرئيس … «آل جور» السلام الأخضر، «روبرت بلاي» Robert Bly، «مادونا» Madonna، كل أولئك يعكسون الافتراضاتِ الرئيسيةَ للتشاؤمية الثقافية وإن اختلفت الوسائل.
فبداية من الهوس الحالي بأسئلة «الهوية»، و«التنوع»، إلى المحلِّلين النفسيِّين المحدثين وما يُسمَّى ﺑ «مجتمع التداوي»، منحَتنا التشاؤمية الثقافية رؤيةً غنية وثاقبة عن الحداثة والتغيير، ولكنها رؤية معقدة ومحددة بذاتها. على أن القارئ سوف يكتشف أنَّ هناك تناقضًا واضحًا في قلب تلك الفكرة القديمة، فهي، من جانب، تنطوي على رسالة جادة عن الكآبة والهلاك: المجتمع الحديث يدمِّر نفسه على نحوٍ منظَّم. هذا المكوِّن الأساسي للاضمحلال له ممارسوه اليائسون؛ مثل «جاكوب بوركهارت» Jacob Burckhardt، و«هنري آدمز» Henry Adams، و«أرنولد توينبي» Arnold Toynbee، ولكنَّ التشاؤمية الثقافية تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وعلى العكس، تحتوي على رسالة أمل.
والمتشائم الثقافي يؤكِّد لنا مثل زملائه الماركسيِّين أنَّ مجتمعنا الحديث الفاسد عندما يفرغ من تدمير نفسه ويختفي، سوف يحلُّ محلَّه شيءٌ آخر أفضل منه. إلا أنَّ النظام الجديد لن يكون اقتصاديًّا أو سياسيًّا بالأساس، ولكنه بدلًا من ذلك سوف يتضمن هدمَ الثقافة الغربية في مجموعها الكلي. هذا النظام الجديد، قد يأخذ شكل «اليوتوبيا البيئية» التي كان يحلم بها مفجِّر القنبلة المجهول. وقد يكون «الإنسان الأعلى» عند «نيتشة»، أو الاشتراكية القومية الآرية عند «هتلر»، أو تلك الوحدة اليوتوبية بين التكنولوجيا والإيروس eros عند «مارکیوز»، أو الفلاحون الثوريُّون عند «فرانز فانون» Frantz Fanon.

وقد يكون حاملوه هم «أصدقاء الأرض» عند أنصار البيئة، أو «الملونون» عند القائلين بالتعدُّدية الثقافية، أو «الأمازونيون الجدد» عند الحركة النسوية الثورية، أو «البشر الجدد» عند «روبرت بلاي». الشكل المحدد لذلك النظام المستقبلي سوف يتنوَّع بتنوُّع الأذواق، إلا أنَّ ميزتَه الأهم ستكون طبيعته اللاغربية … بل ربما المعادية للغرب، فما يهمُّ المتشائم الثقافي في النهاية ليس ما سيتمُّ صنعه، بل بالأحرى ما سوف يتمُّ تدميره … وبالتحديد … مجتمعنا الحديث «المريض».

بالنسبة للمتشائم الثقافي إذن، فإنَّ الأخبار السيئة في حقيقة أمرها هي أخبار «طيبة»، فهو يحتفي بالكساد الاقتصادي وبالبطالة وبالحروب العالمية والصراعات والكوارث البيئية، ويفرح لذلك بشكل واضح؛ حيث يعتبرها كلها مؤشرات تُعجِّل بالدمار النهائي للحضارة الحديثة. ومثل أنبياء الإنجيل القدامى، يعرف أنبياء التشاؤم المحدثون أن الأمور كلما زادت سوءًا، ستُصبح أحسن.١٣ إنَّ معظم الناس اليوم غيرُ واعين جيدًا بهذا المكوِّن السادي الافتدائي في فكرة التشاؤمية الثقافية، وبدلًا من ذلك، فإنَّ بذر اليأس والشك الذاتي قد أصبح عامًّا ومتغلغلًا في حياتنا، لدرجة أننا أصبحنا نقبله كموقف ثقافيٍّ عاديٍّ … حتى عندما يكون واقعنا متناقضًا معه على نحوٍ مباشر.
١  Lasch, Culture of Narcissism, p. xlv.
٢  Kennedy, Rise and Fall of the Great Powers, pp. xvi, xviii, xxiii.
٣  K. Phillips, Arrogant Capital, pp. xii-xiii.
٤  West, Race Matters, pp. 18; 6.
٥  Kennon, Twilight of Democracy; Graham Fuller, The Democracy Trap (New York, 1991); Jean B. Elshtain, Democracy on Trial (New York, 1995); Victor Kamber, Giving Up on Democracy (Washington, DC, 1995); Daniel Lazare, The Frozen Republic (New York, 1996); Rose L. Martin, The Selling of America (Santa Monica, CA, 1973); David Calleo, The Bankrupting of America (New York, 1992); Edward Luttwak, The Endangered American Dream (New York, 1993); and William Grieder, Who Will Tell the People? (New York, 1989).
٦  تُشير كلمة caste إلى الطبقة الاجتماعية المنغلقة على نفسها أو المتحجرة، والمعنى مأخوذ من الدراسات الأنثروبولوجية عن إحدى الطوائف الاجتماعية عند الهندوس، والتي تستمد انعزالها من قيم وراثية، والمؤلف يشير هنا إلى أنَّ الغرب يمكن أن يكون مجتمعًا منغلقًا على نفسه ولا يرى التعدُّد الثقافي في الأمم الأخرى (ر. بسطاويسي).
٧  Murray and Hernstein, Bell Curve, pp. 510, 526; 509.
٨  Gore, Earth in the Balance, pp. xii, 295.
٩  Ibid., pp. 12, 183.
١٠  Ibid., pp. 1, 367.
١١  Washington Post, September 19, 1995, special section entitled “The Unabomber: Industrial Society and Its Future,” pp. 1–5.
١٢  Spengler, Decline of the West, Vol. 1, p. 40.
١٣  Historian Ernest Tuveson has even argued that the modern idea of progress actually spring from Christian doctrines of the millenium and the return of Christ’s kingdom: that progress, even in its Marxist version, is a secularized version of the Apocalypse. See Millenium and Utopia: A Study in the Background of the Idea of Progress.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤