الفصل الرابع

بعض ملاحظات عن النفس

(٢٨) مدخل

الفصل الحالي صعب؛ ليس صعبًا على القارئ (كما آمُل) بقدر ما هو صعب على الكاتب. المشكلة هي أنه على الرغم من أن النفس لها وحدة خاصة، فإن ملاحظاتي المتناثرة بعض الشيء عن النفس لا تَدَّعِي أي وحدة كهذه أو نظام (اللهم إلا في توكيد اعتماد النفس على العالم ٣). غير أن مناقشة النفس، والشخوص والشخصيات، والوعي والعقل، عُرضة جدًّا لأن تقود إلى أسئلة مثل «ما هي النفس؟» أو «ما هو الوعي؟» ولكن مثلما أشرتُ مِرارًا١ فإن أسئلة «ما هو» لا طائل منها على الإطلاق، رغم أن الفلاسفة قد أكثروا مناقشتها. إنها مرتبطة بفكرة «الماهيات» essences — «ما هي النفس جوهريًّا (ماهويًّا)؟ — ومرتبطة بالفلسفة ذات النفوذ الكبير التي أسميتُها» مذهب الماهية essentialism والتي أعتبرها مغلوطة.٢ أسئلة «ما هو» قابلة للانحدار إلى فلسفة لفظية، إلى مناقشة في معنى الكلمات والمفاهيم، أو إلى مناقشة التعريفات. ولكن على عكس ما هو معتقَد حتى الآن على نطاق عريض، فإن هذه النقاشات والتعريفات غير ذات جدوى.
علينا أن نعترف بطبيعة الحال أن كلمات «نفس» (ذات) self، و«شخص» person، و«روح» soul وأمثالها من الكلمات ليست مترادفات، بل لها معانٍ مختلفة بعض الشيء في الاستخدام اللغوي الإنجليزي المرهف. كلمة soul مثلًا غالبًا ما تُستعمَل في الإنجليزية المعاصرة بتضمين أنها جوهر يمكن أن يبقى بعد الموت (تُستعمَل كلمة seele في الألمانية على نحو مختلف، فهي أقرب إلى الكلمة الإنجليزية mind).

ليس في نيتي هنا أن أناقش مسألة خلود الروح. (ولكن انظر المناقشة بيني وبين إكلس في الحوار ٦). ومع ذلك سأقتبس هنا عبارة موجزة عن هذه المسألة أتفق معها إلى حد بعيد. وهي تعود إلى بيلوف (١٩٦٢م، ص١٩٠):

«لستُ تَوَّاقًا إلى الخلود الشخصي؛ ولا يستهويني، حقًّا، عالمٌ تكون فيه أَنايَ شيئًا ثابتًا لا يَرِيم.»

لهذا السبب سأحاول أن أتجنب استخدام كلمة soul (روح)، رغم أني لو كنتُ أكتب بالألمانية لما شعرتُ، ربما، أن عليَّ اجتناب كلمة seele. على أني سأبقَى لا أناقش الألفاظ بل أستعملها، استعمالًا حسنًا جهدَ ما أستطيع، لكي أناقش لا مسائل لفظية بل أمورًا حقيقية.

أود، بعد أن ذكرتُ موقفي من مشكلة بقاء الروح، أن أذكر بإيجازٍ موقفي من المسائل الرئيسية قبل الدخول في الحجج والخلافات.

أتفق مع البيولوجي العظيم ثيودوسيوس دُبزانسكي الذي كتب، قبيل وفاته في ديسمبر ١٩٧٥م:٣

«لستُ حيًّا فقط، بل واعٍ بأني حي. كما أني أعرف أنني لن أظل حيًّا إلى الأبد، أن الموت لا مفر منه. أنا أملك صفتَي الوعي بالذات والوعي بالموت».

نحن لسنا فقط على دراية بأننا أحياء، بل كل منا يدري بأنه نفس (ذات)، يدري بهويته خلال فترات كبيرة من الوقت، وخلال انقطاعات في وعيه بذاته بسبب فترات النوم، أو بسبب فترات فقدان الوعي؛ وكل منا على دراية بمسئوليته الأخلاقية عن أفعاله.٤
هذه الهوية الذاتية بلا شك وثيقة الصلة بالهوية الذاتية لجسدنا (الذي يتغير كثيرًا أثناء حياتنا، والذي يغيِّر على الدوام جسيماته المادية المكوِّنة). في كلتا الحالتين: حالة هوية نفوسنا وحالة هوية أجسامنا، يجب أن نكون دائمًا على ثقة بأن هذه الهوية العددية (الإحصائية) ليست هوية منطقية تمامًا (بل هي ما أَطلَق عليه كورت ليفين Kurt Lewin (1922) اسم genidentity: الثبات الإحصائي (الهوية العددية) لشيءٍ ما يتغير في الزمان). هذا النوع من الهوية يشكل مشكلةً حتى في حالة الأجسام غير الحية المتغيِّرة، ومشكلة أكبر في حالة الأجسام الحية؛ وهو مشكلة أكبر حتى من هذه في حالة الأنفس، أو العقول، أو العقول الواعية بذاتها.

(٢٩) الأنفس (الذوات) selves

قبل أن أبدأ ملاحظاتي حول النفس، أود أن أُقِرَّ بوضوحٍ ودون لَبْس أنني على قناعة بوجود الأنفس.

هذا الإقرار قد يبدو فائضًا بعضَ الشيء في عالمٍ تُعَد زيادةُ السكان فيه إحدى المشكلات الاجتماعية والأخلاقية الكبرى. من الجَلِيِّ البيِّن أن الناس موجودون، وأن كلًّا منهم هو ذاتٌ فردة، لها مشاعر وآمال ومخاوف وأحزان ومَسرات ورَهَبات وأحلام، والتي لا نستطيع إلا التخمين بها ما دامت غير معروفة إلا للشخص نفسِه.٥

كل هذا أوضح من أن يُكتَب. ولكنه يجب أن يُقال. ذلك أن بعض كبار الفلاسفة قد أنكره. كان ديفيد هيوم واحدًا من أوائل هؤلاء، والذي أدى به تفكيره إلى الشك في وجود نفسِه ذاتِها. وقد تَبِعَه في ذلك كثيرون.

وقد أدَّت بهيوم إلى هذا الموقف الغريب نظريتُه التجريبية في المعرفة. لقد تبنَّى نظرةَ الحِس المشترك (نظرة أعتبرها مغلوطة، انظر كتابي (1972a) الفصل ٢) بأن معرفتنا كلها هي نتاج الخبرة الحسية (وهذا يُغفِل الكم الهائل من المعرفة التي نرثها والتي هي مبيَّتة في أعضائنا الحسية وجهازنا العصبي؛ معرفتنا كيف نستجيب للأفعال، وكيف ننمو، وكيف نَرشُد. انظر كتابي (1957a) = (1963a)، الفصل ١ ص٤٧). لقد أدت بهيوم تجريبيتُه إلى المذهب القائل بأننا لا يمكننا أن نعرف إلا انطباعاتنا الحسية و«الأفكار» المستمَدة من الانطباعات الحسية. وعلى هذا الأساس فقد كان هيوم يُحاجُّ بأنه لا يمكن أن يكون لدينا أي شيء من قبيل فكرة النفس، وأننا من ثم لا يمكن أن نكون شيئًا من قبيل النفس.
هكذا ففي قسم «عن الهوية الشخصية» من رسالته Treatise٦ يُحاجُّ هيوم ضد «بعض الفلاسفة الذين يتخيلون أننا واعون كل لحظة وعيًا وثيقًا بما يسمونه نفسنا (ذاتنا our self)»؛ ويقول عن هؤلاء الفلاسفة إنه «للأسف كل هذه الدعاوى المثبِتة مضادة لتلك الخبرة ذاتها التي يتذرعون بها، ولا نحن لدينا أية فكرة للنفس … فمن أي انطباعٍ يمكن لهذه الفكرة أن تُستمَد؟ من المستحيل الإجابة عن هذا السؤال بدون تناقضٍ وخُلف٧ واضحَين …»

هذه كلمات حادة، ولقد تركت انطباعًا حادًّا في الفلاسفة؛ فمنذ هيوم وحتى زمننا هذا اعتُبِر وجود الذات أمرًا مُشكِلًا إلى حد كبير.

إلا أن هيوم نفسه، في سياقٍ مختلف اختلافًا طفيفًا، يُقِر بوجود الأنفس بنفس التوكيد الذي ينفيه به هنا، فها هو يكتب، في الكتاب ٢ من «الرسالة»:٨

«من الواضح أن فكرة النفس (الذات) أو بالأحرى انطباع النفس لدينا هو شيء لصيق بنا على الدوام، وأن وعينا يمنحنا تصورًا لشخصنا هو من الحيوية بحيث يستحيل أن نتخيل أن أي شيء في هذه الجزئية يمكن أن يتخطاه.»

هذا الإقرار المثبِت يبلغ نفس المبلغ الذي يعزوه إلى «بعض الفلاسفة» في الفقرة النافية الأكثر شهرة والمقتبسة آنفًا، والتي يعلن فيها بحسم أن هذا أمرٌ واضحُ التناقض والامتناع.

غير أن هناك الكثير من الفقرات الأخرى عند هيوم تؤيد فكرة الأنفس، وبخاصة تحت اسم «الطبع» character. فنقرأ مثلًا:٩

«هناك أيضًا طباعٌ مميزة لمختلِف الأشخاص … تقوم معرفة هذه الطباع على ملاحظة اطرادٍ في الأفعال التي تصدر منهم …»

تقول نظرية هيوم الرسمية (إن جاز لي أن أسميها كذلك) بأن النفس لا تعدو أن تكون المجموع الكلي (الحزمة) لخبراتها.١٠ وهو يُحاجُّ — صائبًا من وجهة نظري — بأن الحديث عن نفسٍ «جوهرية» ليس يسعفنا كثيرًا. إلا أنه يعود مرةً تلوَ الأخرى يصف الأفعال على أنها «صادرة» من «طبع» الشخص. وفي رأيي أننا لا نحتاج أكثر من هذا لكي نكون قادرين على أن نتحدث عن نفسٍ من النفوس.
يذهب هيوم، وغيره، إلى أننا إذا تحدثنا عن النفس بوصفها جوهرًا فإننا قد نقول بأن خواص (وخبرات) النفس هي «متأصلة» فيها. وأنا أتفق مع من يقول بأن هذه الطريقة من الحديث ليست كاشفة. غير أن بوسعنا أن نتحدث عن خبراتنا (خبرات نا) مستخدمين ضمير الملكية. يبدو لي ذلك طبيعيًّا تمامًا، ولا يستدعي تأملات حول علاقة امتلاك. فقد أقول عن قطتي إنها تملك (it has) طبعًا قويًّا فلا أرى في هذا الأسلوب تعبيرًا عن علاقة امتلاك (بعكس الحال عندما أتحدث عن جسدي). بعض النظريات — مثل نظرية الملكية — مدمجة في لغتنا. ومع ذلك فليس لزامًا علينا أن نسلِّم بصدق النظريات المدمَجة في لغتنا، وإن كانت هذه الحقيقة قد تُصَعِّب من عملية نقدها. فإذا ما ارتأينا أنها مُضللة على نحوٍ خَطِر فلنا أن نغير ذلك الجانب المعنِي من لغتنا، وإلا فإن لنا أن نمضي في استخدامها آخذين باعتبارنا أنها لا يجب أن تؤخذ بمعناها الحرفي بالضبط (مثال ذلك: القمر «الجديد»). على أن هذا كله ينبغي ألا يحول دون أن نحاول دائمًا أن نستخدم أوضح لغة باستطاعتنا استخدامها.١١

من البيِّن أن للذاكرة أهمية في عملية الوعي بالذات: والحالات التي فقدتُ ذاكرتي عنها تمامًا من الصعب أن يقال إنها حالاتي، إلا بمعنى أنني قد أستعيد ذكرى تلك الحالات. غير أني أعتقد أن الوعي بالذات أكثر من مجرد الذاكرة، على الرغم من الرد الممتاز لكوينتون على ف. ﻫ. برادلي (١٨٨٣م)؛ إذ كتب برادلي: «السيد بِين يعتقد أن العقل هو مجموعة (= ما أسماه هيوم حزمة). فهل تفكَّر السيد بين: من يُجَمِّع السيد بين؟» يعلق كوينتون على ذلك (١٩٧٣م، ص٩٩) قائلًا: «الجواب هو أن السيد بين اللاحق يُجَمِّع السيد بين السابق عن طريق تَذَكُّرِه.»

التذكر مهم، ولكنه ليس كل شيء. والقدرة على التذكر ربما تكون أهم من التذكر الفعلي. من الواضح أننا لسنا طوال الوقت «نتذكر» ذواتنا السابقة. ونحن نعيش للمستقبل — نفعل، نُعِد، للمستقبل — أكثر مما نعيش في الماضي.

(٣٠) الشبح في الآلة١٢

ربما يكون من المفيد أن نعلق هنا بصورة أكثر اكتمالًا على مسألة معرفة الذات وملاحظة الذات، وعلى آراء جلبرت رايل في كتابه البالغ الروعة «مفهوم العقل» (١٩٤٩م).

لقد رَحَّبَ الماديون بهذا الكتاب باعتباره مناصرًا لعقيدتهم؛ ورايل نفسه يقول في كتابه إن «اتجاهه العام … بلا شك وبلا ضير، سوف يوصَم بأنه (سلوكي)» (ص٣٢٧). وهو أيضًا يعلن بصراحة (ص٣٢٨) «أن حكاية العالَمَين هي خرافة». (ولعل حكاية العوالم الثلاثة أن تكون أسوأ حتى من ذلك).

إلا أن رايل ليس ماديًّا بكل تأكيد (بالمعنى الذي يفيده مبدأ المذهب الفيزيائي). بالطبع هو ليس ثنائيًّا، ولكنه حتمًا ليس فيزيائي النزعة أو واحديًّا. يتبيَّن ذلك بوضوح من القسم المعنون «شبح المذهب الآلي»،١٣ حيث يقول (ص٧٦): «حالَما يحقق علمٌ جديد (يومئ هنا إلى الميكانيكا) نجاحاته الكبيرة الأولى، فإن سدنته المتحمسين يتوهمون دائمًا أن جميع الأسئلة غدت محلولة». وفي هذه الفقرة والفقرة التالية لها يبيِّن بوضوحٍ تام أنه لا يأخذ جِديًّا الأمل، أو الخوف، في «ردٍّ» (اختزال) للقوانين البيولوجية والسيكولوجية والسوسيولوجية إلى ما أسماه «قوانين ميكانيكية». ورغم أنه لا يميز بين المادية الكلاسيكية (الميكانيكية) وبين المذهب الفيزيائي الحديث، فلا محل للشك في أنه حقيق بأن يرفض الواحدية الفيزيائية بنفس الحَسم الذي يرفض به الواحدية الميكانيكية.

وإنما في هذا الضوء ينبغي أن نقرأ العبارة الآتية لرايل، التي تكشف بالتأكيد ميوله الإنسانية: «لا داعيَ لأن نحط قدرَ الإنسان إلى آلة إذا ما أنكرنا عليه أن يكون شبحًا في آلة … فما زالت تُهيب بنا القفزةُ المغامرةُ إلى فرضيةِ أنه، ربما، إنسان.»

ويَبرز السؤال: ماذا يريد رايل أن ينكر إذ يقول إن الإنسان ليس «شبحًا (عفريتًا) في آلة» ghost in a machine؟ إذا كان قصده أن ينكر رأي هومر، الذي ذهب إلى أن النفس psyche — وهي ظِلٌّ مشابه للجسد — تبقَى بعد فناء الجسد، فليس بوسع المرء أن يعترض. إنما كان ديكارت هو من رفض بوضوحٍ تام هذه النظرة شبه المادية للوعي البشري، ويطلق رايل على الخرافة التي يرفضها اسم «الخرافة الديكارتية» Cartesian myth.١٤ وهذا يبدو كما لو أن رايل يريد أن ينكر وجود الوعي. قد يظن المرءُ حقًّا من خلال بعض حججه أن هذا هو رأيه، غير أن هذا الانطباع سيكون مغلوطًا (انظر ص٢٠٦: «الملاحظة تستلزم امتلاك إحساسات»؛ أو انظر ص٢٤٠: «الإحساس يعود الآن إلى ساقي الخَدِرة»؛ أو انظر ص٣٧-٣٨ حيث بوسعك أن تجد نقاشًا ممتازًا للضوضاء المتخيلة؛ ومواضع أخرى كثيرة). إذن ماذا يريد رايل أن ينكر؟ من المؤكد أنه يريد أن ينكر أن هناك «جوهرًا» substance مفكِّرًا ديكارتيًّا، وهو شيء أريد أنا أيضًا أن أنكره؛ لأني أرى أن فكرة الجوهر ذاتها قائمة على خطأ. غير أنه يريد أيضًا، بلا شك، أن ينكر الفكرة السقراطية والأفلاطونية للعقل بوصفه ربان سفينة، الجسم؛ وهو تشبيه أعتبره، من وجوه كثيرة، من الروعة والملاءمة بحيث يمكنني القول عن نفسي «إنني أعتقد في الشبح في الآلة».١٥
(يمكن تَلَمُّس كفاءة التشبيه من خلال وصف عالِم الأعصاب ﻟ «التلقائية» automatism (أو «تلقائية الصرع الصغير» petit mal automatism)، وهي حالة من فقدان الوعي الذاتي كله، والذاكرة، يُلاحظ أحيانًا في مرضى الصرع: لقد ترك الربانُ السفينة.١٦
حين يؤخذ كتاب رايل ككل، يبدو فيه ميل عام إلى إنكار وجود معظم الخبرات الواعية الذاتية، وإيماء إلى أنها يجب أن يستبدل بها حالات فيزيائية محضة، حالات نزوعية (استعدادية)، استعدادات (نزوعات)١٧ إلى السلوك. ورغم ذلك فإن هناك مواضع كثيرة في كتاب رايل يسلِّم فيها بأننا قد «نشعر» بهذه الحالات على نحو حقيقي أصيل. هكذا يقول رايل (ص١٠٢) إن هناك فرقًا بين إقرارٍ زائف بشعورٍ وإقرارٍ صادق. وأنا على ثقة من أن رايل خليقٌ أيضًا بأن يفرق بين الإقرار الصادق «أنا سَأْمان» (pp. 102 f) وبين قمع هذا الإقرار الصادق بوازع الكياسة. وهو لا يعترف فقط (ص١٠٥) بأننا قد نحس بالألم، بل يشير، بطريقة شائقة، إلى ما اكتشفه كثير من علماء الأعصاب (بما فيهم ديكارت): أننا قد نخطئ في تحديد مكان الألم. أن أقول إن بي ألمًا في ساقي قد يكون «فرضية عِلِّيَّة» مغلوطة، «تشخيصًا خاطئًا» رغم أني قد أحس الألم الذي حكمتُ حكمًا خاطئًا أنه ينشأ في ساقٍ مبتورة.١٨

يبدو رغم ذلك أن هناك مسألة مهمة واحدة على الأقل حول واقعة، حيث نختلف؛ رايل وأنا. إنها مسألة المعرفة الذاتية، ومسألة الملاحظة الذاتية (المختلفة نوعًا ما) (المسألتان مختلفتان؛ لأن المعرفة ليست دائمًا قائمة على الملاحظة).

هكذا فإن القسم المُعنوَن ﺑ «الاستبطان» Introspection، في الفصل الرابع من كتاب «مفهوم العقل» يبدو لي قابلًا للنقد؛ لأنه يوجد هناك علم نفس استبطاني مثير للكثير من الاهتمام وقادر على إنتاج نتائج قابلة للاختبار موضوعيًّا. يخطر في ذهني بصفة خاصة المدارس السيكولوجية المرتبطة بمدرسة فرزبورج Würzburg؛ وبخاصة أوتو سيلز وتلاميذه يوليوس بال Julius Bahle وأدريان د. دي جروت Adrian D. de Groot. أنا شخصيًّا درَست علم النفس على يد كارل بولر Karl Bühler الذي كان عضوًا بارزًا في مدرسة فرزبورج، وأتذكر جيدًا بعض الشيء عن هذه الأمور. ورغم أني هجرت علم النفس لأني لم أكن راضيًا عن مناهجه ونتائجه؛ ورغم أني أميل إلى مقاربة العالم ٢ السيكولوجي من زاوية وظيفته (البيولوجية) في الربط بين العالم ٣ والعالم ١، فلستُ أجد أن ما يكتبه رايل في قسمه الخاص بالاستبطان (ص١٦٣ وما بعدها) عن علم النفس الاستبطاني يشابه الأمر الحقيقي، حتى كما كان موجودًا في شبابي. ما يقوله رايل ربما يكون نقدًا صحيحًا، وإن يكن مبالغًا بعض الشيء، لعلم النفس الاستبطاني قبل مدرسة فرزبورج، وقبل فلفجانج كولر ومدرسة الجشطلت، وقبل ديفيد كاتز وإدجار روبين وإدجار ترانكجير، وقبل ألبرت ميشو، أو، أحدث من هؤلاء، ج. ج. جيبسون. ولكن لا تشابه هناك بينه وبين ما عمله هؤلاء ولا يزالون يعملونه، ولا يسعني إلا أن أقول إن نتائج قابلة للتكرار وغاية في الإثارة (حول الخدع البصرية على سبيل المثال) قد اكتُشِفت بمناهج استبطانية جزئيًّا.
وبعدُ فمن الأشياء المثيرة بهذا الصدد أن رايل فيما يبدو قد حاول أن يلاحظ نفسه، غير أن من الواضح أنه لم ينجح في عمل ملاحظات ذاتية مثيرة. قد يكون السبب في ذلك أنه لم يستعمل المبدأ الرئيسي لمدرسة فرزبورج؛ أن يطالَب المرء بمهمة مثيرة ومشوِّقة، و«بعد ذلك» (بعد ذلك مباشرة) أن يحاول أن يتذكر، وأن يصف، العمليات العقلية التي دخلت في حل المشكلة (هناك بالطبع طرق أحدث، انظر على سبيل المثال كتاب أ. د. دي جروت ١٩٦٥، ١٩٦٦م، أو ر. ل. جريجوري ١٩٦٦م). إن من الواضح أننا لا نستطيع أن نركز على مشكلة وأن نلاحظ أنفسنا «في الوقت نفسه». ولكن يبدو، من ملاحظات عديدة في كتاب رايل، أن هذا بالضبط ما كان يحاول فعله. لقد وجد بطبيعة الحال أن اﻟ «أنا» I (التي ربطها بطريقة ما ﺑ «الآن») روَّاغة. وقد وصف ذلك وصفًا جيدًا جدًّا. ولو أنه كان قد حاول اتباع مبادئ فرزبورج فلربما كان حصل على نتائج أفضل. الحق أنه مع قليل من التدريب يمكن الحصول على نتائج غاية في الإثارة.١٩ مثال ذلك أن يوليوس بال Julius Bahle (في ١٩٣٦م، وبخاصة في ١٩٣٩م) اكتشف أن مجموعة من المؤلفين الموسيقيين النابهين، من بينهم ريتشارد ستراوس، كانوا جميعًا يتبنون طريقةً في اكتشاف المشكلات وفي حل المشكلات كانت، على غير المتوقع، شبيهة بتلك التي وصفها أوتو سيلز (١٩١٣، ١٩٢٢، ١٩٢٤م) في عمله على المهام الفكرية الخالصة.
هناك أيضًا تقارير استبطانية كثيرة عن الكشوف العلمية. من التقارير المشهورة تقرير كيكولي Kekulé عن الطريقة التي توصل بها إلى النموذج الحلقي لجزيء البنزين، فقد رأى وهو نصف نائم سلاسل ذرات الكربون، على الشكل الرمزي الذي اخترعه، التي بدا أنها تدب فيها الحياة، وأن واحدة منها لَفَّت نفسها مثل ثعبان، لتكوِّن حلقة. كانت هذه نهاية بحثٍ طويل (بالطبع فإن الملاحظة الاستبطانية جاءت بعد الحدث). وقد قدم أوتو لُوِي تقريرًا مماثلًا جدًّا (١٩٤٠م، انظر أيضًا ف. ليمبيك، و. جير ١٩٦٨م، وحوار ٦) حول فكرته في كيف نختبر فرضية التوصيل العصبي الكيميائي.

ثمة عدد من التقارير الشائقة من نوعٍ مشابه يحويها كتاب مشهور، هو «علم نفس الابتكار في مجال الرياضيات» لجاك هادامارد (١٩٤٥، ١٩٥٤م). في هذه التقارير يغلب أن يكون الوصول إلى الحل شيئًا حدسيًّا، مفاجئًا؛ على ألا نُغفِل أن الحل دائمًا إنما يوصَل إليه بعد عملٍ شاق ودءوب، وبعد رفض متكرر لمحاولات سابقة، وبعد نقدٍ قاسٍ للنتائج غير المُرضِية.

من الواضح أن هذه الطرائق النقدية، حتى حيثما كان الحل النهائي حدسيًّا، هي مراحل ضرورية؛ وأنها أَمكنَت بسبب وجود اللغة، وغيرها من صور الرمزية؛ ذلك أننا ما دمنا نضمر اعتقادًا حدسيًّا من غير تمثيل رمزي فنحن وإياه واحد، ولا نملك نقده. ولكن بمجرد أن نصوغه، أو ندونه في شكلٍ رمزي، هنالك يتسنى لنا أن ننظر إليه بموضوعية، بوصفه موضوعًا للعالم ٣، وأن ننقده، ونتعلم منه، نتعلم حتى من رفضه. انظر أيضًا قسم ٣٤ لاحقًا.

في الحالات المشار إليها تكون النفس نشطة جدًّا في الحقيقة. وهناك حالات معروفة جيدًا تكون فيها النفس سلبية نسبيًّا، ومعتمدة بغير شك اعتمادًا شبه تام على ما يقدمه الجهاز العصبي المركزي. من أبسط الحالات التي أعرفها لنفسٍ سلبية نسبيًّا تُعرَض للملاحظة الذاتية حالة ترجع إلى أرسطو.٢٠ إنها تجربة ضغط المرء برفقٍ على إحدى عينيه بينما هو ينظر إلى شيءٍ معين. إن الشيء لَيبدو متحركًا مع زيادة الضغط. غير أننا على دراية تامة بالصلة العِلِّيَّة بحيث لا ننخدع؛ ونحن ندرك «الطابع الذاتي» للخبرة.
في القسم ١٨، عندما كنا نناقش الخدع، لاحظنا فيما يتصل بشكل وينسون (صورة الإسكيمو/الهندي الأحمر) أن بوسعنا أن نحاول على نحو نَشِطٍ أن نحقق أحد التفسيرين دون الآخر. حالات مثل هذه — وتلك التي نعي فيها أن بنا خداعًا وأننا نستطيع دَفعَه — توضح حقيقة أن بإمكاننا أحيانًا أن نميز بين ما يقدَّم لنا، كيفما كان، بواسطة الدماغ، وبين محاولاتنا النشِطة في التأويل.٢١

يُفضِي بنا نشاطُ النفس، أو وعي النفس، إلى سؤال ماذا تفعل، وأي وظيفة تؤدِي، ومن ثَم إلى مقاربة بيولوجية إلى النفس. سيكون هذا موضوع أقسامي اللاحقة في هذا الفصل. ولكن قبل ذلك سأمس واحدًا من الموضوعات الأخرى لهذا الفصل: علاقة النفس بالعالم ٣.

(٣١) تعلُّم أن تكون ذاتًا (نفسًا)

أطروحتي في هذا القسم هي أننا — أي شخصياتنا، ذواتنا — مُرساة (anchored) في العوالم الثلاثة جميعًا، وبخاصة العالم ٣.

من الأهمية بمكانٍ، فيما يبدو لي، أننا لم نولد ذواتًا (أنفسًا)، بل إن علينا أن نتعلم أننا أنفس؛ علينا في الحقيقة أن نتعلم أن نكون أنفسًا. عملية التعلم هذه هي عملية نتعلم فيها عن العالم ١، والعالم ٢، وبصفة خاصة عن العالم ٣.

لقد كُتِب الكثير (بواسطة هيوم، كانْت، رايل، وكثير غيرهم) عن سؤال هل يمكن للمرء أن يلاحظ نفسه. وأنا أعتبر هذا السؤالَ سيئَ الصياغة. إن بإمكاننا — وهذا شيء هام — أن نعرف الكثير عن أنفسنا؛ ولكن المعرفة، مثلما أشرتُ آنفًا، لا تقوم دائمًا على الملاحظة (كما يظن الكثيرون)؛ فكلتا المعرفة قبل العلمية والمعرفة العلمية تقوم بدرجة كبيرة على الفعل وعلى الفكر، على حل المشكلات. صحيح أن الملاحظات تلعب دورًا بالفعل، ولكن هذا الدور هو وضع المشكلات لنا، ومساعدتنا في أن نجرب حدوسنا الافتراضية، ونغربلها.

كما أن قدراتنا على الملاحظة موجهة بالأساس إلى بيئتنا. وحتى في تجارب الخدع البصرية التي أشرنا إليها في قسم ١٨، فإن ما نلاحظه هو موضوعٌ بيئي، ولِدهشتنا فنحن نجد أنه «يبدو» ذا خواص معينة، بينما نحن «نعرف» أنه لا يملك هذه الخواص. نعرف هذا بمعنى خاص بعالم ٣ لكلمة «يعرف»، نحن لدينا نظريات عالم ٣ جيدة الاختبار تخبرنا، مثلًا، أن أيما صورة مطبوعة فهي لا تتغير فيزيائيًّا أثناء النظر إليها. يمكننا القول إن الخلفية المعرفية التي نملكها تلعب، نزوعيًّا، دورًا مهمًّا في الطريقة التي نؤوِّل بها خبرتنا في الملاحظة. وقد تبين أيضًا بالتجربة (انظر جان ب. ديريجوسك ١٩٧٣م) أن بعض هذه الخلفية المعرفية مكتسَبٌ ثقافيًّا.

هذا هو السبب في أننا عندما نحاول أن نلبي أمر «لاحِظ نفسك!» تكون الحصيلة دائمًا هزيلةً جدًّا. ليس السبب، بدايةً، روغانًا معينًا للأنا (وإن كان ثمة، كما شهدنا، وجهٌ في حِجاج رايل،٢٢ ١٩٤٩م، بأنه مستحيل تقريبًا ملاحظة المرء لنفسه بينما هو «الآن»)، لأنك إذا قيل لك «لاحِظ الغرفةَ التي تجلس فيها» أو «لاحِظ جسمَك» فإن من المرجح أيضًا أن تكون النتيجة هزيلة.
كيف نحوز معرفة بالنفس؟ أظن أن هذا لا يكون بملاحظة الذات، بل بالصيرورة ذاتًا، وبتطوير نظريات عن الذوات. قبل أن نحوز الوعي ومعرفة أنفسنا بوقت طويل، نكون عادةً على دراية بالأشخاص الآخرين، والِدَينا عادةً. ويبدو أن هناك شغفًا فطريًا بالوجه البشري: وقد بينَتْ تجارب ر. ل. فانز (١٩٦١م)٢٣ أنه حتى الرضَّع الصغار جدًّا يثبِّتون تمثيلًا تخطيطيًا لوجهٍ ما لفتراتٍ أطول مما يفعلون تجاه تنظيمٍ مماثل ولكن لا معنى له. هذه النتائج وغيرها تشير بأن الأطفال الصغار جدًّا يُظهرون اهتمامًا بالأشخاص الآخرين ونوعًا من الفهم لهم. وأظن شخصيًّا أن الوعي بالذات يبدأ في الظهور من خلال توسُّط الأشخاص الآخرين: تمامًا مثلما نتعلم أن نرى أنفسنا في مرآة، فإن الطفل يصبح واعيًا بنفسه عن طريق الإحساس بانعكاسه في مرآة وعي الآخرين به (رغم انتقادي الشديد للتحليل النفسي، فإنه يبدو لي أن توكيد فرويد على التأثير التكويني للخبرات الاجتماعية في الطفولة المبكرة كان صحيحًا). فأنا مثلًا أميل إلى القول بأن الطفل عندما يحاول، بشكلٍ نَشِطٍ، أن «يجذب إليه الانتباه» فإن هذا جزء من عملية التعلم هذه. يبدو أن الأطفال، وربما البدائيين من البشر، يعيشون خلال مرحلة «إحيائية»٢٤  animistic أو مرحلة من «حيوية الهَيُولى»٢٥  hylozoistic يميلون فيها إلى اعتبار أن أي جسم مادي هو شيء حي — هو شخص٢٦ — حتى تضطلع سلبية الجسم بتفنيد هذه النظرية.

وبتعبير آخر، مختلف اختلافًا طفيفًا، فإن الطفل يتعلم أن يعرف بيئته؛ ولكن الأشخاص هم الموضوعات الأهم داخل بيئته؛ ومن خلال اهتمامهم به — وخلال تَعَرُّفِه بجسمه — فإنه يتعلم في الوقت المناسب أنه هو نفسه شخص.

هذه هي العملية التي تعتمد مراحلها اللاحقة اعتمادًا كبيرًا على اللغة. ولكن حتى قبل أن يكتسب الطفل تمكنًا من اللغة فإنه يتعلم أن ينادَى باسمه، وأن يُجاز له أو يُستنكَر عليه. ولما كان الاستحسان والاستهجان خصيصة ثقافية، إلى حد كبير، أو خصيصة لعالم ٣، فإن بوسع المرء حتى أن يقول إن استجابة الطفل، المبكرة جدًّا والفطرية فيما يظهر، للابتسامة، تشتمل بالفعل على البداية البدائية قبل اللغوية لرُسُوِّه في العالم ٣.

لكي يغدو المرءُ ذاتًا (نفسًا) فإن أشياء كثيرة يتعين عليه أن يتعلمها، وبخاصة الإحساس بالزمن؛ إذ تمتد ذاتُه في الماضي (على الأقل إلى «الأمس») وفي المستقبل (على الأقل إلى «الغد»). غير أن هذا ينطوي على «نظرية»، على الأقل في صورتها البدائية كتوقُّع:٢٧ لا ذات بغير توجه نظري، في مكان بدائي ما وزمانٍ بدائي معًا. النفس إذن هي، جزئيًّا، نتاج الاستكشاف النشِط للبيئة، والوقوف على وتيرة زمنية قائمة على دورة النهار والليل (سيكون هذا مختلفًا بلا شك مع أطفال الإسكيمو).٢٨
صفوة القول إنني لا أوافق على نظرية «النفس الخالصة» (المحضة). يعود المصطلح الفلسفي «محض» pure إلى كانْت ويومئ إلى شيء ما مثل «سابق على التجربة» أو «خال من (التلوث ﺑ) التجربة»؛ ولذا فمصطلح «النفس الخالصة» يومئ إلى نظرية أعتقد أنها مغلوطة: أن الأنا كانت هناك من قبل التجربة، بحيث إن جميع الخبرات كانت، منذ البداية، مصاحبة ﺑ «الأنا أفكر» الديكارتي والكانْتي (أو ربما ﺑ «الأنا في حالة تفكير»؛ أو على أية حال ﺑ «الإدراك الواعي» apperception الكانْتي). وبخلاف ذلك أقترح أنَّ تكوُّن النفس هو، في شطرٍ منه، نتاج الميول الفطرية وفي شطرٍ نتاج الخبرة، وبخاصة الخبرة الاجتماعية. إن لدى الطفل البشري الحديث الولادة طرائقَ فطرية كثيرة في الفعل وفي الاستجابة، وميولًا فطرية كثيرة للنمو إلى شخصٍ واعٍ بذاته. ولكن تحقيق ذلك يتطلب حدوث أشياء كثيرة. والطفل البشري الذي ينشأ في عزلة اجتماعية هيهات له أن يبلغ وعيًا كاملًا بالذات.٢٩،٣٠
ولذا أرى أنه ليس الإدراك واللغة وحدهما بحاجة إلى تعلمٍ نشِط، بل حتى مهمة أن يكون المرء شخصًا هي بحاجة إلى تعلُّم. وأرى أن هذا لا يشمل مجرد اتصالٍ وثيق بالعالم ٢ لأشخاصٍ آخرين، بل يشمل أيضًا اتصالًا وثيقًا بالعالم ٣ الخاص باللغة وبنظريات من مثل نظرية الزمن (أو شيء شبيه بذلك)٣١،٣٢
ماذا عساه أن يحدث لطفلٍ بشري ينشأ بدون مشاركة «نشِطة» في ضروب الاتصال الاجتماعي، وبدون أناسٍ آخرين، وبدون لغة؟ ثمة بعض حالات معروفة من مثل هذه الحالات المأساوية. وكإجابة غير مباشرة على سؤالنا سأشير إلى تقرير لجون إكلس (١٩٧٠م)٣٣ عن تجربة شديدة الأهمية تقارن بين خبراتِ هريرة (قطة صغيرة) نشِطة وأخرى غير نشطة، صممها ر. هيلد وأ. هين؛ وهي معروضة بالكامل في فصل E8.

القطة غير النشطة لا تتعلم شيئًا. وأعتقد أن الشيء نفسه ينسحب على أي طفل يُحرَم من الخبرة النشطة في العالم الاجتماعي.

ثمة تقرير حديث شائق للغاية يتصل بهذه المسألة. فقد أجرى العلماء في باركلي تجربة على مجموعتين من الفئران، الأولى تعيش في بيئة غنية (بالأنشطة) والأخرى في بيئة مقفرة. رُبِّيَت الفئران الأولى في قفصٍ كبير، في زمرات اجتماعية من اثني عشر فردًا، مع تشكيلة من مواد اللعب تتغير يوميًّا. أما الفئران الأخرى فكانت تعيش في عزلة في أقفاصِ مختبَرٍ تقليدية. كانت النتيجة الرئيسية هي أن الحيوانات التي عاشت في بيئة غنية بالمنبهات تضخَّم فيها اللحاء المخي بعكس الحيوانات التي عاشت في بيئة رتيبة مقفرة. من الواضح أن الدماغ ينمو من خلال النشاط، ومن خلال الاضطرار إلى حل المشكلات بشكلٍ نَشِط.٣٤ (نتجت هذه الزيادة عن تكاثرٍ للزوائد المتشجِّرة dendritic spines على خلايا اللحاء المخي، وتكاثرٍ للخلايا الدبقية glial cells).

(٣٢) التفرد Individuation

بمعرِض حديثه عن الهوية الفردية والشخصية — الهوية أثناء التغير — ينطلق جون لوك (١٦٩٠، ١٦٩٤م، كتاب ٢، فصل ٢٧، أقسام ٤–٢٦) من الاعتبارات البيولوجية: ينطلق من مناقشة هوية النباتات والحيوانات المفردة. قد يقال إن شجرة البلوط (السنديان) هي الفرد نفسه، منذ بدايتها كجوزة وحتى موتِها؛ وكذلك شأن الحيوان الفرد. يبين لوك أن الهوية الفردية لإنسانٍ من الناس «ما هي في جوهرها إلا مشاركة … في نفس الحياة المستمرة، بواسطة تغيير دائم لجسيمات المادة» (قسم ٦).

أعتقد أن لوك على صواب في مقاربته البيولوجية، وأنه في هذا قد عمل أفضل مما عمله بعض الفلاسفة اللاحقين الذين كثيرًا ما حاولوا أن يحسموا بواسطة حجج «قبلية» a priori مسائلَ مثل هل يتعين على كل خبرة أن تنتمي إلى، أو تتأصل في، «جوهر» substance روحي مفرد. فبدلًا من طرح هذه الأسئلة فإن علينا بالأحرى أن نطرح سؤال تفرد المادة الحية.
من الواضح أن الحيوانات العليا هي أفراد، أي متعضِّيات (كائنات عضوية) مفردة (عمليات، أنظمة مفتوحة؛ انظر لاحقًا)؛ قد تكون جزءًا من عائلة، أو من قطيع، أو من مجتمعٍ ما حيواني آخر، سربٍ مثلًا أو دولة. هذه الكائنات المفردة توضح ما يظهر أنه ميل شديد الأهمية للحياة كما نعرفها على الأرض: أنها تميل إلى أن تتفرَّد. وعلى أهمية هذا الميل فإن له استثناءات: توجد بالفعل أشكالٌ من الحياة تحيد عن مبدأ التفرد. ثمة حيوانات، مثل ديدان الأرض، هي أفراد ولكن بمكنتها، على عكس معظم الحيوانات، أن تنقسم إلى فردين أو أكثر. وهناك حيوانات مثل قنافذ البحر ليس لها جهاز عصبي تام المركزية (انظر قسم ٣٧ لاحقًا) والتي من ثَم لا تسلك بالطريقة التي نتوقع بها الأفرادَ أن تسلك. هناك أيضًا الإسفنج الذي ليس له جهاز عصبي ولا طبيعة متفردة كالتي نعرفها من الحيوانات الوحيدة الخلية ومن أغلب الحيوانات المتعددة الخلايا، وحتى من الفيروسات. وهناك مستعمرات حيوانية مثل البارجة البرتغالية Portuguese man of war التي يعمل أعضاؤها المتخصصون مثل أعضاء الجسد.

هكذا فرغم ما يبدو للوهلة الأولى من أن المبدأ البيولوجي للتفرد قائم على البني الأساسية والآليات الخاصة بالبيولوجيا الجزيئية فإن هذا غير صحيح. فعندما نكون بصدد الحياة المتعددة الخلايا فإن انحرافات عن المبدأ تحدث: توجد بُنَى متعددة الخلايا ومستعمرات حيوانية أو دول ليست تحت مركزية كاملة لجهاز عصبي واحد أو ليست متفردة تمامًا. غير أن هذه التجارب التطورية، فيما يبدو، وإن كانت غير فاشلة طبعًا، ليست ناجحة تمامًا كنجاح المتعضيات المفردة المتعددة الخلايا ذات الأجهزة العصبية الشديدة المركزية. يبدو هذا مفهومًا بالحدس، بالنظر إلى آليات الانتخاب الطبيعي. ويبدو أن التفرد واحد من أفضل الوسائل لتأسيس غريزة للدفاع والبقاء؛ ويبدو أن التفرد أمر أساسي من أجل تطور ذاتٍ (أو نفس).

وأقترح أن ننظر إلى وجود الأشخاص البشريين الأفراد، ووجود الأنفس البشرية، أو العقول البشرية، قبالة هذه الخلفية البيولوجية العَرَضية contingent (وحتى غير العمومية) لمبدأ التفرد. وقد نحدِس (نخمن)، على نحو نافلٍ بعض الشيء، أنه بدون التفرد البيولوجي لما كان للعقل والوعي أن ينبثقا؛ أو على الأقل لما انبثقا على النحو الذي نعرفهما به من خبرتنا الخاصة.
ولننظر بدقة أكبر بعض الشيء إلى فردية كائنٍ عضوي ما. من الواضح أنها ليست بالضبط كفردية ماسة مثلًا أو قطعة من المعدن الصلب. هذه القطع من المعدن الصلب هي بلورات. إنها أنظمة (منظومات/أنساق) systems من الذرات المتذبذبة، ذرات لا هي — على الجملة — تاركة ولا منضمَّة للنظام خلال فترات طويلة من الزمن: إنها «أنظمة مغلقة» closed systems، مغلقة من حيث الجسيمات المادية التي تتركب منها (وإن كانت مفتوحة من حيث تدفق الطاقة). وعلى العكس من ذلك، فإن الكائنات العضوية أنظمة مفتوحة open systems، كاللهب. إنها تتبادل جسيماتِ المادة (والطاقةِ أيضًا بطبيعة الحال) مع البيئة: إن لها عمليةَ أيض (تمثيل). ورغم ذلك فهي أفرادٌ موسومة (يمكن التعرف عليها). إنها، كما أشار لوك، موسومة حتى أثناء النمو: إنها عمليات دينامية موسومة؛ أو، ربما بتعبير أفضل، أنظمة مادية في حالة تبادل للمادة. ونحن حين نتحدث عن كائن عضوي فإننا غالبًا ما ننسى ذلك، لأن الكائن العضوي خلال أمدٍ محدود معين من الزمن يكون مغلقًا تقريبًا، مثل بلورة تقريبًا.

وهكذا فالنفس المتغيرة والمحتفظة بنفسها رغم ذلك، يبدو أنها تقوم على الكائن المفرد المتغير على أنه محتفظ بهويته المفردة.

ولكن بوسعنا أن نحدس حتى بأكثر من ذلك. فَعَلَى حين أننا لا نعزو، بصفة عامة، النشاط والفاعلية للأجسام المادية (حتى إذا كانت في حركة، أو تجذب أجسامًا أخرى، مثلما تجذب الشمس الكواكب) فإننا ننسب شيئًا يشبه النشاط إلى اللهب، وإلى النار، وإلى عملية كيميائية وبخاصة إذا كانت تخرج عن سيطرتنا؛ وننسب نشاطًا، حتى بحسمٍ أكبر، إلى كائن عضوي، أو نبات، وبصفة خاصة إلى أحد الحيوانات العليا (بالمناسبة، لم يكن التمييز بين الحركة والنشاط مبينًا بوضوح عند الفلاسفة الإغريق السابقين على سقراط، الذين كانوا يميلون إلى القول بأن اﻟ psyche (النفس) هي علة الحركة بصفة عامة وليست علة طريقة نشطة في المسلك أو التحرك؛ انظر أرسطو، عن النفس 403b26-407b11, etc.).

حين ننسب النشاط إلى عملية غير حية، وحين ننسب النشاط بخاصة إلى كائن عضوي، فإننا نعتبر العملية أو الكائن على أنه مركز للتحكم و(ما لم يفقد التحكم) على أنه متحكم في ذاته. وحتى عملية غير حية من مثل لهب غازي قد يقال عنها حقًّا إنها نظام متحكم في ذاته (هوميوستاسي). الكائنات العضوية هي بالتأكيد ذاتية التحكم، وبعضها على الأقل يؤسس مراكز تحكُّم تحفظ الكائن في نوع من التوازن الدينامي. وفي تلك الحيوانات التي ننسب إليها، حدسيًّا، عقلًا أو وعيًا، فمن الواضح أن الوظيفة البيولوجية للعقل وثيقة الصلة بآليات التحكم (التحكم الذاتي) في الكائن الفرد.

إن ما يوصَف عادةً على أنه وحدة النفس، أو وحدة الخبرة الواعية، من المرجح جدًّا أنه نتاج جزئي للتفرد البيولوجي لتطور الكائنات العضوية ذات الغرائز المتأصلة من أجل بقاء الكائن الفرد. يبدو أن الوعي، وحتى العقل، قد تطور إلى حد كبير بفضل قيمته لبقاء الكائن العضوي الفرد (انظر أيضًا قسم ٣٧ لاحقًا).

في هذا القسم اقترحتُ أن علينا أن ننظر إلى مشكلة الهوية الذاتية من منظور بيولوجي. وهذا يُثبِت أن الهوية الذاتية هي، على الأقل جزئيًّا، ذات طابع عرضي بشكلٍ مفاجئ. وسوف نعرِض لجوانب أخرى لهذه المشكلة في أقسامٍ لاحقة. وفي القسم التالي سأعرض باختصار لوجهة نظر بيتر ستروصن عن الهوية الذاتية، وكيف تعتمد الهوية الذاتية على الدماغ.

(٣٣) الهوية الذاتية: النفس ودماغها

هل الرضيعُ الحديثُ الولادةِ ذاتٌ (نفس)؟ … نعم ولا. إنه يشعر: إنه قادر على الشعور بالألم واللذة. ولكنه ليس شخصًا بعدُ بالمعنى الكانْتي في عبارتَيه: «الشخص هو ذاتٌ مسئولة عن أفعالها»، و«الشخص هو شيءٌ ما واعٍ في مختلف الأوقات بالهوية الإحصائية٣٥ لنفسه (ذاته)». وعليه فالرضيع هو جسمٌ — جسمٌ بشري نامٍ — قبل أن يصبح شخصًا، أيْ وحدةً من جسمٍ وعقل.

من الوجهة الزمنية فالجسم قائمٌ هناك قبل العقل. إنما العقل إنجازٌ لاحق؛ وهو أكثر قيمة. يهيب بنا جوفينال أن نحمد الله أن منحنا عقلًا سليمًا في جسمٍ سليم. غير أننا جميعًا على استعداد من أجل أن ننقذ حياتَنا لأن نبتر ساقًا، وسنرفض جميعًا، فيما أعتقد، إجراء عملية من شأنها أن تمنعنا من أن نكون مسئولين عن أفعالنا، أو أن تدمر وعيَنا بهويتنا الإحصائية في مختلف الأوقات: عملية تنقذ حياة الجسد دون تكامل العقل.

من الواضح أن لهوية النفس وتكاملها أساسًا فيزيقيًّا (جسميًّا). وهذا الأساس، فيما يبدو، متمركز في دماغنا. على أن من الممكن لنا أن نفقد أجزاء كبيرة من دماغنا دون أن يؤثر ذلك في شخصيتنا. ومن جهة أخرى فإنَّ تَضرُّر تكاملِنا العقلي يعود دائمًا، فيما يبدو، لتلف الدماغ أو لاضطرابٍ فيزيقي آخر للدماغ.

وكثيرًا ما أشيرَ حديثًا، وخاصة من جانب ستروصن Strawson، أنه من الخطأ أن نفترض تمييزًا بين الجسم والعقل لكي نبدأ منه، وإنما علينا أن نبدأ من الشخص المتكامل. عندئذٍ يمكننا أن نميز جانبين مختلفين أو نوعين من الخصائص: خصائص فيزيقية بشكلٍ واضح، وأخرى شخصية أو عقلية (جزئيًّا أو كليًّا). (يضرب ستروصن، ١٩٥٩م، أمثلة مثل: «يَزِنُ عشرةَ أحجار»٣٦ كخاصة فيزيائية لشخص، و«يبتسم» أو «يفكر بإمعان» كخاصتين شخصيتين مختلفتين. وقد قُدِّم اقتراحٌ مماثل (أن نستخدم «الشخص» بوصفه الكيان الأساسي) عام ١٩٤٨م أو نحو ذلك، من جانب ج. ﻫ. وودجر في محاضرة ألقاها في إحدى حلقاتي الدراسية). يقال، عن حق، إن بالإمكان أن «نتعرف» على الأشخاص بنفس الطريقة التي نتعرف بها على الأجسام الفيزيائية. وهذا، فيما يقال، يحل مشكلة هوية الذوات. وإنه لَاقتراحٌ جذاب للغاية أن نأخذ الشخص كأمرٍ أوَّلي، ونأخذ تحليله إلى جسمٍ وعقل كفصلٍ ثانوي. ولكن للأسف ثمة بعض الاعتراضات على هذا سيكون عليَّ أن أطرحها بعد قليل.
ولكن عليَّ أولًا أن أقول أشياء كثيرة لصالح هذا الرأي. يبدو لي أن هذا الرأي يتفق على نحو خاص مع نمونا العقلي. فكما ذكرتُ في قسم ٣١ أعتقد أن هناك دلائل كثيرة تؤيد الحدس بأن الطفل يولد ولديه «معرفة» للأشخاص، موقف فطري تجاه الأشخاص، إنه يبتسم في سنٍّ صغيرة للغاية، وينجذب للوجه البشري ولِطُرْفَة أو دمية تحاكي الوجهَ البشري.٣٧ ثم يفرق، في أوانه، بين «الأشياء» و«الأشخاص»؛ ثم يكتشف، في أوانه، أنه هو نفسه شخص مثل الآخرين. وهكذا أحدِس افتراضيًّا أن فكرة الشخص، من الوجهة النشوئية والسيكولوجية، سابقة حقًّا على فكرة النفس أو فكرة العقل.

لهذا السبب لستُ أتفق مع نقد جون بيلوف لبيتر ستروصن. يقول بيلوف في كتابه الممتاز «وجود العقل» (١٩٦٢م، ص١٩٣): «إن كل ما يمكننا على الإطلاق أن نعرفه عن الأشخاص الآخرين يتعين أن يأتي، صميميًّا، من خبرتنا نحن الحسية. فإذا أُلِحَّ علينا أن نبرر اعتقادنا أن الأشخاص الآخرين لديهم عقول مثل عقولنا فلا نَزال نرتد إلى حججٍ أنالوجية … (هكذا) أن نقول، كما يقول ستروصن، بأن هويتنا نحن الشخصية تعتمد بشكلٍ ما على تمييزنا لهوية الآخرين، يبدو عكسًا غيرَ مشروع للموقف التقليدي.»

وبيلوف على حق تمامًا في أن يتحدث هنا عن «الموقف التقليدي»؛ فالحق أن الموقف مقبول على نحو عمومي تقريبًا.٣٨ وما هو عندي سوى إحدى «دوجمات المذهب التجريبي» dogmas of empiricism كما يسميها كواين.
إن الرضيع الصغير مشغوف بشكلٍ نشِط ببيئته المحيطة. وهو يكشف من خلال سلوكه معرفةً بوجود العالم الخارجي الذي لا يمكن أن يكون قد «استدل عليه» من خبرته الحسية: إنما يَحدُوه شيءٌ أفضل ما يوصف به أنه معرفته الفطرية، تلك المعرفة التي ترشده، جزئيًّا، في استكشافاته، والتي ينمِّيها ويوسعها خلال مغامراته النشِطة (قارن القطيطة النشِطة في تجربة هيلد وهين المشار إليها في قسم ٢١؛ انظر فصل E8).

وبالإضافة إلى معرفة الرضيع الفطرية للأشخاص، وبخاصة أمه، فلا شك أيضًا أن على الرضيع أن يتعلم ما ينتسب إلى جسمه وما لا ينتسب إليه، وأن هذه المعرفة تسبق زمنيًّا وتشكِّل الأساسَ لاكتشافه أنه نفس (ذات). وإن المقاومة التي يبديها العالم الخارجي تجاه مقاصده وأفعاله لَتُسهِم أيضًا في هذا الاكتشاف.

والآن أعود إلى النظر في بعض الاعتراضات على نظرية ستروصن ومثيلاتها.

نحن نتعلم أن نميز بين الأجسام والعقول (ليس هذا، كما قد حاجَّ البعضُ وبخاصة جلبرت رايل، ابتكارَ فيلسوف. إنه قديمٌ قِدَمَ ذاكرة الجنس البشري. انظر قسم ٤٥ لاحقًا). نحن نتعلم أن نميز بين أجزاء جسمنا التي تحس والأجزاء الأخرى (الأظافر، الشعر) غير الحاسة. وهذا بَعدُ جزءٌ مما قد نصفه بأنه رؤية العالم المتكونة «طبيعيًا». ولكننا بعدئذٍ نتعلم عن العمليات الجراحية: نتعلم أننا يمكن أن نستغني عن الزائدة الدودية، والحوصلة الصفراوية، وأجزاء من المعدة، وأن نستغني عن الأطراف، والأعين؛ وأننا يمكن أن نستغني عن كُلانا٣٩ الخاصة، وحتى عن قلبنا الخاص. كل هذا يعلِّمنا أن أجسامنا قابلة للإنفاق لدرجة مدهشة بل صادمة. وهذا يعلمنا أننا لا يمكننا ببساطة أن نُماهِي ذواتنا (نفوسنا) الشخصية بأجسامنا.٤٠
النظريات الخاصة بمقر (مركز) العقل، أو الوعي، في الجسم قديمة جدًّا. وحتى نظرية أن الدماغ هو مركز العقل عمرها ٢٥٠٠ سنة على الأقل؛ فهي تعود إلى الطبيبين والفيلسوفين اليونانيين ألكميون (DK A10)٤١ وأبقراط (عن المرض المقدس) وإلى أفلاطون (طيماوس 44d, 73d). وربما يُصاغ هذا الرأي بحدة وبشكلٍ صادم بعض الشيء بواسطة الحدس الافتراضي القائل بأن زراعة (نقل) دماغٍ تامة الدقة، لو كانت ممكنة، تبلغ أن تكون زراعة للعقل، للذات (النفس). أعتقد أن أصحاب المذهب الفيزيائي، ومعظم غير الفيزيائيين، سيوافقون على هذا.٤٢
(أظن أن اعتراضات على هذا الوصل الوثيق بين الدماغ والعقل قد تثار من جانب مَن يعتقدون في الباراسيكولوجيا، ومن جانب أولئك المتأثرين بما يُروَى عن الأشخاص الذين تَلَبَّسَتهم أرواحُ موتَى. انظر على سبيل المثال وليم جيمس (١٨٩٠م)، الجزء i، ص٣٩٧ وما بعدها. وليس في نيتي أن أناقش الباراسيكولوجيا بأي تفصيل هنا، لأنني ببساطة لستُ كفئًا لذلك: يبدو أن المرء يمكن جدًّا أن يقضي عشرين عامًا في هذا الموضوع دون أن يصبح كفئًا. يعود هذا إلى حقيقة أن النتائج — أو النتائج المزعومة — غير قابلة للتكرار، ولا يُدَّعَى أنها قابلة للتكرار. وحسب علمي هناك فقط نظرية واحدة واعدة في كل هذا المبحث، وإن كانت غير قابلة للاختبار حتى الآن، وهي التي تُنسب إلى روبرت هنري ثولِس وبرثولد باول فيزنر)٤٣،٤٤
والآن إذا نحن قبلنا بالحدس الافتراضي الخاص بقابلية زراعة النفس ودماغها، فلا بد إذن أن نتخلى عن نظرية ستروصن القائلة بأن «الشخص»، بخصائصه الفيزيائية (خصائص الجسم البشري كله) وخصائصه الشخصية (تلك التي لها مكوِّنٌ عقلي) يجب أن يؤخذ على أنه أوَّلي «منطقيًّا».٤٥ (قد نقول رغم ذلك إنه أولي «سيكولوجيًّا»). مثل هذا النظرية البسيطة والطبيعية لا غَناء فيها؛ لأن جسم الشخص لم يعد يقدم الأساس الوطيد لهويته الشخصية. ولا هو بمكنتنا أن نماهي الدماغ بالعقل، كما حاولتُ أن أبين بإسهاب في الفصل الثالث (والحق أن هذا لا يُغنِي شيئًا حتى لدى صاحب نظرية الهوية، لأنه لا يود أن يماهي الدماغ بالعقل، بل عمليات وحالات معينة ﻟ «أجزاء» من الدماغ بعمليات عقلية وحالات للعقل).
وإذا سُئِلنا لماذا، في حالة زراعة (نقل) دماغٍ ناجحة، لماذا علينا أن نتوقع أن تُنقَل الشخصية أو الطبع الشخصي، ومن ثَم أن تتغير الهوية الشخصية للجسم، عندئذٍ لن يمكننا إجابة هذا السؤال دون أن نتحدث عن العقل أو النفس؛ أو دون أن نتحدث عن اتصالها المفترَض بالدماغ. ولزام علينا أيضًا أن نقول إن العقل ضروري للشخص، ولزام أن نتنبأ (سيكون تنبؤًا قابلًا للاختبار من حيث المبدأ) أنه بعد الزراعة سوف يَدَّعي الشخصُ هويةَ مانحِ الدماغ، وأنه سوف يكون بوسعه أن «يبرهن» على هذه الهوية (بوسائل مثل تلك التي استخدمها أوديسيوس لكي يبرهن على هويته لبنيلوبي).٤٦

كل هذا يثبت أننا نعتبر العقل وهويته الذاتية كشيء حاسم بالنسبة للهوية الشخصية؛ ذلك لأننا لو كنا نعتقد مع أرسطو أن القلب هو مركز العقل لَتوقعنا ذهاب الهوية الشخصية مع ذهاب القلب لا مع ذهاب الدماغ (إذا كنتُ قد فهمتُ ستروصن (١٩٥٩م) على نحو صحيح، فإن رأيي هذا يناقض رأيه، وسوف يقول إنه — أي رأيي — يرتد بنا إلى المذهب الديكارتي).

وهكذا ففي الظروف العادية يمكننا اعتبار هوية الجسم محكًّا لهوية الشخص، ولهوية النفس. ولكن تجربتنا الفكرية، زراعة الدماغ (التي آمل ألا تُجرَى على كائنٍ بشري)، تبين أن هوية الجسم ليست معيارًا إلا ما بقيت تستلزم هوية الدماغ؛ والدماغ بدوره لا يلعب هذا الدور إلا لأننا نفترض (حدسيًّا) وصله بالعقل؛ لأننا نحدس بأن الدماغ بسبب هذا الوصل هو حامل الهوية الذاتية للشخص.

وهذا أيضًا يفسر لماذا يجب في حالة الفقدان المرضي للذاكرة أن نعتبر هوية الجسم كافية لتحديد الشخص. ولكن هذا لا يتضمن أن علينا أن نقبل بهوية الجسم كمعيارٍ نهائي.

ومن المفترَض حدسيًّا أن الوصل بين النفس والدماغ وثيقٌ للغاية. ولكن هناك عدد من الحقائق البالغة الأهمية ينبغي تذكرها، والتي تضاد القول برابطة شديدة الوثوق والآلية (بين النفس والدماغ).

لقد بُذِل جهدٌ كبير في كشف الوظائف التي تضطلع بها المناطق المختلفة من الدماغ البشري. إحدى نتائج هذا العمل هي أن هناك ما أسماه بنفيلد «المناطق الملتزمة» committed areas للحاء المخي بالإضافة إلى مناطق كبيرة «غير ملتزمة» uncommitted areas. مثال ذلك أن المناطق الحسية والحركية ملتزمة بهذه الوظائف منذ الولادة. أما مركز الكلام مثلًا فليس ملتزمًا تمامًا، فحتى السنة الخامسة أو السادسة يتعاون النصف المخي الأيمن مع الأيسر في التحكم في الوظيفة الكلامية (انظر فصل E4). وهذا ما يفسر استعادة الكلام عندما يصاب المركز الرئيسي في النصف المخي الأيسر بتلف.٤٧ فإذا كان الطفل أكبر سنًا عند تلف مركز الكلام فإن فقدان الكلام سيكون مستديمًا.

ثمة طرائق أخرى لمعاينة عدم التزام مناطق كبيرة من اللحاء المخي؛ فقد تُزال أجزاء كبيرة من اللحاء غير الملتزم دون ضرر ملحوظ لأي وظيفة مخية، بل إن استئصال أجزاء من الدماغ لعلاج نوبات الصرع قد أدى في بعض الحالات إلى تحسن ضروب الأداء الذهني.

كل هذا ليس كافيًا، بطبيعة الحال، لتفنيد وجهة نظر المذهب الفيزيائي بأن البنية الفيزيائية للدماغ، بما فيها هذه الطواعية plasticity في وظيفته، يمكن أن تفسر كل شيء عن العقل، لقد حاجَجتُ ضد المذهب الفيزيائي في الفصل الثالث ولن أمضي في المحاجَّة هنا. ولكن بعض علماء الدماغ الأفذاذ على الأقل قد بينوا أن نمو مركزٍ كلامي جديد في النصف المخي غير المعطوب يذكِّرهم بعملية إعادة برمجة الحاسوب. بوسعنا أن نقبل المماثلة بين الدماغ والحاسوب؛ وأن نبين أن الحاسوب لا حول له بدون المبرمِج.
يبدو أن هناك بعض وظائف دماغية في علاقة واحد لواحد مع الخبرة؛ مثال ذلك «التحول الجشطلتي» Gestalt switch (انظر قسم ١٨). ولكن لا بد أن هناك حالات كثيرة لا يمكن فيها لهذا النوع من العلاقة أن يُدعَّم تجريبيًّا. انظر إلى الواقعة النموذجية من أن هناك جُمَلًا نستخدمها مرةً واحدة ولا نعود نستخدمها أبدًا. قد تكون هناك علاقة واحد لواحد بين الكلمات وعمليات دماغية معينة، ولكن خبرة فهم الجملة هي شيء يتخطى فهم سلسلة الألفاظ (مثلما نكتشف كلما اضطررنا إلى إعادة قراءة جملة صعبة من أجل أن نفهمها). وحيث إن هذه الخبرة قد تكون إحدى خبرات كثيرة «فريدة» في صميمها، فمن واجبنا ألا نفترض اعتسافيًّا أن هناك عملية دماغية مرتبطة بها ارتباطَ واحدٍ لواحد (لا يمكن للمرء أن يتحدث عن علاقة واحد لواحد إلا إذا كان هناك قانون، أو مبدأ، عمومي ما يربط بين العمليتَين، وهذا ما لا نفترض وجوده هنا؛ انظر أيضًا قسم ٢٤ سابقًا). بالطبع لن يشك أحد من أصحاب مذهب التفاعل أن هناك عملية دماغية، ربما أيضًا فريدة، جارية في الوقت نفسه، ومتفاعلة مع الخبرة (ثمة اعتباراتٌ مماثلة تخص الخبرات الإبداعية. والحق أننا قد نصف تكوين أي جملة جديدة بأنه عملية إبداعية، الأمر الذي قد يجعل معظمنا مبدعين معظم الوقت).
ثمة نقطة أخرى، أكد عليها إكلس، هي أنه إلى جانب مشكلة هوية النفس (المتصلة بهوية الدماغ) هناك أيضًا مشكلة وحدة النفس. إن خبراتنا في الغالب معقدة، وحتى انتباهنا يكون أحيانًا منقسمًا، إلا أن كلًّا منا يعرف — من الخبرة الاستبطانية طبعًا — أنه «واحد». ولكن لا يبدو أن هناك جزءًا محددًا من الدماغ يناظر هذه النفس (الذات) الواحدة؛ يبدو، على العكس، أن الدماغ كله يجب أن يكون في نشاط كبير لكي يوصَلَ بالوعي، وهي عملية جَمعية٤٨ معقدة تعقيدًا يفوق التصور.

لقد عنونت هذا القسم «الذات ودماغها» لأني أقصد هنا أن أشير بأن الدماغ مملوك للذات (النفس) وليس العكس. والذات هي دائمًا تقريبًا في حالة نشاط. ونشاط الذوات (الأنفس)، فيما أرى، هو النشاط الأصيل الوحيد الذي نعرفه. والذات السيكوفيزيقية النشِطة هي المبرمِج النشِط للدماغ (الذي هو الحاسوب). إنها المنفِّذُ الذي أداتُه الدماغ. العقل كما قال أفلاطون هو رُبَّان (أو قائد) وليس مجموعًا كليًّا أو حزمةً أو تيارًا من خبراته كما يومئ هيوم ووليم جيمس؛ ففي هذا التصور نوع من السلبية. إنه، فيما أظن، رأى ينجم من محاولة المرء، سلبيًّا، أن يلاحظ نفسه بدلًا من أن يفكر رُجُعًا ويراجع أفعاله الماضية.

أرى أن هذه الاعتبارات تبين أن النفس ليست «أنا خالصة» (قارن قسم ٣١ سابقًا، المَتن التالي لحاشية ٢٨)، أي مجرد ذات؛ بل هي ثرية إلى حدٍّ مذهل. إنها أشبه بالقائد: تلاحظ وتتخذ أفعالًا في الوقت نفسه، إنها تفعل وتعاني وتتذكر الماضي وتخطط للمستقبل وتبرمجه، وتتوقع وتقدِّر. إنها تنطوي، في تتابع سريع أو في الوقت نفسه، على رغبات وخطط وآمال وقرارات بأفعال ووعي واضح بأنها ذاتٌ فاعلة، مركز نشاط. وهي مدينة كثيرًا في هذه الذاتية لتفاعلها مع الأشخاص الآخرين، الذوات الأخرى، ومع العالم ٣.

وكل هذا يتفاعل تفاعلًا وثيقًا مع «النشاط» الضخم الجاري في دماغها.

(٣٤) المقاربة البيولوجية إلى المعرفة والذكاء البشريين

أعني بالمقاربة البيولوجية إلى المعرفة مقاربةً تَعتبر المعرفة، سواء الحيوانية أو البشرية، هي النتيجة التطورية للتكيف مع البيئة، مع عالمٍ خارجي.

ويمكننا أن نُدخِل هنا تمييزات هامة عديدة.

  • (١)

    التكيفات الموروثة في مقابل التكيفات المتعلَّمة التي يكتسبها الكائن العضوي الفرد. وستكون الثانية بصفة خاصة تكيفات مع جوانب جديدة الظهور من البيئة، أو مع بيئة مختارة حديثًا، أو مع جوانب غير مستقرة. لاحِظْ رغم ذلك أن لكل تكيف متعلَّم أساسًا جينيًّا، بمعنى أن موروث (جينوم) الكائن العضوي يجب أن يُعِيل ملكةَ اكتسابِ تكيفاتٍ جديدة.

  • (٢)

    المعرفة الواعية في مقابل المعرفة غير الواعية؛ وهو تمييز ذو أهمية على المستوى البشري. وهذا يطرح مشكلة الوظيفة البيولوجية للوعي.

  • (٣)
    المعرفة بالمعنى الذاتي (معرفة العالم ٢) في مقابل المعرفة بالمعنى الموضوعي (معرفة العالم ٣). لا يَبرز هذا التمييز (انظر كتابي 1972(a)) إلا على المستوى البشري.

يمكن أن تكون كل من المعرفة الموروثة والمكتسبة معقدة للغاية (قد يكون محتواها المعلوماتي كبيرًا جدًّا). وبدون خلفية المعرفة الموروثة، التي هي لاشعورية بالكامل تقريبًا، والمدمَجة في جيناتنا (أو هكذا تبدو)، لما كان بإمكاننا بالطبع أن نكتسب أي معرفة جديدة. ترى الفلسفة التجريبية الكلاسيكية العقل كصفحة بيضاء، سبورة خالية، صفحة خالية، خالية إلى أن يُدخِل الإدراك الحسي بندًا («لا شيء في فكرنا إلا وقد دَخَل إليه من خلال حواسنا»). هذه الفكرة ليست خطأ فحسب، بل هي خطأ فاحش؛ وبحسبنا أن نتذكر العشرة آلاف مليون نيورون الخاصة بلحائنا المخي، وبعضها (مثل الخلايا الهرمية اللحائية) لكلٍّ منها وصلات مشتبكية يقدَّر مجموعها بعشرة آلاف (إكلس، ١٩٦٦م، ص٥٤). بوسعنا أن نقول إن هذه تمثل الآثارَ الماديةَ (العالم ١) لمعرفتنا الموروثة واللاواعية بكاملها تقريبًا، والمنتخبة بواسطة التطور. ورغم أنه لا توجد، في الحقيقة، طريقة لمقارنة الاثنين (وهكذا الأمر بعامة فيما يتعلق بمشكلة الطبيعة مقابل التنشئة) فينبغي أن أميل حدسيًّا إلى القول بأن الكم الهائل من المعلومات الذي يمكننا اكتسابه في عمرٍ من خلال حواسنا هو صغير بالمقارنة بكم الخلفية الموروثة من الإمكانات. هناك على أية حال مصدران كبيران لمعلوماتنا: ذلك المكتسَب خلال الوراثة الجينية، وذلك المكتسب طوال حياتنا. كما أن المعرفة جميعها، سواء الموروثة أو المكتسبة، هي من الناحية التاريخية تعديل لمعرفة أسبق؛ وكل معرفة مكتسَبة يمكن أن تُقتفَى رُجُعًا، خطوةً خطوةً، إلى تعديلاتٍ لمعرفة فطرية أو غريزية. وتكمن أهمية المعلومات المكتسَبة، كليًّا تقريبًا، في قدرتنا الفطرية على استعمالها في الاتصال ﺑ، أو في تصحيح، معرفتنا الوراثية اللاشعورية.

وبالطبع فإن معظم المعلومات المكتسَبة التي نتلقاها من خلال حواسنا هي أيضًا لا شعورية. أما المعرفة المكتسبة شعوريًّا إلى حد كبير والتي قد تبقى شعورية زمنًا فهي معرفة العالم ٣ النظرية التي تنتج من تشييدٍ نظري، وبخاصة من تصحيحٍ نقدي لنظرياتنا. هذه عملية يتفاعل فيها العالم ٢ والعالم ٣ (انظر قسم ١٣ سابقًا). يقودنا ذلك إلى الحدس الافتراضي بأن العمل الذكي الشعوري تمامًا يعتمد اعتمادًا كبيرًا على هذا التفاعل بين العالم ٢ والعالم ٣.

في عملية كشف مشكلات عالم ٣ جديدة، وفي عملية ابتكار نظريات عالم ٣ جديدة يبدو أن المعرفة اللاشعورية (ربما إذ تصير شعوريةً ﻛ «حدس» intuition) تلعب دورًا بالغ الأهمية. غير أن الوظيفة الرئيسية لمَوْضَعة عالم ٣ هي أن تجعل نظرياتنا في متناول التمحيص الواعي، أي النقد. ورغم أن ما قد نسميه «ذكاءنا النقدي» قد يكون معرفة لاشعورية إلى حدٍّ كبير، فإن النظرية المطلوب نقدها (وربما أيضًا حججنا النقدية) يجب أن تكون واعية، وقابلة لأن تُصاغ في لغة: إننا نعرِّض تخمينات (حدوس افتراضية) العالم ٣ للانتخاب بواسطة النقد الواعي.
هناك تمييز مهم بين «المعرفة» بالمعنى الذاتي أو الشخصي، أو بمعنى خاص بالعالم ٢، و«المعرفة» بالمعنى الموضوعي أو بمعنًى خاص بالعالم ٣، أي بمعنى «ذلك الذي يُعرَف»، أو محتويات أو نتائج التعليم والبحث. ولعلي أؤكد أن هذا التمييز يخص الحقائق، أو، إن شئت، يخص الأشياء لا الاستخدام. وهدفي من وضع هذا التمييز هو أن ألفِت الانتباهَ إلى بعض الفروق الهامة بين هذين الصنفين من «المعرفة» (انظر كتابي 1972(a)).
ومع ذلك فقد عَنَّفَني بعضُ الفلاسفة على نقطة استخدام (لغوي)؛ وقد انتقدني بعضُ الأشخاص الذين ينكرون أن «المعرفة» knowledge يمكن في الإنجليزية العادية أن تعني ما أسميه المعرفة بالمعنى الموضوعي. هذا النقد خاطئ لسببين: أولًا إنه لَأمرٌ غير ذي صلة بفكرتي هل يوجد أو لا يوجد التمييز الذي أقترح وضعه، في الاستعمال الإنجليزي أو، حقًّا، في أية لغة أخرى. صحيح أن الفعل الإنجليزي I know (أعرف) يُستخدَم مع ضميرٍ شخصي بالمعنى الشخصي حصريًّا تقريبًا، ولكن تعبيرًا مثل «من المعروف أن …» أو «كل ما يُعرَف هو أن …» يُستعمَل في الأغلب ليشير إلى «محتويات» تعليمٍ ما أو بحثٍ ما. وصحيح أن أرشبيشوب واتلي وصف بحقٍّ الاستعمال الذاتي الأساسي عندما قال «تتضمن المعرفة … اعتقادًا قويًّا … بما هو حق … على أسسٍ (بمبررات) كافية.»٤٩ ولكن معجم أكسفورد الإنجليزي، الذي اقتُبِس منه هذا الشاهد يراعي معنيين لكلمة knowledge مشتقتين من الفعل know: الأول «واقعة أو حالة العرفان»، بالمعنى الخاص بعالم ٢ عندي؛ ولكن هناك أيضًا معنًى ثانيًا هو «موضوع العرفان، أي ذلك الذي يُعْرَف أو يُجعَل معروفًا»، وهذا هو المعنى الخاص بالعالم ٣ عندي (على أني أود أن أضيف أن الفئة الرئيسية المُدْرَجة تحت هذا العنوان «مجموع ما يُعرَف» تبدو لي مُجحِفة بعض الشيء للاستعمال الموضوعي أو الاستعمال الخاص بعالم ٣، لأن بوسعنا أيضًا استخدام لفظة knowledge في الحديث عن بنود مفردة من المعرفة، بنودٍ مثلًا عن نتائج البحوث الراهنة في الصَّمَم العصبي، المعلَنة في كتبٍ ودورياتٍ علمية).
المهم أنه ليس هناك تناقض ذاتي على الإطلاق في وصف «المعرفة العلمية» أو، قُلْ، «المعرفة التاريخية»، بأنها تتكون، معظمُها أو كلها، من فرضيات أو حدوس افتراضية، وليس من مجموعة من الحقائق المعروفة والجيدة التأسيس (انظر سيرتي الذاتية، (1974(b))، ص٨٧، و١٩٧٦ (٩)، ص١١٠). ولا توكيدي على الطبيعة الموضوعية والحدسية الافتراضية للمعرفة العلمية يصل بأي معنًى إلى إنكارٍ لأهمية الخبرات الشخصية (أو خبرات عالم ٢) لأولئك الذين ينتجون الحدوس الافتراضية العلمية. على العكس فإن توكيدي على أهمية عالم ٣ الخاص بالمنتجات الموضوعية للعقل البشري هو أدعى إلى احترام العقول الذاتية التي هي خالقة ذلك العالم.

قد تقال كلمة بهذا الصدد عن الفروق في الذكاء.

يبدو من المرجح أن هناك فروقًا فطرية في الذكاء. ولكن يبدو أقرب إلى الاستحالة أن مادة على هذه الدرجة من تعدد الجوانب ومن التعقيد كالمعرفة والذكاء الفطري البشري (سرعة الاستيعاب، عمق الفهم، الإبداعية، وضوح العرض … إلخ) يمكن أن تُقاس بواسطة وظيفة أحادية البُعد مثل «نسبة (حاصل) الذكاء» Intelligence Quotient (I. Q). وكما قال بيتر ميداوار (1974 (b)):
«ليس على المرء أن يكون عالم فيزياء أو حتى بستانيًّا حتى يدرك أن جودة كيانٍ متنوع ومعقد كالتربة يعتمد على عدد كبير من المتغيرات … إلا أن التفتيش عن توصيفاتٍ أحادية القيمة لخواص التربة لم يكد يُنبَذ إلا في السنوات الأخيرة.»٥٠
لم تزل نسبة الذكاء، الأحادية القيمة، بعيدة عن النبذ، وإن كان هذا النوع من النقد مُفضيًا، بمهلٍ وتأخُّرٍ عن الأوان، إلى محاولات لاستقصاء أشياء من قبيل «الإبداعية». غير أن نجاح هذه المحاولات مشكوك فيه إلى حدٍّ بعيد؛٥١ فالإبداعية هي أيضًا متعددة الجوانب ومعقدة.
يجب أن نكون على يقين بأن من الممكن تمامًا أن يكون لدى عملاقٍ فكري مثل أينشتين نسبة ذكاء منخفضة نسبيًّا، وأنه بين أصحاب نسبة ذكاء عالية جدًّا قد تندر تمامًا مواهب من النوع الذي يؤدي إلى إنجازات إبداعية خاصة بعالم ٣؛ بالضبط كما قد يتصادف أن طفلًا موهوبًا للغاية يعاني من «خلل القراءة» dyslexia٥٢ (أنا شخصيًّا عرفتُ عبقريًّا في نسبة الذكاء كان أحمق).

وفضلًا عن ذلك فمن الممكن تمامًا، بين معظم الأسوياء، أن تكون الفروق الفطرية في الموهبة لا تُذكَر، مقارنة بالإنجاز الفكري الهائل لكل الأطفال تقريبًا في كونهم قادرين، بجهودهم النشِطة، أن يكتسبوا لغةً بشرية، بكل ما تتضمنه من تعقيدات، في عمرٍ مبكر.

(٣٥) الوعي والإدراك الحسي

وفقًا للمذهب الحسي أو التجريبي السيكولوجي، فإن معرفتنا وربما حتى ذكاءنا إنما يعتمد على المُدخَل الحسي. هذه النظرية هي في رأيي تفندها حالة مثل هيلين كيلر التي كان مُدخَلها الحسي من المعلومات (كانت عمياء وصماء) بالتأكيد دون الطبيعي بكثير، ولكن نمت قواها الفكرية بشكلٍ مدهش منذ اللحظة التي أتيحت لها فيها فرصة اكتساب لغة رمزية. ويبدو حتى أنها تعلمت، إلى حدٍّ ما، أن «ترى» و«تسمع» من خلال عيني وأذني معلمتها التي كانت هيلين على صلة لمسية (ورمزية) وثيقة بها.

كانت إنجازاتُها اللغوية مرتبطة لديها بخبرة قوية لا تُنسَى من السعادة والعرفان. كانت هذه خبرات واعية شديدة، ولكن لا علاقة لها بالإدراك الحسي. لم تكن لمسات يد معلمتها هي ما جعلها سعيدة، بل إدراكها المفاجئ أن سلسلة معينة من اللمسات كانت «اسمًا»، الاسم الخاص بالماء (من خبراتها الأخرى الواعية الشديدة خبرة أتت لاحقًا عندما اتُّهِمَت، خطًّا، بالانتحال).

أعتقد أنها عادة فلسفية سيئة، ترسخت تحت تأثير تجريبية الحس المشترك التقليدية (انظر الفصل الثاني من كتابي 1972 (a))، أن نأخذ الإدراكات الحسية، وبخاصة الإدراكات الحسية البصرية، كمثال نموذجي للخبرة الواعية. (انظر قسم ٢٤ سابقًا). إن التقليد مفهوم بما يكفي. أنا «أعرف» أنني واعٍ، ولكن كيف أثبت لنفسي ذلك؟ تُحَل المشكلة ببساطة شديدة بمجرد النظر إلى شيءٍ ما قريب وبأن أفعل ذلك بوعي. الأمر سهل جدًّا، بل حقًّا غاية في السهولة. إنه عُرضة لأن يجعلني أغفل أنني لم أَخبُر إحساسًا فحسب، بل قمت بحل مشكلة بطريقة واعية؛ أنني ربما كانت لدي إحساسات بصرية طول الوقت (ولكن ربما إحساسات لاواعية فقط أو غير تامة الوعي على كل حال) إلى أن واجهتني «مشكلة» كيف أُثبِت لنفسي أنني كنتُ واعيًا. إن الفهم الفكري للمشكلة وحلها الواعي هو ما مَثَّلَ لي في الحقيقة واقعة كوني واعيًا، وما كانت الخبرة البصرية الواعية إلا وسيلة سهلة استُخدِمَت كجزء من الإجراء.
ورغم ذلك، فقد أسست التجريبية الإنجليزية — لوك وباركلي وهيوم — تقليد اعتبار الإدراك الحسي النموذجَ الرئيسي وحتى الوحيد للخبرة الواعية، ولخبرة العرفان. وكنتيجة لذلك أمكن لهيوم أن ينكر أنه على وعي بأي شيء من قبيل النفس بالإضافة إلى كونه واعيًا بإدراكاتٍ أو ذكرياتِ إدراك.٥٣ أقترحُ أننا يجب أن نحاول أن نعلِّم أنفسَنا أن نعتبرها أمثلةً للخبرة الواعية أشياءَ مثلَ إعجابنا ومتعتنا من جراء صياغة ما لافتة («هذه السلالة السعيدة من البشر»)،٥٤ أو خبرتنا بالضيق وقلة الحيلة عندما نواجَه بمشكلة كبيرة (كيف نوقف سباق التسلح؟ كيف نوقف الزيادة السكانية؟) أو جَهدنا، ومحاولاتنا، ورفضنا حين نقرأ، ونعيد القراءة، ونؤَوِّل ونعيد تأويل فقرة عسيرة من كتابٍ ما قديم.

(٣٦) الوظيفة البيولوجية للنشاط الواعي والنشاط الذكي

أقترح أن تطور الوعي، وتطور الجهد الذكي الواعي، ثم تطور اللغة والاستدلال — وتطور العالم ٣ — ينبغي أن يُنظَر فيه غائيًّا، مثلما ننظر في تطور الأعضاء الجسدية: بوصفها تخدم أغراضًا معينة، وبوصفها قد تطورت تحت ضغوط انتخابية معينة (قارن قسم ٢٥ سابقًا).

يمكن أن نضع المشكلة كما يلي: إن الكثير من سلوكنا الغرضي (وربما السلوك الغرضي للحيوانات) يحدث دون تدخل الوعي.٥٥ ما هي إذن الإنجازات البيولوجية التي يُعِين عليها الوعي؟
أقترح كإجابة أولَى: حل مشكلات من نوع غير اعتيادي؛ فالمشكلات التي يمكن أن تحلها الوتيرة ليست بحاجة إلى الوعي. وهذا قد يفسر لنا لماذا يعد الحديث الذكي (وأفضل حتى من هذا: الكتابة) مثالًا جيدًا للإنجاز الواعي (للكتابة بالطبع جذورُها اللاواعية). وكما نُوِّهَ مِرارًا فإن من خصائص اللغة البشرية أننا ننتج باستمرار «جُمَلًا» جديدة — جملًا لم تُصَغ من قبلُ قَط — ونفهمها. وكمقابلٍ لهذا الإنجاز الكبير، فنحن نستخدم باستمرار «كلمات» (وفونيمات بالطبع) تُستعمَل روتينيًّا، المرة تلو الأخرى، وإنْ في سياقٍ شديدِ التنوع. ينتِج المتحدثُ المفوه معظمَ هذه الكلمات لا شعوريًّا، دون تركيز الانتباه عليها، إلا حيث يخلق انتقاء اللفظ الأفضل مشكلةً، مشكلة جديدة لا تحلها الوتيرة «… المواقف الجديدة والاستجابات الجديدة التي تحث عليها توضع في ضوء الوعي.» يقول إرفين شرودنجر (١٩٥٨م، ص٧؛ ١٩٦٧م، ص١٠٣): «المواقف القديمة والتي تمارَس على نحو جيد لا تعود كذلك (لا توضع في ضوء الوعي).»٥٦

ثمة فكرة وثيقة الصلة فيما يخص وظيفة الوعي: الوعي لازمٌ لانتخاب توقعات أو نظريات جديدة على نحو نقدي — على الأقل عند مستوى معين من التجريد. فإذا كان أحد التوقعات أو النظريات ناجحًا بلا استثناء، تحت ظروفٍ معينة، فإن تطبيقه سيتحول بعد زمنٍ إلى وتيرة اعتيادية، ويصبح لا شعوريًّا. أما أي حدثٍ غير متوقَّع فسوف يجذب الانتباه وبالتالي الوعي. فنحن قد لا نكون على وعي بتكات ساعة، ولكننا «نسمع» أنها قد توقفت عن التك!

لسنا نعرف، بطبيعة الحال، إلى أي مدًى يبلغ وعي الحيوانات. إلا أن الجِدَّة يمكن أن تثير انتباهها، أو بتعبير أدق يمكن أن تثير سلوكًا يصفه كثيرٌ من الملاحظين، لمشابهته السلوكَ البشري، على أنه «انتباه»، ويفسرونه على أنه واعٍ.

غير أن دور الوعي ربما يتجلى على أوضح نحو حيثما يمكن لهدفٍ أو غرض (ربما حتى هدف أو غرض لا شعوري أو غريزي) أن يتحقق ﺑ «وسائل بديلة»، وعندما تُجرَّب وسيلتان أو أكثر بعد تدبُّر. إنها حالة صنع قرار جديد (الحالة الكلاسيكية بالطبع هي حالة الشمبانزي سلطان التي ذكرها كولر، ذلك الشمبانزي الذي واءَمَ عصا من الخيزران في أخرى، بعد محاولات عديدة لحل مشكلة الحصول على ثمارٍ فوق منالِه، وهي استراتيجية التفافية في حل المشكلات). ومن المواقف المثيلة عملية اختيار برنامج غير اعتيادي، أو اختيار هدفٍ جديد، مثل قرار هل أقبل دعوةً إلى إلقاء محاضرة وأنا مثقل بعملٍ كثير أقوم به. يُعد خطاب الموافقة، والإدراج في لائحة المواعيد، من موضوعات العالم ٣؛ ويعد إرساء برنامج العمل، والمبادئ العامة التي قد نكون وضعناها لقبول أو رفض مثل هذه الدعوات، هي أيضًا منتسبة إلى العالم ٣، وإن يكن، ربما، على مستوًى تراتبي أعلى.

(٣٧) الوحدة التكاملية للوعي

من وجهة النظر البيولوجية، وبخاصة في حالة الحيوانات العليا، فإن الكائن العضوي الفرد الذي يقاتل من أجل وجوده، والذي يستَجِم، والذي يكتسب خبرات ومهارات جديدة، والذي يعاني، والذي في النهاية يموت. في حالة الحيوانات العليا فإن الجهاز العصبي المركزي هو الذي «يَدمِج» integrate (بتعبير شرودنجتون ١٩٠٦، ١٩٤٧م) كل نشاطات الحيوان الفرد الإيجابية (وكل «سلبياته» — إن جاز لي هذا التعبير — التي ستشمل بعض «المنعكَسات» reflexes). وربما يكون أبلغ توضيح لفكرة شرودنجتون الشهيرة عن «الفعل الدمجي للجهاز العصبي» هو الأفعال العصبية التي لا تُحصَى والتي يجب أن تتضافر من أجل أن تحفظ الإنسان واقفًا منتصبًا بهدوء، في حالة السكون.

كثير جدًّا من هذه الأفعال الدمجية آلي ولا شعوري، ولكن بعضها ليس كذلك، يدخل ضمن هذا البعض، بصفة خاصة، عملية اختيار وسائل إلى غايات معينة (كثيرًا ما تكون لا شعورية)، أيْ عملية صنع قرارات، اختيار برامج.

من الواضح أن صنع القرار أو البرمجة وظيفة مهمة بيولوجيًّا لِأَيِّما كيانٍ يحكم أو يتحكم في سلوك الحيوانات أو البشر. إنه، جوهريًّا، فعلٌ دمجي بالمعنى الذي قال به شرودنجتون: إنه يربط السلوك في شتى اللحظات بالتوقعات؛ أو بعبارة أخرى يربط السلوك الحاضر بالسلوك الوشيك أو المستقبل. وهو يوجه «الانتباه»، بأن يختار ما هي الأشياء التي تَعنيه، وما هي الأشياء التي عليه إغفالها.

وكحدسٍ افتراضي جامح، أقترح أن الوعي إنما ينبثق عن وظائف بيولوجية أربع: الألم، واللذة، والتوقع، والانتباه. وربما ينبثق الانتباه عن توقعات محبَطة. ولكن الانتباه، كظاهرة، مطابِق تقريبًا للوعي، فحتى الألم قد يختفي في بعض الأحيان إذا ما صُرِف عنه الانتباه وتركز في وجهة أخرى.

ويبرز السؤال: إلى أي مدًى يمكن أن نفسر الوحدة الفردية لوعينا، أو ذاتيتنا، باحتكام إلى الموقف البيولوجي؟ أعني بالتجاء إلى واقعة أننا حيونات، حيوانات نَمَتْ فيها غريزة لبقاء الفرد، علاوة طبعًا على غريزة لبقاء النوع.

يقول كونراد لورينز (١٩٧٦م، ص٤٦ وما بعدها) عن قنفذ البحر إن «جهازه العصبي غير المتمركز … يجعل من غير الممكن لمثل هذه الحيوانات أن تثبِّط تمامًا واحدةً من عددٍ من طرائق السلوك الممكنة ومن ثم «تقرر» في صالح اتخاذ طريقة بديلة. على أن قرارًا كهذا (كما بيَّنَ إريك فون هولست بشكل مقنِعٍ جدًّا في حالة دودة الأرض) هو القرار الرئيسي والإنجاز الأهم لعضوٍ عصبي مركزي شبيه بالدماغ». ولكي يتحقق ذلك، فإن الموقف المعْنِيَّ يتعين أن يُبَلَّغ به إلى العضو المركزي بطريقة وافية (أي بكلتا الطريقتين: بطريقة واقعية، وأيضًا بطريقة مثالية من خلال قمع جوانب الموقف غير ذات الصلة). هكذا يجب على مركزٍ موحدٍ أن يثبِّط بعضًا من طرائق السلوك الممكنة، ولا يسمح إلا لطريقة واحدة في الوقت الواحد أن تتقدم: الطريقة، يقول لورينز، «التي يمكن في الموقف القائم أن تسهم في البقاء … وكلما زاد عدد طرائق السلوك الممكنة، ارتفع الإنجاز المطلوب من العضو المركزي.»

هكذا (١) فالكائن العضوي الفرد — الحيوان — هو وحدة؛ (٢) وكلٌّ من الطرق المتنوعة للسلوك — بنود المخزون السلوكي — هو وحدة؛ والمخزون الكلي يكوِّن مجموعة من البدائل التي لا تجتمع (يقصي أحدها الآخر)؛ (٣) والعضو المركزي للتحكم يجب أن يعمل كوحدة (أو بالأحرى سيكون أكثر نجاحًا إذا عمل كوحدة).

هذه النقاط الثلاث مجتمعة — ١، ٢، ٣ — تجعل حتى من الحيوان «فاعلًا» agent نَشِطًا حالًّا للمشكلات؛ فالحيوان هو دائمًا في محاولة نشطة للسيطرة على بيئته، إما بمعنًى إيجابي، وإما، حين يكون «سلبيًّا»، بمعنًى سلبي. وهو في الحالة الأخيرة يكابد أو يعاني أفعالَ بيئة (عدائية غالبًا) خارجة كثيرًا عن سيطرته. ولكن حتى إذا كان يتأمل فحسب فإنه تأمل نَشِط: ليس مجرد مجموع جبري لانطباعاته أو لخبراته. إن عقلنا (وإنني لَأجرؤ على القول بأنه حتى عقل الحيوان) ليس على الإطلاق مجرد «تيار وعي» stream of consciousness، تيار خبرات؛ بل إن انتباهنا النشِط يركز كل لحظة على الجوانب ذات الصلة من الموقف فحسب، منتقاةً ومجتزَأة بواسطة جهازنا المدرِك المزود ببرنامج انتقاء (انتخاب)، برنامج مكيَّف على مخزوننا المتاح من الاستجابات السلوكية.
حين كنا نناقش هيوم، عرضنا للرأي القائل بأنه لا نفس هناك خارج تيار خبراتنا، بحيث إن النفس لا تعدو أن تكون حزمة من الخبرات. هذا المذهب٥٧ الذي كثيرًا ما أُعيدَ توكيده، لا يبدو لي باطلًا فحسب بل مفنَّدًا بالفعل بواسطة تجارب بنفيلد، التي أشرنا إليها باختصار في قسم ١٨ سابقًا. كان بنفيلد ينبِّه ما أَطلَق عليه «اللحاء المخي المفسِّر» من الدماغ المكشوف في مرضاه وتَمَكن بذلك من أن يجعلهم يعيدون معايشة بعض خبراتهم الماضية على نحو واضح جدًّا (ناطق). ورغم ذلك فقد ظل المرضَى على دراية بأنهم راقدون على طاولة العمليات في مونتريال. لم يتأثر وعيُهم بذاتهم بواسطة خبراتهم الإدراكية، بل كان وعيهم بأنفسهم يقوم على معرفتهم بموقع أجسامهم.
وأهمية هذا الموقع (الخاص بسؤال «أين أنا؟» لدى الإفاقة من نوبة) هي في أننا لا يمكننا بدونه أن نعمل بتساوق. إنه لَجزءٌ من هويتنا الذاتية أننا نحاول أن نعرف أين نحن، في المكان والزمان: أننا نربط أنفسنا بماضينا وبالمستقبل المباشر، بأهدافه وأغراضه، وأننا نحاول أن نكفل لأنفسنا توجُّهًا orientation في المكان.
كل هذا مفهوم جيدًا من وجهة النظر البيولوجية. والجهاز العصبي المركزي وظيفته منذ البداية هي أن «يسوق» أو «يقود» الكائن العضوي المتحرك، فمعرفة موقعه (موقع صورة الجسم body image الخاصة بالمرء) بالنسبة إلى جوانب البيئة الأوثق صلةً من الجهة البيولوجية، هي متطلَّب أساسي حاسم لهذه الوظيفة القيادية للجهاز العصبي المركزي. وثمة متطلَّب آخر هو الوحدة المتمركزة لعضو القيادة، لصانع القرار الذي سيُحيل، كلما أمكن، بعض هذه المهمة على سلطة أدنى تراتبيًّا، على إحدى آليات الدمج اللاشعورية العديدة. تندرج بين هذه المهام المحالة مهامُّ تنفيذية (مثل حفظ توازن الجسم) ليس هذا فحسب بل تندرج حتى مهمة اكتساب المعلومات؛ فالمعلومات تُصفَّى انتقائيًّا قبل أن تُسَلَّم إلى الوعي (انظر فصل E2). مثالُ ذلك انتقائيةُ الإدراك، ومثالٌ آخر انتقائية الذاكرة.

لستُ أعتقد أن ما قلتُه هنا أو قلتُه في الأقسام السابقة يبدِّد أي لغز. ولكني أعتقد حقًّا أنه ليس علينا أن نعتبر الفردية أو الوحدة أو فرادة النفس أو هويتنا الشخصية شيئًا ملغزًا، أو أكثر إلغازًا، مهما يكن، من وجود الوعي، أو في النهاية من وجود الحياة، ووجود الكائنات الحية المفرَدة. إن بزوغ الوعي الكامل القادر على التأمل الذاتي، والذي يبدو أنه متصل بالدماغ البشري وبالوظيفة الوصفية للغة، هو حقًّا أعجوبة من أعظم الأعاجيب. ولكن إذا نظرنا إلى التطور الطويل لعملية التفرد والفردية، وإلى تطور الجهاز العصبي المركزي، وإلى فرادة الأفراد (العائدة جزئيًّا إلى فرادة الجينات وجزئيًّا إلى فرادة خبراتهم) عندئذٍ فإن حقيقة أن الوعي والذكاء والوحدة مرتبطة بالكائن البيولوجي الفرد (وليس بالجِرمبلازم مثلًا) لا تبدو عجيبةً جدًّا. فإنما في الكائن الفرد يتعين على الجِرمبلازم، الجينوم، أن يواجه الاختبارات.

(٣٨) استمرارية النفس

قد نقول عن النفس (الذات) إنها، شأن أي كائن عضوي حي، تمتد خلال أَمَد من الزمان، تقريبًا من الميلاد إلى الموت. وفي حين أن الوعي يُقاطَع بفتراتٍ من النوم، فنحن نعتبر أنفسنا شيئًا مستمرًا. وهذا يعني أننا لا نوحِّد بالضرورة بين النفس والوعي: ثمة «أجزاء» من النفس لا واعية. غير أن وجود مثل هذه «الأجزاء» لا ينال عادةً مما نعرفه جميعًا (فيما أرى) على أنه وحدة النفس واستمراريتها.

كثيرًا ما جرت مقارنة النفس، أو الأنا، بجبلٍ من الجليد، حيث النفس اللاواعية هي الجزء المغمور الضخم، والنفس الواعية هي الرأس المستدِقُّ الناتئ من الماء. ورغم أنه لا أساس لتقدير الأحجام هنا، فمن الظاهر أن ما يُنتقَى، ويصفَّى، ويُسَلَّم إلى الوعي الكامل، في أية لحظة معطاة، لا يعدو أن يكون كِسرة صغيرة من كل ذلك الذي نعمل عليه ويعمل علينا. معظم ما «نتعلمه»، وما نكتسبه وندمجه في شخصيتنا، ذاتنا، ما نستعمله في الفعل أو في التأمل، يبقى لا شعوريًّا أو تحت-شعوريًّا. وقد تم تأييد هذا بتجارب سيكولوجية مثيرة. تبين هذه التجارب أننا دائمًا مستعدون، لا شعوريًّا تمامًا في بعض الحالات، لتعلُّم مهاراتٍ جديدة، مثل مهارة اجتناب شيءٍ ما كريهٍ (صدمة كهربية مثلًا)٥٨ ولنا أن نحدس افتراضيًّا أن هذه المهارات اللاشعورية في الاجتناب تلعب دورًا ذا اعتبار في عملية اكتساب أي مهارة تقريبًا، بما فيها القدرة على تحدُّث لغة.

أعتقد أن آراء جلبرت رايل ود. م. أرمسترونج يمكن أن تلقِي الكثير من الضوء على النفس اللاواعية التي هي حقًّا نزوعية، والتي هي، جزئيًّا على الأقل، فيزيائية. إنها تتكون من ميول (نزوعات) إلى الفعل، وميول إلى التوقع؛ توقعات لا واعية. يمكن تمامًا أن نصف معرفتَنا اللاواعية على أنها مجموعة من الميول إلى الفعل، أو إلى السلوك، أو إلى التوقع. ومن المثير للغاية أن هذه الحالات اللاواعية والنزوعية قد تصبح بطريقة ما واعيةً بأثر رجعي، إذا ما خُيِّبَ توقعُنا؛ تذكَّر أننا قد نسمع أن الساعة قد توقفت للتو عن التك. قد يعني هذا أن «مشكلة غير متوقعة» جديدة تبرز وتتطلب انتباهنا. يوضِّح هذا واحدة من وظائف اللاوعي.

من المؤكد أن ميولنا اللاواعية مهمة جدًّا لذواتنا؛ فالكثير مما يسهم في وحدة النفس، وفي استمراريتها الزمنية بصفة أخص، يبدو أنه لا شعوري. ثمة نوع من الذاكرة — القدرة على استدعاء (تذكُّر) ما حدث لنا في الماضي المباشر — هو، شأنَ كل ذاكرة كامنة، لا شعوري، ولكن يمكن استدعاؤه إلى الوعي. نحن عادةً «نعرف» بتفصيل معتبَر ما قد فعلناه وخبرناه منذ لحظة، بمعنى أننا نعرف كيف نستدعيه إلى الوعي «إذا شئنا ذلك». إن هذا النزوع اللاواعي هو ما يمنح الذات استمراريتها من لحظة إلى أخرى، في حالات تيقظها العادية.

وعليَّ أن أؤكد هنا، على النقيض من المادية الجذرية أو السلوكية الجذرية، أن هذه الميول اللاواعية إلى استدعاء الماضي المباشر عند الحاجة ليست ميولًا إلى السلوك، ليست ميولًا إلى سلوك يمكن ملاحظته، بل هي بالأحرى ميول إلى إعادة معايشة خبرة ما. وهذا ليس يصح بالنسبة لكل أنواع الذاكرة؛ فتعلُّم مهارة كالمشي أو قيادة الدراجة أو العزف على البيانو تتألف من اكتساب ميلٍ إلى السلوك، وفق الإرادة؛ وفي الوقت نفسه قد تظل تفاصيل سلوكية كثيرة لا شعورية تمامًا.

كل هذا يومئ إلى أن هناك نوعين على الأقل من الحالات النزوعية اللاواعية، التي قد تكون وقد لا تكون النتاج لعملية تعلُّم:

  • (١)

    ميول إلى الاستدعاء إلى الوعي (التي قد تؤدي وقد لا تؤدي إلى فعلٍ واعٍ).

  • (٢)

    ميول إلى السلوك لا شعوري.

ويبدو أن كلا هذين يؤثر بعمق على الذات. النوع الأول يكون شديد الأهمية فيما قد نصفه بأنه الذاكرة التي تُنتِج الاستمرارية الممكِنة للنفس، أو الذاكرة المنتِجة للاستمرارية.

ولنا أن نحدِس افتراضيًّا بأن الذاكرة المنتِجة للاستمرارية هي نوعٌ من الترجيع reverberation، ربما دوائر عصبية ترجيعية أو شيء من هذا النحو. إلا أن علينا أن نفهمها في وظيفتها البيولوجية. وهي تفسَّر دائمًا نظريًّا، في ضوء نظرية خاصة بموقفنا في البيئة، مُمَثَّلة ﺑ «شعور» بجسمنا ومكانِه في نوعٍ من النموذج أو الخريطة. هذه النظرية أيضًا تُتَّخذ لاشعوريًّا ونزوعيًّا، كنزوعٍ إلى استدعاء علاقتنا أو توجهنا نحو أشياء البيئة التي قد تكون مهمة أو إشكالية فيما يتعلق بأيٍّ من أفعالنا أو توقعاتنا.

هكذا فالذات النشطة موجَّهة ومُرساة في المكان بواسطة نظريات أو نماذج العالم ٣ التي لدينا نزوع إلى جعلها واعية وصريحة وفق إرادتنا. ونحن بالمثل مُرسَون في الزمان بواسطة نزوعنا إلى استدعاء ماضينا، وبواسطة توقعاتنا النظرية وبرامج فعلنا للمستقبل.

داخل نموذج بيئتنا، إذ تؤوِّله وتكثف عليه الضوء برامجُ فعلنا، ترسم الذاكرة المنتِجة للاستمرارية، على نحو لا شعوري، أثرًا مكانيًّا-زمانيًّا لماضينا المباشر، أشبه بالأثر الذيلي لطائرة في السماء، أو بأثر المتزحلِق على الجليد؛ أثرًا ما ينفك يبهت بمرور الوقت.

وعلينا أن نفرق بين الذاكرة المنتِجة للاستمرارية وبين الذاكرة بمعنى ما اكتسبه المرءُ بطريقة ما من «التعلم». فهذه، جوهريًّا، تكوين نظري أو تكوين مهارة بواسطة «الفعل والانتخاب»، يؤدي إلى ميول لا شعورية إلى التوقع وإلى الفعل.

لقد أكدت في هذا القسم على الطابع اللاشعوري والنزوعي لجوانب معينة من النفس، وبخاصة الذاكرة. وهذا ينبغي ألا يُساء فهمُه؛ فأنا أعتبر النفس الواعية ذات أهمية حاسمة، وبخاصة علاقتها بالعالم ٣، بعالم نظرياتنا عن أنفسنا وبيئتنا، بما فيها توقعاتنا وبرامج فعلنا. كل هذا يمكن أن يأخذ شكل الميول؛ وهذه الميول تمثل «معرفتنا» بالمعنى الذاتي، أو بمعنى عالم ٢. هذه المعرفة النزوعية هي جزء من أنفسنا؛ ولكنها تتألف، على الأقل جزئيًّا، من ميول إلى «فهم» موضوعات عالم ٣، أيْ «معرفة» بالمعنى الموضوعي.

(٣٩) التعلم من الخبرة: الانتخاب الطبيعي للنظريات

النفس تتغير. فنحن نبدأ أطفالًا، ثم ننمو، ثم نشيخ. ورغم ذلك فإن استمرارية النفس تؤكد أن النفس تبقى هي ذاتها بمعنى ما (هو معنى genidentity عند كورت ليفين ١٩٢٢م)؛ وهي تبقَى أكثر هوية حقيقيةً من جسدها المتغير، والذي يظل أيضًا genidential بالمعنى الخاص عند ليفين. تتغير النفس ببطء نتيجة لتقدُّم العمر، ونتيجة للنسيان؛ وتتغير بمعدل أسرع كثيرًا نتيجة للتعلم من الخبرة. وبحسب النظرية التي ندافع عنها هنا، فإننا نتعلم من الخبرة بواسطة «الفعل والانتخاب»؛ فأفعالنا قائمة على أهداف ورغبات معينة، وعلى توقعات ونظريات معينة، وبخاصة توقع تحقيق أو مقاربة هذه الأهداف، أي إن أفعالنا قائمة على برامج فعل. ووفقًا لهذه الوجهة من الرأي فإن التعلم من الخبرة هو في جوهره عملية تعديل لتوقعاتنا ونظرياتنا وبرامج فعلنا. إنها عملية تعديل وانتقاء، وبخاصة من خلال تفنيد توقعاتنا. لا يمكن للكائنات العضوية أن تتعلم من الخبرة، وفقًا لهذا الرأي، إلا إذا كانت نشطة؛ وإذا كان لها أهداف وتفضيلات؛ وإذا كانت تنتِج توقعات. وحيث إن بوسعنا أن نستبدل بالحديث عن امتلاك توقعات امتلاك نظريات أو برامج فعل، فبوسعنا أن نصوغ كل هذا بقولنا إننا نتعلم بواسطة تعديل نظرياتنا وبرامج فعلنا بواسطة الانتخاب، أي بالمحاولة ونبذ الخطأ (بالطبع قد تتغير أيضًا أهدافُنا وتفضيلاتُنا في عملية التعلم، ولكن، كقاعدة عامة، مثل هذه التغيرات نادرة وبطيئة، وإن كان لها في بعض الأحيان طابع التحول الحاسم conversion).

تنطبق هذه النظرية في عملية التعلم التي رسمتُ خطوطَها العريضة وتَسرِي بالتساوي على التعلم التكيُّفي على مستوى السلوك الحيواني (حيث تتعارض نظريتِي مع نظرية المنعكَس الشرطي القديمة، التي أَعرِض لنقدها في القسم القادم)، وعلى مستوى تكوين المعرفة الموضوعية كالنظريات العلمية مثلًا، وهي تتطابق بدقة مع التكيف بالانتخاب الطبيعي على المستوى الأكثر بداءة؛ مستوى التكيف الجيني.

في هذه المستويات الثلاثة جميعًا (المستوى الجيني، والمستوى السلوكي، ومستوى تكوين النظرية العلمية) تبدأ التغيُّرات التكيُّفية دائمًا من بِنيات معطاة معينة؛ البنية على المستوى الجيني هي الجينوم (بنية الدنا DNA). والبنية على مستوى السلوك الحيواني والإنساني تتكون من المخزون الموروث جينيًّا من الأشكال الممكنة للسلوك، بالإضافة إلى قواعد السلوك المنتقلة بالعُرف (بعض هذه، على المستوى البشري، ينتمي إلى العالم ٣). وعلى المستوى العلمي تتكون البنية من النظريات العلمية السائدة، التي تنتقل بالعرف، ومن المشكلات غير المحسومة. هذه البِنيات أو نقاط البدء تنتقل دائمًا بواسطة «التلقين» instruction؛ فالجينوم يتم نسخه بوصفه قالبًا أو طبعة، ومن ثَم بالتلقين. وينتقل العُرف بالتلقين المباشر، بما فيه المحاكاة. غير أن التغيرات التكيفية الجديدة في البِنية الموروثة تتم في المستويات الثلاثة جميعًا عن طريق «الانتخاب الطبيعي» natural selection؛ عن طريق التنافس ونبذ المحاولات الاختبارية غير الصالحة. تقع الطفرات أو الانحرافات التصادفية بعض الشيء تحت الضغط الانتخابي للصراع المتبادل، أو تحت الضغط الانتخابي الخارجي الذي يُقصِي الانحرافات الأقل نجاحًا. هكذا يتبين أن القوة المحافظة هي «التلقين» instruction، وأن القوة التطورية أو الثورية هي «الانتخاب» selection.٥٩

على كل مستوًى من المستويات يبدأ التكيف من بِنية شديدة التعقيد والتي يمكن وصفها (وصفًا استعاريًّا بعض الشيء إذا أخذنا المستوى الجيني باعتبارنا) بأنها بنية النظريات الشديدة التعقيد المتلقاة حول البيئة، أو بأنها بنية «توقعات». ويتألف التكيف (أو التعلم التكيفي) من تعديلٍ لهذه البِنية الشديدة التعقيد بواسطة طفرات محاولة، وبواسطة الانتخاب.

تبدو هذه الطفرات، على المستوى الجيني، عشوائية تمامًا، أو عمياء. غير أنها على المستوى السلوكي ليست عمياء تمامًا؛ لأنها تتأثر بالخلفية المعرفية (الثابتة لحظيًّا) والتي تشمل البِنية الداخلية للكائن العضوي، وتتأثر ببنية الأهداف وبنية الخيارات الخاصة بالكائن (وهي بنية ثابتة نسبيًّا). وعلى مستوى تكوين نظريات عالم ٣ فتأخذ الطفرات طابع الاستكشافات المخطَّطة للمجهول.

يتسم التكيف على المستوى السلوكي وعلى المستوى العلمي بأنه عادةً عملية نَشِطة بشدة. ويكفي أن ينظر المرء إلى حيوان صغير وهو يلعب، وإلى السلوك الذي أسماه بافلوف (١٩٢٧م، ص١١-١٢) «السلوك الاستكشافي» و«السلوك الحر» (أعتقد أن بافلوف لم يدرك دلالة هذه الأشكال من السلوك؛ انظر أيضًا القسم القادم). صحيح أن هذه النشاطات مبرمجة جينيًّا إلى حدٍّ كبير، إلا أن من الممكن أن تقمعها قيودٌ (ضوابط) بيئية. (تذكَّر تجارب هيلد وهين، ونتائج تجارب مارك ر. روزنزفيج ومعاونيه، التي أشرنا إليها في قسم ٣١). في حالة التعرض لمثل هذه الضوابط يعجز الحيوان عن التعلم، ويعجز دماغه عن النمو والنضج؛ فالنمو الجديد الهائل التعقيد للخلايا الدبقية وزوائد التشجرات والوصلات المشتبكية، التي سجلها روزنزفيج وآخرون، 1972 (a)، تعتمد على نشاط الأفراد واتصالهم النشِط ببيئة ثرية (فيرشمين وآخرون ١٩٧٥م؛ انظر أيضًا فصل E8).

وعلى المستوى العلمي تُعد الكشوف عملية ثورية وإبداعية، وهي دائمًا أيضًا نتاجٌ لنشاطٍ كبير؛ نتاج لطريقة جديدة في النظر إلى المشكلات، ونتاج نظريات جديدة، ونتاج أفكار تجريبية جديدة، ونقدٍ جديد، واختباراتٍ نقدية جديدة. وعلى المستويات الثلاثة جميعًا هناك تفاعل وتآزُر بين الميول المحافِظة والميول الثورية. فمن شأن الميول المحافِظة أن تحمي الإنجاز البنائي الهائل التعقيد وتحفظه، ومن شأن الميول الثورية أن تضيف تنويعاتٍ جديدةً إلى هذه البنيات المعقدة.

ونحن لا نجد في أيٍّ من هذه الإجراءات التكيفية لتعلُّمِ أشياء جديدة وصنع كشوفٍ تكيفية أيَّ شيءٍ من قبيل الإجراءات الاستقرائية، أو أي شيء من قبيل الكشف بالاستقراء أو التكرار؛ فالتكرار وإن كان يلعب بالفعل دورًا ما في التكيف السلوكي، إلا أنه لا يُسهم في الكشوف. إنه بالأحرى يساعد على جعل الكشف بعد أن يتم شيئًا روتينيًّا غير إشكالي، وجعله من ثَم لاشعوريًّا (هكذا الحال في المهارات التي ذكرناها سابقًا، كالمشي أو قيادة الدراجة أو العزف على البيانو). التكرار، أو الممارسة، ليسا طريقة لاكتساب تكيفات جديدة، بل طريقة لتحويل التكيفات الجديدة إلى تكيفاتٍ قديمة، إلى خلفية معرفية غير إشكالية، إلى ميولٍ لاشعورية.

لقد طالما كتبتُ ضد خرافة الاستقراء بواسطة التكرار — أي الوهم القائل بأننا نكتشف اطِّرادًا بأن نستمده من الملاحظات أو التجارب المتكررة — وسأعيد هنا واحدة فقط من حججي في هذا المقام:٦٠
إن جميع الملاحظات (بل وجميع التجارب) «مُشرَبة بالنظرية»٦١  theory impregnated: إنها تأويلاتٌ في ضوء النظريات. إننا لا نلاحظ إلا ما تجعله مشكلاتُنا، وموقفنا البيولوجي، واهتماماتنا، وتوقعاتنا، وبرامج فعلنا، أمرًا مَعنِيًّا ذا صلة. وبالضبط كما أن أدوات ملاحظتنا قائمة على نظريات، كذلك أعضاء حِسِّنا نفسها التي بدونها لا يمكننا أن نلاحِظ. فليس ثمة عضوٌ حسي خِلْوٌ من نظريات توقعية مدمَجة به جينيًّا. مثال ذلك (قارن قسم ٢٤ سابقًا) أن الضفدع يعجز عن رؤية ذبابة بالقرب منه إذا كانت لا تتحرك، إنه لا يميزها كفريسة سانحة. هكذا نجد أن أعضاء حِسِّنا هي نواتج التكيف، وبوسعنا القول بأنها نظريات، أو تُضمِر نظريات. إن النظريات تأتي قبل الملاحظة، ومن ثَم فهي لا يمكن أن تكون نواتج لملاحظاتٍ متكررة.٦٢
علينا إذن أن نتخلى عن نظرية الاستقراء بواسطة التكرار، ونستبدل بها نظرية تقول بتنويعة اختبارية من النظريات أو برامج الفعل، واختبارها النقدي من خلال استخدامها في أفعالنا.٦٣

وسأستخدم حقيقة أن أعضاءنا هي تكيفاتٌ و«تفترض» من ثَم اطِّرادات، شأنها في ذلك شأن النظريات — سأستخدمها في نقد نظرية المنعكَس — وبخاصة المنعكَس الشرطي.

(٤٠) نقد نظرية المنعكَسات غير الشرطية والشرطية

ثمة نظرية جِد مختلفة للتعلم التكيفي، وهي نظرية المنعكَس ونظرية الترابط (الترابطية) الوثيقة الصلة بها، ظلت سائدة منذ ديكارت ولوك وهيوم إلى جاك لوب وبيشتيريف وبافلوف، وإلى ج. ب. واطسون، مؤسس المدرسة السلوكية، وأتباعه، وحتى إلى الطبعة الأولى (١٩٠٦م) من كتاب شيرينجتون «الفعل الدمجي (التكاملي) للجهاز العصبي»، وإنْ تبرأ منها شيرينجتون في تصدير الطبعة الثانية (١٩٤٦م).

ونظرية المنعكَس هي نظرية تفسيرية للسلوك. ويمكن صوغها باختصار، مبسطةً بعض الشيء ومُؤَمْثَلة (idealized)، كما يلي:
يتكون السلوك الحيواني من استجابات عضلية لمثيرات (منبهات). و«المثير» stimulus في أبسط الحالات هو إثارة لعضوٍ حِسِّي، أي لِعَصَبٍ وارد centripetal. تُحمَل الإشارة بواسطة العصب الوارد إلى الجهاز العصبي المركزي (الحبل الشوكي والدماغ)، وهناك تنعكس، أي إنها تثير (ربما بعد أن تتم معالجتها في الجهاز العصبي المركزي)، عصبًا صادرًا centrifugal هو بدوره مسئول عن إثارة وانقباض عضلة. يسبب هذا حركةً فيزيائية لجزءٍ ما من الجسم، أي «استجابة سلوكية».
والوصلة العصبية، من العصب الوارد المثار حتى إثارة العضلة، هي قوس الانعكاس reflex arc. وفي أبسط الحالات المتصورة سيتكون قوس الانعكاس من نيورونين، الوارد والصادر، ونقطة اتصالهما التي أسماها شيرينجتون «المشتبَك» synapse. من الواضح أنه، بصفة عامة، ستتدخل بعض النيورونات البينية التي لا تنتسب إلى الجهاز الوارد ولا إلى الجهاز الصادر بل إلى الجهاز العصبي المركزي.

ونظرية المنعكَس (يُطلِق عليها بيشتيريف اسم «الرفلكسولوجيا») هي الدعوى القائلة بأن كل سلوك يُمكِن، من حيث المبدأ، تفسيرُه على أنه ناشئٌ عن تعاون أقواس انعكاس على درجة ما من التعقيد.

تميز نظرية المنعكَس بين المنعكَسات غير الشرطية، أو الفطرية، والمنعكَسات الشرطية أو المكتسَبة. ويفسَّر كل تعلُّمٍ، وبخاصة التعلم التكيفي، باستخدام المنعكَسات الشرطية أو الإشراط. تمضي العملية الأساسية للإشراط («كلب بافلوف») كما يلي: لِيَكُنْ هناك منعكَسٌ غير شرطي مثل سيل اللعاب لدى كلب كاستجابة للمثير البصري لشيءٍ ما قابل للأكل. فإذا ما رتبنا أن يصاحب مثيرٌ سمعيٌّ، مثل رنين جرس، المثيرَ البصري مراتٍ عديدة، عندئذٍ سيكون بإمكان المثير السمعي الجديد وحده أن يؤدي إلى استجابة سيل اللعاب.

يمكن للمنعكَس الشرطي الجديد (جرس-سيل اللعاب) أن «يُدعَّم إيجابيًّا» بمكافأة الكلب بالطعام عندما، أو بعد، أن يستجيب لرنين الجرس.

ثمة أيضًا طريقة «التدعيم السلبي»؛ وتتألف من عقاب الكلب (بصدمة كهربية على سبيل المثال) كلما امتنع عن الاستجابة بالطريقة المرغوبة. وللتدعيم السلبي فعالية وبخاصة إذا كانت الاستجابة الشرطية هي «استجابة اجتناب». مثال ذلك: يُدَق جرسٌ مباشرةً قبل تلقي الكلبِ صدمةً في رجله الأمامية اليمنى؛ فإذا رفع الكف إذ يُدَق الجرس لا تُعطَي صدمة. عندئذٍ يكون رفع الرجل الأمامية اليمنى لدى دق الجرس هو المنعكَس الجديد أو الشرطي؛ والصدمة الكهربية هي التدعيم السلبي.

ولكي نتقدم إلى النقد، فلننظرْ أولًا كيف تبدو نظرية المنعكَس في التعلم من وجهة النظر التي بُسِطَت هنا في القسم السابق.

حين تنظر إلى الأمر من وجهة نظرنا فلا وجود للمنعكَس الشرطي ولا المنعكَس غير الشرطي.

من وجهة نظرنا فإن كلب بافلوف في شغفه النشط ببيئته «يبتكر نظرية» (إما شعوريًّا وإما لا شعوريًّا)، ثم يختبرها. إنه يبتكر النظرية الصادقة والواضحة، أو التوقع، بأن الطعام سيصل عندما يرن الجرس. هذا التوقع يجعل لعابَه يسيل، شأنه تمامًا شأن التوقع الذي يثيره الإدراك البصري للطعام أو رائحة الطعام.

ما الفرق بين التأويلين لتجربة بافلوف؟ ربما يميل المرءُ للوهلة الأولى إلى الاعتقاد بأن تأويل بافلوف وتأويلي لا يختلفان إلا لفظيًّا؛ كما قد يشعر المرء بأن تأويل بافلوف بسيط وتأويلي معقَّد، وبأن تأويلي — دون تأويل بافلوف — فيه أَنْسَنة anthropomorphic.
غير أن اختلاف التأويلين ليس مجرد اختلاف لفظي؛ فتأويل بافلوف يرى إلى الكلب على أنه آلية سلبية، بينما ينسب تأويلي إلى الكلب اهتمامًا نَشِطًا (وإن يكن لا شعوريًّا بغير شك) ببيئته، ينسب غريزةً استكشافية. لقد لاحظ بافلوف حقًّا سلوكًا استكشافيًّا في الكلب؛ غير أنه لم يدرك أن هذا ليس «منعكَسًا» بالمعنى الذي لديه: ليس استجابةً لمثير؛ بل موقفًا عامًّا تجاه البيئة، حبَّ استطلاع عامًّا ونشاطًا عامًّا، شيئًا أشبهَ بدفعة حيوية élan vital برجسونية، وإن تكن قابلة، ربما، للتفسير في حدودٍ داروينية، إذْ من الواضح أنه أمر يمكن أن يسهم كثيرًا في بقاء الكائن أن يُبدِي هذا الكائن اهتمامًا نَشِطًا ببنية بيئته. وعلى النقيض من ذلك يضطر بافلوف إلى افتراض أن كل الاطرادات المهمة بيولوجيًّا والتي يمكن للكائن أن يتكيف معها تتألف من تزامنات، مثل تزامن الجرس ووصول الطعام. ولكن بنية بيئتنا التي يتعين أن نكيف أنفسَنا معها، وأن تُكيِّف الكلابُ أنفسَها، لا تشابه الانطباعات المتضامة باستمرار عند هيوم. إن على الحيوانات والبشر أن يجدوا طريقهم، وأن يصونوا أنفسهم، في عالمٍ من المتغيرات والثوابت. وإن قطة تُقعِي في العشب على مقربة من جحر فأر تنتظر بصبر، ليست «تستجيب» آليًّا ﻟ «مثير»، بل تنفِّذ برنامجَ فعل. إن المطر والبَرَد والثلج لَيغير العالم جذريًّا لصالح الطيور والثدييات، ومع ذلك فقليل منهم مَن يتمكن من أن يكيف نفسه. أما الفئران، كما رأينا، فتكيف نفسها مع «بيئة ثرية»، وإن لِزامًا عليها أن تفعل ذلك لا بكسلٍ سلبي بل بنشاطٍ وافر. وإن هذا النشاط هو ما يجعل أدمغتها تنمو، من الواضح أنها مسألة الدافع الاستكشافي.
وربما ينبغي أيضًا أن أؤكد أنه من وجهة نظري فإن الشيء لكي يكون «مثيرًا» stimulus يجب أن يرتبط ببرنامج عمل الحيوان المَعنِي، وبعلاقته النشِطة بالبيئة. إن واقعة أن شيئًا ما يكون أو لا يكون مثيرًا، ونوع المثير الذي يكونه، يعتمد على الحيوان، وعلى حالته اللحظية (قارن قسم ٢٤ سابقًا).

صحيح أن آلية التعلم التي يفترضها بافلوف بسيطة جدًّا، وأبسط كثيرًا من أي تفسير يمكن أن يكون عن تكوين النظريات أو التوقعات. غير أن الكائنات الحية ليست بهذه البساطة، لا هي ولا تكيُّفاتها مع البيئة.

أقترح أن الكائنات العضوية لا تنتظر، سلبيًّا، تكرار حدث (أو حدثين) لكي تطبع أو تفرض على ذاكرتها وجودَ اطراد، أو وجود صلة مطردة، بل الكائنات تحاول على نحو نَشِط أن تفرض اطرادات تخمينية (ومعها تشابهات) على العالم.

هكذا فنحن نحاول أن نكتشف تشابهات في عالمنا؛ تشابهات في ضوء القوانين، في ضوء الاطرادات التي ابتكرناها اختباريًّا نحن أنفسنا. ومن غير انتظار تكرارات، نحن ننتج تخمينات، حدوسًا افتراضية؛ ومن غير انتظار مقدمات نحن نقفز إلى نتائج. هذه النتائج قد يكون علينا أن ننبذها؛ وإلا ننبذها في الوقت المناسب فقد نُنْبذ معها.

إنما هذه النظرية — في الحدوس الافتراضية، المقدَّمة على نحو نشِط، وتفنيدها (بنوعٍ من الانتخاب الطبيعي) — هي ما أقترح أن يحل محل نظرية المنعكَس الشرطي ومحل النظرية القائلة بأن هناك مثيرات متكررة بطبيعتها والتي لا يخطئ الكائن في تمييزها كتكرارٍ لنفس الشيء (إن العصفورين لَيبدوان متشابهين تمامًا لنا، ولكن ليس للعصافير).٦٤

كيف تؤثر نظرية عالم ٣ في كل هذا؟ ربما تكون الاطرادات المخمَّنة والتي من خلالها نحاول أن نُضفِي نظامًا على عالمنا، نظامًا قد نكيِّف معه أنفسنا، والتشابهات التي تعتمد عليها هذه الاطرادات، ربما تكون شعورية. ولكن حتى لو كانت كذلك فإنها ستكون نزوعية في طابعها، وستكون في أغلب الوقت جزءًا من فسيولوجيتنا. وليس قبل صياغتها في اللغة، أي جعلها موضوعات لعالم ٣، يمكن أن تكون موضوعات للتفحص والنظر والنقد العقلي. وما دامت حدوسنا الافتراضية جزءًا من أنفسنا فهناك احتمال كبير إذا كانت غير جيدة التكيف، بأننا سوف نموت معها. إن من الوظائف البيولوجية الرئيسية للعالم ٢ إنتاج نظريات وتوقعات شعورية بالأحداث الوشيكة؛ وإن الوظيفة الرئيسية للعالم ٣ هي أن تمكننا من أن نرفض هذه النظريات؛ أن نتركها تموت بدلًا منا.

والآن لننظر إلى المنعكَس غير الشرطي، مثلًا المنعكَس الشهير لحدقة العين، والذي يجعل الحدقتين تضيقان عندما تزداد كمية الضوء، وتتسعان عندما تقل كمية الضوء.

هذا فيما يبدو مثالٌ أصيل لمنعكَسٍ بالمعنى القائم في نظرية المنعكَس. ولا يمكن إنكار أنها قد تكون كذلك على الدوام. إلا أن هذا المنعكس من وجهة نظري هو جزء من الأداء المحدد جينيًّا لعضوٍ من الأعضاء — العين — والذي لا يمكن أن يُفهَم إلا من زاوية أنه يحل، شأنه شأن نظرية ما، مشكلاتٍ معينة، مشكلات تكيف مع بيئة متغيرة. يحل المنعكَس الحدقي مشكلة المحافظة على كمية الضوء الذي يصل إلى الشبكية داخل حدود معينة. وبذلك يتيح للشبكية أن تكون أكثر حساسية للضوء مما لو كانت غير محمية، ومن ثم أن تكون مسعفةً حتى في الضوء الخافت جدًّا. إن أعضاءنا حَلَّالة مشكلات! والحق أن جميع الكائنات العضوية حلالة مشكلات عالية النشاط. فليس من المستغرب أننا نستعمل أحيانًا قوسًا انعكاسيًّا من أجل أن نحل مشكلاتنا. أما نظرية المنعكَس التي تقول بأن كل سلوكنا هو من نوع «مثير-استجابة» فهي نظرية مغلوطة وينبغي أن تُنبَذ.٦٥ إنما الكائنات حلالة مشكلات ومستكشِفة لعالمها.

(٤١) أنواع الذاكرة

كما ترى من القسم السابق، فأنا مناهض لعلم النفس الترابطي associationist psychology وللنظرية الترابطية في التعلم. وأعزو أهميةً قليلة نسبيًّا للتكرار، وبخاصة التكرار السلبي (فيما عدا أنه قد يُفضِي إلى أن تصبح بعض الأفعال تلقائية automatic)، وأعزو أهمية كبيرة للفعل، وللتأويل في ضوء الأهداف والأغراض والنظريات التفسيرية.

عندما كنتُ في نحو العاشرة من عمري اكتشفتُ أن بإمكاني أن أتعلم القصائد الطويلة على أفضل نحو بأن أعيد بناء هذه القصائد. وقد أدهشتني للغاية نتائج هذه الطريقة. تتألف الطريقة من محاولة فهم بنية القصيدة وأفكارها، ثم محاولة إعادة بنائها بدون النظر إلى النص، مع الانتباه إلى تلك الفقرات الملتبسة. وبعد أن يُعاد بناء الكل وتُختزَل الفقرات الغامضة إلى أدنى حد، عندئذٍ فقط كنتُ أنظر إلى هذه الفقرات، مرة واحدة. كان هذا كافيًا بصفة عامة، رغم أني لم أكن، قبل أن أبتكر هذه الطريقة، أحفظ شيئًا بسهولة، ولا كانت طريقة إعادة البناء سهلة. والمغزى كله هو أن أستبدل بالتكرار الآلي عملية البناء، وبالتالي عملية حل المشكلات.

أحد جوانب هذه الخبرة هو أني أشعر شعورًا قويًّا بأن طريقة إعادة البناء تهيب بملَكاتٍ مختلفة تمامًا عن تلك الملكات المتبطنة للطريقة الأكثر آلية؛ طريقة التكرار. إنها تهيب بالفهم وليس بالذاكرة «الآلية»، وهي نَشِطة (إيجابية) وليست سلبية؛ والنشاط فيها أشبه بنشاط عملية حل المشكلات.

منذ ذلك الحين شعرتُ أنه قد يكون هناك عدد، أيًّا ما يكون، من البِنيات الشديدة الاختلاف التي تستحق أن تُدرَج تحت المصطلح «ذاكرة» memory.
وأقدم نظرية عن آلية للذاكرة هي، فيما أفترض، نظرية ديكارت. وهي مثيرة للاهتمام لأنها يمكن أن «تترجَم» إلى نظرية حديثة جدًّا عن الذاكرة البعيدة (الطويلة الأمد)، بالمعنى التالي: على حين نتحدث نحن عن نبضة (دفعة) عصبية (كهربية) nerve impulse يتحدث ديكارت عن تيار «الأرواح الحيوانية» animal spirits؛ وفي حين نتحدث عن «مشتبَك» synapse أو «عقدة مشتبَكية» synaptic knob، يتحدث ديكارت عن مَسام pores يمكن أن تتدفق من خلالها الأرواح الحيوانية. وفي حين نحدس افتراضيًّا بأن آثار (traces, engrams) الذاكرة البعيدة تتكون من مجموعات من العقد المشتبكية التي تتضخم بسبب الاستعمال فتؤدي إلى زيادة الكفاءة المشتبكية، يقول ديكارت (1949, Article XL11 = Haldane & Ross, 1931, p. 350): «إن هذه الآثار ليست أكثر من واقعة أن تلك المسام بالدماغ التي سبق أن تدفقت من خلالها الأرواح … قد مَرِنت بذلك مرونةً أكثر من غيرها، لكونها فُتِحَت مرة ثانية بواسطة الأرواح الحيوانية التي تتحرك تجاهها …»
وفي زمن أحدث تم لهذه النظرية الديكارتية أن (١) تتوسع و(٢) تتعدل؛ واجتمع كَمٌّ كبير من الأدلة التجريبية («عن الطواعية المشتبكية» synaptic plasticity) على تأييد النظرية المعدَّلة (انظر الفصل ٨ لإكلس، وانظر أيضًا كتاب إكلس ١٩٧٣م).
  • (١)
    توسعت نظرية نمو المشتبكات، كما يمكن أن نسميها، بواسطة نظرية تحل لنا المشكلتين التاليتين: (أ) ما هي الآلية التي تنمو بها المشتبكات؟ (ب) ماذا كانت آلية الذاكرة قبل أن تجد المشتبكات وقتًا للنمو؟ الإجابة عن هذين السؤالين تكمن في التمييز بين الذاكرة القريبة (القصيرة الأمد) والذاكرة البعيدة (الطويلة الأمد) (انظر إكلس ١٩٧٣م)، أو حتى في تمييز أكثر توسعًا بين الذاكرة القريبة، والمباشرة، والبعيدة، المشروحة في فصل ٨ لإكلس (انظر بخاصة شكل ٧ في هذا الفصل). والفكرة الأساسية هي هذه: تؤدي أية خبرة إلى دوائر ترجيعية reverberating circuits (أو لِنقُلْ: أثر دينامي dynamic engram)، تشمل عددًا كبيرًا من المشتبَكات. هذه الدوائر الترجيعية تشكِّل الذاكرة القريبة و/أو الذاكرة المباشرة. ولكن الدوائر الترجيعية لا تقتصر على تفسير الذاكرة القريبة والمباشرة، بل تفسر أيضًا نمو المشتبكات التي تشكِّل الذاكرة البعيدة (الأثر التشريحي أو الهستولوجي). ذلك أن الدوائر الترجيعية تفيد من مجموعة معينة من المشتبكات؛ ومن الممكن أن نثبت بالتجربة (انظر شكل ٣ في فصل ٨ لإكلس) أن كفاءة المشتبكات تزيد مع استعمالها؛ وهناك أيضًا أدلة على أن المشتبكات تنمو بالاستعمال (شكل ٤ في الفصل الثامن لإكلس).
  • (٢)
    أهم التعديلات الحديثة لِنظرية النمو المشتبكي في الذاكرة هي هذه: لا يقتصر الأمر على نمو بعض المشتبكات، بل هناك أيضًا إضعاف أو إقصاء مشتبكات أخرى (انظر مارك ك. روزنزفيج وآخرون 1972b). وفضلًا عن ذلك فهناك فيما يبدو تغيرات أخرى، ربما ثانوية: ثمة تغيرات كيميائية (هولجر هايدن ١٩٥٩، ١٩٦٤م) يجب أن تُدخَل في النمو المشتبكي (إكلس 1966b، ص٣٤٠)، وهناك تجارب تشير إلى نمو الخلايا الدبقية.

هذه النتائج جِد مثيرة، إلا أنني غير راضٍ.

فأنا غير مقتنع أنه يكفينا أن نميز بين آليتين أو ثلاثٍ للذاكرة بحسب مدة الذاكرة، أي بحسب طابعها القريب، والمباشر، والبعيد. أعتقد أنه لا بد أن هناك أيضًا آليات أخرى وبِنيات أخرى تعمل عملها؛ وأحدس افتراضيًّا أن حل المشكلات من جهة، والتكرار السلبي المحض لخبرة ما، ليس من المحتمل أن يعملا من الوجهة التذكرية بنفس الطريقة.

هذا الحدس تؤيده نتائج تجريبية متعددة: مثال ذلك دور النشاط في تجارب هيلد وهين على القطط الصغيرة (١٩٦٣م)، التي ناقشها إكلس في فصل ٨، ونتائج روزينزفيج وفيرشمين المذكورة في قسم ٣٩.

أقترح أن من المفيد أن نضع قائمة بالظواهر التي قد تُدرَج تحت لفظة «ذاكرة» بمعناها الأوسع، كيما نحظى برؤية عامة للمشكلات المتضمَّنة.

يمكن أن نبدأ بالذاكرة قبل-العضوية، مثل تلك التي يبديها قضيب الحديد فيما يتعلق ﺑ «خبرة» المغنطة، أو بلورة نامية فيما يتعلق ﺑ «غلط» ما. ومع ذلك فقائمة مثل هذه الظواهر قبل العضوية قد تطول، وقد لا تكون كاشفة جدًّا.

  • (١)
    أول ظاهرة شبيهة بالذاكرة في الكائنات العضوية هي، في أغلب الاحتمال، ظاهرة الاحتفاظ بالبرنامج الخاص بتركيب البروتين (الإنزيم) والمُشَفَّر في الجين (الدنا DNA أو ربما الرنا RNA). وهي تُبيِّن، بين أشياء أخرى، حدوثَ أخطاء ذاكرة (طفرة mutation)، وميلًا لدى هذه الأخطاء لأن تدوم:
  • (٢)

    من المرجح أن المسارات العصبية الفطرية تشكل نوعًا من الذاكرة تتألف من الغرائز، وطرائق الفعل، والمهارات.

  • (٣)

    بالإضافة إلى هذا الأثر (الإنجرام) البنيوي أو التشريحي (٢)، هناك ذاكرة فطرية إضافية ذات طبيعة وظيفية؛ وهذه تشمل، فيما يبدو، القدرة الفطرية لجميع الوظائف المختلفة على أن تنضج (كما هو الحال في تعلُّم المشي أو تعلُّم الكلام).

  • (٤)

    القدرات الفطرية الأخرى على التعلم، والتي لا تتصل اتصالًا وثيقًا بالنضج؛ مثلما هو الحال في تعلُّم كيف تَسْبَح، أو كيف ترسم، أوكيف تُدَرِّس.

  • (٥)

    الذاكرة المكتسَبة من خلال عملية تعلُّمٍ ما.

    • مكتسبة إيجابيًّا: (أ) شعوريًّا (ب) لا شعوريًّا.

    • مكتسبة سلبيًّا: (أ) شعوريًّا (ب) لا شعوريًّا.

  • (٦)

    تحديدات أخرى، قابلة للاتحاد جزئيًّا مع ما سبق:

    • قابلة للاستدعاء طوعَ الإرادة.

    • غير قابلة للاستدعاء طوعَ الإرادة (بل، قُل، تأتي دون استدعاء، ﻛ «موجات توقُّع»).

    • مهارات يدوية ومهارات جسمية أخرى (السباحة، التزحلق).

    • نظريات مصوغة لغويًّا.

    • تعلم الخُطَب، المفردات، القصائد.

    ليس هناك أي داعٍ لافتراض أن عمليات اكتساب هذه الذاكِرات المختلفة قائمة على نفس الآلية البسيطة من قبيل نمو المشتبكات بالاستعمال المتكرر. كما أن ذلك النوع من الذاكرة الذي أسميتُه في قسم ٣٨ «الذاكرة المنتِجة للاستمرارية» يُرجَّح أنها قائمة على آلية مختلفة جدًّا عن المعرفة النزوعية، أو عن الذاكرة المحصَّلة بواسطة حلٍّ نشِطٍ للمشكلات (أو بواسطة الفعل والانتقاء).

  • (٧)
    الذاكرة المنتِجة للاستمرارية. وهناك نظريات شائقة عديدة تتصل بهذه الذاكرة. فهي ترتبط، أو يبدو لي أنها ترتبط، بما أسماه برجسون (١٨٩٦، ١٩١١م) «الذاكرة الخالصة» pure memory (كمقابلٍ ﻟ «العادات»)، وهي سِجِل لخبراتنا كلها في ترتيبها الزمني الصحيح. غير أن هذا السجِل، وفقًا لبرجسون، ليس مسجَّلًا في الدماغ، أو في أي مادة: إنه موجود ككيانٍ روحي محض (وظيفة الدماغ هي أن يعمل كمصفاة للذاكرة الخالصة، لكي يمنعها من إقحام نفسها على انتباهنا). ومن الشائق أن تقارن هذه النظرية بالنتائج التجريبية المحصَّلة من بنفيلد وبيرو (١٩٦٣م) بواسطة تنبيه مناطق مختارة من الأدمغة المكشوفة لمرضى واعين، والتي وصفها إكلس في الفصل الثامن: ربما كان برجسون قد ادَّعَى أن هذه التجارب تؤيد نظريته، ما دامت تثبت وجود سجل كامل لخبرات (أو على الأقل بعض خبرات) ماضية. غير أننا، كما يوضح إكلس، ليس لدينا مثل هذه السجلات من غير مرضى الصرع. أضِفْ إلى ذلك أن بنفيلد كان ينبه الدماغ ولم يكن يمنع الدماغ من العمل كمصفاة برجسونية. ولا يزال من الظاهر أن الحدس الأكثر احتمالًا هو أن الذاكرة المنتجة للاستمرارية ليست مسجلة تسجيلًا كاملًا، لا في العقل ولا في الدماغ، وأن كشوف بنفيلد المدهشة لا تثبت أكثر من أن نُتَفًا معينة منها قد تُختزَن كاملةً في بعض الأشخاص، ربما فقط في مرضى الصرع. أما الذاكرة السوية للمواقف الماضية فليس لها، بطبيعة الحال، طابع إعادة المعايشة المباشرة، بل بالأحرى طابعٌ باهت من «أتذكَّر ذلك» أو «أتذكر كيف».٦٦
  • (٨)

    أما عن عملية التعلم النشِط بالمحاولة والخطأ، أو بحل المشكلات، أو بالفعل والانتقاء، فأقترح أن علينا أن نميز على الأقل بين المراحل المختلفة التالية:

    (٨–١) الاستكشاف النشِط، مسترشِدًا بمعرفة فطرية ومكتسَبة: «معرفة كيف» knowing how، وخلفية من «معرفة أن» knowing that.٦٧

    (٨–٢) إنتاج حدوس افتراضية جديدة، نظرية جديدة.

    (٨–٣) نقد واختبار الحدوس الافتراضية الجديدة أو النظرية الجديدة.

    (٨–٤) نبذ الحدس الافتراضي، وتسجيل واقعة أنه لا يعمل («ليس هكذا»).

    (٨–٥) إعادة هذه العملية (٢–٤) مع إجراء تعديلات على الحدس الأصلي أو مع حدوس جديدة.

    (٨–٦) اكتشاف أن حدسًا جديدًا يبدو ناجحًا (يعمل).

    (٨–٧) تطبيق الحدس الجديد شاملًا اختبارات إضافية.

    (٨–٨) الاستخدام العملي والمقنَّن للحدس الجديد (تَبَنِّيه).

وأحدِس بأن العملية لا تأخذ طابع التكرار، على مراحل، إلا في ٨–٨.

ليس هناك ما يدعو إلى افتراض أن أيًّا من هذه الإجراءات متماثلة جدًّا في طبيعتها، أو أن مختلف نشاطات الدماغ المتبطنة لها متماثلة جدًّا. لنفترضْ أن كل ما يمكن للنيورون أن يفعله هو أن ينقدح (ليس هذا صحيحًا؛ فمن الظاهر أنه يمكن أن ينمو، أو يَذوِي، أو يكوِّن مشتبكات جديدة). غير أن تعقُّد الدماغ هائل؛ والتعلم بمعنى إنتاج نظريات، والصور الأخرى من تأسيس آثار الذاكرة، لا يلزم أن تحدث على مستوى قَدْح النيورونات أو على مستوى البنيات التشريحية، وإنْ كانت هذه المستويات تلعب دورًا بغير شك؛ مثل هذا التعلم يمكن جدًّا أن يتكون من تنظيم تراتبي لِبِنياتٍ تتركب من بنيات (لعل الهولوجرام كما اكتشفه دينيس جابور هو مثال غير دينامي لِبِنيات البِنيات هذه).

من الأسباب التي تشهد ضد نظرية التيارات الترجيعية، التكرارية الخالصة، والنمو المشتبكي الذي تُحدِثه هذا السبب التالي: لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه في التعلم تلك العناصر الانفعالية جزئيًّا مثل الشغف أو الانتباه أو الأهمية المتوقعة للحدث (انظر فصل ٨ لإكلس)؛ ولا الميل إلى نسيان أحداث معينة تجرح فكرتنا عن أنفسنا؛ ولا الميل إلى تحوير هذه الأحداث في ذاكرتنا. مثل هذه الأشياء تستعصي، فيما أعتقد، على التفسير بمجرد الآلية التكرارية؛ ولا يمكن تفسيرها، فيما أميل إلى الحدس به، إلا بالفعل الذي يمارسه عقلٌ بصير على محتويات ذاكرته، تلك المحتويات التي تتعلق بالعالم ٣ الخاص بالنظريات وبرامج الفعل.

من المشكلات الخلافية الكبرى في نظرية الذاكرة ذلك التباين في الرأي بين المدافعين عن النظرية الكهروفيزيولوجية (أو المشتبكية) في التخزين الذاكري، وبين المدافعين عن نظرية كيميائية (على سبيل المثال: هولجر هايدن؛ انظر جورج أنجار ١٩٧٤م، والمراجع المثبَتة هنا). قدمت المجموعة الأخيرة أدلة يبدو أنها تشير إلى أن العادات المتعلَّمة يمكن أن تنتقل من حيوان إلى حيوان بطريق حقن مواد كيميائية معينة (والتي من الممكن أن تكون مرتبطة ﺑ «مواد موصِّلة»؛ انظر إكلس ١٩٧٣م، الفصل الثالث، وإكلس، الفصل الأول هنا).

ورغم أني لستُ متخصصًا في هذا الحقل، إلا أنني لا أتمالك الشعور بأن نظرية تجمع بين النظرية الكهروفيزيولوجية والنظرية الكيميائية هي النظرية الأكثر وعدًا؛ وذلك للأسباب التالية: (أ) تبدو النظرية الكهروفيزيولوجية ضرورية في حالة جميع الحيوانات ذات الجهاز العصبي المركزي. (ب) تبدو النظرية الكيميائية هي النظرية الوحيدة الممكنة بالنسبة للنباتات (إذ يبدو أن بها نوعًا من «الذاكرة») والحيوانات الدنيا التي ليس لديها جهاز عصبي. يبدو أن هناك شيئًا قريبًا من الذاكرة في هذا المستوى؛ وإذا صح هذا سيكون من غير المرجَّح أن هذه «الذاكرة» الكيميائية تختفي تمامًا على الدرجات الأعلى من السلم التطوري، وسيكون من الأكثر احتمالًا أنها تلعب دورًا إلى جانب دور الجهاز العصبي.

(٤٢) النفس مُرساة في العالم ٣

في معظم الذي قيل حتى الآن كنتُ أسوِّي بين النفس وبين الكائن العضوي الحي. وقد حاولتُ أن أجمع من هذه المقاربة البيولوجية بعض الوقائع التي تفسر الوحدة، والفردية، واستمرارية النفس، بالإضافة إلى بعض الوقائع التي ربما تُلقِي بعضَ الضوء على الوظيفة البيولوجية لتلك الأعجوبة الكبرى بين الأعاجيب: الوعي الإنساني بالنفس.

غير أن الوعي البشري بالنفس يتجاوز، فيما أرى، كل تفكيرٍ بيولوجي خالص. وقد أطرح المسألة كما يلي: لا شك عندي في أن الحيوانات واعية، وبخاصة في أنها تشعر بالألم، وأن الكلب قد يكون ممتلئًا بالبهجة حين يعود صاحبُه. إلا أني أحدس بأنه لا يقدر على التأمل في نفسه إلا كائنٌ بشري قادر على الكلام. وأعتقد أن كل كائن عضوي لديه برنامج؛ ولكني أعتقد أيضًا أنه لا يمكن إلا لكائن بشري أن يكون واعيًا بأجزاء هذا البرنامج وأن يراجع هذه الأجزاء نقديًّا.

ومعظم الكائنات العضوية، إن لم يكن كلها، مبرمجة لكي تستكشف بيئتها، متجشمةً المخاطر في هذا الاستكشاف. إلا أنها لا تتجشم هذه المخاطر عن وعي. ورغم أن لديها غريزة لحفظ الذات، فهي ليست على دراية بالموت. وحدَه الإنسان مَن قد يواجه الموت في بحثه عن المعرفة.

قد يكون للحيوانات العليا شخصية أو طبع، قد يكون لها ما قد نسميه فضائل ورذائل؛ فيكون الكلب مثلًا شجاعًا ودودًا مخلصًا، أو قد يكون شريرًا وخائنًا. ولكني أعتقد أن الإنسان وحده هو الذي يمكنه أن يسعى إلى أن يصبح إنسانًا أفضل، أن يسيطر على مخاوفه وكسله وأنانيته، ويتغلب على اندفاعاته.

في كل هذه الأمور يأتي الفارق بين الإنسان وغيره من الكائنات من ارتكاز النفس البشرية على العالم ٣؛ وأساس هذا الارتكاز هو اللغة البشرية التي تتيح لنا لا أن نكون ذواتًا أو مراكز فعلٍ فحسب بل أن نكون أيضًا موضوعات لفكرنا نحن النقدي، ولِحكمنا نحن النقدي. وذلك بفضل الطابع الاجتماعي للغة، وحقيقة أننا يمكننا أن نتحدث عن غيرنا من الناس وأن نفهمهم عندما يتحدثون عن أنفسهم.

هذا الطابع الاجتماعي للغة، وهذا الفضل الذي ندين به للغة، وبالتالي للآخرين، في وضعنا كذوات؛ في إنسانيتنا، في عقلانيتنا، يبدو لي مهمًّا: فنحن جميعًا، كذواتٍ وككائنات إنسانية، صنيعة العالم ٣، الذي هو بدوره صنيعةُ ما لا يُحصَى من العقول البشرية.

لقد وصفتُ العالم ٣ على أنه مكون من منتَجات العقل البشري. إلا أن العقول البشرية تتفاعل بدورها مع هذه المنتجات؛ فهناك تغذية راجعة (feed-back). فعقل الرسام مثلًا أو المهندس يتأثر إلى أبعد حد بالأشياء نفسها التي يعمل عليها؛ ويتأثر كذلك بأعمال الآخرين السابقين عليه والمعاصرين له. هذا التأثير يجري عن وعي وعن غير وعي؛ ويفعل فعله في توقعاته وفي اختياراته وفي برامجه. وبقدر ما نحن نتاجٌ لعقول الآخرين ولعقولنا ذاتها يمكننا القول بأننا نحن أنفسنا ننتمي إلى العالم ٣.

ولقد اقتبستُ مِن كانْت (في فصل ٣٣) قوله «إن الشخص هو تلك الذات المسئولة عن أفعالها». وبقدر ما يكون الشخص مسئولًا عن أفعاله أمام الآخرين وأمام نفسه يمكن أن يقال إنه يفعل بطريقة عقلانية، ويمكن وصفه بأنه فاعلٌ أخلاقي، أو ذاتٌ أخلاقية.

ونحن بالطبع حين نسمي شخصًا ما «فاعلًا أخلاقيًّا» moral agent بهذا المعنى فإن ذلك لا يتضمن حكمًا إيجابيًّا بأنه شخص مسئول أو عقلاني، أو أنه بالفعل يتصرف بطريقة صائبة أو عادلة أو أخلاقية؛ فالفاعل الأخلاقي قد يكون فعله مستأهلًا للوم أو حتى إجراميًّا؛ فالحكم على أفعاله من الوجهة الأخلاقية سيتوقف على بواعث أفعاله (أي على الأهداف التي ينتويها من أفعاله)، وبخاصة على الطريقة التي نظر بها إلى الآخرين ومصالحهم وأخذها بالاعتبار.
في كتابه البالغ الأهمية من وجوهٍ عديدة «نظرية في العدالة» يُدخِل جون رولز John Rawls فكرة «خطة الحياة» plan of life (استفادها من جوسيا رويس، انظر حاشية ١٠ ص٤٠٨) ليصور الأغراض والأهداف التي تجعل من الإنسان «شخصًا أخلاقيًّا موحَّدًا واعيًا». هذه الفكرة عن خطة حياة من صنع الإنسان تنتمي إلى العالم ٣ أقترح لها شيئًا من التعديل: فليست وحدةُ خطةِ الحياة أو ثباتها هو ما يلزم لتأسيس وحدة النفس؛ بل حقيقة أن وراء كل فعلٍ يُتَّخَذ هناك خطة، هناك مجموعة من التوقعات (أو من النظريات)، والأهداف والاختيارات؛ خطة مفتوحة للتطور والنضج، وحتى في بعض الأحيان (وإن ندرت) للتغيير الجذري على أثر استبصارٍ نظري جديد مثلًا. هذه الخطة النامية هي، بحسب رولز، ما يسبغ الوحدة على الشخص ويحدد طابعنا الأخلاقي إلى حد كبير. وهذه الفكرة قريبة الشبه جدًّا من فكرتي القائلة بأن أنفسنا مُرساة في العالم ٣؛ وإنْ وجب أن أؤكد بدرجة كبيرة، إلى جانب أهدافنا وخياراتنا، على توقعاتنا ونظرياتنا عن العالم (عن العوالم ١، ٢، ٣) التي يعتنقها الشخص منا في وقت بعينه. إن امتلاكنا لمثل هذه الخطة (المتغيرة)، أو لمجموعة النظريات والخيارات، هو ما يجعلنا نتخطى أنفسنا، أي نتجاوز رغباتنا وميولنا الغريزية (Neigungen، كما يسميها كانْت).

والهدف الأكثر شيوعًا في مثل هذه الخطة الحياتية هو مهمة المرء في رعاية نفسه ورعاية مَن يَعُولهم. ويمكن أن نصف هذه المهمة بأنها أكثر الأهداف ديمقراطيةً، إذا أزلتها ستكون قد جعلت الحياة بلا معنًى عند الكثيرين. ليس يعني هذا أنْ ليس ثمة حاجة إلى دولة رفاهية لكي تساعد أولئك الذين لا ينجحون في هذه المهمة، بل لعله أكثر أهمية أن على دولة الرفاهية ألا تخلق مصاعب غير معقولة أو مصاعب كأداء لأولئك الذي يحاولون أن يجعلوا هذه المهام الأكثر طبيعية وديمقراطية جزءًا كبيرًا من أهدافهم في الحياة.

ثمة جانبٌ بطولي كبير في الحياة الإنسانية. وأعني به تلك الأفعال التي تتسم بالعقلانية غير أنها تُتَّخذ لأهدافٍ تصطدم مع مخاوفنا، ومع غرائز الأمن والسلامة بداخلنا.

تسلُّقُ الجبال الشاهقة، إفرست على سبيل المثال، يبدو لي دائمًا تفنيدًا لافتًا لوجهة النظر المادية عن الإنسان. فأن تُجابِهَ الصعابَ لذاتها، وتواجه الأخطار الماحقة من أجل ذاتها فحسب؛ وتمضي في ذلك إلى حد الإنهاك التام: كيف يمكن لهذه الأفعال المضادة لكل ميولنا الطبيعية أن تفسَّر في ضوء المذهب الفيزيائي أو السلوكي؟! لعل المذهبين أن يفسرا حالاتٍ قليلة يطمح فيها المُخاطِر إلى المجد والشهرة. غير أن هناك كثيرًا من المتسلقين، في الماضي والحاضر، يزدرون الشهرةَ ولا يبالون بالصيت: إنهم يعشقون الجبال، ويحبون قهر الصعاب من أجل قهر الصعاب. إنه جزء من خطة حياتهم.

أليس شيءٌ شبيهٌ بذلك هو جزء من خطة حياة كثير من عظام الفنانين والعلماء؟ وأيًّا ما كان تفسير ذلك، حتى لو كان التفسير هو الطموح، فهو ليس تفسيرًا فيزيائيًّا؛ بل يبدو التفسير لي هو أن العقل — بشكلٍ ما — الذات الواعية … قد تمت لها السيادة وتولت زمامَ الأمر.

وإذا طُلِبَ مني أن أكشف الهيكل الصريح لهذا الفصل، فإن عليَّ أن أقول إنه يبدو لي أنْ ليس ثم ما يدعونا إلى الاعتقاد بوجود روحٍ خالدة، أو جوهر نفسي يمكن أن يوجد بمعزل عن الجسم (وأترك الاحتمالَ مفتوحًا، والذي أعتبره بعيدًا، بأنْ تُغير نتائجُ البحث النفسي حكمي في هذه النقطة). غير أنه يجب أن ندرك أن الحديث عن نفسٍ جوهرية على سبيل الاستعارة هو أمرٌ لا بأس به على الإطلاق، خاصة إذا حرصنا على أن نستبدل بالجوهر «عمليات» كما تنبأ هيرقليطس. إننا بالتأكيد نَخبُر أنفسَنا ﻛ «جوهر»، بل يبدو أن فكرة الجوهر نفسها مستمدة من هذه الخبرة؛ وهو ما يفسر لماذا تبدو هذه الفكرة شبيهة جدًّا بفكرة الروح. ولعل أسوأ ما في هذه الاستعارة هو أنها لا تُبرِز الطبيعة الناشطة للنفس. وإذا كان المرء من الرافضين لمذهب الماهية essentialism فلا يزال بوسعه أن يصف النفسَ على أنها «شبه جوهر» quasi-essence، أي على أنها ذلك الشيء الذي يبدو جوهريًّا لوحدة الشخص المسئول واستمراريته.

إن ما يميز النفسَ (بعكس العمليات الكهروكيميائية للدماغ والتي تعتمد عليها النفس اعتمادًا متبادلًا) هو أن جميع خبراتنا وثيقة الارتباط ومدمجة، لا بخبرات الماضي فحسب بل أيضًا ببرامج فعلنا المتغيرة، وتوقعاتنا، ونظرياتنا، أي بنماذجنا الشارحة عن البنية المادية والثقافية، الماضية والحاضرة والمستقبلة، متضمنةً «المشكلات» التي تطرحها علينا لتقييمها ولتطوير برامج فعلنا في ضوئها. غير أن كل هذه الأشياء تنتمي، جزئيًّا على الأقل، إلى العالم ٣.

هذا التصور العلائقي للنفس يظل غير كافٍ تمامًا، وذلك بسبب الطبيعة الناشطة والتكاملية الصميمة للنفس. وحتى بالنسبة للإدراك الحسي والذاكرة فإن نموذج «المُدخل» (وربما «المُخرَج» أيضًا) ليس وافيًا تمامًا؛ إذ إن كل شيء يعتمد على برنامج متغير باستمرار: فهناك انتقاءٌ نَشِط، وهضمٌ نشط جزئيًّا، وتَمَثُّلٌ نشط؛ وكلٌّ من هذه العمليات يعتمد على تقييماتٍ نَشِطة.

١  قارن كتابي (1974(z7); 1974(z8); 1974(z4); 1975(r) and 1976(g)).
٢  انظر كتابي 1975(r) و1976(g). قارن أيضًا هامش ٢ لقسم ٣٠.
٣  Dobzhansky (1975), p. 411.
٤  ربما ينبغي أن أذكر، بدايةً، أنني في مناقشتِي للنفس لن أعرِض لمسائل من حقل علم النفس المرضي أو من المشكلات التي تطرحها النتائج البحثية الخاصة بشَطر الأدمغة بواسطة بَضْع الصوار commissurotomy. من أجل عرضٍ لموضوع الدماغ المشطور (المقسوم)، انظر إكلس، الفصل E5.
٥  من الملامح الواضحة للعقل، والمحيرة رغم ذلك، أنني أنا المطَّلِع الوحيد على خبيئة خبراتي وأفكاري وإحساساتي ونياتي. إنها خاصتي وأنا أمتلكها على نحو مباشر، في حين يتعين عليكَ أنت أن تمر بعملية تأويل لمنطوقاتي وأفعالي لكي تعرفها أو تحزر بها. إنها في حوزتي ولديَّ إليها «مَنفَذًا» أنا صاحبُ «الامتياز» الوحيد فيه. هذه هي خلاصة فكرتَي «الخصوصية» privacy و«المنفذ ذي الامتياز» priviledged access، وهما مفهومان على جانب كبير من الأهمية في فهم الحياة الداخلية للإنسان. (المترجم)
٦  (1739), Book I, Part IV, Section VI (Selby-Bigge edition (1888), p. 251). وفي Book III (1740), Appendix (1888), p. 634 يخفِّف هيوم نغمته قليلًا؛ غير أنه يبدو في هذا الملحق متناسيًا تمامًا «تقريراته الموجبة» positive assertions هو شخصيًّا، مثل تلك الموجودة في Book II, (1739) المشار إليها في الحاشية التالية.
٧  امتناع، محال. (المترجم)
٨  (1739), Book II, Part I, Section XI (1888, p. 317). وثمة فقرة مثيلة في (1739), Book II, Part II, Section XI (1888, p. 339)، حيث نقرأ: «وهو دليل على … أننا طوال الوقت على وعي وثيق بأنفسنا، وبعواطفنا وانفعالاتنا …»
٩  (1739), Book II, Part III, Section I (1888, p. 403; see also p. 411). وفي موضع آخر ينسب هيوم لنا ككائنات فاعلة «دوافعَ وطبعًا»، والتي منها «يستطيع الملاحظ بصفة عامة أن يستدل على أفعالنا». انظر مثلًا (1739), Book II, Part III, Section II (1888, p. 408). انظر أيضًا الملحق (1888, pp. 633 ff.)
١٠  انظر أيضًا متن الحاشية ٧٥ لقسم ٣٧، من أجل نقدٍ لهذه النظرية.
١١  يشجب فيرابند Feyerabend عادة الاحتكام إلى اللغة المشتركة بوصفها مصدر الحقيقة، فيقول: «لكي نناقش عيوب منظمة فكرية سائدة مثل تلك التي تعاكسها «اللغة المشتركة» ليس يكفي أن نعرض هذه المنظومة على محك الواقع ونقارنها ﺑ «الوقائع» facts، فكثير من مثل هذه الوقائع قد تمت صياغتها في حدود هذه اللغة، وبالتالي تم جعلها متحيزة أصلًا إلى جانبها. هناك أيضًا وقائع كثيرة تظل، «لأسباب إمبيريقية» for empirical reasons، بعيدة عن منال شخص يتحدث لغة معينة، ولا يجد إليها سبيلًا ما لم يتم، لبلوغها، إدخال لغة أخرى». (Paul K. Feyerabend, Materialism and the mind-body problem, In: C. V. Borst, ed., The mind/brain identity theory, 1970, p. 145). رغم أهمية المنطويات التاريخية الخفرية للغة العادية وفائدتها لنا في الحديث والفكر، إلا أنها تنقلب عبثًا ضارًّا عندما تتغلغل دون وعي منا في صميم إدراكنا الراهن للأشياء وتفرض قوالبها ونماذجها على رؤيتنا الحالية للعالم. يقول برتند رسل في «حكمة الغرب»: «ذلك لأن اللغة العادية هي مستقر أجزاء متناثرة من التأملات الفلسفية الموروثة من الماضي. وهذا أمر يستحسن أن يتذكره مِن آنٍ لآخرَ أولئك الذين يؤلهون الكلام العادي وكأنه يعلو على كافة قواعد البحث والاستقصاء.» (المترجم)
١٢  أو «العفريت في الآلة». (المترجم)
١٣  The Body of Mechanism.
١٤  كما لاحظ آخرون أيضًا من الصعب أن تُعزَى الخرافة إلى ديكارت؛ فهي أسطورة شعبية قديمة وليست أسطورة فلسفية محدَثة كما يسميها رايل (١٩٥٠م، ص٧٧) (انظر قسم ٤٤ لاحقًا).
١٥  انظر الحوار IV. سوف نَعرِض لنظرية الربان لاحقًا؛ انظر مثلًا قسمَي ٣٣ و٣٧. وربما أقول هنا إنني بينما أبقى معارضًا ﻟ «الماهوية»، أي لطرح أسئلة «ما هو» ومحاولة الإجابة عنها، فأنا رغم ذلك أعتقد في شيء قد يسمَّى الطبيعة «شبه الماهوية» quasi-essential (أو شبه الجوهرية) للنفس؛ فالنفس موصولة بما يُسمَّى عادة بالطبع أو الشخصية. إنها تتغير: إنها تعتمد جزئيًّا على النمط الجسمي للشخص، وأيضًا على مبادأته وإبداعيته الفكرية، وعلى نموه. ورغم ذلك فأنا أعتقد أننا عملياتٌ لا جواهر سيكوفيزيقية.
النقطة هنا هي أن فكرة الماهية هي في الحقيقة مأخوذة من فكرتنا عن النفس (أو الروح، أو العقل)؛ نحن نَخبُر أن هناك مركزًا متحكِّمًا مسئولًا لنا، لأشخاصنا؛ ونحن نتحدث عن ماهيات (ماهية، روح، الفانيليا essence of vanilla مثلًا) أو أرواح (روح النبيذ) بالمماثلة analogy مع أنفسنا. هذه الامتدادات قد تُرفَض على أنها ضروب من الأنْسَنَة (الأنثروبومورفيزم). ولكن لا بأس في أن يكون المرء أنثروبومورفيًّا في تناول الإنسان (لا بأس في الأنسنة عند تناول الإنسانكما قد ذَكَّرَنا هايِك).
ومن عجب أن الماهوية الأرسطية منسجمة تمام الانسجام مع الكائنات البيولوجية التي لديها ماهية بمعنى برنامج جيني. وهي تلائم أيضًا الأدوات صنيعة الإنسان التي ماهيتُها هي غرضها: ماهية الساعة أن تقيس الوقت (الأداة هي عضوٌ خارج الجسد). هذه التعليقات لا تتضمن قبولًا للمذهب الماهوي لطرح أسئلة «ما هو» وإن كان من المفيد في البيولوجيا وفي مجال الأدوات أن تُطرح أسئلة غائية من صنف «لأي شيءٍ هذا».
١٦  يُخبِرنا بنفيلد (١٩٧٥م، ص٣٩) أنه: «في نوبة التلقائية (الصرعية) يصبح المريض فجأة فاقدًا للوعي، ولكن لأن الآليات الأخرى في الدماغ تستمر في أداء وظيفتها فإنه يتحول إلى آلة ذاتية الحركة؛ فقد … يستمر في أداء الغرض، أيا ما كان، الذي كان عقله بصدد أن يودِعه إلى آليته الحسية-الحركية التلقائية حين توقفت الآلية الدماغية الأعلى عن العمل. أو قد يَتَّبِع نمطًا سلوكيًّا مكرورًا اعتياديًّا. غير أنه في جميع الأحوال فإن الآلة الذاتية الحركة قلما تتخذ قرارات لم تكن لها أي سابقة. فإذا كان المريض س يقود سيارة … فقد يكتشف لاحقًا أنه قد اخترق إشارةً حمراء أو أكثر».
١٧  كثيرًا ما أستخدم كلمتَي «نزوع» و«استعداد» على التعاوض، كترجمة لكلمة disposition. (المترجم)
١٨  ثمة ظاهرة في طب الأعصاب يقال لها «الطرف الشبحي» (الوهمي) phantom limb؛ وتعني تلك الخبرة الذاتية بإحساسات آتية من طرفٍ لا وجود له، طرفٍ قد تم بَترُه! ويفسره علماء الأعصاب بأنه على الرغم من أن البتر يزيل الطرف نفسه فإنه لا يحطم التمثيل العصبي للطرف وبخاصة في لحاء المخ، لذا فإن كثيرًا من مبتوري الطرف يَخبرون مشاعر وإحساسات تبدو كأنها نابعة من الطرف الوهمي الذي لا وجود له! (المترجم)
١٩  من المثير أن حجج رايل ضد الاستبطان قريبة الشبه بحجج أوغست كونت، وأن رد جون ستيوارت مِل على كونت استبَقَت مدرسة فرزبورج. انظر أ. كونت (٣١-١٨٣٠م) المجلد الأول، ص٣٤–٣٨، وجون ستيوارت مِل 1865(a) الطبعة الثالثة، ١٨٨٢م، ص٦٤). وانظر وليم جيمس (١٨٩٠م) المجلد الأول ص١٨٨ وما بعدها.
٢٠  انظر قسم ٤٦ لاحقًا، المتن لحاشية ٣٠.
٢١  أي أن ثمة نفسًا تمتلك دماغَها وتعمل به. (المترجم)
٢٢  جلبرت رايل (١٩٤٩م)، الفصل الرابع، (٧): الروغان المنظَّم للأنا.
٢٣  ر. ل. فانز (١٩٦١م)، ص٦٦. انظر أيضًا شارلوت بولر، ﻫ. هِتزر، ب. ﻫ. هدور-هارت (١٩٢٧م) وشارلوت بولر (١٩٢٧م)؛ هذه الدراسات الأقدم حَصَّلَت (بمناهج أقل تعقيدًا) نتائج إيجابية فقط في أعمارٍ أكبر من شهرٍ واحد. أما فرانز فحَصَّل نتائج إيجابية في عمر خمسة أيام.
٢٤  أو «حياتية» animism: اعتقاد الإنسان البدائي أن الأرواح حاضرة في جميع الموجودات الطبيعية (لالاند). (المترجم)
٢٥  بمعنى أن المادة حية. (المترجم)
٢٦  يبدو لي أن بيتر ستروصن (١٩٥٩م، ص١٣٦) على حق عندما اقترح أن المرء يجب أن تكون لديه الفكرة العامة ﻟ «الشخص» قبل تَعَلُّم استخدام كلمة «أنا» (غير أني لستُ على يقين من أن هذه الأولوية يمكن أن توصف كأولوية «منطقية»). وهو أيضًا على حق في اعتقادي عندما اقترح أن هذا يساعد في حل ما يسمى «مشكلة العقول الأخرى». إلا أنه يحسن بنا أن نتذكر أن الميل القديم لتفسير جميع الأشياء على أنها أشخاص (ما يسمى الإحيائية أو حيوية الهَيُولَى) بحاجة إلى تصحيح من وجهة نظر واقعية؛ فالموقف الثنائي أقرب إلى الحق. انظر محاضرة وليم نيل الممتازة «عن امتلاك عقل» On having a mind، (١٩٦٢م، أعلى ص٤١)، وانظر أيضًا مناقشتي لأفكار ستروصن في قسم ٣٣.
٢٧  انظر كتابي 1963(a)، الفصل الأول، وبخاصة ص٤٧.
٢٨  الطفل يبتسم؛ لا شعوريًّا بدون شك. غير أن هذا نوع من الفعل (العقلي؟) إنه شبه-غائي quasi-teleological، ويوحِي بأن الطفل يعمل بالتوقع القَبْلي a priori سيكولوجيًّا بأنه محاطٌ ﺑ «أشخاص»؛ أشخاص بوسعهم أن يكونوا ودودين أو عدائيين، أصدقاء أو غرباء. هذا، فيما أظن، يأتي سابقًا على الوعي بالذات. وأقترح ما يلي كمخططٍ حدسي افتراضي للنمو: أولًا، مقولة الأشخاص؛ ثم التمييز بين الأشخاص والأشياء؛ ثم اكتشاف المرء جسدَه الخاص؛ تعلُّم أن هذا خاصته؛ ثم، عندئذٍ فقط، حقيقة كونه نفسًا (ذاتًا).
٢٩  انظر حالة Ginie، المعروضة في فصل E4، والإحالة هناك إلى كورتيس وآخرين (١٩٧٤م).
٣٠  منذ كتبتُ هذا القسم لَفَتَ جيريمي شيرمر انتباهي إلى حقيقة أن آدم سميث (١٩٥٩م) قدم فكرة أن المجتمع «مرآة» تُمَكِّن الفردَ من أن يرى و«يفكر في طبعه الخاص، في لياقة أو عدم لياقة عواطفه وسلوكه الخاص، في جمال عقله الخاص أو تشوهه»، الأمر الذي يوحِي بأنه إذا «أمكن لمخلوق بشري أن يكبر إلى الرجولة في مكان منعزل، دون أي تواصل مع جنسه» فإنه لن يمكنه أن يؤسس نفسًا (انظر سميث ١٩٥٩م الجزء الثالث، قسم ٢؛ الجزء الثالث، الفصل الأول في الطبعة السادسة والطبعات التالية). وقد اقترح شيرمر أيضًا أن هناك تشابهات معينة بين أفكاري هنا و«النظرية الاجتماعية للنفس» لهيجل، وماركس وإنجلز، وبرادلي والبراجماتي الأمريكي ج. ﻫ. ميد.
٣١  أضفتُ كلمات «أو شيء شبيه بذلك» بالنظر إلى ما يقوله وُرف Whorf عن الزمن وهنود الهوبي.
٣٢  يذكر بنيامين ورف أن لغة قبائل الهوبي لا تشتمل على أي تصوُّر للزمن كبُعدٍ من الأبعاد. ولما كان ورف يدرك الأهمية المحورية لمفهوم الزمن في الفيزياء الغربية (إذ بدونه لا تكون سرعة ولا عجلة سرعة) فقد خلص إلى تصوُّرٍ عما تشبه أن تكونه الفيزياء الهوبية، فقال إنها لَتكون مختلفة عن الفيزياء الإنجليزية اختلافًا جذريًّا، بحيث إن من المحال تقريبًا على عالِم الفيزياء الإنجليزي وعالِم الفيزياء الهوبي أن يفهم أحدهما الآخر. غير أن هناك دراسات أحدث للغة الهوبي دلت على أنها تتضمن عدة أزمنة وتشتمل على وسائل معقدة لتسجيل الوقائع والأحداث (انظر فصل «النسبية اللغوية» في كتابنا «صوت الأعماق قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٤م). (المترجم)
٣٣  ج. إكلس (١٩٧٠م)، ص٦٦ وما بعدها. انظر أيضًا شكل E8-8.
٣٤  انظر مارك ر. روزنزفيج وآخرون 1972(a)؛ ب. أ. فيرشمين وآخرون (١٩٧٥م)؛ وانظر أيضًا قسم ٤١ لاحقًا.
٣٥  numerical identity. وقد آثرتُ أن أترجمها بالهوية الإحصائية لا العددية، ائتناسًا باللفظة واجتنابًا للغموض والالتباس. (المترجم)
٣٦  الحجر (stone) وحدة وزن إنجليزية تعادل ١٤ رطلًا. (المترجم)
٣٧  انظر حاشية ٢٣ لقسم ٣١. يقارِن ر. ل. فانز (١٩٦١م) استجابة الطفل الرضيع باستجابة فرخ الطائر؛ انظر أيضًا كتابي 1963(a)، ص٣٨١.
٣٨  ولكن انظر حاشية ٣٠ لقسم ٣١.
٣٩  كلياتنا. (المترجم)
٤٠  قد تمثل هذه حجة جيدة ضد نظرية الشخص لستروصن، وبخاصة إذا امتدت التجربة الفكرية لتشمل استبدال الجسد كله (بالتدريج)! (المترجم)
٤١  DK = Diels & Krajz (1951-2).
٤٢  قارن أنتوني كوينتون (١٩٧٣م)، ص٩٣.
٤٣  في هذه النظرية (انظر ثولِس وفيزنر ١٩٤٧م) يُقترَح أن هناك ثنائية عقل-جسم، وأن أفعال الإرادة (فعل العقل على الجسم) والإدراك الحسي (جسم يفعل على العقل) هما الحالتان النموذجيتان للتفاعل. فتحريك أطرافنا إراديًّا والإدراك الحسي المعتاد هما حالتان خاصتان ينتمي فيهما الجسم والعقل إلى نفس الشخص. ويُقترَح أن ظاهرة الجلاء البصري clairvoyance (أو الإدراك المتجاوز للحواس) والتحريك عن بُعد telekinesis هما حالتان أكثر عمومية لنفس النوعين من التفاعل. هنا تؤثر الأجسام في العقول بدون أن تُشرِك الحواس، والعقول تؤثر في الأجسام بدون أن تُشرِك الإعصاب innervation العضلي (التغذية العصبية للعضلات). لن أقول المزيد هنا عن النظرية بسبب قرارنا المعلَن في التصدير بألا نعرِض للباراسيكولوجيا. انظر أيضًا بيلوف (١٩٦٢م)، ص٢٣ وما بعدها.
٤٤  يُصِرُّ جون بيلوف على الدلالة الحاسمة للباراسيكولوجيا في مشكلة الجسم-العقل، كمؤيِّدٍ للثنائية التفاعلية ومفنِّدٍ دامغ للمذهب المادي؛ فيقول إذا صحَّ أنه في حالات استثنائية قد يتأتى لنا أن نعرف أشياء ليس لدينا منفذٌ حسي إليها وما كنا لنعرفها بالاستدلال، فإنه بذلك تستوي لدينا على الأقل مماثلة (أنالوجي) لكيف يمكن للعقل أن يستخلص، في الإدراك العادي، معلومات من اللحاء الحسي لدماغنا على نحو مباشر. وبالمثل إذا صحَّ في حالات استثنائية أننا قد يتأتَّى لنا أن نؤثر في أحداث في العالم الخارجي ليس لدينا إليه منفذ فيزيائي، فإنه يستوي لدينا ثانيةً أنالوجي لكيف يمكن للعقل، في الفعل الحركي العادي، أن يتحكم في اللحاء الحركي لدماغنا. حقًّا إن الدليل الباراسيكولوجي لَيُظهِر العقلَ كعاملٍ فعَّال في العالم الواقعي، لا كمجرد ظاهرة ثانوية خاملة، وبذلك يضع موقف المذهب الفيزيائي موضع الشك (John Beloff, The Mind-Brain Problem, The Journal of Scientific Explanation, vol. 8 no. 4, 1994). (المترجم)
٤٥  من البيِّن أن التجربة الفكرية لزراعة الدماغ تدحض نظرية الشخص لستروصن. (المترجم)
٤٦  بعد أن عاد أوديسيوس إلى قصره بعد تجوال عشرين سنة، متخفيًا في أسمال شحاذ، وانتقم من خائنيه، آن له أن يكشف لزوجته بنيلوب عن شخصه الحقيقي. ولقد كان يخالجها شيء من الشك في أمره إذ تقول لابنها تليماك: «… ولكن إذا كان حقًّا أوديسيوس فإن لنا علامات هي سر ذات بيننا ولا يعرفها أحد سوانا.» وبعد أن اختبرته بتمويه ذكي بأن طلبت من يوريكليا أن تحضر سرير زواجهما من المخدع ليستريح، أنبأها بما تعلمه من أن سريره لا يمكن لأحد أن يزحزحه لأن أوديسيوس كان قد اتخذ سريره في جذع زيتونة هائلة. هنالك أيقنَت بنيلوب أنه حقًّا زوجها أوديسيوس؛ إذ لا يعلم هذا السر أحد غيرهما وغير يوريكليا. (المترجم)
٤٧  يفيد مبدأ «تكافؤ الاستعداد» equipotentiality في نشاط النسيج الدماغي أنه (داخل حدودٍ معينة) فإن بوسع جزء من اللحاء المخي أن يضطلع بأداء وظيفة جزء آخر. (المترجم)
٤٨  عمل فريق. (المترجم)
٤٩  يفيد التحليل القياسي للمعرفة (بهذا المعنى الذاتي) أن المعرفة هي «الاعتقاد الصادق المبرَّر» justified true belief. وطبقًا لهذا التحليل فإن هناك شروطًا ضرورية necessary ثلاثة للمعرفة: (١) شرط الاعتقاد belief. (٢) شرط الصدق (الحق) truth. (٣) شرط التبرير justification (أي أن يكون لدى المرء أسباب عقلية وجيهة تبرر اعتقاده). ويدعي التحليل القياسي أيضًا أن هذه الشروط الثلاثة كافية sufficient حين تؤخذ مجتمعةً أي أنه ليس ثمة متطلب آخر ينبغي توافره لكي تكون معرفة. (المترجم)
٥٠  بيتر ميداوار 1974 (b)، ص١٧٩؛ انظر أيضًا كتابه (١٩٧٧م).
٥١  قارن جون بيلوف (١٩٧٣م)، ص١٨٦–١٩٧ و٢٠٧–٢٠٩ والمراجع التي يقدمها هناك.
٥٢  في أمثل استخدام لها تعني كلمة dyslexia ضربًا محددًا من عجز التعلم يصيب أطفالًا يعانون من صعوبة دالة في القراءة رغم عدم وجود أي مؤشر لتخلف عقلي أو اجتماعي ولا تلف دماغي ولا اضطراب انفعالي يفسر ذلك. (المترجم)
٥٣  انظر قسم ٢٩ سابقًا.
٥٤  This happy breed of men.
٥٥  هكذا يقول جون بيلوف (١٩٦٢م) في أحد المواضع: «… كل تلك العمليات الارتكاسية (المنعكسة) التي يعتمد عليها الإبصار الناجح: تكيف العدسة، تَقَلُّص الحدقة، التقارب بكلتا العينين، حركة العين … إلخ، كلها يحدث على مستوى غير واعٍ.»
٥٦  ذهب شرودنجر في الحقيقة أبعد من هذا: لقد اقترح أنه، عند أي كائن عضوي، كلما بَرَزَت مشكلة جديدة فستؤدي إلى محاولات حلول واعية. هذه النظرية جريئة أكثر مما ينبغي كما بين بيتر ميداوار (١٩٥٨م) في مراجعة لكتاب شرودنجر (١٩٥٨م). أشار ميداوار إلى أن جهاز المناعة يواجَه طول الوقت بمشكلات جديدة، ولكنه يحلها على نحو غير واعٍ. وقد أطلعني ميداوار على بعض المراسلات بينه وبين شرودنجر يوافق فيها شرودنجر على أن ميداوار قد أتى بمثالٍ مضاد لأطروحته. انظر أيضًا حاشية ٥٨ لقسم ٣٨.
٥٧  انظر قسم ٢٩ سابقًا.
٥٨  يقدم ميشيل بولاني (١٩٦٦، ١٩٦٧م) في الحواشي الثلاث الأولى من كتابه (١٩٦٧م)، ص٩٥–٩٧، بعض المراجع المثيرة في هذا الموضوع. انظر بخاصة: ر. س. لازاروس ور. أ. مكليري (١٩٤٩، ١٩٥١م)؛ س. و. إريكسون (١٩٦٠م)؛ ر. ف. هيفيرلين وت. ب. بيريرا (١٩٦٣م). يتبنى أغلب هؤلاء نظرية المنعكَس الشرطي مثلما انتُقِد هنا في قسم ٤٠ لاحقًا. ينبغي أن نجعل سؤال أي أنواع المهارات يُكتسَب بالانتباه الواعي (انظر متن الحاشية ٥٦ لقسم ٣٦) وأيُّها قد يُكتسَب لا شعوريًّا ينبغي أن نجعل هذا السؤال موضوعًا لاستقصاء نظري وتجريبي أكثر نظامية.
٥٩  من أجل تحليل أكثر تفصيلًا انظر كتابي 1975 (p).
٦٠  أهم الحجج الأخرى هي ما يطلق عليه بوبر «مشكلة هيوم»: أي مشكلة الاستدلال الاستقرائي inductive inference، وهي مشكلة عتيدة مفادها أنه، على عكس الاستدلال الاستنباطي الذي تصدق نتيجته بالضرورة إذا ما صدقت مقدماته، فإن الدليل الاستقرائي ليس قاطعًا على هذا النحو، فقد تكون مقدماته صادقة ونتيجته رغم ذلك كاذبة. تتصف النظريات العلمية بأنها قضية «كلية» (صيغتها «كل أ هو ب»)، وهي صيغة تتجاوز الأدلة المستمدة من الخبرة، فالقضية المقررة هنا لا تلزم عن أي عدد متناهٍ من ملاحظتنا لكل من «أ» و«ب» وإنما الذي يلزم هو فقط قضايا جزئية (صيغتها «بعض أ هو ب»)، إذ ليس هناك استحالة منطقية في أن «أ» القادمة في رتل الملاحظة لن تكون «ب». يترتب على ذلك أن ليس هناك قضية علمية كلية يمكننا أن نبرهن على أنها صادقة بالضرورة؛ فالقوانين العلمية دائمًا تتجاوز الملاحظات الممكنة ودائمًا تتخطى الخبرة المتاحة (Popper, K. R., The logic of Scientific Discovery, Hutchinson of London, London, 1976, p. 63) والاستدلال من التجربة إلى القوانين الكلية ليس دليلًا استنباطيًّا صحيحًا منطقيًّا، ولا هو استدلال يمكن تبريرة بالتجربة، لأن الانتقال من «الادلة الاستقرائية قد صدقت فيما مضى» إلى «إذن الادلة الاستقرائية سوف تسري في المستقبل» هو نفسه استدلال استقرائي. ومن ثَم فإن أي تبرير من هذا الصنف سيكون دائريًّا، أي منطويًا على «دور منطقي».
وبتعبير آخر يمكننا القول بأن الاستدلال الاستقرائي لا يمكن أن يكون صحيحًا إلا إذا افترضنا الاطرادات التي شملت الحالات التي تمت ملاحظتها هي اطرادات سارية على الحالات التي لم نلاحظها. ولكن هذا الافتراض ليس حقيقة «قبلية» a priori ينطوي إنكارها على تناقض، ولا هو افتراض تبرره التجربة. إنه في الحقيقة «قفزة إيمانية» ليس لها سند في العقل المحض ولا في التجربة الحسية، ولا يمكن تبريرها بغير دور منطقي ظاهر. (المترجم)
٦١  أو «مُلقَّحة بالنظرية». (المترجم)
٦٢  تذهب النظرة الساذجة عن العلم إلى أن العلماء «يلاحظون» الطبيعة ويجمعون ملاحظتهم ليكونوا بها صورة صادقة للأشياء: مركبًا من كل الحقائق وليس من شيء غير الحقائق. وبعبارة أخرى تذهب النظرة التقليدية للمنهج الاستقرائي إلى أننا نبدأ بجمع ملاحظات خالصة، دون فروض مسبقة، تقدم لنا الوقائع بطريقة محايدة نزيهة. ومن تكرار هذه الملاحظات تبدأ أنماط معينة في الظهور وتؤدي إلى تكوين فروض عامة تربط بعض الظواهر الملاحظة. عندئذٍ نجري الاختبارات التجريبية التي تُثبت صدق الفروض فترقى إلى منزلة النظريات. ورغم ذلك فقد كان على العلماء أنفسهم أن ينفقوا زمنًا حتى يُدرِكوا بوضوح أن الملاحظة لكي تكون ذات معنًى يجب أن تسترشد بنظرية. وقد ظل كثير من الناس يصرون على أن الملاحظات يجب أن تأتي أولًا، وبعدها، وبناءً عليها، يُمكن للنظريات أن تنشأ. ولكن ما يحدث في عامة الأحوال هو أنَّ نظريةً ما هي التي تخبر العالم على وجه التحديد أي الملاحظات هي الجديرة بأن يقوم بها. أضف إلى ذلك أن النظرية تمد العالم بالمفردات اللغوية التي يصف بها ملاحظته؛ فللأشياء والأحداث والمواقف التجريبية ما لا ينتهي من الخواص القابلة للملاحظة والوصف. إن النظريات هي التي تحدد للعالم أي هذه الخواص هي التي تعنيه وتتصل بموضوعه خلال وحدة محددة من العمل العلمي. واللغة التي تستعمل لكي تجسد الملاحظات وتصف النتائج التجريبية هي ذاتها شيء تحدده نظرية معينة وتقدر له شكله وصفته مقدمًا. فتُوصَف اللغة التي يستخدمها عالم ملتزم بنظرية معينة بأنها لغة «مُحَمَّلة بالنظرية» theory-laden أو مُشرَبة بالنظرية theory-impregnated. (انظر في تفصيل ذلك كتابنا «كارل بوبر، مائة عام من التنوير ونصرة العقل»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٢م). (المترجم)
٦٣  انظر أعمالي 1934(b), 1959(a), 1963(a), and 1972(a).
٦٤  مع كل هذا قارِن الفصل الأول من كتابي 1963(a)، وبخاصة ص٤٦–٤٨؛ وانظر أيضًا كتابي 1959(a)، ص٤٢٠–٤٢٢.
٦٥  تجد نقدًا مثيرًا للنظرية عند روبرت إفرون (١٩٦٦م) (ينتقد بحثُه بشكلٍ رئيسي معنى المفاهيم الخاصة بالنظرية، في حين أفضل أنا أن أنقد «صدق تقريراتها»). ثمة تناول آخر حديث وممتاز هو ر. جيمس (١٩٧٧م).
٦٦  أثبتت الدراسات الحديثة في الذاكرة وآلياتها أن الذاكرة في حقيقة الأمر لا تقوم بعملها كما يقوم شريط التسجيل؛ فنحن لا نسجل بالتفصيل كل حدث يجري في حياتنا. ذلك أن الدماغ يواجه في كل لحظة بكم هائل من «المثيرات» stimuli الواردة أو «المدخل» input البيئي يتجاوز قدرته التخزينية، الأمر الذي يحتم على الذاكرة أن تكون «انتقائية» مثلما يحتم على الانتباه نفسه أن يكون انتقائيًّا يصطفي من المثيرات ما يعنيه ويضرب صفحًا عن بقية المثيرات بل يصرفها عن ساحة الوعي بطريقة حاسمة وآليات نشطة. يتعين على الدماغ أن يقوم بعملية «تصفية» دقيقة للمثيرات الواردة حتى يتسنى له أن يعمل بالطريقة التي يعمل بها. الذاكرة إذن عملية انتقائية. وهناك أنظمة منفصلة للذاكرة القريبة والذاكرة البعيدة، بحيث لا يعوزنا أن نسجل كل حدث قريب تسجيلًا مستدامًا. وحتى عندما تنقل المادة من الذاكرة القريبة إلى الذاكرة البعيدة فإن عناصرها البارزة فقط هي ما يتم تسجيله. هكذا يتبين أن الذكريات هي في الحقيقة انطباعات إجمالية قَلَّما تتسم بالدقة الوقائعية. تتضمن الذكريات حقا عناصر من اعادة البناء الخيالية، وربما الإبداعية، تنطوي عادة على شيء من الاختلافات و«الأراجيف» confabulations. تشير الدراسات الحديثة إلى أن الذاكرة بطبيعتها غير دقيقة. وهناك أسباب وجيهة تجعلها غير دقيقة. إن الذاكرة التي تقبع في الدماغ هي شيء «تمت معالجته» processed. ومن ثَم فإن المخططات المعرفية congnitive schemata الموجودة سلفًا من شأنها أن تؤثر على التسجيل النهائي للأحداث. وبتعبير آخر يمكننا القول بأن الذكريات ليست شيئًا نقيًّا مبرَّأً لم تمسسه يد، بل هي نتاج تفاعل بين الأحداث الحقيقية وبين العمليات الإدراكية للشخص (بين الموضوع وبين الذات). وصفوة القول أن الذاكرة ليست تسجيلًا سطحيًّا لمثيرات خام. فما يُذخَر في الذاكرة هو في الحقيقة بناءات تم تشييدها وفقًا للمخططات المعرفية المسبقة، وهي شيء تضطلع في تشكيله عوامل كثيرة، أهمها الثقافة المحلية والتعلم السابق (Joel Paris, A Critical Review of Recovered Memories in Psychotherapy, Canadian Journal of Psychiatry, vol. 41, May 1996, pp. 101-102). (المترجم)
٦٧  التحليل القياسي للمعرفة الذي عرضنا له سابقًا (الاعتقاد الصادق المبرَّر) إنما هو تحليل ﻟ «معرفة أن كذا». غير أن «معرفة أن …» يجب أن نميز بعناية بينها وبين «معرفة كيف …» فأن نعرف كيف نقود دراجة، أو كيف نخبز كعكة الأناناس المقلوبة، أو كيف نقف على أيدينا تلك معرفة كيف، أو المعرفة كمقدرة ومهارة. ونحن عادةً ما نعجز عن أن نعبر عنها بالألفاظ؛ فمثل هذه المعرفة تُعَلَّم بالتمثيل لا بالكلام. ويُطلق على المعرفة حين نعني بها معرفة أن: «معرفة قضية أو معرفة قَضَوية» propositional knowledge. ومن المفترض عامةً أن المعرفة القضوية، بخلاف «معرفة كيف»، يمكن أن يُعبَّر عنها لفظيًّا تعبيرًا تامًّا (انظر في ذلك فصل «نظرية المعرفة» من كتاب وليم جيمس إيرل «مدخل إلى الفلسفة»، ترجمة عادل مصطفى ومراجعة يمنى الخولي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٥م). (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤