الخنجر المجنح

كان الأب براون في إحدى مراحل حياته يجد صعوبةً في تعليق قُبَّعته على المِشجَب دون أن يحاول كبح رجفة خفيفة تنتابه. وصحيحٌ أنَّ أصل هذه العادة الخاصة اللاإرادية كان تفصيلةً بسيطة في أحداث أكثر تعقيدًا، لكنَّها ربما كانت التفصيلة الوحيدة التي ظلَّت معه في حياته الحافلة بالمشاغل لتُذكِّره بكُلِّ تفاصيل تلك القضية؛ إذ يَكمُن أصلها البعيد في الحقائق التي دفعَت بوين، الضابط الطبيب المُلحَق بقوات الشرطة، إلى استدعاء القسِّ في صباح يوم قارس البرودة في شهر ديسمبر.

كان الطبيب بوين رجلًا أيرلنديًّا ذا بُنيانٍ ضخم ووجهٍ عابس، وواحدًا من أولئك الأيرلنديين المُحيِّرين الذين يمكن للمرء أن يجدهم في جميع أنحاء العالم، والذين يَستطيعون التحدُّث بإسهابٍ واستفاضة عن الشكوكية العلمية والفلسفة المادية والسينيكية، لكنَّهم لم يُفكِّروا قَط في إحالة أيِّ شيء ذي صلة بالطقوس الدينية إلى أيِّ شيء آخر سوى العقيدة التقليدية لوطنهم الأصلي. ومن الصعب تحديد ما إذا كانت عقيدتهم مُجرَّد قشرةٍ سطحية للغاية أم جوهرٍ أساسي عميق، لكنَّها قد تكون كلَيهما على الأرجح، مع وجود كتلةٍ من الفلسفة المادية بينهما. على أي حال، حين اعتقد بوين أنَّ القضية التي تُحيِّره قد تتضمَّن أمورًا دينية من هذا النوع، طلب من الأب براون زيارته، مع أنَّه لم يُبدِ أي تفضيلٍ للجانب الديني منها.

حيَّا الأب براون قائلًا: «أتعلمُ أنني لست متيقنًا ممَّا إذا كنت أريد مشورتك. بل لست متيقنًا من أيِّ شيء حتى الآن. كما أني لا أستطيع أن أحدِّد ما إذا كانت هذه القضية تحتاج إلى استشارة طبيبٍ أم شُرطيٍّ أم قَسٍّ.»

فقال الأب براون بابتسامة: «حسنًا، على ما أظن أنَّك شُرطيٌّ وطبيب؛ لذا يبدو أنني أقلية في هذا المجلس الثنائي.»

فَرَّد عليه بوين قائلًا: «أعترف بأنَّك ما يُسمِّيه الساسة أقليةً مُستنيرة. أقصدُ أنني على درايةٍ بأنَّك تعرف القليل عن اختصاصنا إلى جانب اختصاصك بالطبع، ولكن من الصعب تحديد ما إذا كانت هذه القضية من اختصاصك أم اختصاصنا، أم اختصاص أطباء الأمراض النفسية. لقد تلقينا للتو رسالةً من رجل يعيش بالقرب من هنا، في ذلك البيت الأبيض الواقع على التل، يطلب فيها الحماية من تهديد قاتل ما. حسنًا، يبدو أننا تعمَّقنا في الحقائق إلى حدٍّ بعيد، وربما من الأفضل أن أسرد لك القصة كما حدثت، من البداية.

يبدو أنَّ رجُلًا اسمه أيلمر، كان من مُلَّاك الأراضي الأثرياء في الريف الغربي الإنجليزي، تزوَّج في مرحلةٍ متأخرة من حياته نوعًا ما، وأنجَب ثلاثة أبناء: فيليب وستيفن وأرنولد، ولكن في أيام عزوبيته، حين كان يعتقد أنَّه سيعيش ويموت بلا وريث، تبنَّى صبيًّا كان يحسبه شديد الذكاء ذا مستقبلٍ مُبهر، يُدعى جون ستريك. ويبدو أنَّ أصل ذلك الصبي غامضٌ؛ إذ يُقال إنَّه لقيط، فيما يقول البعض إنَّه غجري. وأعتقد أنَّ ما يُعزِّز الرأي الثانيَ هو أنَّ أيلمر انغمس في جميع أنواع السحر الحقير، بما في ذلك قراءة الكف والتنجيم، وذلك في أراذل عمره، ويقول أبناؤه الثلاثة إنَّ ستريك هو الذي شجَّعه على ذلك، لكنَّهم ذكروا الكثير من الأشياء الأخرى إلى جانب ذلك؛ إذ قالوا إنَّ ستريك كان وغدًا مدهشًا، وبالأخصِّ كاذبًا مُذهِلًا، مشيرين إلى أنَّه كان عبقريًّا في اختلاق الأكاذيب بارتجالٍ بديهي، وسردها بأسلوبٍ يجعلها تنطلي على المُحقِّقين أنفسِهم، ولكن قد يكون هذا تحيُّزًا طبيعيًّا ضده في ضوء ما حدث.

ربما يمكنك أن تُخمِّن ما حدث. لقد أوصى الرجل المُسِن بنقل كل تَرِكته تقريبًا إلى الابن المُتبنَّى، وبعد موته اعترض أبناؤه الشرعيون الثلاثة على الوصية؛ إذ قالوا إنَّ والدهم تنازل عن ثروته وارتكب هذه الحماقة التافهة، على حد قولهم بلا تجميل، تحت التهديد. وذكروا أنَّ ستريك اتَّبع أغرب الطُّرُق وأكثرها دهاءً للوصول إلى أبيهم، بالرغم من وجود الممرِّضات وبقية أفراد أسرته حوله، وترهيبه وهو على فراش الموت. على أي حال، يبدو أنَّهم أثبتوا شيئًا عن عدم سلامة صحة أبيهم العقلية؛ لأنَّ المحاكم حكمت ببطلان الوصية، ونالوا نصيبهم من الميراث. ويقال إنَّ ستريك استشاط غضبًا بشدة، وأقسَم لَيَقتلنَّهم الثلاثة، واحدًا تلو الآخر، وأنَّ شيئًا لن يحول بينهم وبين انتقامه. والآن فإن أرنولد أيلمر، الشقيق الثالث وآخر من تبقَّى منهم، هو الذي يطلب حماية الشرطة.»

فقال القسُّ مُحدِّقًا إليه بِجِديَّة: «الثالث والأخير!»

فقال بوين: «نعم. لقد مات الشقيقان الآخران.» ثم حلَّ صمتٌ لَحْظيٌّ قبل أن يواصل كلامه قائلًا: «وهذا هو منبع الشك؛ إذ لا يوجد دليلٌ على مقتلهما، لكنَّ الأرجح أنَّهما قُتِلا. حيث يُفترَض أنَّ الشقيق الأكبر، الذي صار مالك ضيعة ريفية، قد انتحر في حديقته. أمَّا الثاني، الذي أصبح صاحب مصنعٍ ودخَلَ مجال التجارة، فقد تهشَّم رأسه أسفل مطرقةٍ حديدية في إحدى آلات مصنعه، وربما يكون قد تعثَّر وسقط عليها قبل أن تُودِيَ بحياته، ولكن إذا سَلَّمنا بأنَّ ستريك قتلهما، فلا شَكَّ أنَّه بارعٌ جدًّا في ارتكاب جريمته والهَرَب. وعلى الجانب الآخر، فمن المُحتمل بدرجةٍ كبيرة أنَّ الأمر برمته مُجرَّد هوسٍ بنظرية المؤامرة قائمٍ على مصادفة بحتة. والآن ركِّز معي؛ فأنا أريد شخصًا ذا بصيرة ثاقبة، لا يحمل صفةً رسمية، يذهب إلى السيد أرنولد أيلمر ويتحدَّث إليه ويُكوِّن انطباعًا عنه. وأنت تستطيع أن تُفرِّق بين رجلٍ مهووسٍ بوهمٍ ما ورجلٍ يقول الحقيقة؛ لذا أريد أن أرسلك في مهمةٍ استطلاعية قبل أن نتولَّى هذه القضية.»

وهنا قال الأب براون: «يبدو غريبًا بعض الشيء أنَّكم لم تُضطروا إلى تولِّيها من قبل. فإذا كان هناك أيُّ خَطبٍ مُريب في هذه القضية، فعلى ما يبدو أنَّه موجود منذ فترةٍ طويلة. إذن هل يوجد سببٌ مُعيَّن يجعله يستنجد بكم الآن فقط أكثر من أي وقت مضى؟»

فأجاب بوين: «لقد خَطَر ذلك على بالي، كما قد تتصوَّر. وصحيحٌ أنَّه ذَكَر السبب الذي دفعه إلى ذلك، لكنني أعترف بأنَّ ما قاله هو أحد الأشياء التي تجعلني أشك أنَّ الأمر برُمته مجرد وهمٍ يعيشه شخصٌ مهووس مخبول؛ إذ قال إنَّ جميع خُدَّامه رفضوا الانصياع لأوامره وتركوه فجأةً؛ لذا اضطرَّ إلى الاستنجاد بالشرطة لتحرس منزله. وحين أجريتُ تحرِّياتي، تيقَّنتُ من أنَّ الخُدَّام تركوا العمل في ذلك المنزل الواقع على التل بشكلٍ جماعي، وبالطبع البلدة مليئة بالحكايات، لكنَّها حكاياتٌ شديدة الانحياز إلى طَرفٍ واحد على حد اعتقادي؛ إذ يقول الخُدَّام إنَّ سيِّدهم أصبح لا يُطاق إطلاقًا في تململه ومخاوفه وأوامره الصارمة، وإنَّه كان يريدهم أن يحرسوا المنزل كالخُفَراء، أو يسهروا طوال الليل كمُمرِّضات المناوبات المسائية في المستشفيات، وألَّا يتركوه وحده إطلاقًا لأنَّه يجب ألَّا يُترَك وحده أبدًا؛ لذا صاحوا فيه جميعًا بأنَّه مجنونٌ وتركوا المنزل. وصحيحٌ أنَّ هذا لا يُثبِت أنه مجنون، ولكن يبدو غريبًا في هذه الأيام أن يطلب سيِّدٌ من خادمه أو خادمته أن يعملَ خفيرًا لديه.»

فقال القَس بابتسامة: «وهكذا هو يريد شُرطيًّا ليعمل لديه كخادمة؛ لأنَّ الخادمة ترفض العمل لديه كشرطي.»

اتفق معه بوين قائلًا: «وأنا أيضًا أراه طلبًا يصعُب تنفيذه، ولكن لا أستطيع تحمُّل مسئولية رفضه رفضًا قاطعًا حتى أُجرِّب حَلًّا وَسَطًا. وأنت الحل الوسط.»

فقال الأب براون ببساطة: «حسنًا. سأذهب وأزوره الآن إذا شِئتَ.»

كانت الأراضي الريفية المتموِّجة المحيطة بالبلدة الصغيرة تُشكِّل إطارًا مُغلقًا مُتجمِّدًا من شدة الصقيع، وكانت السماء صافيةً وباردةً كالصُّلب، باستثناء جهة الشمال الشرقي حيث بدأت تتلبَّد بغيومٍ ذات هالاتٍ لها بريق مخيف. وعلى عكس هذا الأفُق الداكن الباعث على الكآبة، كان المنزل الواقع على التل يلمع مع صف من الأعمدة الباهتة التي تُشكِّل رواقًا قصيرًا على الطراز الكلاسيكي، ويؤدي إليه طريقٌ متعرجٌ صاعدٌ عبر منحنى التل، ومنغمسٌ وسط كَمٍّ هائل من الشجيرات الداكنة. وقُبيل انغماس الطريق في الشجيرات مباشرة، بدأ الهواء يشتدُّ برودةً، كما لو كان القَسُّ يقترب من مستودع ثَلجٍ أو القطب الشمالي، لكنه كان شخصًا عمليًّا للغاية، ودائمًا ما كان يعتبر هذه الخيالات مجرَّد خيالات فحسب. ولم ينظر إلَّا إلى الغيمة الرمادية الداكنة الكثيفة العظيمة التي تزحف فوق المنزل، وقال مُبتهجًا: «ستُثلِج السماء.»

وعَبْر بوابةٍ حديدية منخفضة مزخرفة على الطراز الإيطالي، دخل حديقةً بها بعضٌ من تلك الكآبة التي لا تنجم إلَّا عن وجود خللٍ ما في أشياء منتظمة؛ إذ كانت النباتات الخضراء الداكنة تبدو رماديةً في ظل اتِّشاحها بحُبَيبات الصقيع الناعمة الباهتة، بينما كانت بعض الحشائش الكبيرة تُحيط بأحواض الزهور ذات النمط الباهت تدريجيًّا كما لو كانت تبدو موضوعةً في إطارٍ متآكلٍ مشوَّه، فيما بدا المنزل بارزًا وسط غابةٍ من الشجيرات كاد ارتفاعها أن يطالَ خصر إنسانٍ لولا توقفُها عن النمو. وكانت معظم النباتات دائمة الخضرة أو شديدة التحمُّل في الظروف القاسية، وصحيحٌ أنَّها كانت سميكةً وثقيلة، لكنَّها كانت شماليةً جدًّا إلى حد عدم إمكانية وصفها بأنَّها وافرة النماء؛ بل يمكن وصفها بأنَّها نباتات غابة قطبية شمالية. وهو ما كان ينطبق بعض الشيء على المنزل نفسه، الذي له رواقٌ من الأعمدة وواجهة كلاسيكية ربما تشبه تلك التي تُطِل على البحر المتوسط، لكنها تبدو الآن وكأنَّ رياح بحر الشمال تعصف بها. وكانت بعض الزخارف الكلاسيكية المنتشرة على المبنى وما حوله تُبرز هذا التناقض؛ إذ كانت بعض تماثيل العذارى والوجوه الضاحكة والحزينة المنحوتة تُطِل من أركان المبنى على اللون الرمادي المُحيِّر الطاغي على أزِقَّة الحديقة، لكنَّ الواجهات بَدَت وكأنَّها مُصابةٌ بقضمة الصقيع. وربما كانت الزخارف الحلزونية التي تُتوِّج الأعمدة قد التَوَت بفعل البرد القارس.

ثم صَعِد الأب براون على دَرَجٍ عُشبي إلى شُرفةٍ مُربَّعة مُحاطة بأعمدة كبيرة وطرَقَ الباب. وبعد حوالي أربع دقائق، طرقَه مرَّةً أخرى. ثم وقف منتظرًا بصبرٍ، مُديرًا ظَهره نحو الباب ومتأملًا المَشهَد الطبيعي الذي بدأ الظلام يُخيِّم عليه ببطء. كان الأفق يُظلِم أسفل الكتلة الهائلة من الغيوم التي أتتْ مُحلِّقةً من جهة الشمال، وبينما كان الأب براون يتأمَّل ما وراء أعمدة الشُّرفة، التي بدَت أمامه شاهقةً وسوداء في الشفق، رأى الحافةَ البَرَّاقة للغيمة الضخمة وهي تُخيِّم على سطح المنزل وتنحني نحو الشرفة كمِظلةٍ كبيرة. وبَدَت هذه المظلة الكبيرة بحوافها ذات البريق الخافت وكأنها تهبط لأسفل فأسفل على الحديقة من خَلف الشُّرفة، حتى جعلت السماء، التي كانت شتويةً صافيةً شاحبةً منذ دقائق، مُلبَّدةً ببضع شرائط وشظايا فضِّية مثلما تظهر وقت غروبٍ باهت. فظلَّ الأبُ براون مُنتظرًا، لكنَّه لم يسمع أي صوتٍ داخل المنزل.

ثم نزل على الدرج بخفَّةٍ ونشاط، ودار حول المنزل بحثًا عن مدخل آخر، إلى أن وجد بابًا جانبيًّا في الجدار المسطح، فطرقه وانتظر أيضًا. ثم جَرَّب فتْحَه بالمقبض، ووجد أنَّه يبدو مغلقًا بقفلٍ أو ألواح ومسامير من الداخل، فتحرَّك بطول هذا الجانب من المنزل، مُستكشفًا المَدَاخل الممكنة الأخرى، ومتسائلًا عمَّا إذا كان السيد أيلمر غريب الأطوار متحصِّنًا في عُقر داره لدرجة ألَّا يسمع أيَّ طارقٍ على بابه، أم أنَّه أشد تحصُّنًا خشية أن يكون أيُّ طارقٍ هو ستريك الراغب في الانتقام. ربما يكون الخُدَّام الذين تركوا العمل بالمنزل قد فتحوا بابًا واحدًا فقط حين غادروا في الصباح، وأغلقه سيِّدهم بعد رحيلهم، ولكن بصرف النظر عن ذلك، فأغلب الظنِّ أنَّ حالتهم المزاجية آنذاك لم تجعلهم يحرصون على إحكام غلق جميع المداخل الأخرى؛ لذا واصل الأب براون تجوُّله حول المنزل، ولم يكن منزلًا كبيرًا في الواقع، مع أنَّه ربما كان مبهرجًا بعض الشيء، وفي لحظاتٍ قليلة، اكتشف أنَّه أتَمَّ دورة كاملة حوله. ثم سرعان ما وجد ما حَسبه وسعى إليه؛ النافذة الفرنسية لإحدى الغرف، التي كانت مُغطَّاة بستارةٍ من الداخل ونباتٍ زاحف من الخارج، كانت مفتوحةً قليلًا، ويبدو أنَّ أحدهم قدَ سَها عن إحكام غلقها، فدخل الأب براون من خلالها ووجد نفسه في صالةٍ بها أثاثٌ مُنجَّد مُريح ذو طرازٍ قديم نوعًا ما، وفي أحد جانبَيها دَرَجٌ يؤدي إلى أعلاها، وفي الجانب الآخر بابٌ يؤدِّي إلى خارجها. وأمام القَسِّ مباشرةً، كان يوجد بابٌ آخر ذو زجاجٍ أحمر يؤدِّي إليها من الخارج، وقد كان هذا مُبهرجًا قليلًا بالنسبة للأذواق الحديثة، وبدا من وراء الزجاج الملوَّن المُبهرَج طيفُ شخصٍ يرتدي عباءةً حمراء. وعلى طاولة مستديرة في يمين الصالة، كان يوجد وعاءٌ كبير مليء بالمياه المخضرة تَسبح فيه أسماكٌ وكائناتٌ بحرية كأنَّها في حوض سمك، وفي الجانب المقابل مباشرةً، كان يوجد أَصِيصٌ يحمل نباتًا من الفصيلة النخلية ذا أوراق خضراء كبيرة جدًّا. وكل هذا بدا مُغطًّى بترابٍ كثيف ومنتميًا إلى بدايات الحقبة الفيكتورية لدرجة أنَّ وجود الهاتف، الذي رآه الأب براون في كوَّةٍ جانبية مُغطَّاةٍ بستارة في أحد جدران الصالة، كان شِبه مُفاجئٍ.

ثم سمع صيحةً حادةً مرتابة نوعًا ما من خلف الباب الزجاجي الملون تقول: «من هناك؟»

فسأل القَسُّ بنبرةٍ اعتذارية: «هل لي أن أرى السيد أيلمر؟»

وحينئذٍ، فُتح الباب ودَخل منه رجلٌ نبيل يرتدي رداءً منزليًّا ذا لونٍ أخضر طاووسي، وتعلو وجهَه نظرةٌ متسائلةٌ عن هُوية ذلك الضيف. كان شعره خشنًا نوعًا ما وغير مُصفَّف، كأنَّه كان نائمًا أو يستفيق من نومه ببطء، لكنَّ عينَيْه لم تكونا مستيقظتين فحسب، بل متيقظتين، وربما مذعورتين. وقد أدرك الأب براون أنَّ هذا التناقض واردٌ جدًّا في رجلٍ لم يعُد يكترث بمظهره في ظلِّ هوسه بوهمٍ ما أو خوفه من خَطَرٍ معيَّن. وكان وجهه يبدو من الجانب لطيفًا شبيهًا بوجه النسر، ولكن عند رؤيته كاملًا من الأمام، فإن الانطباع الأول لمَن يراه ينتج عن المَظهر غير المُشذَّب الأشعث للحيته البنية المهلهلة.

وقال: «أنا السيد أيلمر، لكنني لم أعُد أتوقَّع قدوم زوَّار.»

ويبدو أنَّ شيئًا ما في عين السيد أيلمر المضطربة دفع القَسَّ إلى التطرُّق إلى صُلب الموضوع مباشرة. وإذا كان إحساس الاضطهاد الذي يُسيطر على أيلمر مُجرَّد هوسٍ بفكرةٍ واحدة، فمن المستبعد أن يثير ذلك التصرُّف استياءه.

فقال الأب براون بلُطفٍ: «كنت أتساءل عَمَّا إذا كان صحيحًا أنَّك لا تتوقَّع قدوم زوَّارٍ أبدًا.»

فأجاب مُضيِّفه بثبات: «إنَّك مُحِق. أتوقع دائمًا مجيء زائرٍ واحد. وقد يكون الأخير.»

قال الأب براون: «آمل ألَّا أكون هذا الزائر، لكنني أشعر بالارتياح على الأقل كي أخمِّن أنني لا أشبهه على الإطلاق.»

فاهتز السيد أيلمر ضاحكًا ضحكةً مدوِّية. وقال: «أنت بالتأكيد لا تُشبهه.»

فقال الأب براون بصراحة: «سيد أيلمر، أعتذر عن تطفُّلي، لكنَّ بعض أصدقائي حَدَّثوني عن مشكلتك، وطلبوا مني معرفة ما إذا كان بإمكاني تقديم أيِّ مساعدةٍ لك؛ فالحقيقة أنَّ لديَّ خبرةً صغيرة في مثل هذه الأمور.»

فقال أيلمر: «هذه القضية ليس لها مثيل.»

فقال الأب براون: «أتقصد أنَّ المآسيَ التي وقعت لعائلتك التعيسة لم تكن وَفَيَات طبيعية؟»

فأجاب أيلمر: «بل أقصدُ أنَّها لم تكُن حتى جرائم قتل عادية؛ فالرجل الذي يلاحقنا جميعًا حتى الموت أشبه بكلبٍ جَهنَّمي يستمد قوته من الجحيم.»

فقال القَسُّ بنبرةٍ جادة: «كلُّ الشرور لها أصلٌ واحد، ولكن ما يُدريك أنَّها لم تكن جرائم قتل عادية؟»

فأجاب أيلمر بإيماءةٍ تُشير إلى ضيفه بالقعود، ثم قعد ببطءٍ على كرسيٍّ آخر عابسًا وواضعًا يدَيه على ركبتَيه، ولكن حين اطمأنَّ قليلًا، صارت تعبيرات وجهه أكثر اعتدالًا ورصانة، وكان صوته وُديًّا وهادئًا.

وقال: «أيُّها السيد، أتمنَّى ألَّا تظنَّني شخصًا فاقدَ المنطق على أقل تقدير، ولكنني توصَّلتُ إلى هذه الاستنتاجات بالمنطق؛ لأنَّ المنطق يقود إليها بالفعل مع الأسف. لقد قرأتُ الكثيرَ عن هذه الموضوعات ذات الصلة بالسحر؛ لأنَّني كنت الوحيد الذي وَرِث معرفة أبي بالمسائل الغامضة بعض الشيء، وورثتُ مكتبته بعد وفاته، لكنَّ ما أقوله لك لا يستند إلى ما قرأته، بل ما رأيته.»

فأومأ الأب براون، فيما واصل الآخر كلامه، وكأنَّه ينتقي كلماته: «في قضية أخي الأكبر، لم أكن متيقنًا في البداية؛ إذ لم يُعثَر على أيِّ علاماتٍ تدل على الجاني أو آثار أقدام في المكان الذي وُجِد فيه مرميًّا بالرصاص وكان المسدس مُلقًى بجواره، ولكن قُبيل موته مباشرة، تلقَّى رسالة تهديدٍ لا شكَّ أنَّها وَرَدتْه من عَدوِّنا؛ لأنَّها كانت موسومةً بعلامةٍ تُشبه الخنجر المُجنَّح، الذي كان إحدى حِيَله الجهنمية الغامضة. وقالت إحدى خادمات أخي إنَّها شاهدتْ شيئًا يتحرَّك بطول جدار الحديقة في الشفق أكبر من أن يكون قطة. سأكتفي بهذا القدر، كل ما أستطيع قوله أنَّه إذا كان القاتل قد جاء وارتكب جريمته، فإنَّه تمكَّن من عدم ترك أي أثر لقدومه. ولكن حين مات أخي ستيفن، كان الوضع مختلفًا. ومنذ ذلك الحين، أدركت وجود خَطبٍ ما. كانت إحدى الآلات تعمل في سقَّالة مكشوفة تحت مدخنة المصنع، فصَعِدتُ إلى المنصة التي مات عليها بعد لحظةٍ من سقوطه أسفل المطرقة الحديدية التي أصابتْه، ولم أرَ أيَّ شيء آخر من الممكن أن يكون قد أصابه سواها، لكنَّي رأيتُ شيئًا غريبًا.

كانت ألسِنةُ دخان المصنع الكثيف تموج بيني وبين مدخنة المصنع، ولكن من خلال فتحةٍ صافيةٍ فيها، رأيت طَيف شخصٍ مُتشحٍ بما يُشبه عباءةً سوداء فوق المدخنة. ثم اندفع الدخان الكبريتي بيننا مرة أخرى، وحين صفا الجوُّ من كَدَر الدخان، نظرت إلى قمة المدخنة الشاهقة، فلم أجد أحدًا. إنني رجلٌ عقلاني، وأودُّ أن أسأل جميع العقلاء كيف وصل الشخص الذي رأيته إلى هذا البرج العالي الذي يُسبِّب ارتفاعه الدُّوار، وكيف غادره؟»

كان أيلمر يُحدِّق إلى القَسِّ بنظراتٍ استفهامية جعلته يبدو كأبي الهول، ثم قال فجأةً بعد صمتٍ لحظي: «لقد تهشَّم دماغ أخي، لكنَّ جسده لم يتضرر كثيرًا. وعثرنا في جيبه على إحدى تلك الرسائل التهديدية مؤرَّخةً بتاريخ اليوم السابق ومدموغةً بعلامة الخنجر المُجنَّح.»

وتابَع: «أنا متيقنٌ من أنَّ رمز الخنجر المجنح ليس مجرد شيءٍ اعتباطي أو صُدفة عابرة. فلا توجد صُدفٌ فيما يفعله هذا الرجل البغيض. بل كل أفعاله محسوبةٌ وَفق تدبيرٍ مُتعمَّد، لكنَّه تدبيرٌ مُبهم ومعقَّد للغاية؛ فعقله ليس منسوجًا من مُخططاتٍ مُفصَّلة فحسب، بل من جميع أنواع اللغات والعلامات السرية، والإشارات الصامتة، والصور الخالية من الكلمات التي تُمثِّل أسماء الأشياء المجهولة الأسماء. إنَّه أسوأ رجلٍ عرَفه العالم، إنَّه رجل غامض شرير. لا أدَّعي أنني أفهم الفحوى الكاملة لهذا الرمز، ولكن يبدو بلا شكٍّ أنَّ له علاقةً بكل الأمور اللافتة للغاية، أو التي لا تُصدَّق، في تحرُّكاته بينما كان يحوم حول عائلتي التعيسة. ألا توجد علاقةٌ بين فكرة السلاح المُجنَّح والغموض الذي أُردِيَ به فيليب قتيلًا في حديقة منزله دون وجود أدنى أثرٍ لقدمٍ على التُّراب أو العشب؟ وألا توجد علاقةٌ بين الخنجر ذي الجناحَين الريشيَّين الذي يُحلِّق كسهمٍ مُذيَّل بالريش وهذا الطيف الذي ظهر لبرهةٍ أعلى المدخنة المتداعية مُتشحًا بعباءةٍ تبدو مُصمَّمة لكائنٍ ذي جناحَين؟»

فقال الأب براون بتمعُّن: «أتقصد أنَّه في حالة تحليقٍ دائم؟»

فأجاب أيلمر: «كان سيمون المجوسي كذلك، وقد ذكرت إحدى أكثر النبوءات شيوعًا في العصور المُظلمة أنَّ المسيخ الدجال سيستطيع التحليق. على أي حال، كان هناك رمز خنجرٍ طائر في الرسالتَين اللتَين وُجِدتا معهما. وسواءٌ أكان ذلك الخنجر يستطيع التحليق أم لا، فلا شَكَّ في أنَّه يستطيع الطعن.»

وحينئذٍ، سأله الأب براون: «هل لاحظت نوع الورق الذي كُتِبَت عليه الرسالتان؟ أكان نوعًا شائعًا من الورق؟»

فتحوَّلت تعبيرات أبي الهول التي كانت تكسو وجه أيلمر فجأةً إلى ضحكةٍ غليظة.

وقال بتجهُّم: «يمكنك أن تراه بنفسك؛ لأنني تلقَّيتُ رسالة تهديدٍ صباح اليوم.»

كان أيلمر يتكئ في هذه اللحظة على كرسيه مائلًا بظهره إلى الوراء ومادًّا ساقَيه الطويلتَين اللتَين كانتا بارزتَين من أسفل الرداء الأخضر، الذي كان قصيرًا بالنسبة له، فيما كان ذقنه الملتحي يتوسَّد صدره. ولم يُحرِّك أيَّ جزءٍ من جسده باستثناء أنَّه دس يده بعمقٍ في جيب ردائه وأخرَج منه قصاصةٍ ورقية كانت ترتعش في نهاية ذراعه الجامدة. كانت وضعيته كلها توحي بأنَّه مُصابٌ بشللٍ ما؛ لأنَّه كان جامدًا وشديد الوهن، لكنَّ الرأي التالي الذي أبداه القَسُّ أثاره بغرابة.

كان الأب براون ينظر رامشًا بعينَيه بطريقته المعتادة التي توحي بأنَّه مُصاب بقِصَر النظر إلى القصاصة الورقية التي أعطاه إيَّاها أيلمر. ووجد أنَّه نوعٌ فريد من الورق، نوعٌ خشن لكنَّه ليس شائعًا، كما لو كانت الورقة مُقتطَعةً من كرَّاسة لوحات رَسَّام؛ وكان مرسومًا عليها بخطٍّ سميك بالحبر الأحمر خنجرٌ مُزيَّن بجناحَين مثل عصا هرمس، ومكتوبًا عليها: «الموت سيُدركك في اليوم التالي، كما أدرَك أخوَيك.»

فرمى الأب براون الورقة على الأرض، وجلس منتصبًا على كرسيِّه فجأة.

ثم قال بنبرةٍ حادة: «يجب ألَّا تدع مثل هذه الأشياء تعجزك عن التفكير؛ فهؤلاء الشياطين دائمًا ما يحاولون أن يجعلونا عاجزين ببثِّ اليأس في نفوسنا.»

دُهِشَ القَسُّ حين أحدَث كلامه انتفاضةً في جسد مضيفه الواهن المُمدد بدا أنَّها أيقظته، وجعلته يهُبَّ من كرسيِّه كأنَّه استيقظ على كابوسٍ مُفزِع.

وصاح أيلمر بحيويةٍ غريبة نوعًا ما: «إنَّك مُحِق. إنَّك مُحِق! وسيعرف الشياطين أنني لست يائسًا إلى هذا الحد رغم كل شيء، ولست عاجزًا أيضًا. ربما أحظى بأملٍ أكبر وعَوْنٍ أفضل ممَّا تتصوَّر.»

وَقَف أيلمر ويداه في جيبي ردائه ناظرًا بعبوسٍ إلى القسِّ، الذي انتابه شكٌّ خاطف، في أثناء هذا الصمت العصيب، في أنَّ الخطر الذي يعيش فيه أيلمر منذ فترةٍ طويلة ربما أضرَّ بسلامة عقله، لكنَّ مُضيِّفه بدا رزينًا جدًّا حين تحدَّث مُجددًا بعد هذا الصمت.

قال: «أعتقد أن شقيقَيَّ التعيسَين أخفقا لأنَّهما استخدَما أسلحةً خاطئة؛ إذ كان فيليب يحمل مُسدَّسًا؛ لذا وُصِفَت وفاته بأنَّها انتحار. فيما كان ستيفن يحظى بحماية الشرطة، لكنَّه أيضًا كان يُفكِّر بطريقةٍ جعلته أحمق، ولم يسمح لشُرطيٍّ بصعود السُّلَّم وراءه إلى السقالة التي لم يقف عليها سوى لحظةٍ واحدة. كان كلاهما يتعامل باستهزاءٍ وشك حيال التصوُّف الغريب الذي اعتنقه والدي في أواخر عمره، لكنني دائمًا ما كنت أعلم أنَّ ثَمة أمورًا أخرى في والدي غير التي فهموها. صحيحٌ أنَّ دراسته السحر دفعَت به في نهاية المطاف إلى الخضوع لآفة السحر الأسود؛ أي السحر الأسود لهذا الوغد ستريك، لكنَّ شقيقَيَّ كانا مُخطئَين بشأن الترياق المناسب. فترياق السحر الأسود ليس المادية الوحشية ولا الحكمة الدنيوية، بل السحر الأبيض.»

فقال الأب براون: «يعتمد ذلك على ما تقصده بالسحر الأبيض.»

فهَمَس الآخر بصوتٍ خافتٍ كأنَّه يُفشي سِرًّا: «أقصد السحر الفضي.» ثم صمت بُرهةً قبل أن يقول: «أتدري ما أقصده بالسحر الفضي؟ أمهلني لحظةً وسأعود إليك.»

ثم استدار وفتح الباب الواقع في وسط الغُرفة ذا الزجاج الأحمر وسار في رَدْهةٍ تقع خلفه. كان المنزل أقل عُمقًا ممَّا كان براون يظن، فبدلًا من أن يؤدي الباب إلى الغرف الداخلية، انتهت الرَّدهة التي يؤدي إليها ببابٍ آخر يُطل على الحديقة. وكان أحد جانبَي الرَّدهة يحتوي على باب غُرفةٍ، وقد قال براون لنفسه حين رآه إنَّها لا بد أن تكون غرفة نوم صاحب المنزل التي هُرِع منها مرتديًا رداءه المنزلي. ولم يكن هذا الجانب يحتوي على أيِّ شيءٍ آخر سوى حامل قُبَّعاتٍ عادي يحمل مجموعةً من القبعات والمعاطف القديمة العادية التي يكسوها الغبار، ولكن على الجانب الآخر، كان يوجد شيءٌ أكثر إثارة للاهتمام؛ خِزانةٌ جانبية داكنة عتيقة من خشب البَلُّوط تحتوي على مقتنياتٍ فِضِّية قديمة، وتحمل فوقها حاملًا تذكاريًّا أو أسلحة قديمة تزيينية. وقد توقف أرنولد أيلمر عندها، ناظرًا إلى مُسدَّسٍ طويل بفوَّهةٍ جَرَسيَّة الشكل يبدو مهجورًا منذ فترةٍ طويلة.

كان الباب الواقع في نهاية الردهة مفتوحًا بالكاد، ومن خلال هذه الفتحة الضيقة، ظَهر خطٌّ من ضوء النهار الأبيض. وقد كان القسُّ لديه حِسٌّ غريزي بديهي تجاه الأشياء الطبيعية، ويبدو أنَّ شيئًا ما في البريق غير المعتاد لهذا الشعاع الأبيض أوحى إليه بما حدث في الخارج. لقد حَدَث ما تنبَّأ به بالفعل حين كان يقترب من المنزل؛ إذ ركض القسُّ في الردهة متجاوزًا مُضيِّفه، الذي كان مشدوهًا بعض الشيء، وفتح ذلك الباب ليرى شيئًا أبيض ولامعًا في آنٍ واحد. وتبيَّن حينئذٍ أنَّ البريق الذي لمحه عبر فتحة الباب لم يكن البياض الفارغ لضوء النهار فحسب، بل البياض المُمتلئ بالثلج. كانت الأراضي الريفية المتموجة الشاسعة في جميع الأنحاء مُغطاةً بذلك البياض اللامع الذي بدا ناصعًا ومَشوبًا بلونٍ رمادي خفيف في آنٍ واحد.

فقال الأب براون بنبرته المبتهجة: «ها هو السحر الأبيض على أيَّة حال.» ثم هَمَس قائلًا بينما كان عائدًا إلى الصالة: «والسحر الفضيُّ أيضًا على ما أظن.» لأنَّ البريق الأبيض لامس الفضة بروعةٍ وانعكس لمعانه على أجزاء الصُّلب المنتشرة في خِزانة الأسلحة الداكنة. فيما بدا الرأس الأشعث لأيلمر، الذي كان مستغرقًا في التفكير، أشبهَ بهالةٍ من النيران الفضية، بينما كان يستدير ووجهه في الظل حاملًا المُسدَّس الغريب في يده.

قال أيلمر للقسِّ: «أتعلمُ لماذا اخترتُ مسدسًا كهذا؟ لأنني أستطيع تذخيره برصاصةٍ كهذه.»

كان أيلمر قد أخذ ملعقةً فضيةً صغيرة مُذيَّلة بتمثال قِدِّيسٍ صغير من الخزانة الجانبية، وكَسَر منها التمثال الصغير بعُنفٍ شديد. ثم أضاف: «هيا لنعُد إلى الصالة.»

وحين جلسا مُجددًا، سأل أيلمر القسَّ قائلًا: «هل قرأتَ عن موت دندي؟» كان أيلمر قد تخلَّص آنذاك من الانزعاج اللحظي الذي شعر به قبل قليل بسبب نهوض الأب براون من كُرسيِّه ودخوله الردهة بلا استئذان. ثم واصل كلامه قائلًا: «أقصد جون جراهام، ليرد كلافيرهاوس، الذي اضطَهد المُعاهدين وكان يمتطي حصانًا أسود اللون يستطيع أن يصعد به أي جرف شديد الانحدار. ألا تعلم أنَّه كان من المستحيل أن يُردَى قتيلًا إلَّا برصاصةٍ فضية، لأنَّه باع نفسه للشيطان؟ هذا أحد الأسباب التي تجعل الحديثَ إليك مُريحًا؛ فأنت على الأقل مُلِمٌّ بقَدرٍ كافٍ من المعرفة يجعلك تؤمن بوجود الشيطان.»

فأجاب الأب براون: «آه، صحيحٌ أنني أُومن بوجود الشيطان، لكنِّي لا أُومن بوجود دندي. أعني دندي الوارد في حكايات المُعاهدين الخرافية عنه وعن حصانه المُرعِب. فجون جراهام كان مُجرد جنديٍّ محترف في القرن السابع عشر أبرع نوعًا ما من معظم أقرانه آنذاك. وإذا كان قد اضطهد المُعاهدين، فهذا لأنَّه كان جنديًّا في سلاح الفرسان، وليس تنِّينًا خُرافيًّا. ومن واقع تَجارِبي الحياتية، فهذا الشاب المندفع المتبختر ليس من النوع الذي يبيع نفسه للشيطان؛ لأنَّ عَبَدة الشيطان الذين عرَفتهم كانوا مختلفين تمامًا. وبدون ذِكر أسماء مُعاصرة، لأنَّها قد تُحدِث بلبلة اجتماعية، سأضرب مثالًا برجُلٍ كان يعيش في عصر دندي. هل سمعت من قبل عن دالريمبل، إيرل ستير؟»

فأجاب الآخر بفظاظة: «لا.»

فقال الأب براون: «أعتقد أنَّك سمعت عن أفعاله؛ لقد كانت أسوأ من أي شيء فعله دندي على الإطلاق، لكنَّه كان يُفلِت من وصمة العار مُستغلًّا آفة النسيان؛ فهو الرجل الذي ارتكب مذبحة جلينكو. غير أنَّه كان رجلًا مثقفًا للغاية ومحاميًا ذكيًّا، وقائدًا سياسيًّا لديه أفكارٌ رصينة وكبيرة للغاية عن فنِّ القيادة السياسية، ورجلًا هادئًا ذا وجهٍ فَطِن مُثقَّف للغاية. هذه هي نوعية الرجال الذين يبيعون أنفسهم للشيطان.»

وحينئذٍ، قام أيلمر من كرسيه نصف قومةٍ بانفعالٍ يَنُم عن اتفاقه المتحمِّس مع رأي الأب براون.

وصاح قائلًا: «أقسم بالربِّ إنَّك مُحِق! وجهٌ فَطِن مُثقَّف! هذا هو وجه جون ستريك.»

ثم نهض ووقف ناظرًا إلى القسِّ بتركيزٍ غريب، وقال له: «إذا انتظرتني هنا قليلًا، فسأريك شيئًا.»

وذهب إلى الردهة مرَّة أخرى، وأغلق الباب ذا الزجاج الأحمر خلفه. وهنا افترضَ القسُّ أنَّ مُضيِّفه ذهب إلى الخِزانة الجانبية القديمة أو ربما إلى غرفة نومه. ظلَّ الأب براون جالسًا على كُرسيه مُحدِّقًا بشرودٍ إلى السجادة، التي لمع عَليها وميضٌ أحمر خافت أتى من وراء زجاج الباب الأحمر. وبَدا الوميض لامعًا كالياقوت ثم صار قاتمًا مرَّة أخرى، كأنَّ شمس ذلك اليوم العاصف قد انتقلت من وراء غيمةٍ إلى أخرى. وكان كُلُّ شيءٍ ساكنًا بلا حراك إلَّا الكائنات المائية التي كانت تسبح يمينًا ويسارًا في الوعاء المخضرِّ القاتم. وفي هذه الأثناء، كان الأب براون منهمكًا في تفكيرٍ عميق.

وبعد ذلك بحوالي دقيقة أو دقيقتَين، نهض وتسلَّل بهدوء إلى كوة الهاتف، حيث اتصل بصديقه بوين الذي كان في مقر الشُّرطة الرسمي. وقال بصوتٍ خافت: «أردتُ أن أحدِّثك عن أيلمر وقضيته. إنَّها قصة غريبة، لكنَّني أظنُّ أنَّها تنطوي على خَطبٍ ما. من الأفضل أن تبعث ببعض الرجال إلى هنا فورًا، حوالي أربعة أو خمسة رجال على ما أظن، وتُحاصروا المنزل. فإذا حدث أي شيء، فسيحاول شخصٌ ما الهروب فجأةً على الأرجح.»

ثم عاد وجلس مرَّة أخرى، مُحدِّقًا إلى السجادة الداكنة، التي توهَّجت مُجدَّدًا باللون الأحمر الدموي للضوء القادم من وراء الباب الزجاجي. ويبدو أنَّ شيئًا ما في الضوء المار عبر زجاج الباب جعله يشرد بتفكيره في أشياء معينة، بدءًا من ضوء النهار الأبيض الذي كان ظاهرًا في البداية قبل ظهور ذلك اللون الأحمر، وكل هذا الغموض الذي شعر به يُكشَف تارةً ويصير مبهمًا تارةً أخرى؛ كأنَّ النوافذ والأبواب تُفتَح فتكشفه، وتُغلَق فتجعله غامضًا بالتناوب.

ثم انطلقَت صرخةٌ بشرية أشبه بعواء حيوانٍ من وراء الباب المغلق، بالتزامن تقريبًا مع دَويِّ إطلاق رصاصة. وقبل أن تتلاشى أصداء الرصاصة، فُتِح الباب بعنف ودخل مُضيِّفه الصالة مُترنِّحًا، وكان رداؤه المنزلي شِبه مُمزَّقٍ من عند كتفه فيما كان الدخان ينبعث من فوهة المسدس الطويل الذي كان يمسكه. وبدا حينئذٍ أنَّ جميع أطرافه ترتجف، لكنَّ جسده كان يهتز أيضًا لأنَّه كان منخرطًا في نوبة ضحكٍ غير طبيعية.

وصاح قائلًا: «المجد للسحر الأبيض! المجد للرصاصة الفضية! لقد حاول الكلب الجهنمي أن يصطاد مَرَّة ثالثة بحيلته المُكرَّرة المكشوفة، ونال شقيقاي ثأرهما أخيرًا.»

ثم جَلَس منغمسًا في كرسيِّه، وانزلق المسدس من يده وسقط على الأرض. فهرول الأب براون متجاوزًا إيَّاه، وتسلَّل إلى الردهة عبر الباب الزجاجي. وبينما كان في الردهة، أمسك بمقبض باب غرفة النوم كأنَّه يَهمُّ بدخولها، ثم انحنى بُرهةً كأنَّه يفحص شيئًا ما، وبعد ذلك، ركض إلى الباب المُطِل على الحديقة وفتحه.

وفي الحديقة الخارجية المُغطَّاة بالثلج، التي كانت فارغةً قُبيل لحظات، كان يوجد جسمٌ أسود بدا للوهلة الأولى أشبه بخُفَّاشٍ عملاق، ولكن تبيَّن بنظرةٍ ثانية أنَّه شخصٌ مستلقٍ على وجهه، ورأسه كلُّه مغطًّى بقبعة سوداء واسعة تُشبِه القُبعات الأمريكية اللاتينية، أمَّا الذي أوحى بأنَّ لديه جناحَين أسودَين، فهو أنَّ الكُمَّين الفضفاضَين للعباءة السوداء المُهلهلة التي كان يرتديها كانا مُمتدَّين، ربما بمحض المُصادفة، إلى أقصى طولٍ لهما على كلا الجانبَين. وكانت كلتا اليدَين مُستترة، لكنَّ الأب براون ظَنَّ أنَّه استطاع تحديد مكان إحداهما، ورأى بالقرب منها، أسفل حافة العباءة، وميضَ سلاحٍ معدني، لكنَّ الغريب أنَّ الطابع الرئيسي الذي كان يغلب عليه كان أشبه بطابع المُبالغة البسيطة في شعارات النبالة، مثل نسرٍ أسود مرسومٍ على خلفية بيضاء. غير أنَّ القسَّ ظلَّ يحوم حوله ويُحدِّق إلى أسفل القُبعة حتى لمح وجهه، الذي بدا بالفعل كالوجه الذي وصفه مُضيِّفه بأنَّه فطنٌ مُثقَّف، بل كان متشكِّكًا عابسًا أيضًا؛ وجه جون ستريك.

وهنا تمتم الأب براون قائلًا: «حسنًا، إنني متحيِّر. يُشبه مصاص دماء ضخمًا حاول الانقضاض على فريسته كطائرٍ.»

فجاء صوتٌ من المدخل المُطِل على الحديقة قائلًا: «أتوجدُ أيُّ طريقةٍ أخرى كان بإمكانه أن يأتي بها؟» فنَظر الأب براون إلى المدخل ليرى أيلمر واقفًا مرَّة أخرى هناك.

رَدَّ عليه بإجابةٍ غير مباشرة قائلًا: «ألم يكن باستطاعته المشي؟»

فمدَّ أيلمر ذراعه ولوَّح بها مشيرًا إلى المنظر الطبيعي الأبيض المُحيط بالمنزل.

ثم قال بصوتٍ عميق به بعض الصدى والحماس الشديد: «أليس الثلج خاليًا من أيِّ علامات، ونقيًّا كالسحر الأبيض مثلما وصفته بلسانك؟ هل تشوبه أيُّ بقعةٍ في نطاق أميال من هنا، باستثناء تلك البقعة السوداء الكريهة التي سقطت هناك؟ لا توجد آثار أقدام، سوى بضعةٍ من آثار أقدامك وأقدامي، لا يوجد أيٌّ منها يقترب من المنزل من أي اتجاه.»

وبعد ذلك، نظر إلى القسِّ القصير بُرهةً بتركيزٍ غريب وقال: «سأخبرك بشيء آخر. تلك العباءة التي يُحلِّق بها أطول من أن يستطيع السير بها؛ فهو لم يكن طويلًا جدًّا، لذا كان ذيلها سيُجَر خلفه كقطارٍ ملكي لو سار بها. ابسطها على جسده وانظر بنفسك إذا شئت.»

فسأله الأب براون فجأة: «ماذا وقع بينكما؟»

فأجاب أيلمر: «ما وقع كان أسرع من أن يوصَف؛ نظرتُ إلى الخارج من الباب، وبينما كنت أعود إلى الوراء، شَعرتُ بشيءٍ أشبه باندفاع الريح من حولي، كأنني أتعرض للَكماتٍ هوائية من عجلةٍ تدور بسرعةٍ في الهواء. فاستدرتُ بطريقةٍ ما وأطلقت النار عشوائيًّا. ثم لم أر سوى ما تراه الآن، لكنني متيقنٌ تمامًا من أنَّك ما كنت لتراه لولا وجودُ الرصاصة الفضية في مسدسي. بل ربما كنت سترى جثَّةً أخرى مستلقية هناك على الثلج.»

فقال الأب براون: «بالمناسبة، هل نتركها مستلقيةً على الثلج؟ أم ترغبُ في أن نُدخلها غرفتك؟ أظنُّ أنَّ تلك الغرفة في الردهة هي غرفة نومك.»

فأجاب أيلمر بعجالةٍ: «لا لا، يجب أن نتركها هنا حتى تراها الشرطة. وفوق ذلك، تحمَّلت قدر استطاعتي من هذه الأشياء في الوقت الحالي. مهما سيحدث الآن، فسأشرب شَرابًا. وبعدها يُمكن أن يشنقوني إذا شاءوا.»

وداخل ردهة المنزل، تعثَّر أيلمر في كرسيٍّ بين النبات النخيلي ووعاء الأسماك. وكاد قبل ذلك أن يُسقِط الوعاء بعدما اصطدم به عند دخوله الغرفة مندفعًا مترنِّحًا، لكنَّه تدارك نفسه واستطاع العثور على إناء الخمر بعدما ظلَّ يبحث بيده عشوائيًّا في العديد من الخزائن والأركان. وصحيحٌ أنَّه لم يكن يبدو شخصًا مُنظَّمًا على الإطلاق، ولكن لا بد أنَّ ذهنه كان مُشتتًا للغاية في تلك اللحظة. كان أيلمر يتجرَّع كمية كبيرةً في كل شربة، وبدأ يتحدَّث باهتياجٍ كأنَّه يملأ الصمت بأيِّ كلام.

قال للأب براون: «أرى أنَّك ما زلت متشكِّكًا، مع أنَّك رأيتَه بأمِّ عينَيك. صدِّقني، كان يوجد خَطب خَفيٌّ وراء النزاع بين روح ستريك وروح آل أيلمر. وفوق ذلك، لا يجوز لك ألَّا تُصدِّق. بل يجب أن تؤيِّد كل هذه الأشياء التي يصفها أولئك الحمقى بالخرافات. والآن أجبني، ألا تؤمن بوجود حقائق كثيرة في تلك القصص الغريبة عن الحظ والسحر وما إلى ذلك، بما في ذلك الرصاصات الفضية؟ ماذا تقول عنها بصفتك كاثوليكيًّا؟»

فأجاب الأب براون مبتسمًا: «أقول إنني لا أدري.»

فقال أيلمر بنفاد صبر: «هراء. فمهنتك تُحتِّم عليك أن تُصدِّق ما تسمعه.»

فاعترف الأب براون قائلًا: «حسنًا، إنني أصدِّق بعض الأشياء بالطبع؛ ومن ثَمَّ، لا أصدِّق أشياء أخرى بالتأكيد.»

كان أيلمر يميل إلى الأمام وينظر إلى القسِّ بتركيزٍ غريب كأنَّه يمارس معه التنويم الإيحائي.

ثم قال له: «إنَّك تُصدِّق ذلك. تُصدِّق كل شيء. كُلُّنا نُصدِّق كل شيء، حتى حين نُكذِّب كل شيء. فالمُكذِّبون يُصدِّقون. وغير المؤمنين يُصدِّقون. ألا تشعر في وجدانك بأنَّ هذه التناقضات لا تتناقض حقًّا؛ لأنَّ كونًا واحدًا يحتويها جميعًا؟ تدور الروح في عجلةٍ زمنية وتتحول معها كل الأشياء مرارًا وتكرارًا، ربما كُنت أصارع ستريك بصورٍ عديدة، كوحشٍ ضد وحش وطائرٍ ضد طائر، وربما سنتصارَع إلى الأبد، ولكن لأن بعضنا يبحث عن بعض ويحتاج بعضنا إلى بعض، فحتى الكراهية الأبدية تُعَد حُبًّا أبديًّا. والخير والشر وجهان لعملةٍ واحدة ليس أكثر. ألا تُدرِكُ في وجدانك، وألا تعتقد في أصل كل معتقداتك، أنَّ الكون فيه حقيقةٌ واحدة وأننا مُجرَّد ظلال لها، وأنَّ كل الأشياء مجرَّد وجوهٍ لشيء واحد؛ مركز يذوب فيه البشر في بوتقةٍ إنسانية واحدة، ثم تذوب هذه البوتقة وتصبح إلهية؟»

فقال الأب براون: «لا.»

كان الشفق بدأ يُسدِل أستاره في الخارج متشحًا بثوب أمسيةٍ مليئة بالثلوج تبدو فيها الأرض أكثر إشراقًا من السماء. ومن خلال نافذةٍ نصف مُغطاة بستارةٍ، رأى الأب براون طيفًا خافتًا لشخصٍ ضخم يقف في شرفة المدخل الرئيسي. ثم ألقى نظرةً خاطفة عابرة من خلال النافذة الفرنسية التي دخل المنزل منها في البداية، فرأى طيفَيْ شخصَين واقفَين بلا حراك يُخيِّمان عليها. ومن وراء الباب الداخلي ذي الزجاج الملون الذي كان مفتوحًا قليلًا، رأى في الردهة القصيرة رأسَي خيالَين طويلَين، وصحيحٌ أنَّهما كان متضخمَين ومشوَّهَين بسبب خفوت ضوء المساء، لكنَّهما كانا أشبه برسمتَين ساخرتَين رماديَّتَين لرجُلَين. وهنا أدرَك الأب براون أنَّ بوين أخذ بنصيحته التي أسداها إليه عبر الهاتف. لقد أصبح المنزل مُحاصَرًا.

وقال مُضيِّفه مُصرًّا وهو ما زال يُحدِّق إليه بنظراتٍ مُنوِّمة: «ما فائدة إصرارك على عدم التصديق؟ لقد رأيتَ جزءًا من تلك الدراما الأبدية بأمِّ عينَيك. رأيت تهديد جون ستريك بقتل أرنولد أيلمر بالسحر الأسود. ورأيت أرنولد أيلمر يقضي على جون ستريك بالسحر الأبيض. وها أنت ترى أرنولد أيلمر حيًّا يُرزَق ويتحدَّث إليك الآن. ومع ذلك لا تُصدِّقها.»

فقال الأب براون: «كلَّا، لا أصدِّقها.» ونهض من كرسيه كأنَّه يُنهي الزيارة.

فسأله الآخر: «لماذا لا تُصدِّق؟»

لم يرفع القسُّ صوته إلَّا قليلًا، لكنَّ صداه رَنَّ في كل رُكنٍ من أركان الغرفة كأنَّه جرس. وقال: «لأنك لست أرنولد أيلمر. أعرفُ هويتك الحقيقية. اسمك جون ستريك، وقد قتلتَ آخر الأشقاء الثلاثة الذي ترقد جثته خارجًا في الثلج.»

وحينئذٍ بدأت عينا الرجل الآخر في الجحوظ وظهرت حلقة بيضاء حول بؤبؤ العين وبدا كما لو أنَّه يبذل جهدًا أخيرًا بمُقلتَيه الجاحظتَين لتنويم الأب براون إيحائيًّا والسيطرة عليه. ثم تحرك جانبًا فجأةً، ولكن في اللحظة نفسها، فُتِح الباب من خلفه، وفوجئ بمُحقِّقٍ شُرطيٍّ ضخم البنيان ذي ثيابٍ مدنية يضع إحدى يدَيه بهدوءٍ على كتفه، بينما كانت يده الأخرى متدليةً إلى الأسفل، لكنَّها كانت تُمسِك مسدسًا. فنظر الرجل حوله بجنونٍ ورأى رجالًا آخرين يرتدون ثيابًا مدنية في جميع أنحاء الغرفة الهادئة.

وفي ذلك المساء، تبادل الأب براون أطراف الحديث مرَّةً أخرى مع بوين في محادثةٍ أطول عن مأساة عائلة أيلمر. وكانت الحقيقة الرئيسية في القضية قَد تكشَّفت آنذاك بما لا يدع مجالًا للشك، لأنَّ جون ستريك اعترف بهويته، واعترف بجرائمه، أو على وجه الدقة تباهى بانتصاراته. ومقارنةً بأنَّه أتَمَّ مهمته الرئيسية في الحياة بقتل آخر الأشقاء الثلاثة، بَدَت جميع الأشياء الأخرى بلا قيمةٍ بالنسبة له، بما فيها الحياة نفسها.

قال الأب براون متحدثًا عن جون ستريك: «لقد كان مهووسًا بغايةٍ واحدة؛ لذا لا يكترث بأيِّ شيءٍ آخر، ولا حتى ارتكاب أيِّ جريمة قتل أخرى. وأنا مَدينٌ له بشيءٍ بسبب ذلك؛ لأنني اضطُرِرت إلى طمأنة نفسي بهذه الفكرة مرارًا عصر اليوم. فكما قد يخطُر على بالك بالتأكيد، كان بإمكانه أن يُردِيَني قتيلًا برصاصةٍ عادية ويخرج من المنزل بدلًا من أن ينسج كل هذه الحكايات الخيالية، التي كانت غريبةً لكنَّها عبقرية، عن مصَّاصي الدماء المُجنَّحين والرصاص الفضي. وأؤكِّد لك أنَّ ذلك خَطَر على بالي مرارًا.»

فقال بوين: «أتساءل لماذا لم يفعل ذلك! لا أفهم السبب، كما أني لا أفهم أي شيء حتى الآن. ما الذي اكتشفتَه، وكيف اكتشفته بالله عليك؟»

فأجاب الأب براون بتواضع: «أوه، لقد أعطيتني معلوماتٍ قَيِّمةً للغاية، لا سيما تلك المعلومة التي كانت بالغة الأهمية؛ أعني حين قُلتَ إنَّ ستريك كان كاذبًا مُبدعًا في اختلاق الأكاذيب بمُخيِّلةٍ واسعة وارتجالٍ بديهي. وقد احتاج إلى استخدام تلك المهارة في عصر اليوم، لكنَّه كان على قَدر التحدِّي. ربما كان خطؤه الوحيد أنَّه اختار قصَّةً خارقة للطبيعة. كان يظنُّ أنني ينبغي أن أصدِّق أيَّ شيءٍ لأنني قسٌّ، وهذا ما قد يظنه الكثيرون.»

فقال الطبيب: «لكنني لا أفهم شيئًا على الإطلاق. يجب أن تسرد ما حدث من البداية.»

فقال الأب براون ببساطة: «بدأ كل شيءٍ برداءٍ منزلي. لقد كانت هذه إحدى أفضل حِيَل التنكُّر التي شهدتها في حياتي. فحين تُقابل رجلًا يرتدي رداءً منزليًّا في منزلٍ، يتبادر إلى ذهنك تلقائيًّا أنَّه يعيش في هذا المنزل. وقد ظننتُ ذلك بالفعل، ولكن بعد ذلك، حدثَت بضعة أشياء غريبة؛ فحين أخذ المسدس من الخزانة، أبعده عن جسده قدر الإمكان قبل أن يضغط عليه، كرجُلٍ يُمسك سلاحًا غريبًا عليه ويحاول التيقُّن من أنَّه ليس مُذخَّرًا، ولو أنَّه كان صاحب المنزل حقًّا، فبالطبع كان ليعرف ما إذا كانت المسدسات الموجودة في ردهة منزله مُذخَّرةً أم لا. وكذلك لم تعجبني الطريقة التي كان يبحث بها عن الخمر، أو الطريقة التي كاد يصطدم بها بوعاء السمك. فحين يملك رجلٌ شيئًا هَشًّا كهذا في أثاث منزله، يتفاداه تلقائيًّا بحُكم العادة، لكنَّ هذه الملاحظات ربما كانت مجرد أوهام خيالية. أمَّا الخيط الحقيقي الأوَّل، فتفتَّق ذهني عنه بِناءً على ذلك؛ دخل الرجل الصالة في البداية من تلك الردهة الصغيرة، التي كانت تقع بين بابَين ولا تحتوي إلَّا على بابٍ واحد آخر فقط يؤدي إلى غرفةٍ؛ لذا افترضتُ أنَّها غرفة النوم التي جاء منها للتو. ولكن حين جرَّبت فتحها بمقبض الباب، وجدتُها مُقفَلة. فظننت ذلك غريبًا، لذا نظرت إلى داخلها من خلال ثقب المفتاح، لأجد أنَّها كانت خاليةً تمامًا، ومن الواضح أنَّها كانت مهجورة، لأنَّها لم تكن تحتوي على سريرٍ ولا أيِّ شيءٍ آخر. لذا تبيَّن لي أنَّه لم يأتِ من داخل أي غرفة، بل من خارج المنزل. وحين تفطنتُ إلى ذلك، أظن أنني أدركتُ الصورة كاملة.

لا شكَّ أن أرنولد أيلمر المسكين كان ينام في الطابق العلوي وربما كان يعيش فيه طوال الوقت، وحين نزل إلى الطابق السفلي مرتديًا رداءه المنزلي وفتح باب الردهة الزجاجي الأحمر، وجد في نهايتها، التي كانت مُعتمة أمام ضوء النهار الشتوي الخافت، عدو عائلته. رأى رجلًا مُلتحيًا طويلًا يعتمر قبعة سوداء عريضة الحواف، ويرتدي عباءةً سوداء كبيرة ذات كُمَّين فضفاضَين، ولم يرَ الكثيرَ في هذه الدُّنيا بعد ذلك؛ إذ انقضَّ ستريك عليه، وربما خنقه أو طعنه؛ لا يمكننا التيقن من ذلك حتى إجراء التحقيق. ثم سمع ستريك، الذي كان يقف في الردهة الضيقة بين حامل القُبَّعات والخزانة الجانبية القديمة ناظرًا بانتصارٍ إلى جثة آخر خصومه الهامدة على الأرض، شيئًا لم يكن يتوقعه. سَمِع خُطَا أقدام في الصالة. لقد كانت هذه خطواتي بعدما دخلت من النافذة الفرنسية.

كان تنكُّره معجزةً من حيث سرعةُ البديهة؛ إذ لم يقتصر على التنكُّر بالثياب، بل بنسج قصة خيالية أيضًا بارتجالٍ فائق. خلع قبعته السوداء الكبيرة وعباءته وارتدى رداء الرجل الميت. ثم فعل شيئًا مُروِّعًا إلى حد ما، أو على الأقل شيئًا أصاب مُخيِّلتي بتأثيرٍ أفظع من أفعاله الأخرى. علَّق الجثة كأنَّها معطف على أحد مشاجب القبعات. ثم كَساها بعباءته الطويلة، ووجد أنَّ طولها يُغطِّي الكعبَين. ثم غَطَّى الرأس كُلَّه بقبعته العريضة. كانت هذه الطريقة الوحيدة الممكنة لإخفاء الجثة في هذه الردهة الضيقة ذات الباب المُغلَق، لكنها كانت شديدة الذكاء، لدرجة أنني مررت بنفسي بجوار حامل القبعات مرَّةً دون أن أنتبه إلى وجود شيءٍ غريب فيه. أظنُّ أنَّ عقلي الباطن سيُشعرني دائمًا برجفة كُلَّما أُعلِّق قُبَّعتي من الآن فصاعدًا.

وربما كان بإمكانه أن يترك الجُثَّة مُعلَّقةً هكذا، لكنني ربما كنت سأكتشفها في أيِّ لحظة، ولا شَكَّ أنَّ وجود جُثَّة مُعلَّقة في هذا المكان كان سيتطلَّب ما تُسمُّونه تفسيرًا؛ لذا أقدَم على الخطوة الأجرأ وكلَّف نفسه عناء كشفها وتفسير وجودها.

ثم تفتَّق هذا العقل العجيب ذو المخيلة الخصبة عن فكرة تبديل الأدوار؛ إذ كان قد تقمَّص دور أرنولد أيلمر بالفعل. فلماذا لا يجعل عدوه الميت يتقمَّص دور جون ستريك؟ ولا بد أنَّ شيئًا ما في ذلك الوضع المقلوب استهوى ذلك المهووس. لقد كان الأمر أشبهَ برقصةٍ تنكُّرية خيالية ومخيفة يؤدِّيها عدوَّان فانيان يتنكر كُلٌّ منهما بملابس الآخر. كُلُّ ما هنالك أنَّها كانت أشبه برقصة الموت، وأنَّ أحد الراقصَين كان ميتًا؛ لذا يمكنني أن أتخيل ذلك الرجل وهو ينسج تفاصيلها في ذهنه، وأتخيله وهو يفعل ذلك مُبتسمًا.»

كان الأب براون يحدق إلى فراغ الغرفة بعينَيه الرماديتَين الواسعتَين، اللتَين تُصبحان الشيء الوحيد البارز في وجهه حين لا يَشوبُهما رَمْشهما المعتاد. وواصل كلامه ببساطةٍ وجدية: «كل الأشياء من عند الله، وأهمها التفكير والخيال والهِبات العقلية العظيمة؛ لذا فهذه الأشياء طيِّبةٌ في حد ذاتها، ويجب ألَّا ننسى أصلها الطيب إطلاقًا حتى حين يُساء استعمالها. وفي هذه القضية، أساء هذا الرجل استخدام موهبةٍ نبيلة جدًّا: سرد القصص. كانت لديه قُدرة رائعة على تأليف القصص، لكنَّه استغلَّ مُخيِّلته المميزة في أغراضٍ دنيوية خبيثة؛ من أجل خداع الآخرين بحقائق خيالية زائفة بدلًا من إثراء مُخيِّلاتهم بخيالٍ حقيقي. لقد بدأت هذه العادة الخبيثة بخداع أيلمر المُسِن بحججٍ محبوكةٍ وأكاذيب مُفصَّلةٍ بدهاء، لكنْ حتى ذلك ربما كان أشبهَ في البداية بالقصص الطويلة والتفاهات السخيفة التي قد يرويها طفلٌ يدَّعي بالطريقة نفسِها أنَّه رأى ملك إنجلترا أو ملك الجِنِّيات. ثُمَّ نمَت داخله بتغذِّيها على رذيلة الاختيال التي تُديم كل الرذائل؛ إذ أصبح أكثر اختيالًا ببديهته السريعة في اختلاق قصصٍ من وحي ابتكاره، ودقته الشديدة في نسج تفاصيلها. هذا ما قصده الأشقَّاء الثلاثة حين قالوا إنَّه دائمًا ما كان يستطيع السيطرة على أبيهم بتعويذة خفية، وقد كان ذلك صحيحًا. إنَّها كالتعويذة التي كانت الراوية تؤثِّر بها على الحاكم المستبد في قصص «ألف ليلةٍ وليلة». وهكذا عاش حياته كُلَّها باختيال الشعراء وشجاعة الكذَّابين البارعين الزائفة وغير المفهومة في آنٍ واحد. ودائمًا ما كان قادرًا على اختلاق مزيدٍ من القصص على غرار قصص ألف ليلة وليلة كُلَّما أصبحت حياته في خطر، مثلما كانت اليوم.

لكنني متيقنٌ، كما قُلتُ سَلفًا، من أنَّه استمتع بالخيال الكامن فيما فعله كما تلذَّذ بالخديعة الكامنة فيه. لقد شَرَع في سرد القصة الحقيقية بتفاصيل معاكسة، مُعتبرًا الرجل الميت حَيًّا والرجل الحيَّ ميتًا. وكان قد ارتدى بالفعل رداء أيلمر المنزلي؛ لذا واصَل حيلته بتقمُّص جسد أيلمر وروحه. نظر إلى الجثة الباردة المستلقية في الثلج كأنَّها جُثَّته، ثم مَدَّ أطرافها بهذه الطريقة الغريبة ليوحي بأنَّ القتيل كان أشبه بطائرٍ جارح يحاول الانقضاض على فريسته، ولم يَكتفِ بأنَّه كساها بعباءته السوداء ذات الكُمَّين الفضفاضَين الأشبه بجناحَين، لكنَّه غَلَّفها بقصةٍ خرافية خبيثة عن الطائر الأسود الذي لم يكن من الممكن أن يُردَى قتيلًا إلَّا برصاصةٍ فضية. لا أعرف ما إذا كان البريق الفضي في الخزانة الجانبية أم الثلج اللامع وراء الباب هو الذي أوحى إلى مُخيِّلته الخلَّاقة بموضوع السحر الأبيض والمعدن الأبيض الذي يُستخدَم ضد السحرة، ولكن بغضِّ النظر عَمَّا أوحى إليه باستخدام هذه الفكرة، فقد كيَّفها ليَحبِكَ بها قصته كأنَّه هو الذي ابتدعها كشاعرٍ يَنظِم قصيدة، وفعل ذلك بسرعةٍ بالغة كرجُلٍ عَمَلي. ثم أتَمَّ تبديل الأدوار برمي الجثة خارج المنزل إلى الثلج كأنَّها جثة ستريك. لقد بذل قصارى جهده لتأليف فكرةٍ مُخيفة تُصوِّر ستريك كائنًا يُحلِّق في كل مكان كخُفَّاشٍ يطير بجَناحَين سريعَين وينقضُّ على فريسته بمخالب فتَّاكة، ليُفسِّر عدم وجود آثار أقدام أو أيِّ علاماتٍ أخرى. وأودُّ القول إنني معجبٌ جدًّا بأحد تصرُّفاته التي تجلَّت فيها صفاقته الخلَّاقة؛ إذ حوَّل أحد التناقضات في حَبْكة قصته إلى حجةٍ تُبرهِنها، وذلك حين قال إنَّ طول عباءة الرجل الهائلة بالنسبة لقامته يُثبِت أنَّه لم يكن يمشي بها قَط على الأرض كأيِّ بشرٍ عادي، لكنَّه كان ينظر إليَّ بصرامةٍ شديدة بينما كان يقول ذلك، وهنا أوحى إليَّ شيءٌ ما بأنَّه كان يحاول إقناعي بخدعةٍ هائلة في تلك اللحظة.»

كان بوين يُنصِت إلى الأب براون بتفكيرٍ عميق. ثم سأله: «هل كنت قد اكتشفت الحقيقة بحلول ذلك الوقت؟ أظنُّ أنَّ هناك أمرًا شديد الغرابة ومثيرًا للتوتُّر حول المفاهيم المتعلقة بالهُوية؛ لذا لا أعرف ما إذا كان الأغرب أن تتوصَّل إلى تخمينٍ كهذا بسرعةٍ أم ببطء. كما أود أن أعرف متى شككت في هُويته؛ ومتى تيقنت من شكوكك.»

فأجاب صديقه قائلًا: «أظنُّ أنني شككت حقًّا حين اتصلت بك. ولم يكن ما أثار شكوكي سوى شعاع من الضوء الأحمر القادم من وراء الباب المغلق سطع على السجادة ثم خبا مرَّة أخرى. لقد بَدَا أشبه ببقعة دماء تزداد سطوعًا وهي تصرخ برغبتها في الانتقام. فكرتُ حينئذٍ في السبب الذي يجعله يتغير هكذا، وكنت أعرف أنَّ الشمس لم تبرز من وراء الغيوم بعد؛ لذا تفطَّنتُ إلى أنَّ السبب الوحيد الممكن أنَّ الباب الثانيَ المُطِل على الحديقة قد فُتِح ثم أُغلِق مرَّة أخرى، ولكن لو كان صاحب المنزل قد خرج ورأى عدوه آنذاك، لأطلَق صيحةً تحذيرية مدوِّية، وبعد ذلك ببعض الوقت، بدأ الشجار وسمعت صوت الضجيج ودوي إطلاق النار. وهنا بدأت أشعر بأنَّه خرج قبل قليلٍ لفعل شيء ما … أو من أجل تحضير شيء ما … أمَّا بخصوص ما أكَّد شكوكي، فكان شيئًا آخر. إذ تيقنت من شكوكي أخيرًا حين حاول تنويمي إيحائيًّا والسيطرةَ على روحي بفنِّ العينَين الأسود الذي بدا كالطلاسم ونبرته التي بَدَت كالتعويذة. وهذا ما كان يفعله مع أيلمر الكبير بلا شك، لكنَّ الأمر لم يقتصر على الطريقة التي كان يُحدِّثني بها، بل يشمل ماهية ما تكلَّم عنه، أقصد جانبَيه الديني والفلسفي.»

فقال الطبيب بفُكاهةٍ فَظَّة: «يؤسفني القول إنني شخصٌ عملي، ولا أبالي كثيرًا بالدين والفلسفة.»

فقال الأب براون: «لن تكون رجلًا عمليًّا أبدًا إلى أن تُبالي بهما. أصغِ إليَّ أيُّها الطبيب، أنت تعرفني جيدًا، وأظنُّ أنَّك تعرف أنني لست متعصِّبًا، وتعرفُ أنني على درايةٍ بوجود كلِّ أنواع البشر في جميع الأديان؛ أناسٌ صالحون ينتمون إلى أديانٍ فاسدة، وأناسٌ طالحون ينتمون إلى أديانٍ صالحة. ولكن توجد حقيقةٌ بسيطة تعلَّمتها بصفتي رجلًا عَمَليًّا، حقيقةٌ عَمَلية تمامًا، اكتشفتها بحُكم التجرِبة، مثل معرفة عادات أحد الحيوانات أو أجود أنواع النبيذ؛ نادرًا ما التقيتُ مجرمًا يتفلسف إلا في موضوعاتٍ على غرار الاستشراق والعَود الأبَدي وتناسُخ الأرواح، وعَجَلة القَدَر والثعبان الذي يَعَضُّ ذيله. وقَد اكتشفتُ بالممارسة العَمَلية وحدها أنَّ هناك لعنةً على خُدَّام ذلك الثعبان؛ فهم سيزحفون على بطونهم وسيأكلون التراب، وأنَّه لا يوجد أيُّ إنسان وغدٍ أو فاسق لا يستطيع التحدُّث في أمورٍ روحانية كهذه. قد لا تكون هذه الأمور هكذا حَقًّا في أصولها الدينية الحقيقية، ولكن هنا في دُنيانا العَمَلية، فهي دينُ الأوغاد، وحينئذٍ عرَفت أنَّ الذي يتحدث وغدٌ.»

وهنا قال بوين: «لماذا؟ لقد كنت أظنُّ أنَّ الإنسان الوغد يستطيع أن يعتنق أيَّ دينٍ يختاره تقريبًا.»

فصَدَّق القسُّ على ذلك قائلًا: «نعم، يستطيع أن يعتنق أيَّ دين، أو حتى يتظاهر باعتناق أيِّ دين، إذا كان تصرُّفه يقتصر على التظاهر. أمَّا إذا كان مجرد كذبٍ تلقائي مُعتاد، فلا شك أنَّ فاعله مُجرَّد كذَّابٍ معتاد الكذب بتلقائية. يمكن وضع أيِّ قناعٍ على أي وجه، ويمكن لأي شخصٍ أن يتعلم عباراتٍ معينةً أو يدَّعي أنَّه يحمل وجهات نظر معينة؛ إذ يمكنني أن أخرج إلى الشارع وأقول إنَّني ميثوديٌّ وسلي، أو ساندمانيٌّ، وإن كُنتُ لا أستطيع قول ذلك بلهجةٍ مقنعة جدًّا مع الأسف، لكنَّنا نتحدثُ هنا عن فنان، ولكي يتلذَّذَ الفنان بعمله، يجب أن يكون القناع مضبوطًا على الوجه بإحكام إلى حدٍّ ما، ويجب أن يكون ما يُظهِره هذا الرجل متطابقًا مع ما يُبطنه؛ إذ لا يمكنه أن يصوغ أفعاله إلَّا من بعض عناصر روحه. أظنُّ أنَّه كان قادرًا على ادِّعاء أنَّه ميثوديٌّ وسلي، لكنَّه ما كان ليستطيع قط أن يكون ميثوديًّا بليغًا مثلما يستطيع أن يكون متصوِّفًا روحانيًّا وقَدَريًّا بليغًا. أقصد نوعية المثالية التي يُفكِّر فيها مثلُ هذا الرجل حين يحاول حقًّا أن يكون مثاليًّا. لقد كانت لعبته معي كُلُّها تعتمد على أن يكون مثاليًّا قدر الإمكان، وكلَّما حاول هذا النوعُ من الرجال فِعل ذلك، وجدتَ عمومًا أن هذه هي نوعية المثالية التي يسعون إليها. فربما تجد الرجل منهم يقطُر دَمًا، لكنَّه سيستطيع دائمًا أن يقول لك بنبرةٍ صادقة جدًّا إنَّ البوذية أفضل من المسيحية. كلَّا، بل سيقول لك بنبرةٍ شديدة الصدق إنَّ الديانة البوذية أكثرُ مسيحيةً من الديانة المسيحية نفسِها. وهذا كفيلٌ بإبراز بشاعة تصوُّراته عن المسيحية وشناعة أفكاره عنها.»

فقال الطبيب ضاحكًا: «عَجَبًا! لا أعرف ما إذا كُنتَ تنتقد الرجل أم تدافع عنه.»

فقال الأب براون: «إنَّ وصف رجلٍ بأنَّه عبقريٌّ ليس دفاعًا عنه على الإطلاق. ومن الحقائق النفسية البسيطة أنَّ الفنَّان قد يخون نفسه بشيءٍ من حسن النية؛ فليوناردو دا فينشي لا يستطيع أن يرسم متظاهرًا بأنَّه لا يُجيد الرسم. وحتى لو حاول، فدائمًا ما ستكون لوحاته محاكاةً ساخرة قوية لشيء تافه. وهذا الرجل كان سيبتدع شيئًا مخيفًا وعجيبًا للغاية من شخصية الميثودي الوسلي.»

وحين خرَج القسُّ مرَّة أخرى قاصدًا منزله، كان البرد أشد، لكنَّه كان مُسكِرًا بعض الشيء؛ كانت الأشجار منتصبةً كشمعداناتٍ فِضِّية تحمل شموعًا رائعة في عيد تطهير السيدة العذراء. وكان البرد القارس واخزًا مثل ذلك السيف الفضي للألم الخالص الذي وَخَز قلب الطهارة نفسه، لكنَّه لم يكُن بردًا قاتلًا، باستثناء أنَّه بَدا كأنَّه يقتل كل العوائق الفانية لحيويَّتنا الخالدة التي ليس لها حدود. فيما بدا الأفُق الأخضر الشاحب للشفق، الذي كان مُزيَّنًا بنجمٍ واحد كنَجم بيت لحم، كما لو كان كهفًا من الوضوح في مشهدٍ يحمل بعض التناقض الغريب. كان الجو أشبهَ بفُرن تبريد أخضر يبثُّ الحياة في كل شيءٍ كحرارةٍ دافئة، وكُلَّما ازداد طغيان الألوان البِلَّورية الناتجة عن البرد على هذه الأشياء، صارت أخفَّ كمخلوقاتٍ مجنحة وأوضح كزجاجٍ ملوَّن! كان البرد يُثير شعورًا أشبه بوخز سماع الحقيقة، ويَفصل بين الحقيقة والضلال بنصلٍ بارد كالثلج، لكنَّ كل ما كان يتبقى لم يَبدُ حَيًّا للغاية هكذا قَط. وبدا كأنَّ كل البهجة صارت أشبهَ بجوهرة في قلب جبل جليدي. واستطاع القسُّ بالكاد أن يفهم حالته المزاجية بينما كان يغوص أعمق فأعمق في الغسق الأخضر، ناهلًا تياراتٍ أعمقَ من ذلك الهواء ذي الحيوية العذرية. وبدا أنَّ بعض الكَدَر والسوء المنسي كان يُترَك وراء ظهره، أو يُمحى كما يمحو الثلجُ آثارَ أقدام القاتل الدموي. وبينما كان يسير متثاقلًا نحو منزله عبر الثلج، تمتم بينه وبين نفسه قائلًا: «ومع ذلك، فهو مُحق جدًّا بشأن وجود السحر الأبيض؛ كلُّ ما كان ينقصه أن يبحث عنه في المكان المناسب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤