مقدمة
لماذا الشريعة الآن؟
اندلعَت ثورات العرب الأخيرة من أجْل الدخول بهم (ومعهم المسلمون عمومًا) إلى عالم الحداثة الحقَّة، بعد أن بدا أن قرنَين من الانشغال بها لم يمنحهم إلا حداثةً شكلية منقوصة؛ حيث إنها كانت مجرَّد حداثةٍ تقنية برانية تنشغل بالواقع، وليس بالعقل. لكنه بدا أن ما جرى من الصعود اللافت لجماعات الإسلام السياسي سوف يباعد بينهم وبين هذه الحداثة الحقة؛ لأن الإسلام، الذي تستدعيه هذه الجماعات، لم يكن الإسلام المفتوح القادر، لا سواه، على أن يصبح السبيل لبلوغ تلك الحداثة، عبْر جعْله أساسًا لقولٍ جديد يدخل به المسلمون إلى العصر، بل كان الإسلام بما هو مجرَّد جملة قواعد وشعاراتٍ مغلقة وفارغة تكتسب جدارتها من الانتماء إلى ماضٍ غابر كان للمسلمين فيه السيادة. وبطبيعة الحال، لا تسعى جماعات الإسلام السياسي، باستدعائها هذا الإسلام المغلق، إلا إلى مجرَّد احتلال المجال العام؛ ولو كان ذلك على حساب الإسلام ومستقبله دينًا.
وهكذا، فإن ما جرى في أعقاب تلك الثورات العربية إنما يكشف عن احتياج المسلمين، على العموم، إلى إعادة النظر في أصول دينهم التأسيسية الكُبرى؛ على النحو الذي يسمح لها (أي هذه الأصول) باستعادة ما كان لها من رحابة وانفتاح، ليس، فحسب، لكي تصبح أساسًا لقولٍ جديد يتفاعل به المسلمون، على نحوٍ منتج، مع قيَم العصر، بل لكي تقدر (وهو الأهم) على تحقيق ما يبدو أن هذه الأصول موضوعة من أجْله. فإن هذه الأصول هي موضوعة، بحسب ما تكشف القراءة المتأنية لِما ورد عنها في القرآن ذاته، من أجْل أن تكون ساحاتٍ للتلاقي والتقارب بين البشر؛ وإلى الحد الذي تكاد معه تكون أصولًا لاجتماعهم المدني التأنسي. وإذ يبدو — هكذا — أن القصد من «الوضع القرآني/الإلهي» لتلك الأصول هو أن تكون ساحات تواصل بين البشر، فإن ما يثير الغرابة حقًّا أن كيفية «التعاطي التاريخي/الإنساني» مع هذه الأصول كثيرًا ما أحالها (ولم يزل) إلى أدوات لترسيخ التفاوت والتمايز بينهم.
ويظل مفهوم «الشريعة» النموذج الكاشف عن هذا التبايُن بين وضعَين؛ أحدهما «إلهي» منفتح، بينما الآخر، وهو «الإنساني»، يتأرجح بين الانغلاق والانفتاح. ولعلَّه يَلزم التأكيد، هنا، على أن وضع الشريعة المتجه نحو التشدد والضيق (أو حتى الانغلاق) قد بدأ في التبلور منذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، مع الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور بالذات؛ الذي كان أول من أدرك، مع مُنظِّره الأيديولوجي عبد الله بن المقفع، القيمة القصوى للشريعة سلاحًا للضبط السياسي للجمهور. فإنه إذا كانت الدولة الأموية قد اعتمدَت على «العقيدة» فحسب (والجبر بالذات) كسلاحٍ لإخضاع الجمهور وتدجينه، يبدو أن الدولة العباسية قد أضافت «الشريعة» إلى العقيدة، سلاحًا للإخضاع والتنميط. إن ذلك يعني أن الاستخدام السياسي للشريعة كان هو نقطة البدء في تبلوُر الوضع المنغلق الذي استقر لها بعد ذلك.
وضِمن هذا السياق، يمكن فهْم ما جرى، منذ منتصف القرن الماضي، من استخدام الشريعة سلاحًا سياسيًّا تُحارب به جماعات الإسلام السياسي معركتها من أجْل قلْب الدولة القائمة، والإمساك بالسلطة بدلًا منها. ولقد ارتبط هذا الاستخدام الأخير للشريعة، كسلاحٍ سياسي، بتبلور ما يمكن القول إنه الإسلام الجهادي أو الانقلابي الذي كانت معطياته تتفاعل تحت السطح (على مدى الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى إعلان سقوط الخلافة في نهاية الربع الأول من القرن العشرين) حتى جاء سيد قطب، ومنحَه فرصة الحضور في قلب المشهد المصري قبل ما يزيد على نصف قرن من الآن تقريبًا.
وقد تمثَّلَت استراتيجية تيارات هذا الإسلام الجهادي أو الانقلابي في تحويل الشريعة إلى سلاحٍ سياسي يحاربون به دولةً ما بعد سقوط السلطنة العثمانية (المتسربلة برداء الخلافة)، في الادَّعاء المضمَر بالتطابق الكامل بين الشريعة والفقه؛ الذي كان القصد من ورائه إضفاء قداسة «الشريعة» ذات الأصل الإلهي على «الفقه» الذي هو نتاج الاجتهاد الإنساني. فإذ ركَّز هؤلاء الجهاديون/الانقلابيون نقدهم للدولة القائمة في أنها دولةٌ كافرة؛ لأنها — على زعمهم — لا تحكم بشرع الله، فإنهم قد اختزلوا هذا الشرع إلى مجرَّد النظام الفقهي الموروث من الماضي؛ والذي اجتهد الفقهاء في إنتاجه على مدى القرون. وبطبيعة الحال، كانوا، عبْر اختزالهم شرع الله في الفقه، يقصدون إلى إضفاء قداسة الشرع (الإلهي) على الفقه (الإنساني). ولقد كان ما جرى من الاتجاه المتزايد إلى بناء الفقه على «الخبر/الأثر» (الفقه النصِّي/الحديثي) ما ساعد على التعالي به إلى مقام المنتَج الإلهي؛ وذلك من حيث ما راح يجري من المخايلة بنسبة هذا الخبر/الأثر إلى الوحي من السماء. ومن حُسن الحظ أن القراءة المدققة تكشف أن هذا الاختزال للشرع في الفقه كان يمضي في المسار المعاكس تمامًا لِما يقرِّره القرآن من وجوب التمييز بينهما؛ وذلك من حيث يلحُّ القرآن على نسبة الفعل المنتج للفقه إلى البشر.
ولقد استند التركيز على الفقه من جانب الإسلام الجهادي على التصور الذي قام بترسيخه سيد قطب عن جاهلية المجتمع؛ وبما راح يرتبه على ذلك من أن إخراج المجتمع من تلك الجاهلية لن يتحقق إلا من خلال بناء «دولة الضبط» التي تتمثل وظيفتها الرئيسة في ضبط السلوك الخارجي لأفراد تلك المجتمعات الموصومة بالجاهلية والانحراف، والسيطرة عليها، تمامًا، من خلال جملة من القواعد الملزِمة الآمرة التي يكون مصدرها الفقه. وبطبيعة الحال، إذا كان عمل تلك الدولة، التي لا تنشغل، بحسب هذا الإسلام الجهادي، إلا بمجرَّد الضبط والتنميط، هو ضبط السلوك الخارجي لأفراد المجتمع من خلال الفقه، فإن ذلك يعني اختزال مسألة الإيمان (والدين كله) في محض السلوك الخارجي القابل للضبط؛ وهو اختزالٌ ضار بقضية الإيمان، الذي يفقد معناه في حال حصره في أفعال الجوارح فحسب. أما المضمون الباطني للإيمان، الذي يخرج عن إمكان أن يكون موضوعًا للضبط من الدولة، فإنه لا يكون موضع اهتمام هذا الإسلام الجهادي أبدًا. ولعلَّ ذلك يعكس حقيقة أن تصور هذا الإسلام الجهادي للدولة لا يتجاوز حدود أنها مجرَّد أداة للقمع والإكراه، وليس الدولة بما هي جهازٌ يقوم على تنمية المجتمع وخدمته أساسًا. ويعني ذلك، من دون شك، أن القمع إذا كان أحد الثوابت البنيوية للدولة العربية (المرسومة بالحديثة!) منذ ابتداء تبلورها عند بدايات القرن التاسع عشر، فإنه يبدو، ترتيبًا على ما سبق، أن جماعات الإسلام الجهادي، التي تتحالف الآن من أجْل الانقضاض على هذه الدولة، لا تعمل إلا في اتجاه استمرار بقاء هذه الدولة؛ ولكن بعد أن يتم إخفاء طابعها الاستبدادي الكامن وراء القداسة المفترضة للفقه هذه المرة. وإذَن، لا يتجاوز الأمر حدود أن القمعية الكامنة لهذه الدولة القائمة ذاتها سوف تتخفى وراء حجاب «القداسة» بعد أن كانت تتقنع بإكسسوارات «الحداثة».
وانطلاقًا من خطورته البالغة، يستلزم الأمر وجوب الكشف عما خضع لهذا المفهوم من تحولات التاريخ، التي مضَت به في غير المسار الذي أراد له القرآن أن يمضي فيه من جهةٍ، وبيان الدور الحاسم لكلٍّ من الضغوط الاجتماعية والسياسية والمحددات التاريخية، على العموم، في هذا التوجيه له من جهةٍ أخرى. وبطبيعة الحال يئول ذلك إلى تحرير المفهوم من الحمولة الأيديولوجية الكثيفة التي تجعل منه، لا مجرَّد موضوع للتلاعب به فحسب، بل تؤدِّي به (وهو الأخطر) إلى أن يصبح ساحةً للتحارب بين الفرقاء أيضًا. وغنيٌّ عن البيان أنَّ تجاوُز هذا التحارب، الذي يرتبط بالتداول الأيديولوجي، الذي استقر للمفهوم على مدًى زمني طويل، لن يكون ممكنًا إلا عبر الانتقال بالمفهوم إلى ساحة التداول المعرفي؛ التي تتيح له، دون غيرها، أن يصبح ساحة تواصل بين الفرقاء.
وإذا كانت نقطة البدء في نقْل مفهوم الشريعة من ضيق التداول الأيديولوجي إلى رحابة التناوُل المعرفي، تتمثل في الإمساك بالكيفية التي جرى بها تداوُله في القرآن على النحو الذي ترسَّخَت معه طبيعته الكلِّية غير الإقصائية، فإنه يَلزم التنويه بأن توجيه القرآن لدلالة مفهومٍ ما في اتجاهٍ بعينه، لا يحُول أبدًا دون خضوع هذه الدلالة، عبْر التاريخ، لضُروب من التحولات التي يمكن أن تأخذ بها في اتجاهاتٍ شتَّى؛ وإلى الحد الذي قد يجعل البعض منها يمضي في عكس الوجهة، التي أراد القرآن للدلالة أن تمضي إليها. وهنا يَلزم تأكيد أن مشكلة المفهوم لا تكمن، والحال كذلك، فيما تتعرض له دلالته من تحولات؛ وذلك من حيث أن حركة أي مفهوم في واقعٍ متغير بطبيعته لا بد من أن تفرض على دلالته مثل هذه التحولات؛ بل إن المشكلة لا تكون حتى في توجيه الدلالة في غير الاتجاه الذي أراد لها القرآن أن تتحرك نحوه، وإنما في المطابقة بين مضمون البعض من هذه الدلالات، الذي قد يبلغ به الأمر إلى حد التناقض مع ما يريده القرآن، وبين القرآن ذاته. وهكذا، لا تأتي إشكالية مفهوم الشريعة من أنه قد خضع لتحولاتٍ أدَّت فيها العوامل السياسية والاجتماعية دورًا حاسمًا؛ بل من استمرار مطابقته مع القرآن، على الرغم من دخول العوامل الاجتماعية والسياسية في تركيبه؛ وبما يُضفي على هذا التركيب (الاجتماعي/السياسي) مسحةً متعالية وشِبه إلهية. وغنيٌّ عن البيان أن تلك المطابقة هي الأصل الثابت الذي يقوم خطاب الإسلام السياسي باستثماره في حشد الجمهور وراء ما يرفعه من دعاوى. ومن هنا أهمية الانشغال بتفكيك هذه المطابقة، على النحو الذي يسمح بضبط العلاقة بين «القرآني» من جهة، وبين «الاجتماعي/السياسي» من جهةٍ أخرى؛ وبما يفتح الباب أمام تحرير الواقع من قبضة المتلاعبين به سياسيًّا باستخدام الدين.