الفصل السادس

في فلسفة الرياضيات

فلسفة الرياضيات خطوة أبعد في العطاء القادر على تجذير العقلانية العلمية. إنها عقلنة العقلانية الرياضية ذاتها. والثابت أن رياضيِّين إسلاميِّين تجاوزوا الرياضيات إلى فلسفتها، فتوقَّفوا مليًّا ليتفكروا في مناهج عملهم وليُبدعوا أساليبَ مبتكرة للبحث الرياضي. ونتوقف بدورنا — مع رشدي راشد — عند واحد من فلاسفة الرياضة وعلمائها المسلمين الذي يمثِّلون تعامل الإسلاميين الخلَّاق مع التراث الإغريقي ودورهم في تطويره. إنه أبو سعيد أحمد بن محمد بن عبد الجليل السجزي المتوفى حوالي عام ٤١٥ﻫ/١٠٢٤م. اشتغل بالهندسة واشتهر بدراساته للقطوع المخروطية والدائرة. وقد نشر كارل سكوي Carl Schoy عام ١٩٣٦ في مجلة «إيزيس Isis» الرائدة في دراسة تاريخ العلوم عند العرب، بحوثًا للسجزي في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية وفي إنشاء المسبع المنتظم.١
جاء السجزي في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، عاصر بدايات المرحلة التي أطلق عليها جورج سارتون اسمَ عصر البيروني؛ فقد كان أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (٣٦٢–٤٤٠ﻫ/٩٧٣–١٠٤٨م) في طليعة العلماء والرياضيين الإسلاميين الذين حظوا بالشهرة، وبالاهتمام اللائق بجهوده العلمية الرفيعة في الرياضيات والفلك، وبالمثل في التاريخ والجغرافيا والأديان المقارنة والفكر الشرقي وسواها، حتى قال عنه المستشرق الألماني إدوارد ساخاو E. Sachau في جامعة برلين العام ١٨٨٧م، إنه أعظم عقلية عرفَتها الحضارة الإسلامية والعصور الوسطى. البيروني إذن شاهدُ ثقة على جدارة السجزي وأهميته، وهو يُورد في البحوث الرياضية التي اعتمد عليها «رسالة في شكل القطاع للعلامة أحمد بن محمد عبد الجليل السجزي»، ولا يذكر اسمه إلا مقرونًا بلقب العلامة، وذلك في دراسة البيروني عن «استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها». وهي تتلخص في شروح وإثباتات بطرق مختلفة لأربع نظريات ناتجة عن خواص الخط المنحني؛ أي المنكسر داخل الدائرة، وانقسامه بالعمود النازل عليه من منتصف القوس. وفي معالجة النظريتَين الأوليَين، حرص البيروني على عرض ومناقشة براهين السجزي.

هذه شهادة من رياضياتي عظيم على أن السجزي هو الآخر رياضياتي عظيم، وهو رياضياتي فقط، لم يعرف إلا من خلال أعمال رياضية. ويعنينا من أمره الآن أنه كان أيضًا فيلسوف رياضيات، يتوقف عند مسائل فلسفية تُثيرها مباحثُه الرياضية، كشأن إبراهيم بن سنان والحسن بن الهيثم وسواهما من فلاسفة الرياضة الإسلاميين.

وقد انشغل السجزي بقضية رياضية تحتكم إلى مفهوم اللامتناهي في الصغر. إنه مفهوم ليس مفروضًا بالخبرة ولا بالمنطق، وهو ضروري للرياضيات. وقبل أن يتوصل العصر الحديث — بفضل نيوتن أو ليبنتز أو كليهما — في القرن السابع عشر إلى حساب التفاضل والتكامل الذي يعالج اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر، حيَّرت مسألة اللامتناهي الرياضيين طويلًا «وظلَّت دائمًا على عتبة تطور الرياضيات كأنها التنين الخرافي الذي يحرس مدخل الجنة.»٢
توقَّف السجزي عند القضية الرابعة عشرة في الكتاب الثاني من «القطوع المخروطية» لأبولونيوس، وتنصُّ هذه القضية على أن الخطوط المقاربة والقَطْع الزائد يقتربان من بعضهما أبدًا دون أن يلتقيَا، مما يعني اقترابًا بمقادير لا متناهية في الصغر، مقادير أقل من أي طول يمكن تعيينه. وكما أشار رشدي راشد تنبثق الصعوبة من أن مفهوم اللامتناهي لم يُوضَع له أبدًا تعريفٌ واضح، وتمركزت المشكلة الفلسفية مع السجزي في الفجوة بين استعدادنا لتصور خاصية ما أو قضية ما، وبين قدرتنا على تأسيسها تأسيسًا محكمًا. فهل نستطيع تأسيس خاصية رياضية نحن غير قادرين على أن نتصورها تصورًا واضح المعالم؟٣ من هنا ينشغل السجزي بالرابطة بين المفهوم والماصدق، بالعلاقة بين التصور والتصديق. ويقدم نموذجًا لتعامل الرياضيين الإسلاميين الحذرة مع مفهوم اللامتناهي.
فقد وضع منهاجًا طوبوغرافيًّا للقضايا الرياضية، يتلخص في تصنيفها تصنيفًا تسلسليًّا من القضية الأولية إلى القضية الأقل أولية، ثم الأقل والأقل وهكذا، من حيث العلاقة بين إمكانية التصور وإمكانية البرهنة، فجاء تصنيفه للقضايا الرياضية على هذا النحو:
  • (١)

    القضايا التي يمكن تصورها من المبادئ الفلسفية مباشرة.

  • (٢)

    القضايا التي يمكن تصورها قبل أن يكتمل برهانها.

  • (٣)

    القضايا التي يمكن تصورها حينما تتشكل فكرة برهانها.

  • (٤)

    القضايا التي يمكن تصورها فقط بعد البرهنة عليها.

  • (٥)

    القضايا التي يصعب تصورها حتى بعد البرهنة عليها.

وقد استخدم أمثلة لتوضيحِ كلِّ حالة من تلك الحالات الخمس. وضع للنمط الأول أو النوع الأول، وهو القضايا التي يمكن تصورها من المبادئ الفلسفية مباشرة، مثالًا مأخوذًا من كتاب «الطبيعة» لأرسطو، هو القضية القائلة: إن الأشياء المتصلة يمكن قسمتها إلى ما لا نهاية، موصيًا مَن يريد تفهُّمَ هذه القضية أن يتبع طريقًا فلسفيًّا يتمثَّل في البدء بتعريف الامتداد والاتصال، وتبيان أن الشيئَين الغير قابلَين للقسمة لا يمكن أن يشكِّلَا متصلًا، وأن يستنبط من هذا القضية المذكورة آنفًا.٤ وتُعرف هذه الطريقة ببرهان الخلف، وهو منهج إثبات القضية عن طريقِ إثباتِ كذبِ نقيضها، وهو منهجٌ أثير لدى علماء الرياضة. وعلى هذا النحو كما يقول رشدي راشد:
«تترتب أمثلة السجزي بالنسبة للأنماط الأربعة الأولى، وفقًا لطبيعة القضايا الأقل والأقل أولية. وهذه الطبيعة لا تعكس فقط درجة الاعتماد المنطقي في علاقتها بالبديهيات، بل تعكس أيضًا الدرجة التي تبدو الأفكار بالنسبة لنا أكثر أو أقل في وضوحها الذاتي، ودرجة اعتماد ذلك الوضوح الذاتي على قدرتنا على إدراك الخصائص من الأشكال الهندسية. وبالتالي فإن استنباط الخاصة التي يصعب تصورها من خاصة أخرى أقل في صعوبة التصور، يقنع العالم الرياضي بإمكانية تحسين تصورنا. وهذا هو منهج السجزي في معالجة النمط الخامس للقضايا.»٥

وإلى ذلك النمط الخامس من القضايا، وهي التي يصعب تصورها حتى بعد اكتمال البرهنة عليها، تنتمي القضية ١٤ من الكتاب الثاني للقطوع المخروطية، موضع النظر الفلسفي للسجزي في بحثه عن سبُل ملائمة أكثر في الحديث عن اللامتناهي في الصغر. ونتعلم من هذه المقاربة الفلسفية للسجزي أن استنباط الخاصة التي يصعب تصورها من أخرى أقل في صعوبة التصور منهاج رياضي مثمر يؤدي إلى تحسين التصورات الرياضية.

ولعل السجزي في هذا يرهص بواحد من كشوف المدرسة المنطقية التحليلية المعاصرة في فلسفة الرياضيات، المتلخص في أن برهان النظرية لا يخلق صدْقها خلقًا، بل ينقل هذا الصدق من المقدمات إلى النتائج، أو من المسلَّمات والمصادرات إلى النظريات.٦
وأخيرًا بيَّنَت دراسة رشدي راشد لإسهام السجزي الفلسفي أن المشكلة في مسارها التاريخي من بعده تحوَّلت من التقابل بين التصور والبرهان إلى التقابل بين الخيال والبرهان. وهذا ما توضحه معالجة موسى بن ميمون (١١٣٥–١٢٠٤م)، أبرز فلاسفة اليهود ومتكلِّميها في العصور الوسطى، خرج من قرطبة واستقر به المقام في مصر حيث ضريحه ومعبد يهودي باسمه في حي الموسكي. لم يكن ابنُ ميمون رياضيًّا ذا إنتاج علمي رياضياتي، لكنه ذو اطِّلاع «متأنٍّ» — بتعبير راشد — على الأعمال الرياضية الهامة وتعليقات عليها، ومنها «القطوع المخروطية» والتعليق على القضية ١٤ المذكورة.٧ وبإحلال الخيال محل التصور، حلَّ علم النفس محل المنطق، ففقدت المشكلة كثيرًا من قوَّتها المنطقية. ولكن بعد أن قام السجزي بدوره في تنقيح مناهج النظر الرياضي كمثال شاهد على فلسفة الرياضيات الإسلامية.

•••

ولعل فلسفة الرياضيات أعلى مدارج التجريد، ولكي يتكامل عرض عطاء كان الأوفى، ننتقل إلى جانب تطبيقي متعين مع أعظم علماء العصور الوسطى الحسن بن الهيثم، ودوره الماثل في ترييض الفيزياء، كواحد من أدوار عديدة قام بها هذا العلَم الفذ في تاريخ العلم الرياضياتي/الفيزيائي.

١  قدري طوقان، تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، ص٢٤٢.
٢  توبياز دانزج، العدد: لغة العلم، ترجمة د. أحمد أبو العباس، مكتبة مصر، د.ت، ص٦٥.
٣  رشدي راشد، «القابلية للتصور والقابلية للتخيل والقابلية للإثبات في التفكير البرهاني»: السجزي وابن ميمون في القضية ١٤ الكتاب الثاني، من كتاب أبولونيوس (القطوع المخروطية). في ترجمة: د. يمنى طريف الخولي، الرياضيات وفلسفتها عند العرب، ص٧٥.
٤  رشدي راشد، السابق، ص٨٣.
٥  السابق، ص٩١.
٦  السابق، من مقدمة بقلم يمنى الخولي، ص٥٦–٥٧.
٧  دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ص٣٧٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤