رواية عفيفة

ترجمة المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ أحمد أبي خليل القباني الدمشقي نقلًا عن كتاب «الموسيقى الشرقي»١

هو العلَّامة الفاضل، والأديب الكامل، الأستاذ الجليل، الشيخ أحمد أبي خليل.

ولد المُترجَم من أسرة كريمة المحتِد بمدينة دمشق المحمية، سنة ١٢٥٨ﻫ، ولما ترعرع شمَّر عن ساعد الجد في اجتناء ثمر العلوم، حتى صار بين أخدانه كالبدر بين النجوم، وارتقى ذروة المعارف، فتحلَّى من المجد بالتالد والطارف، وفي ذلك الحين كلَّفه «صبحي باشا» والي تلك الديار، والعالم بما في الأسفار، من جليل الأخبار، أن يؤلِّف جوقًا للتمثيل، الممزوج بالغناء والترتيل، ليُرقِّي بواسطته الأفكار السقيمة، إلى مكارم الأخلاق والمبادئ القويمة، فقام بهذه المأمورية خير قيام، حتى افتخر به الخاص والعام، وما زال بين آله وصحبه في أسعد حال، وأرغد عيش وأنعم بال.

والشمل مجتمع والجمع مشتمل
على الجميل وحسن الخَلق والخُلُق

حتى أنزلته الأيام بعد إثبات رجله في ركابها، وخذلته حوادث الدهر بعد أن ذلل العظيم من صعابها.

ومكلِّف الأيام ضد طباعها
متطلِّب في الماء جذوة نار

ذلك أن بعضًا من مشايخ الشام قدَّموا تقريرًا إلى دار خلافة الإسلام، قالوا فيه ما معناه: إن وجود التمثيل في البلاد السورية، مما تعافه النفوس الأبية، وتراه على الناس خطبًا جليلًا، ورزءًا ثقيلًا، لاستلزامه وجود القيان، ينشدن البديع من الألحان، بأصوات توقظ أعين اللذات، في أفئدة من حضر من الفتيان والفتيات، فيمثل على مرأى الناظرين، ومسمع من المتفرجين، أحوال العشَّاق، وما يجدونه من اللذة في طيب الوصل بعد الفراق، فتطبع في الذهن سطور الصبابة والجنون، وتميل بالنفس إلى أنواع الغرام والشجون، والتشبه بأهل الخلاعة والمجون، فكم بسببه قامت حرب الغيرة بين العشاق، وسفك الدماء البريئة وأراق، وكم سلب قلب عابد، وفتن عقل ناسك، وحل عقل زاهد. كذا قد يرى الإنسان فيه من اللهو، وأحاديث اللغو، ما يذهب بفكره، ويضل الطير عن وكره، حتى إذا ما ارتكبت النفس أعظم الموبقات، واحترمت أنكر المحرمات، وابتذلت الخدور، ونفقت سوق الفحش والفجور، وذهب المال، وساء الحال، لا ينفع من ثَمَّ التلافي بعد التلاف، ولا يرد السهم إلى القوس وقد خرق الشغاف، ومثَّلوا بالتمثيل، زاعمين أنه أس كل رزيلة وفعل وبيل …

فحرر الأوغاد كتابًا إلى أحد أعيان الإسكندرية، المشهود له بالفضل وحسن الطوية، يستشيره في الشخوص من عدمه، ويخبره بما جرعه الدهر من كأس غدره وظلمه، فاستدعاه، مؤكِّدًا له نيل مناه، فكان الناس ينتظرون وقت وصوله، انتظار المحب رجع رسوله، وأقاموا يترقبون تحقيق ذلك الأمل حتى حضر الفاضل الأجلُّ، فقوبل من وجهاء القوم على الرحب والسعة، والكرامة والدعة، وأخذ اسمه من ذلك الحين ينتشر ويدوي في كل قطر، كأنما تداول سمع المرء أنملة العشر، فكان مرسحه موردًا عذبًا يؤمه الكبراء والشعراء والأدباء لمشاهدة رواياته، وجلُّها من منشآته،٢ لما جمعت بين جزالة الألفاظ وعذوبتها، ورقة المعاني ودقتها، أرهفت نواحيها بالتهذيب، وطرزت مبانيها بكل فكر غريب، شهد بحسنها الكثير من أئمة البلاغة، ومتقني صناعة الصياغة، كما شهد من قبلُ أكابر الموسيقيين، وفطاحل الملحنين، بما له من بديع التلاحين الرقيقة، لأناشيد الطرب الأنيقة، ما يزري برنَّة الدينار، ويذهب بصوت الناي والأوتار، ويطوح بالهموم والأتراح، ويُغنِي بلذته عن الراح، فكم له من قطعة رافعة للقدر، ومدحة شارحة للصدر، ومرثية مبكية للعيون، ومقطعات مختلفة الفنون. هذا ما يتعلق بالإنشاد والإنشاء، أما التمثيل فحدِّث عنه كما تشاء؛ فقد بلغ فيه أستاذنا من الإجادة ما فوق الإرادة، يجسِّم الوهم، ويقرِّبه إلى الفهم، يلبِّس المجاز بالحقيقة، وما تكلَّف ولكن أملَت عليه السليقة.
وفي تعب من يحسد الشمس نورها
ويجهد أن يأتي لها بضريب

ومن أجلِّ مزاياه أنه كان خصيصًا بطريق من طرق الغناء، وتفرَّد بها تفرُّد القمر في السماء، فكان بعد انتهاء كل رواية، يلقي ألحانًا تشهد له بالمعرفة والدراية، تنزو لها الأكباد، ويتحرك لحسن وقعها الفؤاد؛ حتى أحرزت مصرنا من إقامته فيها فنونًا جزيلة، وفضائل جليلة، يقدِّرها قدرها أولو السجايا الحميدة والعقول الحصيفة، ولا ينكرها إلا ذوو الأغراض السافلة والآراء السخيفة. وكان أيضًا على جانب عظيم من ثبات الجأش وقوة العارضة، في تفهيم المعنى وتقرير القاعدة، فيقولهما بكلام بسيط يقرب من الأفهام، ويسهل تناوله لمن له بهذا الفن أدنى إلمام، ولطالما سمعته يقول: «التمثيل جلاء البصائر، ومرآة الغابر، ظاهره ترجمة أحوال وسير، وباطنه مواعظ وعبر، فيه من الحكم البالغة، والآيات الدامغة، ما يطلق اللسان، ويشجِّع الجبان، ويصفِّي الأذهان، ويُرغِّب في اكتساب الفضيلة، ويفتح للبليد باب الحيلة، ويرفع لواء الهمم، ويحرِّكها إلى مسابقة الأمم، ويبعث على الحزم والكرم، يلطِّف الطباع، ويشنِّف الأسماع، وهو أقرب وسيلة لتهذيب الأخلاق ومعرفة طرق السياسة، وذريعة لاجتناء ثمرة الآداب والكياسة، هذا إذا تدرَّج فيه من ذكر الأحوال إلى ضرب الأمثال، ومن بيان المنهاج إلى الاستنتاج؛ ليرتدع الغر عن غيِّه ويزدجر، ويجد العبرة في غيره فيعتبر.»

صفاته: كان رحمه الله أنيسًا وديعًا، ذا خلق وسيم، وطباع أرقَّ من النسيم، أديبًا ذرب اللسان، لبيبًا لم يختلف في فصاحة ألفاظه اثنان، يجمع في شعره الرواية والرويَّة، والبديهة القوية، كل بيت له من الشعر، خير من بيت تبر، له سماحة وحماسة، وتدبير وسياسة، مع ثبات أقدام، وصبر وإقدام، قد صيغ من إكسير اللطافة، وتجسَّم من روح الظرافة، كريم الظفر، وكذا ذو المنة إذا قدر، مقبول الرجاء، عند الوزراء والأمراء، له معرفة تامة ببعض اللغات غير العربية، كالفارسية والتركية، ولم يزل اسمه يُضرب في كل مكان به المثل، كما كانت باطن يده في حياته للندى وظاهرها للقُبل، وبالجملة فمحاسنه لا تُحصى بعدُ، وأوصافه لا تُدرك؛ لأنها لا تنتهي إلى حد.

سافر إلى الآستانة في آخر عمره، ولا رفيق له غير علمه وفخره، فأكرم مثواه بعض وزرائها ذوي المروة، والنخوة والفتوة، وأنزله المنزل الرحيب، واعتنى به اعتناء المحب للحبيب، وأخيرًا استأذنه في الظعن، وأعلمه باشتياقه إلى الوطن، فآب إلى الشام، شاكرًا جميل هذا الهمام، مثنيًا عليه ثناء الروض على الغمائم، مترنِّمًا بذكر محاسنه ترنُّم الحمائم، فوافته المنية ليلة سبع وعشرين من رمضان سنة ١٣٢٠ﻫ.

فهلعت القلوب عند هذا النبأ العظيم، وارتاعت النفوس لوقعه الأليم، بموته أحيا الأسف، وشوى الأكباد على جمر التلف.

وكنت عليه أحذر الموت وحده
فلم يبقَ لي شيءٌ عليه أحاذر

فكم ارتفعت عليه من الصدور حسرات وزفرات، وسالت من المآقي دموع وعبرات!

فواهًا لحشاشة الفضل أرصدها الدهر غوائله، وبقية الفن جر عليها كلاكله، ويا لهفي على هضبة العلم كيف زُلزلت، وحدَّة الذكاء والفهم كيف فُلِّلت، ويا حسرتي على رجل كان عالمًا في جسم، وأمة في فرد شهم، أصبح نفسًا هامدًا، وجسمًا بائدًا، في جوف رمس تقتتل عليه الآراض والنمال، بعد أن كان علمًا في هدايته، وعلامة في درايته، وبدرًا ساطعًا ونجمًا معًا!

والموت نقَّاد على كفه
جواهر يختار منها الحسان

ترك خلفه فنونًا تبكيه، وتلاميذ ترثيه، ومرسحًا كان بوجوده مجمع الأنس ونادي الهنا والسرور، فإذا ما صعد عليه صفق الناس طربًا وانشرحت الصدور. تفرق شمل صحبه والرفاق، وآخر الصحبة الفراق.

وقد انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام

ذلكم هو الموت الذي لولاه لما كان للشجاعة فضل على الجبن والضراعة، والكأس التي يستوي في تجرُّعها الصغير والكبير، والسبيل المحتوم سلوكه على الصعلوك والأمير، فكلنا مسوقون بقدرة من يقول للشيء كن فيكون، فسبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه تُرجعون.

مقدِّمة

الحمد لله الذي جعل سير الأولين، تذكرة وعبرة للمتأخرين، وصلاة وسلامًا على نبي جاءنا بالكتاب المبين، هدًى ورحمةً للعالمين.

وبعد، فهذه القصة من أحسن قصص المقدمين، أزفها للأدباء من القراء والمتأدبين، لما اشتملت عليه من الغرض النبيل، والفضل الجزيل، وما شحنت به من ألفاظ تأنق الخاطر في تهذيبها، ومعانٍ عني الطبع بتهذيبها، ونثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد، وسماع مقرون بأطيب النقر، وغناء كالغنى بعد الفقر، يُحيي القلوب، ويميت الكروب، وناهيك بمؤلِّفها من كاتب لا تمجُّ كلامه الآذان، ولا يُبليه الزمان، إن قال صال، وإن أجاب أصاب، وإن تكلم أبهج القلوب، وإن خطب دفع الخطوب، وإن نظم ترقرق في شعره ماء الطبع، وارتفع له حجاب القلب والسمع، كأنما يوحى إليه في النظم والنثر، أو كأنما يغترف آدابه من البحر، العلَّامة الجليل، الشيخ أحمد أبي خليل. كان رحمه الله يجمع في شعره ونثره بين الإسراع والإحسان والإبداع، يرضى بعفو الطبع، ويقنع بما يخفُّ على السمع. وما حدا بي إلى تدوين هذه القصة الغرَّاء، والفريدة العصماء، إلا غيرة على ما للأستاذ من المؤلفات، وجليل القصص والمصنفات، أن تعبث بها يد الزمان، أو تُترك في زوايا النسيان، فاستعذت بالله من العجز والكسل، واستعنت به على بلوغ الأمل، ولم آلُ جهدًا في تنميقها، وترصيعها وتنسيقها، فاخترت لها من أجود القريض، ما يزدري البيت منه بالروض الأريض، وزيَّنتها بالمعاني المخترعة الرائقة، وكسوتها بالألفاظ الشائقة، ونزَّهتها عن العبارات السخيفة والمعاني السقيمة، فأصبحت بمنِّه كالجوهرة صغيرة الحجم كبيرة القيمة، وأسأله تعالى التوفيق إلى أقوم طريق.

أما تلخيص هذه القصة، فهو أن أميرًا من الأمراء اشترى جارية حسناء، كاعبًا رداح، ترتاح لها الأرواح، عديمة المثال، نشأت في حجر الدلال.

فأحبَّها وتزوجها، ومن ربقة العبودية أعتقها، ورفعها مكانة عالية، وأفرغ عليها التحف الغالية، وبينا هو يرتشف كئوس اللذات، ويمتِّع النفس بصنوف المسرَّات، والوقت معين، وماء الشبيبة مَعين، ونشر البشر فائح، ونور الهناء لائح، إذ جاء كتاب من صديق يخبره فيه بوقوعه في الضيق، ويرغب في نجدته، برجاله وعدته، ويذكره بالمروَّة، والنخوة والفتوة، فلبى الأمير الطلب، وراعى حق الجوار وذمة العرب، ونزح إليه بجيش ذي أفواج كالأمواج، وخيول كالسيول، ومواكب كالكواكب، بعد أن فوَّض الأمر لجليسه القديم، الأمير سليم، وأوصاه خيرًا على الآل والمال، وأخبر زوجته بحقيقة الحال، ثم سارع بالمسير، لخلاص صديقه الأمير.

أما سليم هذا فكان على غاية من الدهاء، والخيانة والرياء، ظاهره يسر الناظر، وباطنه يسوء الخابر، يمينه حنث، وعهده نكث، يحفظ الإساءة، وينسى الإحسان، ويخون وقد وفى الزمان، حبَّب الشيطان إليه الفساد، حتى سيط بلحمه ودمه، وكره إليه الرشاد، حتى ألقاه وراء ظهره وتحت قدمه، فراود زوجة مولاه على إثر رحيله، ولم يراعِ حرمة صفيِّه وخليله، فاعتصمت منه بالعفاف والأمانة، ولم تتبع طريق الخيانة، فأبى له ضعف العقل والنحيزة، ولؤم الطبع والغريزة، إلا إصرارًا على جهله وسفهه، واستمرارًا في غيه وعمهه، ورماها في ضيق الحبوس، تعاني المصائب والبئوس، وصار يتزلِّف إليها تارة بالترغيب، وأخرى بالتهديد والترهيب، فلم ينل منها إلا إعراضًا، زاده ولهًا وأمراضًا، فحرر كتابًا إلى مولاه بالبهتان والزور، ورماها فيه بالفسق والفجور، فجاءه الأمر بقتلها، جزاء خيانتها وغدرها، ومن هنا يعلم أن للباطل صولة، غير أن للحق دولة، والباطل لجلج، والحق أبلج؛ لأن الأمير عليًّا آب من السفر، مكلَّلًا بإكليل الفوز والظفر، بعد أن شتت الأعداء أيدي سبا، وفرَّقهم جنوبًا وصبًا، ونكأ بهم نكاية القضاء والقدر، وأثَّر فيهم تأثير النار في يابس الشجر، فوجد بلاده ملتهبة بجمرات سليم وظلمه، ومنتهَبة بنزوات غشمه؛ الأعراض منهوكة، والأستار مهتوكة، والدماء مسفوكة، ومعالم الحق فيها قد درست، وألسنة العدل بينها قد خرست، وصارت الخصاصة، فوضى بين العامة والخاصة، حتى أدَّاهم الغلاء إلى البلاء، والبلاء إلى الجلاء، فاستنارت فكرته بنور الحقيقة، وأزمع على كشف المُخبَّأ بأية طريقة، فسأل من القينتين، ليتبين له الصدق من المين، فنزَّهاها عن المعصية والخيانة، ووصفاها بكل صيانة وأمانة، واستشهدتا على ذلك بكتاب سليم، الذي أرسله في سجنها بواسطة النديم، ولحسن حظه أن وجد أيضًا حليلته العفيفة، والطاهرة النادرة الشريفة، فسجد لله شكرًا، وتلا قوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وأمر بقتل ذلك الخائن، والعُتُلِّ المائن، فقُبضت روحه الخبيثة على ضلال وخبال، وسوء حال ووبال، وذهب إلى أخراه على النفاق، كما عاش في دنياه على الشقاق، بعد أن ظهرت للملأ عيوبه، ونُشِرت ذنوبه، وصار مادحه هاجيًا، وصديقه معاديًا، وتناولته الألسن العاذلة، وتناقلت تاريخه الأندية الحافلة، ولزمه عار لا يُمحى رسمه، وشنار لا يزول وسمه، وأحرى بالظالم أن يصير عظة للرائين، وحديثًا للراوين.

إذا ما أهان امرؤٌ نفسه
فلا أكرم الله من يكرمه

واجتهد الأمير بعد ذلك في تطهير بلاده من الفساد، ومحو أهل الشقاق والعناد، فسكنت الرعية، وانحسمت الأذية، وأيقنت السكان بالخير الموفور، والانتقال من الظلمات إلى النور.

«النتيجة»: إن الهوى مركب لذيذ، يهوي براكبه إلى المهالك والفساد، إن لم يمسك عنانه بيد العقل والرشاد، ومن اجتهد في مجاهدة هواه؛ فقد كُفي أعدى أعداه؛ لأن سليمًا أضله عماه، وزلَّت به قدماه، فراغ عن المذهب القويم، وزاغ عن الصراط المستقيم، وشرب كأس الجهالة، واستوطأ مركب الضلالة، ترقَّى مرتبة بغير عقل، ومنزلة حلَّها بغير فضل، فأزاله الجهل عنها، وسلَّه منها، فانحط إلى رتبته، ورجع إلى قيمته، بعد أن حلَّق إلى السماء وخليق به الخفض. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.

فلا تعدلوا إذًا أيها الشُّبَّان عن محجة الحجا، واتَّقوا دعوة المظلوم في ظلام الدجى، وامنعوا من الأمل ما كان جموحًا، وتوبوا إلى الله توبة نصوحًا، والزموا الإخلاص في الأعمال، واقطعوا حبال الآمال، وتحلَّوا بعقود المكارم، وتخلَّوا عن انتهاك المحارم، وجدُّوا كي تنالوا جد المجتهدين، ولا تعتدوا؛ إن الله لا يحب المعتدين، واعقلوا بالشكر شوارد النعم، وصونوا أعراضكم ببذل النعم، واتخذوا الصبر على البلوى عُدة وجُنة، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة. اللهم ألهمنا جميعًا إلى ما فيه الصواب، ولا تُزغ قلوبنا إنك أنت الوهاب.

الفصل الأول

الجزء الأول

(دار وبه عفيفة)
عفيفة :
بحمدك يا مولاي في السر والجهر
وبالشكر أحظى بالمزيد مدى الدهر
إلهي لك الإنعام يا خير منعم
رزقت جميع الخلق في البر والبحر
رحمت خضوعي وانكساري وذلَّتي
وخلَّصتني من ربقة الأسر والضر
وأعليت قدري إذ غدوت قرينة
لشهمٍ عليِّ الشان والمجد والقدر
له كرم يُغني عن السحب مثلما
له طلعة تُغني عن الشمس والبدر
فيا رب متِّعني بطول حياته
وهبه جزيل الخير يا جابر الكسرِ
اللهم لك الحمد والشكر، على ما منحتني به من رفعة القدر؛ إذ حننت على مولاي الأمير ذا الرتبة الجليلة، فاشتراني وأعتقني وجعلني لحضرته حليلة، وأفرغ عليَّ التحف الثمينة، واشترى لي قينين وهما أمينة وفطينة، وأمرهما بخدمتي؛ لأحصل على راحتي، فأسأل الله أن يحفظه من كيد الحسود، ويمتِّعنا ببقاء ذاته في الوجود.

الجزء الثاني

(عفيفة – أمينة)
أمينة : قد شرَّف يا مولاتي سيِّدي الأمير الجليل.
عفيفة : أصحيح ذلك يا أمينة؟
أمينة : نعم، وها هو قد قرب من الباب.
عفيفة : اذهبي إذًا وأحضري المطربين الحسان؛ ليطربونا بالسماع ورخيم الألحان.
أمينة : سمعًا وطاعةً.

الجزء الثالث

(عفيفة)
عفيفة : أشكر أيادي الزمان البيضاء التي أنهلت عليَّ أعظم هناء؛ حيث أنعمت عليَّ بقرب سيِّدي الأمير، الذي أحيا بفضله فؤادي الكسير.

الجزء الرابع

(عفيفة – الأمير علي)
عفيفة :
أهلًا وسهلًا يا أمير ومرحبًا
فرَّقت أتراح النوى أيدي سبا
وجمعت شمل الأنس يا كل المنا
وسقيتني كأس السرور مطيَّبا
علي : وأنت انعمي أيتها العفيفة، والحبيبة اللطيفة الشريفة.
عفيفة : وأنت انعم مساء وصباح، يا منى النفوس وحياة الأرواح، لقد أحييت يا مولاي قلبي، كما أذهبت بمزيد إحسانك كربي، فأسأل العظيم المنَّان، أن يبقيك سعيدًا مدى الزمان.
علي : قد أنجزت يا عفيفة الأيام تلك المواعيد، وقلَّدني الله من خزائن السرور بالمقاليد، واستقبلتني ثغور اللذات بواسم، وجعلت أوقاتي أعيادًا ومواسم، فعليَّ أن أقيم سوق الطرب، وأجعل قربك بعد الفراق غاية الأرب، وأجتلي وجوه الأفراح المتتابعة، وأجتني من الوصل ثماره اليانعة، وأتمتع من حديثك بكل مطلوب، إلى أن تأذن شمس حياتي بالغروب.
أتاني الأنس يسعى بعد حين
على رغم العدا فأقر عيني
ووافتني عفيفة بالتهاني
لأقضي من لمى اللذات دَيني

الجزء الخامس

(عفيفة – الأمير علي – المطربون)
المطربون (مقام حجاز دوكاه – أصول نوخت ٧ من ٤)٣ :
زارني مرادي
وكان الطبيب
واشتفى فؤادي
وجاد الحبيب
والهنا ينادي
بموت الرقيب
ما هنا عواذل
كفينا الملام

خانة

مرحبًا وأهلًا
بسيد الملاح
ناطري تملَّى
بنور الصباح
ذا الرضا تجلي
ووصله أباح
ليلة تعادل
صفاها بعام
علي :
على المعالي شهدنا ميل أغصان
تدني التهاني بأوزان وألحان
يا حبَّذا وقت أنس لا نظير له
هذا هو العيش لولا أنه فاني
لقد أحسنتم بالإطراء والاضطراب، وفتحتم لنوافذ السرور أعظم باب، وأنعشتم منَّا الأرواح، وأسكرتمونا بدون راح، فلكم الإذن بالانصراف، بغير استثقال منكم ولا استخفاف.

(يذهب المطربون)

الجزء السادس

(عفيفة – الأمير علي)
عفيفة : لقد أرعبتني يا ذا الفخار، وشعرت منك بتشويش الأفكار، إذ قلت:
والوقت صافٍ لا يكدره
شيءٌ وميلاتنا ميلات أفنان
وقد تنكفنا على اللذات من طرب
هذا هو العيش لولا أنه فان
علي : لقد صدأت يا عفيفة مرآة فكري، وغش الكدر أسارير سري، واعترتني هزة وبلبال، فسبحان محوِّل الأحوال.

الجزء السابع

(عفيفة – الأمير علي – حاجب)
حاجب : قد حضر يا مولاي من عند الأمير زهير رسول، يريد الحظوة بالتشريف والمثول.
علي : أحضره بالعجل.
حاجب : أمرك أيها الأجلُّ.

الجزء الثامن

(عفيفة – الأمير علي – الحاجب – الرسول)
(مقام حجاز دوكاه – أصول سربند ٣ / ٤.)٤
الرسول :
أنجز الصديق المكروب
صاحب الوفا
واقرأ الجواب المكتوب
دمت في صفا
سيِّدي الأمير المحبوب
سعده غفا
فأنجد الأمير المغصوب
سيفك الشفا

سلسلة

ربنا عظيم حنان
بارئ لطيف منان
بالفتى المقصر رحمان
علَّه يرينا المرغوب
في أهل الجفا
مرني بالشروط والأسلوب
جورهم طفا

(يفضُّ الأمير الكتاب ويقرؤه.)

باسم المُعزِّ المُذلِّ، مسبِّب كل عقد وحل، من الأمير زهير الكسير، إلى الأمير علي أكرم حليف ونصير، اعلم يا سيد الأبطال والفرسان، أنه قد حلَّت بنا الأعداء من كل مكان، وبددوا جمعنا، وأفسدوا أرضنا، فأدركنا يا أصدق الخلان، فليس الخبر كالعيان.
خان الزمان زهيرًا والعدا ظلموا
لما استطالوا فما رقُّوا وما رحموا
قد شتتوا شملنا من كل ناحية
وأفسدوا أرضنا مذ بغتةً هجموا
وبادرونا وخيل الحي غائبة
ونالوا منَّا مناهم بعدما انتقموا
كم قد أبادوا شجاعًا من فوارسنا
تعنو له العرب في الهيجاء والعجم
غوثًا وحاشاك أن ترضى بذلَّتنا
إن الأعادي بنا فازوا وقد غنموا
علي : ومن فعل بكم هذه الفعال؟
الرسول : بنو ربيعة يا سيد الأبطال، وأميرهم نازح الغدار، الذي لا يحفظ حقوق الجار.
علي :
بشِّر ربيعة أن قد جاءهم عدم
من حدِّ سيفي ورمحي حين أنتقم
أنا الشجاع إذا خيل العدا طلعت
يوم الوغا وبحار الحرب تلتطم
ولي عضاب هو الضد الألدُّ على
هام الفوارس وهو الضد والحكم
نلقى الفوارس شعثًا يوم معركة
عبس الوجوه ووجهي ثَم يبتسم
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرماح والقرطاس والقلم
(للرسول): ارجع إلى الأمير زهير، وقبِّل يديه، وقل له إني قادم بفرسان عشيرتي عليه.
رسول : أعطاك مولاك ما تتمناه.
علي : سِر ملحوظًا بعناية الله (يخرج الرسول)، (للحاجب): وأنت فأحضر قوَّاد الحرب إلى هذا المكان.
الحاجب : أمرك يا علي الشأن (يخرج الحاجب).

الجزء التاسع

(عفيفة – الأمير علي)
علي :
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة
وإن تسلَّت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلا في منازلنا
كالنوم ليس له مأوى سوى المُقَل

الجزء العاشر

(عفيفة – الأمير علي – الحاجب – القواد)
(شاهناز الحجاز – أصول مدور)٥
القواد :
شهمنا المحبوب
في صفا الأزمان
فزت بالمطلوب
يا عظيم الشان
جئنا كالمرغوب
سيد الشجعان
حاسدك مغلوب
من إله ديَّان
علي : اعلموا أيها القواد الأنجاب، أنه جاءني من عند الأمير زهير كتاب، يخبرني فيه أن بني ربيعة، أوقعوا به وبقومه كل فعلة شنيعة، ونهبوا المواشي والأموال، وسبوا الحريم والأطفال، وهو طالب منَّا الإعانة، وهي في ذمتنا له أمانة؛ إذ له علينا أيادٍ سابقة، وهو عزيز لدينا ومودته صادقة، فماذا أنتم قائلون أيها الأخيار.
قائد : كلُّنا تحت الأمر كما تختار، فمُرنا بالركوب أيها الأمير؛ لنذيق الأعداء من حربنا عذاب السعير.
وا شوق قلبي لحرب لذَّ لي فيها
نصرٌ به بلغت نفسي أمانيها
ما الفخر إلا بساحات نجول بها
وقد كست جثث القتلى ضواحيها
أنا المجرب رب البِيض بأذلها
جودًا وعند ازدحام الخيل حاميها
إن تعطش الخيل يوم الحرب أُوردها
بحر الدماء فأسقيها وأرويها
أو تشتكي جوعها ذات المخالب من
لحم الفوارس أغذيها وأقريها
ويل العدو إذا ما جئت أطلبه
تضيق في عينه الدنيا وما فيها
علي : بارك الله في همتكم المشكورة، وشمائلكم المحمودة المبرورة، فتأهبوا إذًا للذهاب، وانتظروني عند قلاع شهاب، حتى ألبس ملابسي الحربية، وأتبعكم بعد برهة جزئية.
القواد (مقام شاهناز الحجاز – أصول مدور) :
هيا يا أبطال
حومة الميدان
واظعنوا في الحال
أيها الشجعان
شتتوا الأنذال
في ربا الوديان
صاحب الإجلال
يحبنا الإحسان

الجزء الحادي عشر

(عفيفة – الأمير علي – الحاجب)
علي :
أنا لي همة أشد من الصخر
وأقوى من راسيات الجبال
وحسامًا إذا ضربت به الدهر
تخلَّت عنه القرون الخوالي
يا سباع الفلا إذا اشتعل الحر
ب اتبعيني بين الربا والتلال
ثم عودي بعد ذا واتركيني
واذكري ما رأيتيه من فعالي
وخذي من جماجم القوم قوتًا
لبنيك الصغار والأشبال
عفيفة :
وا عنائي وذلتي وانتحابي
غش عين السرور غين النكال
ويح دهري يعطي الفتى بيمين
ثم حالًا يردُّه بالشمال
علي : ولِمَ يا حبيبتي هذا الأسف؟
عفيفة : على فراقك يا صاحب الشرف … آه، ما خُلِق الفراق؛ إلا لتعذيب العشَّاق.
ألا ليت الزمان بُلي بعشقٍ
وذاق دقيقةً طعم الفراق
فلو يا دهر ذقت فراق إلفٍ
لما فرقت ما بين الرفاق
علي : لا تكوني جزوعة يا شقيقة الشمس والبدر، فقريبًا بعون الله نرجع بالفوز والنصر، بعدما نُبيد الأعداء، ونفرِّق شملهم في البيداء، واعلمي أيتها البهية، أن شهامتي العربية، أبت أن تردَّ رسول الأمير زهير بالخيبة والحرمان، مع ما له علينا من الأيادي وجميل الإحسان، فتدرَّعي بالصبر على هذا الفراق، والأمل من الله أن يقرِّب أيام التلاق.
عفيفة : ومن أذمعت أيها الهمام، أن تجعله وكيل ديوان الأحكام؟
علي : قد أزمعت يا ذات الوجه الوسيم، أن أوكل عليكم وعلى الحكومة الأمير سليم؛ لأنه بالدين والسياسة فريد، وبالصيانة والعفاف وحيد (للحاجب) فسِر وأحضره بالعجل.
الحاجب : أمرك أيها الأجلُّ.

الجزء الثاني عشر

(عفيفة – الأمير علي)
علي : اعلمي أن هذا الإنسان، عفيف الطرف واللسان، ثاقب الفكر، بارع في النظم والنثر، صادق أمين، لا يخون ولا يمين، فأكرمي مثواه يا ذات الخفر، إلى أن أعود بالنصر والظفر.
عفيفة :
سمعًا، سأغمره بفضلك سيِّدي
وله بمنحك المحل الأعظم
فلأجل روحٍ ألفُ روح تُفتدى
ولأجل عينٍ ألفُ عين تُكرم

الجزء الثالث عشر

(عفيفة – الأمير علي – سليم)
(إنشاد حجاز، ولا بأس أن يكون البيت الثاني من الراست توا، والهبوط على الحجاز الدوكاه.)
سليم :
دعوتني يا أمير وافي الذمم
فجئت أسعى إلى لقياك كالخدم
وقلت لما أتاني سامي أمركم
سعيًا على الرأس لا سعيًا على القدم
علي : مرحبًا بك أيها الصديق الصادق، والخل الموافق، أتدري يا أوحد الخلان، لِم دعوتك الآن؟
سليم : لا، ومكوِّن الأكوان.
علي : اعلم يا ظاهر الجنان، أني سأسافر لنجدة الأمير زهير، وأنقذه بإذنه تعالى من الضير، لما له من كرم المحتد والمروَّة، ومحاسن الأخلاق والفتوة، وقد جعلتك في غيابي نائبًا لبيت الأحكام، وأمينًا على حرمي أيها المصون المقدام، وسأنبه على جميع المأمورين والرؤساء والموظفين، ألَّا يمضوا شيئًا من غير إطلاعك عليه، والله خليفتي؛ إذ لا ملجأ إلا إليه.
سليم : أشكرك يا مولاي على حسن الظن بالضعيف، وسأجتهد بإمضاء أمرك المنيف.
علي : هيا يا ذات الحَوَر؛ فقد آن وقت السفر.
عفيفة : صبِّرني يا رباه، على الفراق ويلاه (يخرج الجميع).

الجزء الرابع عشر

(سليم)
سليم : ها قد بلغت مرادي، وسأشفي من عفيفة فؤادي، وإذا ما طاوعتني على بلوغ الآمال؛ أذيقها عذاب الموت والنكال.

(مقام شاهناز الحجاز.)

آه وشوقي لأوقات الوصال
والهوى نحوي براح الأنس مال
يا لقومي عز صبري في غزال
أن تثني يزدري السمر العوال

سلسلة (١)

هيهات أن تُخفي العيون
سرَّ الذي وجْده مصون
واللحظ يدعو ذا الشجون
كن مغرمًا بي فيكون

سلسلة (٢)

قلبي غدا مضنى كليم
ولم أجد له من نديم
فاغدق على العاني سليم
الستر مولانا العظيم
(تنزل الستار)

الفصل الثاني

الجزء الأول

(عفيفة في دارها)
رويدك قد أفنيت يا بين أدمعي
وحسبك قد أحرقت يا شوق أضلعي
إلى كم أقاسي فُرقة بعد فرقة
وحتى متى يا بين أنت معي معي
لقد ظلمتني واستطالت يد النوى
وقد طمعت في جانبي كل مطمع
فيا راحلًا لم أدرِ كيف رحيله
لما راعني من خطبه المتسرع
ولما قضى التوديع فينا قضاءه
رجعت ولكن لا تسل كيف مرجعي
جزى الله ذاك الوجه خير جزائه
وحيته عني الشمس في كل مطلع
ويا رب جدِّد كلما هبَّت الصبا
سلامي على ذلك الحبيب المودِّع
نفوا بعدنا تلقوا مكان حديثنا
له أرج كالعنبر المتضوع
أأحبابنا لم أنسكم وحياتكم
وما كان عندي ودكم بمضيَّع
لحا الله قلبي هكذا هو لم يزل
يحنُّ ويصبو لا يفيق ولا يعي
عفيفة : قضت الأيام على رغم أنف الطرب، بما يبدل صفو عيشي بأكدار الكرب، آه وا عِظم عناتي، وا شدة شقائي وبلائي، كيف ألتجئ إلى الصبر بعد تلك الحلاوة، وأميس في لباس سرور بغير طلاوة، فارقت روحي والجسد، واعتراني كل هم ونكد، أين ذهب روح قلبي وحياة مهجتي ولب لبي، ولا طاقة لي على فراقه طرفة عين، وصرت بعد بعده هدفًا لسهام البين.
يعاندني دهري كأني عدوه
وفي كل يوم بالكريهة يلقاني
فإن رمت خيرًا جاء دهري بضده
وإن يصفو لي يومًا تكدَّر في الثاني
آه، وا حرَّ قلباه!
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلًا

الجزء الثاني

(عفيفة – أمينة – فطينة)
عفيفة : أمينة.
أمينة : نعم.
عفيفة : فطينة:
فطينة : نعم.
عفيفة : قد انفردت في هذا المكان؛ لأطالع درس الأشواق والأشجان، فشخص الأمير تجاه ناظري، والجزع بادٍ على باطني وظاهري، وقد حاولت تجرُّع الصبر فردَّته النفس، ولا أدري كيف استحال طالع سعدي إلى النحس، فهل يرجع الأمير وأراه، أو أقضي شهيدة هواه؟
أمينة : أراك عاهدت عهد الخنساء، وأوقعت نفسك في البلاء، وما في الأمر يا ذات الحور، ما يستوجب هذا الكدر، فتسلَّي بما يروح الأرواح، وينفي الهموم ويُذهب الأتراح، وإن شئت ذهبت لإحضار المطربين الحسان؛ ليزيلوا عنك الفكر برقيق الألحان.
عفيفة : لا بأس، فأحضري المطربين في الحال، عسى بوجودهم ينتعش مني البال.
أمينة : أمرك يا ذات الجمال (تخرج).

الجزء الثالث

(عفيفة – فطينة)
عفيفة : إنني يا فطينة، لا أزال بعد الأمير حزينة، ولا يطربني إنشاد سعيد الفريد، ولا تحرِّكني أصوات نديم الرشيد، ولكني أعلل النفس بالمحال، راجية من الله حسن المآل.
فطينة : لا ريب يا مولاتي بعون السميع البصير، يرجع مكلَّلًا بالنصر سيِّدي الأمير، فارفعي عنك هذه الهموم، وقريبًا تنشقع عنَّا غياهب الغموم.

الجزء الرابع

(عفيفة – فطينة – أمينة)
أمينة : قد أحضرت يا مولاتي أرباب السماع.
عفيفة : لا بأس، فليدخلوا.

الجزء الخامس

(عفيفة – فطينة – أمينة – المطربون)
المطربون (ينشدون بعد إهداء التحية بانحناء الرءوس) : (مقام حجاز دوكاه – أصول مصمودي.)
نفس أمانيها تعللها
تعلها تارة وتنهلها
ولوعة في الفؤاد أصعب ما
يذيب شم الجبال أسهلها
خانة شاهناز.٦
وفي سبيل الغرام لي كبد
تبيت أيدي النوى تململها
(لحن شاهناز الحجاز – أصول مصمودي.)٧
عفيفة (بهيئة ذهول):
فارحموني وامنحوني
نظرة بالعين
عيل صبري ضاق صدري
وبراني البين

سلسلة

فاتركوني في عذابي
يا أخلَّاء الغرام
هاج شوقي وانتحابي
وبرى جسمي السقام

دور

غاب عن نور عيني
صفوة الخلان
جار دهري طال هجري
فأسكتوا الألحان

سلسلة

ساعدوني يا رفاقي
في احتراق واشتعال
قرِّبوا يوم التلاقي
زاد بي البلبال

(يخرج المغنُّون)

الجزء الرابع

(عفيفة – فطينة – أمينة)
أمينة : قد أزهقت روحك أسفًا، وأورثت جسمك ولهًا وتلفًا، فاستعيني بالصبر، على نوائب الدهر، والعاقل يا مولاتي، لا تستفزُّه الأيام بخطوبها، كما أن متون الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها، وأنت أعلا من أن تدعي التماسك وهو مرجع اللبيب ومأواه، وتتهالكي في الجزع وهو منزع الجهول ومغزاه، فما هذا أيتها الأميرة؟
عفيفة : عذرًا يا شقيقتي المنيرة؛ فقد براني الغرام، وأذهلني الوجد والهيام.
ذاب جسمي من لوعة واحتراق
وحنين ولوعة واشتياق
إن يوم الفراق قطَّع قلبي
قطَّع الله قلب يوم الفراق

الجزء الخامس

(عفيفة – أمينة – فطينة – الأمير سليم)
سليم :
لك البشرى بمكتوب الهناء
من الشهم العليِّ أخي الوفاء
فطيبي وافرحي طربًا وأُنسًا
فقد حل السرور بلا مراء
عفيفة :
حباك الله ربي كل خير
فقد ألبستني حلل الصفاء
فعش واسلم سليم القلب دومًا
على رغم الأعادي بلا شقاء

(تفض الجواب وتقرؤه.)

سلامي عليك أيا عفيفة ما بدا
صباح وما غنَّى هزار على غصن
فأنت حياة القلب يا ربة البها
وأنت ضياء النفس بل قرة العين
اعلمي أيتها العفيفة الطاهرة، أن جيوش الأعداء كانت الخاسرة، وقد بلغنا الفوز والانتصار، بعدما أذقناهم كئوس الدمار، والآن نحن في ضيافة الأمير زهير، آمنين من كل كدر وضير، وعما قريب نحضر بالظفر والنصر، ونشاهد وجهك البدر، فاستعدِّي لملتقانا أيتها السنية، وعليك أزكى السلام وأثنى التحية.

(الأمير عطفان علي حمدان.)

عفيفة : الحمد لله على الفرج بعد الضيق. وأنت هل جاءك كتاب أيها الصديق؟
سليم : نعم أيتها السيدة؛ فقد أوصاني عليك وصية مؤكدة، فاكتبي له رد هذا الكتاب، وأنا ذاهب لأكتب مثله لرفيع الجناب، وسأرجع إلى هنا بعد قليل؛ لأرسل الكتابين إلى سيِّدي الجليل.
عفيفة : ما من موجب لذهابك، فاجلس هنا وجوِّد تحرير خطابك، وأنا أكتب كتابي داخل الدار، وأحمله إليك يا ذا الوقار، فترسل بعدها الكتابين، إلى حضرة الأمير قرة العين، فأحضري له يا أمينة دواة وقرطاس.
أمينة : أمرك على العين والراس (تذهب عفيفة وأمينة).

الجزء السادس

(الأمير سليم)
(لحن حجاز دوكاه – أصول مصمودي.)٨
الطرف من أول نظره
أشجى سليم يا أهل الغرام
والقلب أمسى في حسرة
وهو كليم بادي السقام

يلزم أن أكتب الجواب بالعجل، وأستعمل بعدها جميع الحيل، وأُفرغ جعبة دهائي؛ لأطفئ لوعة عنائي، بوصال عفيفة البهية، وألا أجعلها هدفًا لسهام المنية.

الجزء السابع

(الأمير سليم – أمينة)
أمينة : خذ يا سيِّدي، هذه دواة وقرطاس.
سليم : سلمت يا جالبة الأنس والإيناس (تخرج أمينة).

الجزء الثامن

(سليم)
سليم (يجلس وينشد من الحجاز) :
إن العيون التي في طرفها حوَر
قتلننا ثم لم يُحْيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانًا
ما هذا الوجه المشرق بالأنوار، الذي تحج إلى كعبته الأبصار، فمن عيون بابلية، كم أوقعت في بلية، وجبين واضح، تحن له الجوارح، وحواجب تذيب المهج، وتجذب الأرواح بقبضة البلج، وخد كالجلنار، قد جمع بين الماء والنار، وخال يختال في أحلى الحلل، يوقع الخلي في خطب جلل، ومرشف عذب الأرياق، رضابه لسليم الهوى نعم الدرياق، ووجه هو بالإجمال نزهة المشتاق، ومرآة لوجوه العشاق، ومن عنق كالريم، در عقوده نظيم.
وجيد جداية لا عيب فيه
سوى منع الحب من العناق
ونهود كالعاج، ملتحفة بأثمن الديباج، وبنان رطيب، على مثله يدور الخطيب، وقوام يقيم الحروب، ويثير الكروب، الرماح تخضع إليه، والأغصان تسجد بين يديه، وخصر نحيل، يشكو من ردفها الثقيل، وأرداف كالأحقاف، خارجة عن العادة، لكن فيها للمحبين الحسنى وزيادة.
تمشي بأرداف أبَيْن قعودها
بين النساء كما أبَيْن قيامها
آه يا إلهي لقد وقعت في الخبال وأورثني الحب الجنون والوبال
وهيهات لعيني أن تذوق الكرى، بعد الذي جرى.

(إنشاد حجاز دوكاه، وله فيه أن يضع الراست النوا، والأوج، والشاهناز، والمحير، والبوسليك.)

سلوا فاتر الأجفان عن كبد الحرَّى
وعن در أجفاني سلوا العقد والنحرا
غزال إذا ما رمت عنه تصبُّرًا
يقول الهوى لن تستطيع معي صبرًا
من السمر بالألحاظ إن مال أو رنا
فلا تذكروا من بعده البيض والسمرا
بخيلًا غدا بالوصل ما جاء سائلًا
له الدمع إلا رد سائله نهرًا
له مقلة يُعزى لبابل سحرها
كأن بها هاروت قد أودع السحرا
يذكِّرني عهد النجاشي خاله
وأجفانه الوسنى تذكِّرني كسرى
ويفتر عن ثغر تنظَّم درُّه
فلم أدرِ عقدًا مذ تبسَّم أم ثغرا
تعشَّقته كالظبي والغصن قامة
رنا وانثنى كالسيف والصَّعْدَة السمرا

الجزء التاسع

(الأمير سليم – عفيفة)
عفيفة : هل كتبت الكتاب، يا رفيع الجناب؟
سليم : نعم … لا … ما … ويحي ما الجواب!
عفيفة : ما هذا الذهول؟
سليم : وما أقول … نعم … ولكن …
عفيفة : ما معنى الاستدراك؟ وما سبب هذا الارتباك؟
سليم : نعم … ولكن …
عفيفة : نعم ولكن! نعم ولكن! هل اعتراك جنون؟
سليم : لا يا قرة العيون، ولكن …
عفيفة : عاد إلى ولكن! حلَّ هذا المعمى؛ فقد أفعمتني همًّا، وأظهِر ما هو في الباطن، بدون نعم ولكن.
سليم (لنفسه) : لا بد من الملاطفة والملاعبة، والمباسطة والمداعبة، وألمِّح لها ببعض الغرام، عسى أحصل على المرام. (لعفيفة): اعلمي يا ذات الجمال اليوسفي، أن من، وإلى، وعن، وعلى، وفي … فمن ابتدائية، وإلى انتهائية، وبينهما أنا، أرجو بلوغ المنا، وعن للمجاوزة، عند النحاة أهل الأدب؛ أي لا أتجاوز عن هذا المكان، حتى أنال الأرب، وعلى هذا يكون الأسلوب، أما هو حسن ومرغوب؟
عفيفة : نعم، وخلط وخطل، وخبط وخلل، وما مرادك بإرسال الكتاب على هذا الطريقة القبيحة، الجالبة لحضرتك الإهانة والفضيحة؟
سليم : مرادي يا مولاتي حسم اللغط، ومنع الافتراء والشطط؛ لأن بعض الفرسان، أخبروا سيِّدي بأني فارس الزمان، وبطل الطعن في الميدان، وما علموا أني خوفًا من النحل أفر من العسل، حتى صار يُضرب بخفتي المثل، أحسب كل صيحة أنها عليَّ، وكل هيعة تغيض على يديَّ، وإذا ذكر أمامي شُجاعًا، طارت نفسي شعاعًا، وطالما لجأت إلى الهرب والفرار، إذا رأيت صورة الفار، أو ضغاء الأرنب طار قلبي قلقًا، أو سمعت مواء الهر طاحت روحي فرقًا، وكم أغمى عَلَيَّ بين يدي شيخي صاح بالمناقب، حينما كان يمثِّل لنا بضربَ يضرب فهو ضارب، وكنت أتوسل ألَّا يمثِّل لنا في علم البيان، برأيت أسدًا في الحمام، بل بجنيت وردة في البستان، ووسَّدني بزنده بدر التمام، وكنت لا أحضر قراءة أحكام الجنائز، وكتاب السير، ولا أودُّ محادثة العجائز، ولا أعبأ بمن لام أو عذر، ومع أني تمثال الجبن، ومقر الرعب والأفن، فإني يا زينة الحسان، وربة الوشاح، ذو إقدام على مغازلة العيون الملاح، ولم أرَ أحسن من طعن سمر القدود، ولا أرتاح إلا من ضم النهود ولثم الخدود.
عفيفة : يظهر عليك أنك مغرم، وولهان مُتيَّم؟
سليم : نعم نعم، مُتيَّم، وبسهام ألحاظك مكلم، فأنعمي عليَّ بطيب الوصال، وإلا أموت بلا محال.
عفيفة : هذا يا سليم الفعال، أمرٌ يخالف الحلال، وقد حرَّمته الشرائع في كل كتاب، ولا خير في لذة يعقبها أليم العذاب، وإن ما تطلبه لسهل لولا الأمانة، والمروءة التي انطبعت عليها والصيانة، والاسم الذي أُعطيته يا سليم، فانتبه وافعل فعل الحكيم، الذي يقرأ العواقب، ويتجنب خيانة الصاحب.
سليم : دعينا يا سيدتي من هذا الكلام، وأهملي ذكر الحلال والحرام، فكم وكم رأينا من الفحول، يفعل ضدَّ ما يقول، وكلامك من جهة الأمانة حسن، ولا تليق الخيانة بالمؤتمن، ولكن ذلك كان، من قديم الزمان، أما نحن فقد أصبحنا في دهر عنود، وزمن كنود، يُعَدُّ فيه الحلم عجزًا وضعفًا، والنوك صولة وشرفًا، والسفالة نسبًا، والعفاف عجبًا، واجترام الموبقات حرية صائبة، والرجوع إلى الدين فلسفة كاذبة، واعلمي أيضًا يا بديعة الصفات، أن جل الجناة من أصحاب المقامات، ومركزهم كتميمة، تمنع عنهم كل بلية أليمة، وضغينة سخيمة، ومن كشف عن ستارهم، وبحث عن أسرارهم، ظهر له الكامن من غدرهم، والدفين من مكرهم، وعلم أنهم يمشون الخفاء، ويدبُّون الضراء، ليقيموا بالباطل أسواقهم، وينفقوا به أعلاقهم، فهم في الحقيقة عيبة العيوب، وذنوب الذنوب، وحقيبة القبيحة، وعنوان الفضيحة، ولا غضاضة عليهم فيما يفعلون، ما دامت القوة فوق القانون، والآمال متعلقة بالأموال، والناس أتباع لمن غلب، ولو كان الظالم يا ربة الأدب.
إذا كنت ذا ثروة من غنًى
فأنت المسوَّد في العالم
ويساعدهم على هذا الافتراء، جماعة المتملقين الضعفاء، الذين يصفونهم بأنهم ملح الأرض إذا فسدت، وعمارة الدنيا إذا خربت، وأنهم جمال الأيام، وخواص الأنام، وفرسان الكلام، وجابري عثرات الكرام، وهلم جرًّا، من الأوصاف المموهة الأخرى؛ ولذا تجدين الواحد منهم له كبر، ومنطق نذر، يومئ بأصابع الكف، وينظر بمؤخر الطرف، إن قام تكلَّف، وإن نطق تعسَّف، قد أسكرته خمرة العُجب، واستهوته غرة المال الموروث من السلب، فطغى، وتجبَّر وبغى، وصار على الناس طاعنًا، ولنفسه مداهنًا، ولو أمعن المغرور النظر، ودقق الفكر، لوجد نفسه في ضلال وسوء حال ووبال، حسناته أغاليط، وأفعاله تخاليط، ووعده كالوعيد، بمطل شديد، يشيب الوليد، سائله محروم، وماله مكتوم، لا يحسن إنفاقه، ولا يحل خناقه، وإن حله فللأذى والقمار، أو لمظاهر هذه الدار، منادمته ندم، تورث الهم والسقم، يحكي الحديث المُعاد، ويمشي على القلوب والأكباد، وبالجملة، فأعلمهم جهول، وأفضلهم مرذول، أما أنا فلست والعياذ بالله من هؤلاء الناس، الذين يوسوس في صدورهم الخناس، فيحبُّون المال حبًّا جمًّا، وينصبون شراك العدوان للخلق ظلمًا، وينزفون ماء القلوب ودماء العيون، وما الله بغافل عمَّا يعمل الظالمون، بل أنا كما تعلمين فتًى ذا خلق وضيٍّ، وخلق رضيٍّ، وفعل مضيٍّ، أخلاقي سوية صحيحة، وصورتي مقبولة صبيحة، وإن ذنبي الوحيد، رغبتي في وصالك السعيد، وهو لا ضرر فيه يا ربة الجمال، فانعمي به ودعي الهجر والمطال، واتركينا من هذا البحث العويص، الباعث على النكد والتنغيص.
عفيفة : اعلم أيها الأمين، أني ما خاطبتك باللين، وجعلت غضبي مكنون (بشدة) إلا لترجع عن هواك أيها الغادر الخئون، وهل يوجد ضرر أقبح من ثلم عرض المحصنات، يا ذا الخطيئات؟! أما استحيت مني حين خاطبتني بكلام الفسَّاق، أما هبت بطش الأمير الذي لا يُطاق، أما تعلم أن اسمي عفيفة، وأني طاهرة نقية شريفة، فإذا لم يكن لي من اسمي نصيب، فما الفائدة بحياتي أيها الكئيب؟ أما يجب عليَّ أن أحفظ للأمير أمانته؟ وكما لازم حبي ألازم صداقته، وهل تُمدح خائنة بين الناس؟ أو تُرفع لها بين شريفات النساء راس. لو كانت يا نسل الخنا من نسل ماء السما، ولكن الحق على الأمير الذي ما تفقَّد الأخبار، وعلم ما في السرائر من الأسرار، فاذهب من وجهي يا خئون، قبل أن تذوق المنون (وتهجم عليه بخنجر).
سليم : رفقًا رفقًا يا ذات الوجه الوسيم.

الجزء العاشر

(عفيفة – سليم – أمينة – فطينة)
أمينة : ما هذا يا أمير سليم؟
عفيفة : أخرجاه من هذا المكان، فلا عاش ولا كان (يخرج سليم والجاريتان).

الجزء الحادي عشر

(عفيفة – أمينة – فطينة)
عفيفة :
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداءٍ يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل

(تذهب عفيفة والجاريتان.)

الجزء الثاني عشر

(يدخل سليم)

سليم : إن لم أعمل على قتل هذه الغبية، فلا أكون سليمًا بين البرية، نعم لا بد من ذلك، ولو ألقيت من مهاوي المهالك، وما دام زمام الأحكام في يدي، ولا مراجعة فيما أعيد وأُبدي، فلا بد أن أضعها في السجن، تكابد أنواع العذاب والحزن، وأكتب للأمير أنها زنت في غيابه، وأعذِّبها ريثما يأتي رد جوابه، نعم لا أحول عن هذا المقصود، وها أنا ذاهب لإحضار الجنود (يخرج).

الجزء الثالث عشر

(عفيفة)
عفيفة : الخيانة والغدر، من صغر القدر، وأقبح ما يكون من الأمين، الذي يؤتمن على العرض والدين، وأربعة من علامات اللؤم، ودلائل الخيانة والشؤم: إفشاء السر، وتعمُّد الغدر، وإثارة الفتن، وخيانة المؤتمن، وفي المرء ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات. أما المنجيات: فالعدل في الرضا والغضب، وخشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر. وأما المهلكات: فشحٌّ مطاع، وهوى مُتَّبَع، وإعجاب المرء بنفسه والعياذ بالله. مولاي الأمير نظرًا لسلامة قلبه، وطهارة ضمير ولُبِّه؛ ظنَّ أن كل الناس مثله في الصفات، ومنزَّهين عن ارتكاب المحرَّمات، وائتمن الهر على اللحم، والكلب على الشحم، وسلَّم سليمًا زمام الأحكام، وألبسه رداء عصمة الملائكة الكرام، ولكن كان الواجب، والرأيُ الأَسَدُّ الصائب، أن لا يضعه في هذه المكانة، قبل أن يجرِّبه إن كان يصلح للأمانة، ولكن سبق السيف العذل، والعجلة موطن الذلل، وعلى العاقل الأديب، ألَّا يثق بإنسان قبل التجريب.
متى تحمد صديق السوء فأعلم
بأنك بعد محمدة تذمُّه
كطفل راقه ترقيش صِلٍّ
فلما مسَّه أرداه سمُّه

الجزء الرابع عشر

(عفيفة – سليم – الجند)
سليم : اقبضوا على هذه الباغية.
عفيفة : ما هذا يابن الطاغية؟!
سليم : اسكتي يا خائنة العهود، اقبضوا عليها أيها الجنود، وضعوها في أضيق الحبس، إلى أن تسكن الرمس (يمسكها الجند).
عفيفة : سترى يا جعبة النحس، من منَّا يسكن الرمس.
(تنزل الستار)

الفصل الثالث

الجزء الأول

(سجن وبه عفيفة – وولدها الصغير – والسجَّانان)
عفيفة :
أصاب حشاشتي سهم الأعادي
فأبدل نوم عيني بالسهاد
وأورثني لقا الأهوال خطبًا
خطيب البين قام به ينادي
وروَّعني بأنواع الرزايا
وألبسني النوا ثوب الحداد
وعاد لي المسالم فيه ضدٌّ
يرى في قتلتي فضل الجهاد
فعاملني بما لا ترضيه
فتاة لا تميل إلى الفساد
ألا من مُبلِغٍ مولاي أني
رماني الغدر في سجن السواد
ومن جور الذي ولَّاه حفظًا
يرقُّ لشقوتي قلب الجماد
سليم سرَّني بالقول لكن
بلا فعل ويفتك فتك عاد
سأصبر للخطوب إذا ادلهمَّت
مسلِّمة إلى مولى العباد
وعند الله تحتكم البرايا
إذا عادوا له يوم المعاد
– أوَّاه، وا عذاباه، وأعظم كربة كابدتها في هذا الحبس، على هذا الطفل الذي ولدته في طالع النحس، وأنا وحيدة حزينة، لا أمينة ولا فطينة، ولا والدة شفيقة، ولا شفيقة رفيقة، ولا أب ولا قرين، ولا صادق ولا أمين، وسادتي من تراب، وغطائي ضباب العذاب، وصباحي ظلام، ونهاري أسود من القتام، وطعامي زقوم البلاء، وشرابي أجاج دمع البكاء، ووضعت هذا الطفل على الأرض، وكله هين مع سلامة العرض.
بحسن الظن يا ربي سأُسقى
بفضلك شهد عاقبة الصيانة
ويُسقى الخائن العاتي سليمًا
كئوس سموم غائلة الخيانة

(يبكي الطفل)

صبرًا يا يتيم الأحياء، ومولود البلاء والشقاء، فلا بد من الفرج، بعد الذل والحرج، أوَّاه وا حزناه! أنا رفضت طلب الأمير سليم، فعاملني بالعذاب الأليم، ولكن ما ذنب هذا الطفل الصغير، الذي ألهبته حرارة السعير، أواه وا كرباه عليك يا ولدي، وحشاشة كبدي، أجئت لتشاركني في النحوس، أم تسكن معي مظلمات الحبوس، فأين عين والدك لتراك، لتخلِّصك من بلاك، آه من الدهر وبلاه، وعذابه وشقاه، لا تصفو فيه المشارب، حتى تكدرها الشوائب، ومن عرف الزمان، لم يستشعر منه الأمان، فموهوبه مسلوب وإن أرخى على مهل، وممنوحه محروب، وأن أخر إلى أجل، وإنما نحن في الدنيا على أوفاز، ومجاز، وحذار، وانتظار، فالحازم من لا يفرح بمواهبها، ولم يتضاءل لنوائبها.
أقول والقلب مكدود بأحزان
والصبر أبعد مما كان أجفاني
حتى متى أنا يدمي العض أنملتي
غيظًا على زمن قد رام إزماني
في كل يوم أراني من نوائبه
كأنني أصبعي والدهر أسناني
من لي بالممات، لأتخلص من الآفات، وأستريح من العذاب الشديد، الذي لا تقوى عليه جبال من حديد.

الجزء الثاني

(عفيفة – السجانان – رسول)
الرسول : خذي يا عفيفة هذا الكتاب، وعجِّلي بردِّ الجواب.
عفيفة : أهو من الأمير سليم؟
الرسول : نعم، من الأمير سليم، فاقرئيه وأعطني الجواب، سلبًا كان أم إيجاب.

(تقرأ الجواب)

اعلمي يا عفيفة العنيدة، أنك لا تقدرين أن تعيشي سعيدة، إذا ما بلغتيني الآمال، وأبدلت عذاب الجفا بقرب الوصال، وقد أرسلت لك هذا الكتاب بشيرًا، ومن عواقب الإعراض والهجران نذيرًا، فإما وصْل وفعْل، أو امتناع وقتل، ولك يا عفيفة الخيار، ولا عذر بعد إنذار.

الإمضا: المغرم الكليم، الأمير سليم
عفيفة : قد بشَّر وأنذر، وخيَّر وحذَّر، فارجع إليه ما يريد، وقل له يفعل ما يريد، وبلِّغ ذلك المهان، الذي نقض العهد وخان، أن لي ربًّا يقيني، ومن نوائب غدره يحميني، ودون وصالي قطع الأعناق، وكل داهية لا تطاق، ومقصدي وشرفي أيها الأثيم، أن أُقتل وأُقبر وعرضي سليم، ولا تحوز المرأة في الدنيا مكانة عليا، إلا إذا بذلت ماء الحياة دون ماء المحيَّا، والطاهرة من النساء، تموت ولا يموت اسمها في الأرض ولا في السماء، وتنال في دنياها كل حظ سعيد، وتؤمن في آخرتها من عذاب الوعيد، وأنا عفيفة، النقية الشريفة، فاذهب وقل له أيها الكئيب، بقطيعة جهيزة، قول كل خطيب، فدعه يُقتل أو يُحرق، أو يُصلب أو يُشنق، فكلها مقصدي وآمالي، وفداء لعرضي الغالي (يذهب البريد).

الجزء الثالث

(عفيفة – سجانان)
السجان ١ : أسألك يا قاصم الجبارين، ومخزي الغدارين، ومنكث كل خائن، ومبيد كل مائن، وقاهر كل أثيم، ومدمر كل ظالم لئيم، أن تكفيني شر سليمًا وغدره، وترد كيده في نحره، إنك سميع الدعاء، والواقي من كل بلاء.
لا ريب أن الأمير سليمًا قد ظلم مولاتنا عفيفة، وكلَّفها ما لا تفعله كل طاهرة شريفة، وارى أن هذا الطغيان سيلبسه رداء الذل والهوان.
السجان ٢ : بل رداء القتل، إذا ما رجع عن الجهل؛ لأن مولانا الأمير سيرجع عن قريب، ويذيقه جزاء ما فعل أنواع التعذيب، هذا إذا ما قتله، وعجَّل من الدنيا مرتحله، فسِرْ لنحذِّره قبل ما يندم، فعساه يتأنى في أمره ليسلم، وإذا رفض النصيحة، وبقي على نيته القبيحة، يكون قد ألقى نفسه في خطر، يجعله مدى الأيام تاريخًا يُذكر في السير.
السجان ١ : هذا هو عين الصواب، والأمر الذي لا يُعاب، وسنقوم بالواجب علينا؛ لنخلص من شر جريرة ترجع علينا، فالبدار أيها الرفيق، وعلى الله التوفيق (يخرجان).

الجزء الرابع

(عفيفة – أمينة – فطينة)
أمينة : تبًّا لهذا الزمان الغدار، كيف يظفر الفجَّار بالأبرار؟ فقد كتب سليم الأثيم إلى أميرنا الهمام، أن مولاتنا عفيفة زنت وجاءها ولد في الحرام، وجاء الجواب بقتلها وقتل الغلام؛ جزاء ما ارتكبته من الذنوب والآثام، وهي والله بريئة عفيفة، نقية طاهرة شريفة، صوَّامة ذاكرة قوَّامة، وكل جرمها العظيم مخالفة الأمير سليم، الذي تعمَّد فعلته الشنيعة، وخالف كل شريعة، وما هاب بطش الغيور، الذي يعلم بخفايا الصدور، والعجب كل العجب، من أميرنا المنتخب، كيف سمح بقتلها وولده الصغير، بمجرَّد بهتان سليم الختير، مع أنه هو المخاطب، والمسئول والمطالب، ولا لوم على الواشي الكمين، بل على الذي أنزل خبره بمنزلة اليقين، والمشهور عند العقلاء، أن الخبر يحتمل الصدق والافتراء، وخصوصًا إذا كان من أثيم نظير سليم.
عفيفة : أسمعك يا أمينة تذكرين اسم سليم.
أمينة : آه يا مولاتي من ذلك اللئيم (سرًّا) وكيف أخبرها بالقصة؟ التي تجرعها ألف غصة … أسفًا على قوامك الرطيب.
فطينة : حزنًا على جمالك العجيب.
عفيفة : ما لي أراكما في أسفٍ وندبٍ، هل جدَّ شيءٌ يوجب الكرب؟
أمينة : وأي كرب عظيم، وبلاء جسيم، ومصيبة فادحة، وكارثة جارحة.
عفيفة : وما هو يا أمينة؟
أمينة : أخبريها يا فطينة.
فطينة : أأخبرها بالهلاك؟
أمينة : لا كان سليم الأفَّاك، كيف بلغ بالإفك المراد، وألبسنا ثوب الأسف والحداد؟
عفيفة : أخبراني أخبراني، لقد ذاب جناني.
أمينة : اعلمي يا مولاتي المظلومة، أن سليمًا بتدبيراته المشومة، قد تحصَّل على أمر من سيِّدنا الأمير، بقتلك وقتل ولدك الصغير، وادَّعى أنك ارتكبت الآثام، وولدك جاء من الحرام، وعن قريب يرسل سيَّافَين، ليجرِّعاك وولدك علقم البين.
عفيفة : ومن أخبرك يا أمينة؟
أمينة : سليم أخبرني وأخبر فطينة، وأرسلنا إليك بالخبر؛ لتكوني على حذر.
عفيفة : أمن هذا الأمر اعتراكما الوجل؟! وقطعتما من نجاتي الأمل؟! أما تعلمان أن الله سميع بصير، وعلى إنقاذي قدير، أإله غير الله؟!
أ – ف : لا والله، لا والله.
عفيفة : أيرحم العبد سواه؟
أ – ف : لا والله، لا والله.
عفيفة : من يفرِّج عنَّا الكروب؟
أ – ف : مُذهب حزن يعقوب.
عفيفة : من يجبر الكسير؟
أ – ف : ربنا السميع البصير.
عفيفة : من يكشف عنَّا الخطوب؟
أ – ف : كاشف ضر أيوب.
عفيفة : من يخلِّصني من الأكدار؟
أ – ف : منجي إبراهيم من النار.
عفيفة : من ينجيني من الحرق؟
أ – ف : منجي موسي من الغرق.
عفيفة : من يكفيني العذاب المهين؟
أ – ف : منجي إسماعيل من السكين.
عفيفة : أما هو الذي يستجيب الدعاء؟
أ – ف : نعم وهو المنجي من البلاء.
عفيفة : إذًا فارفعوا إليه أكف الضراعة، وادعوا معي بمهجة ملتاعة.
(مُقام حسيني عشيران – أصول – سماعي ثقيل ١٠ من ٨.)٩
يا رب يا منَّان
يا واهب الإحسان
أنقذنا مما كان
من جاحد قد خان
بالجور والبهتان
والزور والعدوان-رمانا

دور

قلبي غدا ولهان
من لوعة الأشجان
والمائن الخوَّان
عاملنا بالعدوان
فاصنع لنا إحسان
يا عدل يا سلطان، إلهي

(يغشى عليهن)

الجزء الخامس

(السيَّاف – السجانان)
السيَّاف (للسجَّانين) : أنتما عليكما الإذعان، لما يأمر به الأمير سليم وكيل الديوان، وما لكما حق بالمعارضة، والمجادلة والمناقضة؛ فلو لم يكن رأى من عفيفة أقبح فعل، لما سبب لها من القتل، فالزما حد الأدب، ولا تجعلا لطردكما من سبب.
السجان ١ : قد أخطأنا أيها الهمام، والعفو من شيم الكرام، وبعد الآن لا نتداخل فيما لا يعنينا، لئلا نسمع ما لا يرضينا … هه، انظر أمينة وفطينة وعفيفة الحزينة.
السيَّاف : انظر، أهو موت أم إغماء؟
سجَّان : لا يا سيِّدي بل هو إغماء، فيلزم أن نرشُّهنَّ بالماء.
سيَّاف : عجِّل، كفيت البلاء (يذهب السجان). هذا جزاء من تخون بعلها في غيابه، ولم تخشَ رجوع المشرفيِّ إلى قرابه.

(يحضر السجَّان الماء ويرشهن به فيتنبَّهن.)

أمينة : أواه قد بلغت أرواحنا التراق.
فطينة : قد آن وقت الفراق.
سيَّاف : أخرجوا عفيفة البغيَّة.
عفيفة : أغثني يا رب البرية.
سيَّاف : أخرجوها بالعجل.
سجَّانان : أمرك أيها الأجلُّ (يخرجانها).
سيَّاف : اعلمي أيتها الاميرة، أنك لبست لباس الجريرة، وستجازَين بما في هذا الكتاب، فاقرئيه وتشجَّعي على تحمُّل العقاب.
عفيفة : الحكم للواحد الغيور، الذي يعلم بخفايا الصدور، هات الكتاب لأقرأه، والفرج على الله.

صورة الجواب

اعلم يا أمير سليم، أن كتابك أوقعني في الخطر العظيم، ولعلمي بما صدر عنها من الفعل المشين، قد كان عندي في درجة اليقين، والذي يجب عليك، حين وصول كتابي إليك، أن تقتل عفيفة ذات الخنا، وولدها ثمرة البغي والزنا، بدون مراجعة أحد من الأنام، أو شفاعة بها، وعليك السلام.

الأمير عطفان علي حمدان
سيَّاف : أقرأتيه؟
عفيفة : نعم قرأته.
سيَّاف : والإمضا.
عفيفة : عرفتها.
سيَّاف : أهو خط الأمير وإمضاه؟
عفيفة : نعم خطه بلا اشتباه، قد سعى بقتلي سليم الغدار، وساعده الأمير بمجرد الإخبار، أما كان يجب عليه أن يتمهل، ويتأنَّى في أمره ولا يستعجل، أما علم أن عاقبة العجلة الندامة، وأنه مسئول عن النفس يوم القيامة، يوم يؤخذ بناصية الظالم دون سائر الخلق، وأنادي وأقول هذا ظالمي يا حق، أينفع حينئذٍ عذر؟
أ – ف : لا وعالم السر والجهر.
عفيفة : أينفع وقتئذٍ جار؟
أ – ف : لا ومن يعلم الأسرار.
عفيفة : أينجي مال أو بنون؟
أ – ف : لا ومن يعلم ما كان وما يكون.
عفيفة : ما حجة الظالم يوم الدين، إذا وقف أمام رب العالمين، يوم تَشْخَص فيه الأبصار، لحكم الواحد القهار، يوم يفر الإنسان من أبيه، وآله وذويه، وأنا أتأسَّف على الأمير وعلائه، أن أكون يوم القيامة من خصمائه، مع أني أُعَدُّ في أعتابه من الخدم، وهو صاحب المهابة والعِظم، كل هذا بفعل الإغراء الكبير، آمنت بالله القدير. اعلمي يا أمينة، وأنت يا فطينة، بأني عن قريب ستكور شمسي، وأسكن بعدها رمسي، جزاء طهارتي، وعفي وصيانتي، ولا لوم على الظالم فيما ظلم، بل اللوم على الحاكم فيما حكم، ولست بأول مظلومة غالها الظلوم، وسنلتقي في يوم تجتمع فيه الخصوم، وأنا ملطخة بدم البراءة، وهو مصفَّد بسلاسل الجراءة، وينادى على رءوس الأشهاد: هذا يوم العدل في العباد، ويجازى كل امرئٍ بما قدَّمت يداه، ويكون الأمر بيد الله.
سيَّاف : نعم، وفي هذه الدنيا الفانية، القتل جزاء لكل فاسقة زانية، فسلِّمي نفسك أيتها البغيَّة، وتهيَّئي لشرب كأس المنية.
عفيفة : أبلَغ من قدرك يابن الطاغية، أن تقول على مولاتك زانية؟! فاغرب عن وجهي أيها اللئيم، فلا كنت ولا كان الأمير سليم (يذهب).

الجزء السادس

(عفيفة – أمينة – فطيمة)
عفيفة : إلى جهنم وبئس القرار، خسرًا لكم يا أشرار، وسُحقًا لأميركم ذي الخيانة، الذي نقض العهد وخان الأمانة، ائتيني يا أمينة بدواة وقرطاس.
أمينة : أمرك على العين والراس.
عفيفة : سلامة ضمير مولانا الأمير، الذي وكَّل في أحكام هذا الشرير، ولا تثريب عليه فيما فعل، ولا حيلة للمحتال إذا أدركه الأجل.
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
لذا أسلِّم أمري في جميع الأحوال والشئون، إلى من أمره بين الكاف والنون، وقضاء الله لا تدفعه حيلة محتال؛ إذ الأمر بيد ذي الجلال.
أمينة : خذي يا مولاتي، هذه دواة وقرطاس.
عفيفة : سلمت من كيد كل خناس (تكتب الجواب، وفي أثناء ذلك تتحدث سرًّا أمينة وفطينة). خذي يا أمينة هذا مكتوب الأمير سليم، ومكتوبي سلِّميهما معًا لمولاي الفخيم، الذي حكَّم سليم الشرير، بقتل زوجته وولده الصغير، بدون مراجعة فكر، ولا تأمُّل في الأمر، وهذا قضاء الله، فله الشكر والحمد، من قبلُ ومن بعدُ.

الجزء السابع

(سليم – السياف – الجند)
سليم : بأية جراءة يا ذات العيب الكبير، خالفت أمري وأمر مولاي الأمير، أظننت بعد الفسق والزنا، تخلصين من القتل والعنا.
عفيفة : أسكت يا خوَّان، ومعدن الغدر والعدوان، فأنا أطْوع لمولاي الأمير من يديه، وجميع أموري منه وإليه، وكل ما فيه رضاه، أقبله وأرضاه، وأما أمرك يا جحود، فهو مرفوض ومردود، فمِل إلى العدل والإنصاف، وارجع عن الجور والإسراف، وتخلَّق بأخلاق الأمين، الذي لا يخون ولا يمين، واعلم يا أمير سليم، أن الظلم مرتعه وخيم، يزيل النعم، ويورث النقم، ويصرع الرجال، ويقصر الآجال، وأنت أغراك هوى الضلال، فراقب مولاك، الذي حكَّمك وولَّاك، فلا تدوم إمارة، ولا تبقى نضارة، ودوام الحال محال، وكل شيءٍ مصيره للزوال، وستُعرض في غدٍ أيها الأمير أنت وعملك على اللطيف الخبير، فأصلح لتسلم، وإلا فوالله تندم، وصن عرضك من العار، ونفسك في الآخرة من النار.
سليم : صه يا زانية، اسحبوها إلى البادية، واقتلوها هي وولدها، في شعب الهلكات، ودعوها تنطبق عليها الأرض والسموات.
عفيفة : أغثنا يا غيور.
سليم : آه يا ذات الفجور!
عفيفة : الفجور من مثلك يا غدار، وسينتقم منك الواحد القهار.

(مقام حسيني عشيران – أصول دارج ٦ من ٤.)

محبوبي قصد نكدي
قوى بالبكا رمدي
صحت من لهيب كبدي
أحرق الضنى جسدي

خانة

مسَّني السهر
بت في فكر
زاد بي الضجر
حين غاب القمر
سترك الجميل سندي
وعليك معتمدي
(تنزل الستار)

الفصل الرابع

الجزء الأول

(الأمير سليم – ندمان – مجلس شراب)
(مقام حجاز نكريز – أصول ورشان.)١٠
عاذلي في الأغيد الأنس
لو رآه اليوم قد عذرا

خانة

وردة بالخد أم خجل
ريقه بالثغر أم عسل
سليم :
اشرب ثلاثًا يا نديمي واسقني
وأطرب لنقطة عجمة وبيان
كأس إذا صافحتها أثرت يدي
من فضة مُلئت من المرجان
حمراء رصعها الحباب بجوهر
كالزهر في مرج من العقيان
والله لو عقل المجوس لكأسها
جعلوه بيت عبادة النيران
في محبتكم.
الجميع : هنيئًا (يشربون).

(مقام حجاز دوكاه – أصول نوخت ٧ من ٤.)

املأ لي يا دُرِّي
من صافي الأدنان
وأجِلْها يا بدري
يا حور الحسان

خانة

املأ لي يا صاح راجي
وأجِل لي الأقداح
من مدامة تبري
فؤادي الظمآن

(مقام أوج – أصول نوخت ٧ من ٤.)

يا نسيمات الصبا
روحي أرض الحجاز
غني في لحن الصبا
أو نغيمات الحجاز

سلسلة

وانشدي صبا صبا
وانعشي أهل المجاز

(مقام حجاز دوكاه – أصول نوخت ٧ من ٤.)

هل يُرى في الناس مثلي
عاشق مضنى متيم، ومغرم
رق حتى صار وهما
حار فيه من توهم، فسلم
سليم : يا ليلي، يا ليلي، يا ليلي، يا ليلي، يا ليل.
وحق يا بدر من لك مهجتي ملك
لا تستمع من يقول لك عاشقك ملك
جعلت جفني محلك والفؤاد مال لك
بالله واصل ولا تسمع كلام واصل
والعقل يا منيتي والروح والمال لك
الجميع : يا سلام، كمان آه.
سليم : في محبتكم.
الجميع : هنيًّا.
نديم ٢ (يقدِّم للأول كأسًا فلا يقبله، فيتغاضى عنه ويقول) : إن مجلسنا أيها الأمير، والقمر المنير، قد أخذت فيه الأوتار تتجاوب، والأقداح تتناوب، ونحن بين بدور، وكاسات تدور، ومسموع ومشموم، ومشروب ومطعوم، وعود يحرك ويحرق، وقدح يروب ويروق، وشادٍ يغرد، وشارب يعربد، وخد ورد يَنْشَقُّ، وورد خد يُنْشَق، إلى غير ذلك من روح وريحان، ومحاسن وإحسان، وإنما يا سيِّدي العيش، مع الخفة والطيش، فانتهز فرصة اللذات، قبل فوات الأوقات.
صل الراح بالراحات واقدح مسرَّة
بأقداحها واعكف على لذة الشرب
ولا تخش من ذنب فأوراق كرمها
أكُفٌّ غدت تستغفر الله للذنب
في محبتكم.
الجميع : هنيًّا.
نديم ٣ : اشرب يا سليم الجنان، وارتشف بنت الدنان، من كئوس، تسر بحسنها النفوس، ثغورها باسمة، ومناهلها لمادة الأسى حاسمة، تُحمد عند الصبوح والغبوق، وتشرح الصدور في حالتي الغروب والشروق.
وكأس ترينا آية الصبح في الدجى
فأولها شمس وآخرها بدر
مقطبة إن لم يزرها مزاجها
فإن زارها جاء التبسم والبشر
فيا عجبًا للدهر لم يُخلِ مهجة
من الحب حتى الماء يعشقه الخمر
سليم : لله دركم من ندمان، لا يسمح بمثلهم الزمان، حاشيتهم أرقُّ من النسيم، ومزاج كاساتهم من تسنيم، إن نظموا أودعوا أصداف المسامع درًّا، أو نثروا نفثوا في عقد العقول سحرًا.
تنازعوا درة الصهباء بينهم
وأوجبوا لرضيع الكأس ما يجب
لا يحفظون على النشوان ذلَّته
ولا يريبك من أخلاقهم ريب
فقد والله طيبتم القلوب والأسماع، وأحييتم موات الخواطر والطباع، وأطعمتم الآذان سرورًا، وقد حتم في القلوب نورًا، سيَّما وقد ارتاح الجنان، بقتل عفيفة من الأكدار والأحزان، وفي أملي أن يُقتل ابن اللئام، في ساحة الطعن والصدام، وأملك بعد موته الأمر والنهي، وأحكم على كل من في الحي. فما تريان أيها النديمان الصادقان؟
نديم ١ : إني أرى ما أنت فيه أيها الأمير، هو محض خطأ ومُسخط للعليم الخبير، وأما رأيي في العشق والغرام، أيها السيد الهمام، فهو ملك قاهر وحكم جائر، هزله جد وراحته تعب، وأوله لغب وآخره عطب، يعتري النفوس العاطلة والقلوب الفارغة، ويكسف من الآراء شموسها البازغة، يستعبد الأحرار، ويستأثر ذوي الأقدار، ويصغر الأبدان، ويوقع في الذل والهوان، ويورث الأسف والحرق، ويجلب الوسواس والأرق، ويجدد ملابس الوجد والألم، ويمنع عن الاشتغال بالعلوم والحكم، ويعطل عن المصالح، ويجرح بمديته الجوارح، ومن جنده الغرام والكلف، ومن رفده الهيام والشغف، يعوق الطالب عن الاستفادة، ويشغل الإنسان عمَّا خُلق له من العبادة، يفضي إلى الجنون، ويُدني أهل المنى من المنون.
وما عجب موت المحبين في الهوى
ولكن بقاء العاشقين عجيب
ولولاه لما قتلت عفيفة ظُلمًا، وارتكبت شططًا وإثمًا، وما غررت بنبيل الإمارة، وأحببت الحكم المطلق والإدارة، مع أن أميرنا على قيد الحياة، ومحبوب بما له من رفعة القدر والجاه، فعليك أن تتدارك الأمر، قبل ما يحيق بك الخسر.
سليم : وأنت ما تقول أيها النديم؟
نديم ٢ : أنا أقول أيها الفخيم، إن ما فعلته قدر ومكتوب، في لوح علَّام الغيوب.
إذا نزل المقدار لم يبقَ للفتى
نهوض ولا للمخدرات إباء
فدع ما فاه به هذا العُتُلُّ الزنيم؛ فقد لا يحسن الحديث في مجلس النديم.
ما للغناء مع الحديث نظام
إن الكلام على السماع حرام
وداو الأوهام بشرب راح ألطف من نسيم الصبا، وأرق من دموع العشاق وعهد الصبى، النور إزارها، ومعدن الذهب قرارها، وقد قيل: إذا تراكمت الغموم، ففي المدام بماء الغمام شفاء الهموم، فهي في الحقيقة كيمياء الفرح، وصابون الترح.
وليست الكيميا في غيرها وجدت
وكل ما قيل في أوصافها كذب
قيراط خمر على قنطار من ترح
يعود في الحال أفراحًا وينقلب
وعوِّل على اغتنام فرص اللذات؛ حيث دعتك إلى المدام قبل الفوات، واجعل كلام هذا النصوح في زوايا الإهمال، وبعد هذا الوقت لكل مقام مقال، ولنرجع أمير الأمراء، إلى ما كنَّا فيه من الأنس والصفاء.
نديم ١ : لا بأس بما قاله، فأوعه سمعك؛ فإنه يرى غير ما رأيت ويقصد نفعك، وها أنا قد خرجت من عهد الأمير بالمعروف بما قدمته لديك، ودخلت فيه من أبواب النصائح بين يديك، وليس لي غاية في ذلك ولا فائدة، ولا أمل في صلة تكون عليَّ عائدة، وألتمس منك الإذن بالانصراف الآن، والشأن لمن كل يوم هو في شأن.

(يقول سليم بعد أن يخرج النديم الأول.)

الجزء الثاني

سليم : صدقت أيها النديم، الراح تشفي السقيم، وتُسمع الأصم، وتُنطق الأبكم، وتؤلف شمل البعيدين، وتزرع المحبة بين المختلفين، وتشجِّع الجبان، وتزيل تعقيد اللسان، فأنشدنا بمفردك أيها النديم، شيئًا يداوي قلبي الكليم.
نديم ٢ :
ولما رآني العاذلون متيَّمًا
أهيم بمن أهوى وعقلي ذاهب
رثوا لي وقالوا كنت بالأمس عاقلًا
أصابتك عين قلت عين وحاجب
الجميع (مقام حجاز همايوني – أصول دارج ٦ من ٤)١١ :
يا راعي الظبا
في حيك غزال
خِلْتُه في قبا
مذ رنا وصال

دور

قال لي خذ جبا
واشربها حلال
ناديت مرحبًا
يا بدر الكمال

خانة

قل لي يا مصون
ما هذا الدلال
يا حلو المجون
ما آن الوصال
زادت بي شجون
سلواني محال
وحال أبي
عن غيرك ومال
إيه أمان أمان
إيه أمان أمان

دور

كم هذا القُديد
يقتنص أسود
والخال في الخُديد
حارسه يسود

دور

ينثني رُويد
راخي البنود
يمشي معجبًا
في ثوب الجمال

خانة

مقصدي أراك
يا بدر البدور
يا عود الأراك
محلي تزور
لا أعشق سواك
بسَّك لا تجور
يا غصن الربا
يا مزري العوال
إيه أمان أمان
إيه أمان أمان
سليم : قد ضاق صدري من هذا الأمر، واشتعل في قلبي وقد الجمر، وما أبداه هذا النصوح البارد، قد أقصى آمالي عن بلوغ المقاصد، ولم أدرِ نتيجة هذا الشأن، تعود عليَّ ربحًا أو خسران.
نديم ٢ : هوِّن عليك أيها الأمير، فالأمر سهل ويسير؛ فإنك عند الأمير علي مقبول، وكل كلام غير كلامك يعدُّ من الفضول، فلا تشغل فكرك بتباريح الفكر، وما كان من أمر عفيفة، فهو قضاء وقدر، فهيَّا بنا أيها الندمان؛ لنطرب الأمير بالسماع وبديع الألحان.

فصل سماع

(مقام حجاز دوكاه – أصول مربع ١٣ من ٤.)

غصن بان قد تبدَّى
بالمحاسن والجمال
يا له ظبي مفدًّى
قد سبى بدر الكمال

دور

وحوى في الثغر شهدًا
ذا الرشا عذب المقال
وأسر بالجفن أسدا
منه بالسحر الحلال

(مقام حجاز دوكاه – أصول نوخت ٧ من ٤.)

يا غزالًا قد أعار الظبى
تكحيل العيون
وغُصَيْنًا قد أعار الروض
ميلات الغصون

خانة

بالذي ولَّاك
حسنًا رقَّ وارحم
صب مغرم
بالجوى حيران

قفلة

أوفِ وعدي وتفضَّل
وأزل عني شجوني
ما الصبر إلا جدلًا
والحب لا يبرح ولا
خلِّ من لي
خلِّي ذلِّي بين الملا

(مقام حجاز دوكاه – أصول مصمودي ٨ من ٤.)

هجرني فدعني من البعاد أنتحب وجدي
وخلي دموع العين تجري على خدي

خانة

دموعي جرت في الخدود
وحبي بدا بالصدود
ترى يا زماني تعود
وانظر حبيبي عندي

دور

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجداك على وجد

خانة

حبيبي رشيق القوام
وريقه شقيق المدام
أتى في دياجي الظلام
وجادلي بحل البند

(مقام حجاز دوكاه – أصول دور هندي ٧ من ٨.)

هات يا باهي السنا
كاس الطلا، بين ندمان
وأدر راح الهنا
بدري علا، طب بالحان

خانة

خمرة تنفي العنا
بها انجلى، غين أحزاني

قفلة

كم بها نال المنا
بعد القلا، مغرم عاني
(مقام حجاز دوكاه – أصول أقصاق ٩ من ٨.)١٢
جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس

خانة

لم يكن وصلك إلا حُلُمًا
في الكرى أو خلسة المختلس

دور

إذ روى النعمان عن ماء السما
كيف يروي مالك عن أنس

خانة

فكساه الحسن ثوبًا معلمًا
يزدهي منه بأبهى مجلس

الجزء الثالث

البشير : قد بزغت يا مولاي طوالع الأمير المنصور، وعن قريب تشرق شمسه في سماء السرور.
سليم : اغرب عني أيها الحقير، فلا كنت ولا كان الأمير، الذي كدر أوقات الطرب (يخرج البشير).
الندمان : نعم وقد جبرنا على الهرب (يخرجون).

الجزء الرابع

سليم : لا تخافوا، لا ترهبوا، اذهبوا إلى فلا ولا، ومن يكون الأمير اللكاع، حتى أخشى منه أو أرتاع، فعليَّ أن ألازم كأسي، جالبة أنسي وإيناسي، وإذا حضر الأمير، أقابله بالشتم والتحقير، ومهما شاء يفعل، وأنا على الراح لا أتحول (يملأ الكاس ويشرب).
إذا لم أجد للراح خلًّا موافقًا
فلي بيَ أنس كامل حين أشرب
لساني يغنيني وفكري منادي
وكفِّي يسقيني وسمعي يطرب

(تدق طبول النصر، ويُنشد الجيش من الخارج.)

(شاهناز – أصول دارج ٦ من ٤.)

بشرى لنا بشرى لنا
فزنا على الأمدا ونلنا المنا والمرام
جاد الهنا جاد الهنا
واشتفت النفس بقهر اللئام الطغام
سليم :
آه يا ترى آه يا ترى
أظفر الوصل ولو في الكرى، لل يا ليل

الجزء الخامس

(الأمير علي – الجيش – سليم سكران يعربد في دار الأمير)
الجيش : رب الورى رب الورى، ارضَ على المولى عليِّ النهى والمقام.
علي : ما هذا يا حليف الخمر؟! (مشيرًا إلى سليم).
سليم : هذا حظ ونشأة وسكر.
علي : أفي بيتي تُفعل هذه الفعال؟
سليم : (أمال) يا (واد) يا راعي الجمال.
علي : اقبضوا على هذا الفاسق الخئون، واجعله في السجن ليذوق المنون، واذهبوا أنتم إلى منازلكم، واستأنسوا بأهلكم وأقاربكم (يمسكونه).
الجند :
شهم علا شهم علا
أوج علا المجد بطعن القنا والحسام
سبع الفلا سبع الفلا
حُزْت رضا الشعب فطب بالصفا والسلام

(يُخرجون سليم)

الجزء السادس

(الأمير علي – أمينة – فطينة)
علي : أمينة.
أمينة : نعم.
علي : فطينة.
فطينة : نعم.
علي : أخبراني بحقيقة الحال؛ ليزول عني الإشكال، هل عفيفة زنت كما قال سليم؟
أمينة : لا لا، حاشا يا مولاي الفخيم، عفيفة نقية، وطاهرة تقية، صوَّامة وذاكرة قوَّامة، وقد ماتت مظلومة، بدعوى سليم المشئومة، وأنت يا مولانا تساهلت بقتل عفيفة، وهي والله بريئة شريفة، وهذا كتاب سليم الذي أرسله لها في الحبس، وهذا كتابها لك، فاقرأهما ليزول عنك اللبس (يقرأ كتاب عفيفة).

باسم رب الملكوت، الحي الذي لا يموت، مقدِّر الخير والشر، مسبِّب النفع والضر، الذي لا يغرُب عن علمه في جميع الأمور، ذرة من خفايا القلوب والصدور، من المذبوحة بمدية البهتان، المقتولة بالظلم والعدوان، اعلم يا مولاي أنني قُتِلت بسيف حكمك الصارم، فأنت الخصم والحاكم، وكان يجب عليك التروي والإمعان؛ لنفرِّق الحق والبهتان، قُتِلت بغير حقٍّ أيها الأمير، ولم أجد غير الله لي من نصير، مع أني والله عفيفة، ومنزَّهة عن النقائص شريفة، ولو طاوعت الأمير سليم، لما ذقت العذاب الأليم، وليس الحق عليك، بل على الزمان، وسنجتمع في يوم تشيب فيه الولدان، وسلام الله العظيم المنَّان، على كل منصف بالعدل والإحسان.

الإمضا: المغتفر لها النقية، عفيفة البرية
علي : آه، قد يدرك المتأني بعض حاجته، وقد يكون مع المستحيل الزلل. (لأمينة) وأين قتلها ذلك الخوَّان؟
أمينة : اعلم يا قرة العين، أن سليمًا أمر سيَّافَين، أن يأخذاها إلى شعب الهلكات، ويذيقاها وولدها علقم الممات، ولم ندرِ بعد ذلك ماذا جرى، حيث إن السيَّافَين للآن ما حضرا.
علي : يلزم أن آخذ سليمًا مصفَّدا إلى ذلك الشعب، وأحرق أحشاءه بالعذاب والضرب، وأستقي عن مدفنها الطاهر، وأسقي ترب ثراها من مدمعي الهامر، وأُلازم بعدها العويل والحسرات، إلى أن يأتي هادم اللذات، فأسبل علينا يا بارئ النسم، ستار التوفيق والكرم.
(تنزل الستار)

الفصل الخامس

الجزء الأول

(برِّيَّة مقفرة – الأمير علي – الجند – سليم مصفَّدًا بالأغلال)
علي :
بشِّر عفيفة نخبة الأطهار
أني عجلت لها بأخذ الثار
من فاسقٍ كلم القلوب بغدره
ومحا حيا المعروف بالأوزار
قتل الغلام وأمه متعمِّدًا
ورمى فؤادي في لهيب النار
سحقًا له من ظالم متعمَّدٍ
بُعدًا له من جاحد غدَّار
فاليوم يومك يا خئون فمت بما
كسبت يداك بصارمٍ بتَّار
سليم :
حاشا تعاملني بفعلي سيِّدي
عفوًا فإن الحلم للأحرار
والعفو من كرم الطباع فلا تدع
مني الرجاء على شفير هار
علي : أترجو مني العفو يا خدَّاع، وتعلمني أنه من كرم الطباع، بعدما راودت مولاتك عفيفة، وكلَّفتها ما لا تفعله كل طاهرة شريفة، ولما يئست منها يا خوَّان، قتلتها بالزور والبهتان، وقتلت ولدي، وأحرقت عليهما كبدي؟!
سليم :
أتيت ذنبًا عظيمًا
وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمنٌّ
وإن جزيت ففضل
وإني أتمثَّل يا ذا الأفضال، بقول من قال
ذنبي إليك عظيم
وأنت أعظم منه
فخذ بحقِّك أو لا
فاسمح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي
من الكرام فكنه
علي : العفو يا ذا الخطيئات، يكون على الهفوات والذنوب الصغائر، لا عن موبقات الكبائر، وأما جرمك العظيم يا ذا الحيف، لا يستحق مقابلته بغير السيف. أوَّلًا: فأفضل العقاب والقصاص، برميك بالرصاص، فمُت أيها الجبان؛ فقد لقيت الهوان (يمر سيَّاف بسرعة قبل أن يرميه بالرصاص، فيرخي يده). ويقول: إني أرى شبحًا مارًّا مر السحاب، فعليَّ به قبل أن يختفي في الهضاب (تلحقه الجند).
أمينة : أظنُّه يا مولاي أحد السيَّافَين، الذين أمرهما سليم بقتل سيِّدتي قرة العين.

الجزء الثاني

(الجند – السيَّاف – الأمير علي – أمينة – فطينة – سليم)
أمينة : هه … هو بعينه يا مولاي الفخيم، فسله عمَّا فعل بسيِّدتي ونجلك الكريم.
علي : وماذا فعلت بعفيفة البريَّة؟
السيَّاف : هي على قيد الحياة يا ذا السجية العلية.
علي : عفيفة على قيد الحياة؟!
السيَّاف : نعم يا عليَّ الجاه.
علي : وا فرحاه، وا طرباه، ولكن ما الذي ألجأكما لترك ما أمركما به هذا اللئيم؟
السيَّاف : براءة عفيفة من كل فعلٍ ذميم.
علي : وأين هي الآن؟
السيَّاف : هي قريبة من هذا المكان.
علي : أخبرنا يا باقعة، كيف كانت تلك الواقعة؟
السيَّاف : حيث أذن مولاي في حسن البيان، فلا بد من إتمام الإحسان، وذلك بالإصغاء، وحسن الرعاية والإرعاء.
علي : كلي آذان، فعليك بالصدق في البيان.
السيَّاف : عش يا سيِّدي واسلم، وتيقَّن واعلم، أنه بعد أن أمرنا هذا الجحود بتصفيدها في القيود، وضعناها في السجن، وقد عانت فيه كثيرًا من الحزن، حتى لقد جاءها المخاض في غيابته، ولم تجد من يواسيها بعنايته (يظهر الأمر على علامة الاستياء). إلى أن جاء أمركم الكريم بقتلها وقتل ولدها الفخيم، فكان بمنزلة القضاء النازل من السماء، وإذا نزل القضاء، وفُتِحت له أبواب السماء، فلا يُرد ولا يُصد، ولا حيلة في منعه لأحد، كذلك كان أمركم يا ذا العلاء، لا يمكن تلقيه إلا بالإذعان والإمضاء، فأخذناها وهي بحالة تبكي لها العواذل، وترق لشكواها الليالي الموائل، فهزَّتني الرحمة والفتوة، وحرَّكتني الشفقة والمروَّة، إلى كشف الحقيقة، ودفع ما التمس عليَّ من غامض الطريقة، فأقسمت لي بأغلظ الأقسام، أنها بريئة من العيوب والآثام، وأيَّدت كلامها بالبرهان القاطع، والدليل الدامغ، فأشفقنا عليها من الهلاك، وصبينا جام غضبنا على هذا الأفَّاك (مشيرًا إلى سليم)، وخشية من شره تركناها في منقطع من العمران، غير مأهول بالسكان، ولكن نعمة الله أعلى من أن تدركها الأفهام، أو يحيط بها علم الأنام، ولا بد من أن تتم كلمته، وتنفذ مشيئته، ولولا الحرص والأمل، لبطل العلم والعمل، ولما انتظم أمر المعاش، ولا اهتم لادِّخار قوت ولا رياش، ولا زرع زارع ولا غرس غارس، ولا بنى بانٍ ولا اخضرَّ يابس، ولانقرض إذ ذاك نظم العالم، وبانقراضه تنقرض أمور بني آدم؛ فقد أرسل الله الرحيم، شاة من فيضه العميم، فانتفعت بصوفها ولبنها، وآنستها في وحدتها، ثم أسعدتني الظروف بمعرفة المغارة، وهذا إيجاز ما حصل يا صاحب الإمارة، فأما وقد عرفت الخطأ من الصواب، وتبيَّنت الرشد من كلامي والخطاب، فما عليك إلا أن تنتقم من هذا الجحود، وتسكنه مظلمات اللحود؛ ليكون عبرة لمن ينسج على منواله، وينهج نهجه من أمثاله، وبغير ذلك تفيض اللئام فيضًا، وتغيض الكرام غيضًا، فيستفحل الداء ويعز الدواء.
ولقد نصحتك إن قبلت نصيحتي
فالنصح أغلى ما يباع ويوهب
علي : إن لساني عاجز عن مدحك والشكران، على ما أبديته من الجميل والإحسان، وسأتبع كل ما أشرت به عليَّ أيها الكريم، ولا تحسبنَّ عليًّا يعفو بعدئذٍ عن هذا اللئيم (للجند) فاذهبوا معه الآن، وائتوني بها وولدي؛ لتزول عني الأشجان (يذهبون).

الجزء الثالث

(بعض الجند – علي – سليم مكبَّلًا بالقيود)
علي :
إذا ظالمًا يستعمل الظلم مذهبًا
ولج عتوًّا في قبيح فعاله
فكِله إلى صرف الليالي فإنها
ستُبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالمًا متجبِّرًا
يرَ النجم تيهًا تحت ظل ركابه
طغى وبغى حتى إذا غرَّه البقا
أناحت جميع النائبات بابه

الجزء الرابع

(الجند – عفيفة – طاهر – الأمير علي – سليم)

(لحن أوج – أصول أقصاق ٩ من ٨.)

إن هذا اليوم يُبدي
ألسنًا تسنى عن النفوس
إذا غدا للبدر يهدي
كوكبًا يغني عن الشموس
وبدا الدهر بعدُ
ضاحك السن بعد العبوس
طاب المتلقى
والدهر انتقى
يومًا أشرقا
قال لي غنى

(يقبِّلان بعضهما، ويحمل ولده على صدره، ويظهران كثيرًا من علامات الشوق.)

عفيفة : هذا يا مولاي الفخيم، صديقك الأمير سليم، المتصف بأنواع الكمال، المتحلي بزينة الأدب والجمال، الذي ما له نظير بالمعارف، والشمائل الحسنة واللطائف، الصادق الأمين، الذي لا يخون ولا يمين (بتهكم).
علي : لك يا عفيفة أكثر من هذا التأنيب، وسنخلص من رؤية هذا الكئيب، فذق أيها الخئون، علقم المنون (يضربه بالرصاص فيقع يتخبط).
عفيفة : الحمد لله الكريم، الذي أعاد على ذلك اللئيم، عاقبة الغدر والشرور، وأراه نتيجة نكث العهد المبرور.
علي : قد جعلتك أيها السياف الهمام، نائبًا لديوان الأحكام، واتَّخذتك من الآن سميرًا، وفي أموري ناصحًا ومشيرًا، وسأفيض عليك من ملابس الإنعام، وخُلَع الإفضال والإكرام، ما يجعلك في عيشة هنية، وحالة مرضية. (للجند) أما أنتم، فاشكروا الباري على ما أولانا من النصر، والفوز على الأعداء والظفر؛ فقد تركنا جُلَّهم مقرَّنين في الأصفاد، وعبرة للساعين في الأرض الفساد، وجزءًا منهم صاروا كرميم وهشيم، طلع في ريح عقيم، والباقي نكصوا على الأعقاب، وطاروا بخوا في العقاب، واستبدلوا بمسكة العزائم، هتكة الهزائم، وما ذلك إلا باتِّفاق قلوبكم أيها المخلصين، ومعرفتكم لواجب الوطن والدين، ومن قصتي علمتم أن مخالطة ذوي المنابت الوضيعة، مقوَّضة لعمد البيوت الرفيعة، ومعرفتهم تجرُّ ندمًا، وتعقب حسرة وسدمًا؛ ذلك لأن لئام المكسر إن استغنوا بطروا وفتنوا، وإن افترقوا قنطوا ووهنوا، فأمعنوا النظر، ودققوا الفكر، إلى ما فيها من قمع نواجم الفخر، وقدع طوالع الكبر، ونتائج سوء الأفعال، وذميم الأعمال، وانظروا الفرق بين النتيجتين، والبون الشاسع بين الخصلتين، فضيلة عفيفة الإزار، الطاهرة من الأوزار، وهمتها التي تعزل السِّمَاك الأعزل سموًّا، وتجر ذيلها على المجرة علوًّا، أو رذيلة سليم الذي وقف في ظل الطمع، وترك التقى والورع، ولبس ثوب الخذلان، وجاهر بالبغي والعدوان، وقابل النعمة بالكفران، فالأولى حفظها الله في الدنيا من الهلاك والبوار، وسيحفظها بإذنه في الآخرة من النار.
إذا أكرم الرحمن عبدًا بعزِّه
فلن يقدر المخلوق يومًا يهينه
ومن كان مولاه العزيز أهانه
فلا أحد بالعزِّ يومًا يعينه
أما الثاني؛ فقد قضى نحبه، ولقي بأسود صحيفةٍ ربه، وآل أمره إلى وبال، وسوء حال واضمحلال، وصار مضغة في كل لسان، وأضحوكة كل إنسان، وفي أخراه إلى سقيا الحميم وسكنى الجحيم؛ لأنه جحد النعمة بعد أن رفعته عن خمول، وغمط الصنيعة، وقد أطلعته عن أفول، فتجنَّبوا الصرعة في المهاوي، والضلال في المغاوي، وخذوا نهج الخير فتهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر فتقصدوا، واجنحوا إلى الطاعة، ولازموا أهل السنة والجماعة، واشتملوا على الخيرات قبل أن تمزَّقوا، واعتصموا بحبل الله ولا تفرَّقوا، ولا تهتمُّوا في إدراك الغرض، وتذهبوا جوهر نفوسكم في تحصيل العرض، ولا تستبدلوا الضلالة بالهدى، وترتدون بما يوقعكم في الردى، إني لكم من الناصحين (تُظهر الجند شيئًا من التأثر والاستحسان).
قائد : شكرًا لك يا مولانا على حسن عنايتك، وحمدًا على نصحك وهدايتك، فكلنا بها قريري العين والناظر، منشرحي الصدر والخاطر، متَّعظين بأقوالك التي تسر المحزون، وتسهل الحزون، وتجتذب الألباب، وتستلب النفوس، وتنفس كرب المكروب، وتزيل البؤس، فلا زالت الأيام طوع يديك، ولا زلنا منك وإليك.
علي : بارك الله في آرائكم السديدة، وهممكم السامية الرشيدة، فالزموا منازلكم ثمانية أيام؛ لتستريحوا من عناء الصدام، واشكروا المولى العظيم على ما أغدق علينا من النعمة والتكريم.
(مقام أوج، أصول دارج ٦ من ٤.)١٣
أمير العصر
جليل القدر
عظيم الفخر
بلا نكر
فدم في يسر
طويل العمر
مطاع الأمر
مدى الدهر

سلسلة

وسيفك صان
حوزة البلدان
وهو في الميدان
القضاء الشافي

دور

شقيق السعد
فخارك يهدي
جميل الحمد
منى القصد
فعش في رغد
مصون العهد
جزيل الرفد
بلا ضد

سلسلة

ونحوك مال
منتهى الآمال
واستراح البال
بالحبيب الوافي

مارش جديد١٤

(مقام حجاز كار – أصول ١٣ من البلانش.)

غر هزار الغناء نشيدي (١٣) وأطربني بصوت رخيم (١٣) هنئ فؤادي بدهر جاد (١٣) واهدِ لمليك الورى المفضال (١٣) مدحًا ينعش النادي (١٣) شهم بصفاء سعود علاه – طابت الأرواح (١٣) بدر بسناء شموس هداه – زادت الأفراح (١٣) وازدهت أنوار ذا المقام (١٣).

عباسنا ذو محيا زاه (١٣) مكيُّ الختام (١٣) ملكٌ بعدل سنيٍّ ساد (١٣) فاشد ببقاء البهي الوضَّاح (١٣) مدحًا … إلخ.

٣ من ٤ (نوار).

هبوا بوفا
فالدهر غفا
وانهوا لجفا
طابت ألحان
طيبوا بأمان
من كيد زمان
مولى الأكوان
يسدي الإحسان
وادعوا الكرام
ببقاء دوام
آل الإنعام
في طيب ختام
١  هو أمثل كتاب وُضِع في الموسيقة الشرقية وتاريخها، وآلات الطرب المختصة بها، وأوزان البيشروات والبستات، والموشحات، وقطع مصرية مربوطة بالنوتة الإفرنجية، والغناء العربي القديم والحديث، وهو مُزيَّن بصور كبار الموسيقيين والمطربين، طُبِع في القاهرة سنة ١٣٢٢ﻫ، لمؤلِّفه «كامل أفندي الخلعي»، ويُباع بمكتبة الشيخ «منصور عبد المتعال» بالأزهر.
٢  أذكر من رواياته ما يأتي: عنتر، أنس الجليس، ناكر الجميل، متريدات، عفيفة، ملتقى الخليفتين، الكوكبين، الأمير محمود، السلطان حسن، أسد الشرى، لوسيا، اللقاء المأنوس في حرب البسوس، الأمير يحيى، وغيرها كثير مما لم يأتِ على ذاكرتي الآن.
٣  تلحين: «كامل أفندي الخلعي».
٤  قد: «ساعد الغزال المخضوب».
٥  قد (زارني المحبوب).
٦  هذه الخانة لا تُنشد إذا غنَّت عفيفة اللحن الذي يليها، وهذه الخانة من تلحين: «كامل أفندي الخلعي».
٧  تلحين: «كامل أفندي الخلعي».
٨  قد: «حييت جميل حرم وصلي».
٩  تلحين: «كامل أفندي الخلعي».
١٠  تلحين: «كامل أفندي الخلعي».
١١  تلحين: «كامل أفندي الخلعي».
١٢  تلحين: «كامل أفندي الخلعي».
١٣  قد: «أدر راحاتي».
١٤  تلحين: «كامل أفندي الخلعي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤