الفصل الثالث عشر

حقوق الطبع والامتياس

قبل أن نودع جريدة الجمهورية بحلوها ومرها ينبغي أن نذكر آخر مقلب ماركة العبد لله، والذي كان ضحيته أحد الزملاء بدار التحرير، واسمه عبد العاطي عبدون.

وأصل الحكاية أن الأستاذ عبد العاطي كان زميلًا بحكم عمله للعبد لله، وذات مساء هبط عليَّ قاصدًا المشورة والرأي السديد، وعندما سألته أي مشورة وأي رأي سديد أجاب:

إنني على أعتاب قنبلة صحفية ستهتز لها الأوساط السياسية. وأنا أبدي دهشتي لعبدون قلت: كيف؟ على الفور قال إنها حقيقة الثورة المصرية وأسرارها التي تذاع لأول مرة. وأنا ألبس رداء الناصح الأمين طلبت من عبد العاطي ألا يذيع أمر هذا الكتاب الخطير، وأن يختص شخصي الضعيف بحقوق النشر والتوزيع لهذا السبق المعجزة.

وبدون أي تفكير أومأ عبد العاطي رأسه بالموافقة، وأمسكت بالورقة والقلم لأحرر أغرب وأعجب عقد في تاريخ حركة النشر على الإطلاق!

بسم الله الرحمن الرحيم

إنه في يوم كذا شهر كذا عام ١٩٥٧م تم الاتفاق بين كلٍّ من:
(أ) دار الهنا والشفا للطباعة والنشر، ويمثلها الأستاذ محمود السعدني طرف أول.
(ب) الأستاذ عبد العاطي عبدون المحرر الصحفي بدار الجمهورية طرف ثانٍ.
وقد اتفق الطرفان على أن يقوم الطرف الأول بطبع ونشر كتاب الطرف الثاني «أسرار الثورة المصرية».
(ﺟ) يتحمل الطرف الأول تكاليف طباعة مائة ألف نسخة من الكتاب المذكور، ويتحمل الطرف الأول أيضًا تكاليف الحملة الإعلانية في الصحف والمجلات.
(د) تكون طباعة الغلاف على ورق فاخر ومن أربعة ألوان، على أن يجري فرز الألوان في مطابع ديكسون بإنجلترا.
(ﻫ) يتعهد الطرف الأول بتوزيع الكتاب في كلٍّ من الإسكندرية وكفر الدوار ودمنهور وحوش عيسى وسحالي ونتمة والمحمودية والمعدية وإيتاي البارود وكفر غزال وأميوط، دسوق، كفر الشيخ، الزقازيق، المنصورة، أجا، طنامل، صهرجت الكبرى، صهرجت الصغرى، بنها، مسجد الخضر، ميت البيضا، سبك الضحاك، بهناي، القناطر الخيرية، الوراق إمبابة، القاهرة، الجيزة، بني سويف، المنيا، بني مزار، أسيوط، بني قير، الغنايم.
عند هذه النقطة انتفض المؤلف عبد العاطي غاضبًا، وهبَّ واقفًا، وصاح بأعلى صوته: لا بلاش الغنايم من فضلك. سألت عبد العاطي عن السبب، فأجابني بأن الغنايم مسقط رأسه، ولا يرغب في توزيع كتابه هناك. وعلى الفور سجلت في العقد بندًا جديدًا.
ملحوظة: وتُستثنى قرية الغنايم من توزيع كتاب أسرار الثورة المصرية؛ حيث إنها مسقط رأس المؤلف. وبعدها استأنفت كتابة مواد العقد:
(و) يجب على كل قارئ يشتري كتاب «أسرار الثورة المصرية» أن يترك عنوانه كاملًا عند الموزع الذي اشترى منه الكتاب، وأن يقوم بعد فراغه من الكتاب بكتابة رأيه فيه بمنتهى الصدق والوضوح. وتقوم دار الهنا والشفا للطباعة والنشر بإصدار كتاب ضخم يحتوي على ردود القراء تحت عنوان: «صدى أسرار الثورة المصرية في أنحاء العالم وردود الأفعال بين القراء في القرى والدساكر».
هنا هبَّ عبد العاطي واقفًا وقال: إيه بقى اللي حشر العساكر في العملية دي؟
– الدساكر يا عبد العاطي مش العساكر.
– وإيه هيه الدساكر دي؟
– الدساكر دي يعني وزارة الأعلام!
فشخ عبد العاطي فمه عن ابتسامة عريضة وقال: يعني لازم تكتبها بالوحوي «النحوي»، وعلى العموم أنا صديق الحاج زهران مدير مكتب الدكتور حاتم ويمكن يصرفوا لنا إعانة للكتاب!
(ز) بعد نشر كتاب «صدى أسرار الثورة المصرية» يقوم الأستاذ المؤلف عبد العاطي عبدون بالرد على الصدى عن طريق تأليف كتاب آخر بعنوان «صدى الصدى»، ويجري الاتفاق مع المؤلف عن الأجر وعدد النسخ المطبوعة في حينه.
(ح) تقوم دار الهنا والشفا للطباعة والنشر بتنظيم ندوة عالمية مختلطة من العرب والأجانب، وتكون لندن مقر الندوة، ويحضرها سكرتير عام الأمم المتحدة ورئيس جمعية حقوق الإنسان وجمعيات الهلال الأحمر والرفق بالحيوان ومأمور مركز إمبابة، ويُحييها المطرب الشعبي محمد أبو دراع، ويقوم الأستاذ عبد العاطي بافتتاح الندوة بكلمة لتحية السادة الذين لبَّوا الدعوة.
(ﻃ) إذا وقع أي هجوم على الأستاذ عبد العاطي مؤلف «أسرار الثورة المصرية» أثناء عقد الندوة أو بعدها، سواء من القراء أو النقاد أو المراقبين، تقوم دار الهنا والشفا للطباعة والنشر بحماية الأستاذ بكل الوسائل المتوافرة، وتخصص له طائرة خاصة طراز «فايكونت» لتنقلاته بين القارات.
(ي) يتقاضى الأستاذ المؤلف مبلغ ألف دولار عن كل ليلة يقضيها في الخارج للاشتراك في الندوات أو لعمل مقابلات صحفية خارج مصر، سواء حول الكتاب أو حول غيره من الموضوعات التي تستأثر باهتمام الجماهير في مصر والخارج، ويكون الدفع نقدًا ويومًا بعد يوم، وتتولى دار الهنا للطباعة والنشر تسوية الضرائب المطلوبة منه عن بدل السفر والإقامة، كما يخصص له خادم وسكرتير خاص، ومترجم فوري، يشترط فيه إجادة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية إلى جانب العربية!
وبعدها استأنفت كتابة بنود العقد:
(ك) يحصل المؤلف الأستاذ عبد العاطي عبدون على خمسين في المائة من سعر الغلاف، ويتقاضى مبلغ خمسمائة جنيه مصري عند توقيع العقد.
(ك) مكرر: يقوم الطرف الأول بترجمة كتاب عبد العاطي عبدون المحرر الصحفي إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ويقوم الأستاذ محمد محجوب بالترجمة إلى الإنجليزية والأستاذ إبراهيم موسى بالترجمة إلى الفرنسية، وحيث إن أسرار الثورة المصرية من الكتب التي ستُحدِث هزة في العالم، وسيكون محل جدل شديد بين رجال السياسة والفن والرياضة من الآن وإلى منتصف القرن الواحد والعشرين، لذا يُعطى للأساتذة المترجمين سعرٌ خاص عبارة عن مائة جنيه عن كل ألف كلمة.
(ل) تتعهد دار الهنا والشفا للطباعة والنشر بالحصول على مقدمة للكتاب من الرئيس البطل جمال عبد الناصر إذا كانت ظروفه تسمح بذلك، فإذا لم تكن تسمح فتكون المقدمة بقلم الصاغ كمال الدين حسين حفظه الله.
أخيرًا … هذا العقد مُلزِم للطرفين، وفي حالة وقوع أي خلاف بينهما تكون محاكم القاهرة مختصة بفض النزاع بالنسبة للنسخة العربية، وتكون محاكم لندن هي المختصة بالنسبة للنسخة الإنجليزية، أما الخلاف حول النسخة الفرنسية فيكون من اختصاص محاكم باريس.

عندما انتهيت من كتابة العقد التاريخي، راح المؤلف يقرأ العقد، وتوقف فجأةً عند بند من البنود، وقال: إحنا ما اتفقناش من غير مؤاخذة على فلوس النسخة الإنجليزي والنسخة الفرنساوي.

قلت لعبد العاطي: هذا عقد آخر، وسيوقعه معك السيد مدير عام الترجمة بدار الهنا والشفا للطبع والنشر.

عندئذٍ واصَل المؤلف عبد العاطي قراءة العقد ثم أمسك بالقلم ووقَّع العقد وكتب التاريخ أسفل التوقيع، ثم وقف وصافحني، ثم استأذن في الانصراف، ولكنني طلبت منه أن ينتظر قليلًا، وخرجت من مكتبي إلى صالة التحرير، واتفقت مع المصور أحمد سليمان على أن يأتي بعد قليل ويقتحم حجرتي ويصافحني بحرارة ويعانقني مهنئًا، وأن يفعل نفس الشيء مع عبد العاطي، ثم يلتقط لنا صورة وأنا أصافحه باليد اليمنى وعقد الاتفاق في اليد اليسرى، وعندما عدت إلى مكتبي وجدت عبد العاطي قلقًا، ثم طلب مني نسخة من العقد، وأكدت له أن النسخة ستكون عنده في صباح الغد، وبينما وقف يستأذن في الخروج لأن لديه عملًا عليه أن يؤديه خارج الجريدة، اقتحم المكتبَ المصورُ أحمد سليمان، وراح يعانقني ويقبلني مهنئًا بالنجاح الكبير الذي حققته في إبرام العقد مع المؤلف الكبير الأستاذ عبد العاطي عبدون، ثم فعل نفس الشيء مع الأستاذ عبد العاطي، احتضنه وقبَّله ثم قال له: أنا لن أهنئك، ولكني سأهنئ دار النشر لأن ما أنجزته هو ضربة معلم ستحقق لها الكثير، أما أنت فكان بإمكانك طبع كتابك في أي مكان في العالم.

وانشرح صدر عبد العاطي، وبدا عليه السرور والارتياح، ثم طلبت من أحمد سليمان أمام الأستاذ عبد العاطي وبحضور الأستاذ محمد محبوب أن يلتقط لنا صورة تذكارية لكي نستعين بها في حملتنا الإعلانية عن الكتاب، والتقط لنا أحمد سليمان عدة صور مع المؤلف بعضها للمؤلف مع الناشر الذي هو العبد لله، وبعضها للمؤلف مع المترجم الذي هو الأستاذ محمد محبوب، وبعضها للمؤلف وهو يتوسط الناشر والمترجم. وفي المساء سلَّمني أحمد سليمان الصور التذكارية فأرفقتها بالعقد، وأرفقت العقد والصور بأصول الكتاب وانتظرت حتى جاء كامل الشناوي إلى مكتبه ووضعت الدوسيه كاملًا أمامه، ونظر إليه كامل الشناوي نظرته الذكية الشقية الفاحصة وقال: إيه ده؟

أجبته: دا ورق لازم تقرؤه.

فقال محتجًّا: هاقرا ده كله … أنت يابني ربنا بعتك علشان تعذبني، قوللي فيه إيه وخلصني. حكيت لكامل الشناوي الحكاية من طقطق لسلامو عليكم، وضحك حتى اهتز جسمه كله، ثم سعل بشدة ثم أطفأ السيجارة التي كانت مشتعلة بين أصابعه، وقال: هذه ضربة قاضية وقد تخلصنا من هذا الوباء.

استأذنته في الحصول على إجازة لمدة ثلاثة أيام، فقال لي: ليه يابني انت رايح فين؟ مسافر أوروبا!

فقلت له: أنا تعبان وعاوز أستريح شوية. فقال: يوم واحد إجازة فقط.

فقلت: يومين.

فقال: زي بعضه، خلاص يومين.

قضيت اليوم التالي في البيت لم أبرحه ولم أتصل تليفونيًّا بأي أحد، وفي اليوم الثاني من الإجازة طلبت الأستاذ محمد محبوب الذي بادرني قائلًا: أنت فين؟

أجبته: أنا نايم.

فقال: يعني أنت تشعللها نار وتنام.

سألته: إيه اللي حصل؟

وعرفت من محبوب أن كامل الشناوي وضع الملف على مكتب أمين شاكر … وقرأ أمين شاكر العقد ولم يصدق نفسه. وعندما عرف أسلوب عبد العاطي ومواهبه الخفية أصدر قرارًا بوقفه عن العمل وإحالته إلى اللجنة الثلاثية لفصله من الجريدة.

ودخلت الجمهورية في اليوم التالي دخول الجنرال زوكوف برلين بعد غزوها، ولكن هذا النصر لم يدُم طويلًا، فلم يلبث أمين شاكر إلا قليلًا حتى ترك الجريدة وعاد عبد العاطي من جديد، وكان أول ما فعله أنه جاء إلى مكتبي ووقف يُحدق في وجهي بعض الوقت، ثم قال: على العموم أنت بتعمل مقالب، لكن أنا هوريك المقالب شكلها إيه، وهانشوف من فينا اللي حا يصرخ ويقول أي، لأني أنا هوريك المقالب اللي على أصلها، وبعدين اوعى تفتكر إن أنا كلت المقلب، أنا كنت فاهم الفولة وواخدك على قد عقلك.

ثم أمسك ذقنه بأصابعه وقال: وحياة دي لأخليك تقول يا ريت اللي جرى ما كان.

وقلت لعبد العاطي: شوف يا عبد العاطي تقف بأدبك أهلًا وسهلًا، تغلط أقولك وريني عرض كتافك.

وقال عبد العاطي بصوت مرتعش يحمل بين طياته نبرة تهديد: وكمان بتطردني من مكتبك … طيب يا أستاذ يا بتاع المقالب ياللي فاهم نفسك حدق. ثم انطلق خارجًا، وفي الحقيقة لم أهتم بتهديداته، فقد كان غبيًّا وقليل الحيلة، وكان أقصى ما يستطيعه هو الوشاية بالعبد لله عند أجهزة الأمن، ولم يعمر عبد العاطي كثيرًا في الجريدة، فسرعان ما قاده غروره إلى حتفه.

وأصل الحكاية أن المخابرات المصرية ألقت القبض على خلية جواسيس تعمل لحساب المخابرات البريطانية، وقامت المخابرات المصرية بإغلاق الشقة التي كان يقيم فيها الجواسيس وختمتها بالشمع الأحمر، ومنعت دخولها أو الاقتراب منها، ولكن عبد العاطي الذي كان على علاقة بضابط بالمخابرات العامة برتبة رائد تصوَّر أنه فوق القانون.

فاصطحب معه أحد المصورين وفتح شقة الجواسيس بعد أن أبلغ المخبر الذي يحرس الشقة أن معه إذنًا من المخابرات العامة بفتحها، وعندما علمت المخابرات بنبأ فتح الشقة ألقت القبض على عبد العاطي وتم فصله من الجريدة، وفي البداية افتتح بالمكافأة التي حصل عليها عن مدة الخدمة محلًّا لبيع الفول المدمس بعابدين، ولكنه اضطُر إلى إغلاقه بعد فترة. وبعد أن قضى على قيمة المكافأة، وصار بلا محل وبلا أموال، اضطُر عبد العاطي إلى الاشتغال كعامل في محل منجد بالجيزة، وحدث أنه أراد الزواج من خادمة كانت تتردد على دكان المنجد، لزوم تنجيد بعض الأغطية والمخدات، ووافقت البنت على الزواج من عبد العاطي بشرط الحصول على موافقة مخدومها الذي كان يعمل مستشارًا في محاكم الاستئناف … فذهب عبد العاطي إلى بيت المستشار وقابله وطلب منه يد الخادمة، وأراد المستشار أن يطمئن على مستقبل خادمته، فراح يمطر عبد العاطي بأسئلة حول عمله وبيته وقدرته المالية، ولكن عبد العاطي تهرَّب من الإجابة عن حالته الحاضرة، وراح يحكي للمستشار عن دوره في الثورة وعن كتابه «أسرار الثورة المصرية»، وعرض على المستشار بعض أعماله الصحفية في جريدة الجمهورية وفي مجلة التحرير، لكن المستشار المتمرس وعد عبد العاطي بالموافقة على الزواج إذا جاءه بعقد شقة لائقة ووثيقه تثبت أن عبد العاطي يعمل في مكان ما وبمرتب ثابت، وكان هذا الشرط سببًا في عدم عودة عبد العاطي مرة أخرى إلى بيت المستشار، وحتى دكان المنجد لم يحتمل بلادة عبد العاطي ولا شغفه بالحديث عن أمجاده في مجال الصحافة والسياسة والحرب، فاستغنى عن خِدماته، ولم يشاهد عبد العاطي بعد ذلك في أي مكان، يبدو أنه لم يحتمل السقوط فمات، وهناك احتمال كبير أنه يقيم الآن في مكان ما ويمارس عملًا ما، وربما باسم آخر، وربما يفكر الآن في إصدار طبعة جديدة لكتابه المعجزة «أسرار الثورة المصرية»، حقوق الطبع والامتياس محفوظة لصاحب القسمة والنصيب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤