الفصل الرابع عشر

ولا عزاء للمغفلين

بعد مرور أسبوع واحد على العمل مع إحسان عبد القدوس بروز اليوسف، اكتشفت أنني أصبحت أهدأ أعصابًا وأروق بالًا وسعيدًا على نحوٍ ما. لم تكن هذه حالتي أيام العمل بالجمهورية.

كانت هناك معركة يومية بيني وبين الزملاء والإدارة، بعكس روز اليوسف كل واحد يعرف عمله ويعرف طريقه بلا تعقيد. ووجدت لديَّ وقتًا كافيًا لممارسة هوايتي في تدبير المقالب البريئة للآخرين. في بداية الأمر كنت أدبر مقالب من النوع الثقيل الذي يسبب أضرارًا شديدة، ولكن بعد عِشرتي مع كامل الشناوي تعلمت كيف تكون المقالب الشيك.

وكان أشهر مقلب دبَّرته في بدايات العمر مع أديبٍ شابٍّ يُدعى «أ. ن. ح»، جاء به يوسف السباعي ودخل مكتب العبد لله بمجلة التحرير، وقال يوسف بلهجته الودود: يا محمود اكتب مقدمة للشاب ده. وكان مع الشاب مسودة كتاب يضم عدة قصص قصيرة، والكتاب يحمل عنوان «في سبيل الحياة». وعندما قرأت أول قصة انتابتني حالة من الهيستريا بدأت بموجة من الضحك أعقبتها موجة من السعال، كانت أول قصة تبدأ هكذا: «يا رجال الفضيلة، إن زوجتي بالحديقة، إنها في الحديقة.» وكانت القصة الثانية تبدأ هكذا: «يا بوليس الآداب، إن زوجتي بالحديقة، إنها في الحديقة.» وكانت القصص الثالثة والرابعة والخامسة تمضي على هذا النحو: «إن زوجتي بالحديقة، إنها في الحديقة.» والشيء الوحيد الذي يتغير هو الجهة التي يستغيث بها الكاتب، فمن بوليس الآداب إلى رجال الفضيلة إلى علماء الأزهر إلى الشعب المصري، ولم أعرف لماذا فات على المؤلف استدعاء البوليس الدولي وقوات حفظ السلام وقوات عاصفة الصحراء!

وكتبت مقدمة للأديب الواعد بدأت هكذا: «هذا كاتب متقدم على الفصيلة الأولى مندفعٌ نحو الشفق مضروب على قفاه.» وعشر صفحات من هذا النوع «المترامي في اللانهائي المتوازن مع الشواشي العليا للبروجوازية المتحالفة مع الأردوازية المصنوعة من عجين أصفر شفَّاف». وأنهيت المقدمة بتقرير للكاتب الواعد: «وهذا الكاتب ينبغي تكريمه برجمه بكتل الذهب والفضة ليكون عبرة للآخرين حتى لا يفكر أحدٌ مثله في الكتابة؛ لأن هذا النوع من الكتابات الساحرة يمكن أن ينقلب سحرها فيقتل قارئها وبائعها وحاملها وطابعها، مع أن الزمان لو أنصف وعدل لكان القتل من نصيب كاتبها؛ فهذا هو الجزاء الوحيد لمن يرتفع بفنه إلى عنان السماء، فيكون له المسير والمصير والعصير أيضًا.»

وتصورت أن الكاتب الواعد إياه عندما يقرأ مثل هذا الكلام الفارغ سيكتشف أن كاتبه رجل معتوه، وأنه سيمزق الأوراق وينثرها في الهواء. المهم أن الكاتب الفاضل عاد بعد أيام وتناول المقدمة، وفرح بها فرحًا شديدًا، وحملها معه وانصرف مسرعًا من دار المجلة، ومرَّت أيام وأسابيع، وذات مساء وأنا خارج من دار سينما مترو سمعت نداءات من باعة الصحف كلها تصرخ بالصوت الحياني: اقرأ كتاب «في سبيل الحياة»، مقدمة للكاتب الكبير محمود الصعيدي. نسيت أن أقول لكم إنني بعد أن انتهيت من تدبيج المقدمة الخالدة وقعت تحتها باسم محمود الصعيدي عضو جماعة كبار الأدباء. واشتريت نسخة من الكتاب دفعت فيها عشرة قروش كانت تكفي وقتئذٍ لشراء نسخة من كتاب طه حسين، وذهبت بها إلى دار الجمهورية وقدمتها للأستاذ كامل الشناوي، الذي استغرق في نوبة من الضحك أمسك بعدها سماعة التليفون، وراح يتصل بكل من يعرفه طالبًا منه شراء نسخة من كتاب في سبيل الحياة، وقراءة مقدمة الكاتب الكبير محمود الصعيدي!

ولا شك أن كامل الشناوي الذي كان على علاقة شخصية بنصف شعب مصر قد نجح في لفت الأنظار إلى الكتاب الذي بيعت كل نسخه الألف في يومين اثنين، وكانت فضيحة دفعت المرحوم يوسف السباعي إلى كتابة مقال «مطلوب قانون لحماية المغفلين من محمود السعدني». ولم يدرك الكاتب الواعد أن المقدمة التي كتبها محمود الصعيدي هي مجرد مقلب من الصحفي محمود السعدني إلا بعد أن قرأ مقال يوسف السباعي فجاء ثائرًا متذمرًا، ولكن الزميل الفنان حسن عثمان — مد الله في عمره — أقنعه بأنه حدث خطأ ما؛ فذهبت مقدمة الصعيدي لكتابه، وذهبت مقدمة السعدني لكتاب آخر، وهي غلطة سببها سوء الخط، ووعدناه بمقدمة جديدة لكتابه الجديد فشكرنا واعتذر لنا عن سوء ظنه.

ولقد شجَّعني إعجاب كامل الشناوي بالمقلب إياه إلى تدبير مقلب لكامل الشناوي نفسه، كان كامل الشناوي من أكرم خلق الله، وكان يجلس على مائدته كل مساء دستة من الأصدقاء بينهم المطرب المشهور والملحِّن المعروف والرأسمالي الكبير والصحفي الصاعد والأديب الشاب والوزير السابق والمسئول الحالي، ولكنه كان يُصرُّ دائمًا على دفع الحساب، وكان يُضطر أحيانًا إلى الاقتراض من البنوك لتسديد الفواتير، وكان يرفض بشدة أن يتولى أحدٌ آخر دفع الحساب في حضرته، وفي بعض الليالي كان يسهر في مكتبه بالجريدة، وكان يتردد عليه يوميًّا عشرات من الصحفيين الشباب والأدباء الصاعدين والفنانين والموسيقيين، وكان يكتب مقالاته وسط هذا الجو المزدحم المخنوق بأنفاس الناس ودخان سجائرهم. وذات مساء رفعت سماعة التليفون واتصلت بمحل أبو شقرة الكبابجي، وقلدت صوت كامل الشناوي، وطلبت خمسة أجواز من الحمام وجوزين من الفراخ المشوية وخمسة أرطال من الكباب ومثلها من الكفتة مع مستلزماته من العيش والسلاطات، ثم اتصلت بمحلات الشيمي وطلبت نفس المقطوعية، ثم اتصلت بمحلات الخميس وطلبت ملوخية بالأرانب وبطيخة وعشاءً يكفي لعشرة أشخاص، ثم اتصلت بالحاتي وفعلت نفس الشيء، وجلست في مكتب كامل الشناوي أنتظر وكأن شيئًا لم يكن، وبراءة الأطفال في عين العبد لله! وبدأت الصواني تنهال على مكتب كامل الشناوي؛ صواني كباب وصواني كفتة وصواني ملوخية بالأرانب وصواني كبدة وكلاوي وصواني فراخ وصواني حمام، كميات هائلة من اللحوم والطيور تكفي قبيلة من قبائل الجاهلية، وفي كل مرة يضرب كامل الشناوي كفًّا بكف ويصرخ في وجه حامل الصواني … من اللي أمركم بده؟ وكان الكل يؤكد أن كامل بيه الشناوي هو الذي أمر بإحضار المأكولات، ويُضطر كامل بيه إلى الدفع، ولم يجد مفرًّا من استدعاء جميع المحررين وجميع العمال وجانب من القراء لالتهام ما لذ وطاب. وعرف كامل الشناوي بعد فترة أن العبد لله هو الذي دبَّر المقلب إياه، وما أشد دهشتي عندما غضب كامل الشناوي عضبًا شديدًا وقاطعني لمدة أسبوعين، ثم لقنَّني درسًا بليغًا وضربني مقلبًا لم يتمه، ولكنه كان رسالة واضحة حتى لا أعيد ممارسة مقالبي معه هو بالذات!

ولكن المقلب الذي دبَّرته في روز اليوسف لم أسعَ إليه ولم أبحث عنه، ولكنه جاءني وأنا جالس في صالة التحرير مع الفنان المرحوم جمال كامل والفنان أبو العينين والفنان حسن فؤاد والفنان بهجت عثمان وآخرين، فجأةً دق جرس التليفون، وكان المتحدث هو الأستاذ سعد مكاوي القصَّاص المعروف، وهو رجل مهذب وخجول ولا يعرف المزاح، وأبلغني بأنه أرسل لي موهبة شابَّة وجديدة في عالم الغناء، وأنه يتصور أنني قادر على المساهمة في شق الطريق أمام صاحب الموهبة، وشكرني مقدَّمًا على الجهد الذي سأبذله في هذا المقام، وبعد قليل جاء أحد السعاة بكارت من سعد مكاوي وبه توصية منه لصاحب الموهبة.

وبعد قليل دخل شابٌّ أقرع أعمش نحيف قصير يشبه تكوينه الجسماني تكوين الممثل الراحل عبد السلام محمد، بالإضافة إلى مئات من البثور والدمامل تغطي وجهه، وتصورت أن صاحب الموهبة الجديدة عبقري في القصة أو الرواية وربما في الموسيقى، وربما هو عالم شاب في الفيزياء، وربما كان مشروع عالم في طريقه إلى اختراع القنبلة الذرية، كل هذا وارد وممكن، ولكنني فوجئت بأنه مطرب جديد، وأكثر من ذلك إيمانه الشديد بأنه سيكون منافسًا كبيرًا لعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وربما للست أم كلثوم. دمامل ومطرب …؟! هذا هو المستحيل!

تحركت على الفور غريزة المقالب في العبد لله، طلبت من المطرب الجديد أن يُسمعني صوته، فأطرق برأسه خجلًا وقال بصوت هامس: أنا أصلي بنكسف. طلبت منه الوقوف ووجهه للحائط والغناء حتى نحكم له أو عليه، وطلبت من الجميع أن يُنصتوا، وقام بالفعل ووضع وجهه في الحائط وبدأ يغني أغنية لفريد الأطرش من تلحين مدحت عاصم، كان يغني للداخل فلا يسمعه أحد إلا من كان على بعد عدة سنتيمترات من مكانه. طلبت منه أن يرفع صوته فحاول لكنه فشل. مددت يدي ولزقته على قفاه، فانتفض غاضبًا ومحتجًّا، صرخت في وجهه: يبقى كده هتفشل ولا يمكن أن تحقق أي نجاح. فسأل عن السبب، فقلت له: هذا اختبار القفا! أراد بعض التوضيح، فقلت له: أنت الآن منافس لعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وأنت رجل خجول بطبعك، وقد يعمد هؤلاء الكبار إلى دس أحد الأفراد ليلزقك على قفاك لكي تتوقف عن الغناء وتهجره وتترك الميدان فسيحًا أمام هؤلاء، فهل تتوقف، أم تواصل الغناء؟ فقال: أواصل الغناء. قلت: إذن غنِّ. فعاد يغني أغنية لأسمهان: «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي». دلقت على قفاه كوب ماء مخلوط بالألوان من مخلفات جمال كامل، توقف عن الغناء محتجًّا، فقلت له: ده اختبار المية. فلما اطمأن إلى أنها مراحل عملية لاختياره كمطرب من مطربي المستقبل، انتقل إلى الغناء مرة ثالثة ورابعة وخامسة، وفي كل مرة كنت أجرب معه اختبارًا مختلفًا حتى وصل إلى اختبار الشلوت، فقد ضربته بالشلوت فانكفأ على وجهه على أرض الحجرة بينما كان جمال كامل ينبطح هو الآخر ويمسك أحشاءه بيديه، أما الفنان بهجت فقد هرب من الحجرة واستدعى كل من كان في الدار، أما أبو العينين فقد دخل حجرة إحسان عبد القدوس وجاء به من يده ليتفرج على آخر ضحايا محمود السعدني. قدمت إحسان عبد القدوس للمطرب الشاب على أنه أحمد بدرخان المخرج، وقدمت له ورقة بيضاء على أنها عقد للقيام ببطولة ثلاثة أفلام.

لم يتمالك إحسان نفسه، فقال لي وهو يغادر الحجرة على عجل: حرام عليك ده راجل غلبان. قلت له: ده مطرب. بعد أن تمَّت جميع الاختبارات وحكمنا له بمستقبل زاهر سعيد بإذن الله، كتبت له كارت توصية للسيد مدير الضمان الاجتماعي بوزارة الخارجية، ونصحته بالتوجه غدًا إلى وزارة الخارجية بميدان التحرير لمقابلة سعادة مدير الضمان الاجتماعي لكي يفتح الطريق أمامه في الإذاعة إلى المجد والشهرة والصيت العريض، ووضعت الكارت في مظروف من مظاريف روز اليوسف، وطلبت منه أن يخبرني أولًا بأول عن الخطوات التي سيقطعها في عالم الفن والشهرة.

كانت الأحوال في مصر في ذلك الحين قلقة وغير مستقرة، وكانت المعركة قد بدأت تتصاعد بشدة بين حكومة الثورة في القاهرة ونظام عبد الكريم قاسم في بغداد، وكانت كل المباني الحكومية تخضع لرقابة شديدة، وكان يجري تفتيش الزوار قبل الدخول. في وسط هذا الجو ذهب المطرب الشاب إلى وزارة الخارجية وطلب مقابلة مدير الضمان الاجتماعي في الوزارة. ولما كان شكله يبعث على الريبة كما أن الشخص الذي يريد مقابلته لا وجود له في الوزارة، فقد ساقوه إلى مكتب الأمن، فلما أخبرهم بأنه مطرب تأكدوا انه إما مجنون أو إرهابي، ففتشوه وسألوه عن بطاقته ولكنه لم يكن يحمل أي شيء، فأحالوه إلى مكتب المباحث العامة بلاظوغلي، واختفى هناك ثلاثة أيام خرج بعدها إلى دار روز اليوسف لمقابلتي، فقد تصور أن هناك خطأً ما.

عندما رأيته أشفقت عليه بشدة؛ فقد كان قفاه مثل قفا مطرب الأخبار، والإجهاد الشديد يبدو عليه. لقد أثَّر الحادث في نفسه تأثيرًا شديدًا، ولم يكن يتصور أن يعامل على هذا النحو بلا ذنبٍ جناه. وبعد أن شرب القهوة طلب مني كارتًا آخر للسيد مدير الضمان الاجتماعي بوزارة الخارجية وبشرط أن أحدد له موعدًا مع المدير بالتليفون، واتصلت بالفعل تليفونيًّا بصديق بالجيزة الحاج إبراهيم نافع، وطلبت منه موعدًا للفنان الشاب وحكيت للحاج إبراهيم ما جرى له على يد رجال الأمن الأشداء، وحددت الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي للمقابلة في مكتب المدير بوزارة الخارجية بميدان التحرير، وفرح الفنان الشاب فرحًا شديدًا، وتناول الكارت بحرص شديد، ووعدني بأن يخبرني بما تم في المقابلة بعد خروجه من مكتب المدير، وقال لي جمال كامل بعد انصراف المطرب: يا محمود في المرة الأولى كان مقلبًا، وفي هذه المرة أنت ترتكب جريمة. وقلت لجمال كامل: يا عم جمال لا عزاء للمغفلين، وأقول لكم في الحقيقة وفي الواقع إن العبد لله لم يعرف حتى هذه اللحظة ما حدث للمطرب الشاب الصاعد الواعد؛ لأنني بعد يومين فقط من لقائي الأخير به زارني في منزلي في الفجر ضابط مباحث مهذب اسمه طوسون، ورجاني أن أذهب معه إلى مبنى المباحث العامة في الجيزة لأمر بسيط لم يستغرق أكثر من خمس دقائق، وصدقته وذهبت معه، ولم أرَ بيتي إلا بعد عامين من هذا التاريخ. وأقول لكم الحق كلما مرت بذاكرتي حادثة المطرب الشاب وأنا رهين سجن الواحات، طاف بخاطري أن ما أعانيه في السجن هو تخليص ذنب المطرب الصاعد الذي كان وجهه يختفي وراء عشرات ومئات الدمامل والبثور.

أين ذهب المطرب؟ أين اختفى؟ ألا يزال حيًّا يُرزَق؟ هل ضاع في الكازوزة؟ مسكين … لقد جاء قبل زمانه، ولو أنه جاء هذه الأيام لصار واحدًا من كبار المطربين؛ لأنني لا أرى فرقًا كبيرًا بينه وبين عشرات من اللامعين المشهورين مطربي هذه الأيام، نسأل الله النجاة منهم ومن شرهم آمين يا رب العالمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤