الفصل السابع عشر

نادي الشموح

هل تذكرون الكابتن رفعت الفناجيلي؟ إنه واحد من ألمع لعيبة الكورة في العالم العربي … وكان كابتن النادي الأهلي المصري وكابتن المنتخب أيضًا … ولأنه دمياطي … فقد أطلقت مدينة دمياط اسمه على أهم شوارعها، ولعب دوليًّا عام ١٩٤٨م، واشترك في أوليمبياد لندن، وكان أصغر أفراد الفريق المصري، فلم يكن قد تعدَّى السابعة عشرة من عمره. وكان الضيظوي هو كابتن الفريق المصري.

ولأن رفعت الفناجيلي كان كأهل دمياط حريصًا وليس بخيلًا، فقد احتفظ بمكافأته وبدل سفره فلم ينفق منهما شيئًا، وانتهز الضيظوي الفرصة فصرف له النقود الإسترلينية بنقود مصرية، خمسون قرشًا مصريًّا مقابل كل جنيه إنجليزي! وبالرغم من أن الفناجيلي يُعتبر من أبناء جيلي، إلا أنني لم أرَه إلا في عام ١٩٦٨م عندما كان النادي الإسماعيلي في جولة بمنطقة الخليج. ولأن صفوف الإسماعيلي لم تكن مكتملة بسبب الإصابة، فقد استعان المدرب ببعض النجوم من الفرق المصرية، وكان من بين هؤلاء رفعت الفناجيلي من الأهلي، ومصطفى رياض من الترسانة، والسوبري من الأوليمبي السكندري.

وذات عصرية … والعبد لله ناصب القعدة في بهو الفندق. الدشداشة صوف إنجليزي فاخر، والعباءة من أغلى أنواع الوبر، وبين أصابعي عصًا من الكريز مقبضها من العاج الأفريقي المعتبر. ورأيت الكابتن سيد عبد الرازق يقتحم باب الفندق ويهرول نحوي مسرعًا، واقترب مني ومدَّ يده مصافحًا، ثم انحنى على يدي يقبلها. وعندما سألته عما أصابه قال … إن رفعت الفناجيلي في طريقه الآن إلى الفندق، ونريد منك أن تجعل نفسك شيخًا لمدة دقائق فقط؛ لكي نرى كيف سيتصرف رفعت الفناجيلي أمام هذا الموقف الذي لم يواجهه من قبل.

كنت أعرف أن رفعت الفناجيلي يحب النقود أضعاف حب قيس للست ليلى، وأنه حريص … الداخل عنده مفقود، والخارج من عنده أندر من الثلج في صحراء العرب، ورسمت نفسي عندما أبصرت رفعت الفناجيلي على باب الفندق. وما إن اقترب مني حتى هوى بين يدي يقبلها كلٌّ من سيد عبد الرازق وعلي أبو جريشة.

ونظر رفعت الفناجيلي نحوي فنصحه سيد عبد الرازق بالسلام وتقبيل اليد. وبالفعل … انحنى الفناجيلي فصافحني وانهال على يدي تقبيلًا والعبد لله يُتمتم … أستغفر الله … أستغفر الله. وكلما توقف رفعت عن التقبيل دفعت بكف يدي نحو فمه لكي يواصل التقبيل. وأفسحت مكانًا لرفعت الفناجيلي بجواري، ورحبت به في «بلاده» ثم سألته: إيش تعمل أنت؟

– أنا سنتر هاف.

وتصنعت عدم الفهم، وقلت له: هادي شركة ولا مؤسسة؟

ونظر رفعت الفناجيلي نحوي بدهشة، وقال وهو يضغط على الحروف: أنا بالعب كورة. وبالعب سنتر هاف.

قلت بدهشة أكبر من دهشته: تلعب كورة … يا سبحان الله! وإيش اسمك؟

– أنا رفعت الفناجيلي، أنت ماسمعتش عني؟!

– لا … والله أنا أسمع في صالح سليم، رضا، شحته، حمادة إمام … سيد بازوكا … علي أبو جريشة … ما بعرف غيرهم.

ومال رفعت الفناجيلي على أذني وهمس لي: كل دول ولا حاجة، أنا بقى اللعيب الحقيقي. وأنا اللي بجيب الأجوان.

قلت بصوت مرتفع: أنت تجيب الأجوان؟

– نعم … حتى اسأل عني.

– طيب ليش … ماتشتغل عندي؟

– وحضرتك بتشتغل إيه؟

– أنا شيخ قبائل الشموح.

– أيوه أنا عارف، لكن هاشتغل عندك إيه؟

– لعيب كورة.

– فين؟

– في النادي بتاعي؟

– وحضرتك عندك نادي.

– كيف ما تعرف … جاهل أنت؟

– عدم المؤاخذة يا جناب الشيخ!

واسترسلت في الحديث عن النادي الذي أملكه: دا نادي خصوصي عشان الأسرة، واسمه نادي الشموح، القبيلة اسمها الشموح، والنادي اسمه الشموح، وعندنا ستة لعيبة شموح والباقي من برة، واحد من البرازيل … هادا ياخد مليوني ريال، وواحد من المجر هادا ياخد ٨٠٠ ألف ريال … وعندنا واحد من أفريقيا بياخد نصف مليون ريال، وعندنا واحد من تونس بياخد المبلغ نفسه. وناقص واحد ح نعطيه نصف مليون ريال وبيت وسيارة، بيني وبينك كنت أفكر في سيد بازوكا. لكن لو أتأكد إنك انت اللي بتجيب الأجوان، تبقى انت أفضل!

كان سيد عبد الرازق يقف على مقربة منا، فبادر قائلًا: يا سعادة الشيخ، أنا بعت تلغراف للست والدتي امبارح عشان أفرحها، ومش معقول تتفق مع حد تاني.

وأشرت عليه بالصمت قائلًا: ما تتكلم كتير، والشغل دا قسمة ونصيب، وأنا وعدتك … آه، لكن اللي في علم الله هو اللي هيمشي!

ومال رفعت الفناجيلي على أذني مرة أخرى وهمس لي: دا سيد هنكار … يعني كلمنجي، وأنا بقول لسعادتك اسأل عني وهتعرف.

طمأنته قائلًا: طبعًا راح نسأل … وكل شيء هيتم خلال يومين إن شاء الله.

في هذه اللحظة دخل المهندس عثمان أحمد عثمان من باب الفندق، فأسرع إليه سيد عبد الرازق وهمس في أذنه بشيء. وما إن اقترب عثمان من العبد لله، حتى صافحني منحنيًا وخطفت يدي من يده قائلًا: أستغفر الله … أستغفر الله. ثم قلت: أنت وينك يا عثمان، سألت عنك مرتين، ثم كيف تيجي هنا وما تفوت عليَّ؟

فقال عثمان معتذرًا: والله أنا مشغول لشوشتي، لكن مع ذلك أنا غلطان وباعتذر يا سعادة الشيخ.

ولم يعد عند رفعت الفناجيلي أي شك في أن الجالس إلى جواره شيخ بحق وحقيق، وصاحب نادي كورة هو نادي الشموح.

ولازمني رفعت الفناجيلي من ركن إلى آخر في بهو الفندق، لمحت في عينيه رغبة شديدة في أن يختلي بي على انفراد، هيَّأت له الفرصة بأن استأذنت من الجالسين في الذهاب إلى دورة المياه. وفوجئت عند خروجي من الحمام بالكابتن رفعت الفناجيلي، وما إن رآني حتى أبدى رغبته في الانفراد بي بعض الوقت، وأخذت ركنًا منعزلًا في بهو الفندق، وجلست أستمع إلى رفعت الفناجيلي وهو يستعرض تاريخ حياته في الملاعب.

قال رفعت: شوف يا سعادة الشيخ، أنا … اسأل عني أي واحد، حتى اسأل عني هنا في الخليج، أنا أحسن لاعب في مصر كلها، كل اللي شايفهم انت هنا دول … ولا حاجة. وبعدين أنا في الهجوم أهاجم، في الدفاع أدافع، وبالعب في خط الوسط، ومع ذلك أنا هداف الدوري. عاوز أقولك إنك مش هتخسر حاجة لو اتنقلت عندك في نادي الشلوح … صححت له الاسم قائلًا: الشموح.

ورد رفعت قائلًا: لا تؤاخذني، أنا أصلي أول مرة، أسمع عن النادي بتاع سعادتك، وإن كنت أعرف أنه نادٍ كبير وحقق نتائج كبيرة!

وقاطعت رفعت قائلًا: إذا كنت تتعهد بأنك تجيب جون في كل مباراة باكتب معاك العقد فورًا.

ورد رفعت متحمسًا: وبتقاطع على رزقك ليه؟ يمكن أجيب أكثر.

– أنا ما يهمني أكثر، أنا يهمني تنفذ الاتفاق، جون في كل مباراة، إيه رأيك؟

مفيش مانع … بس افرض سعادتك، إن أنا جيبت الجون والحكم لغاه.

– أنت ما عليك. إحنا بنرشي الحكم قبل المباراة، أنت تحط الكورة في الجول وما لك علاقة بالنتيجة.

قال رفعت مرتاحًا: إذا كان الأمر كده يبقى حط في بطنك بطيخة صيفي … إن شاء الله هاحط في كل مباراة جونين وثلاثة.

اعتدلت في جلستي وقلت: اتفقنا … العقد جاهز بكرة تفوت علينا في المساء، الدفعة الأولى ربع مليون ريال، المرتب خمسون ألف ريال كل شهر وبيت وسيارة.

– وعفش البيت؟

إحنا بنأثث، بس يكون في معلوماتك إحنا بنأثث الضروري.

– والمطبخ؟ جاهز من كله!

– ما يخالف.

– كويس … بس أنا عاوز ثلاجة إيديال كبيرة.

– إيش إيديال هادا. عندك جنرال اليكتريك.

– حلوة زي إيديال يعني؟

– إيش فيك أنت؟

– ماتزعلش مني، أصل أنا عايز أرتاح عشان أتفرغ للكورة، وخذ مني أجوان زي ما أنت عاوز.

هادا هو المطلوب، وبعدين … كل جون تجيبه عشرة آلاف ريال، الفوز عليه عشرة آلاف، والتعادل خمسة آلاف بس … مفهوم؟

– طبعًا يا سعادة الشيخ … أنت هيكون عندك الكاس السنة دي.

– هادا هوه المطلوب … ولو خدنا الكاس فيه ربع مليون مكافأة.

– يا خبر … إحنا هناخد الكاس والدوري بإذن الله.

– بس فيه شرط يا فنجال.

– الفناجيلي يا سعادة الشيخ.

– الاسم ما يهم، فنجال … فناجيل … ما في فرق! أجولك فيه شرط … إذا خدنا الدوري …

– أنا تحت أمرك.

– إذا خدنا الدوري، لازم تتجوز عمتي!

بدت الدهشة على وجه رفعت الفناجيلي، وقال وهو يتلعثم: بس أنا أصلي …

قاطعته بغضب شديد: إيش تقول؟ تعتذر عن الزواج من عمتي! فاهم إنها عجوز، هادي ما تجاوزت الستين بأي حال من الأحوال، ثم هادي عندها أملاك، عندها فلوس، عندها طيارة خاصة، عندها قصور في كل مكان.

– أنا ماقلتش حاجة يا سعادة الشيخ، إنما أنا بس كنت عاوز أقول يعني …

– إيش تقول … أنت ما تستحق النعمة، أنا ما سمعت فيك ولا أنت لعيب كورة.

وراح رفعت الفناجيلي يعتذر لسعادة الشيخ، مُبديًا استعداده لتنفيذ أوامر سعادة الشيخ، ولكن … قال رفعت: أنا بس متجوز، يا سعادة الشيخ.

وصرخت في وجه رفعت الفناجيلي: مسلم أنت والا إيش؟

– مسلم والحمد لله.

– طيب إيش فيك، ليك أربعة حسب الشرع.

– ماقولناش حاجة، بس يعني إيه؟ المسألة عاوزة ترتيب يعني … مش أكثر من كده.

– ما يخالف، بكرة تكتب العقد، وكل شيء بإذن الله.

وتركت رفعت الفناجيلي وغادرت الفندق مع المهندس عثمان والأستاذ المستكاوي. وراح عثمان يستمع لتفاصيل ما دار بيني وبين رفعت.

وفي النهاية قال عثمان: اللي أنت عملته ده حرام يا محمود، الجدع مش هينام لحد الصبح وبكرة فيه ماتش، ومش هيعرف يلعب بنكله.

واقترح عثمان عند عودتنا إلى الفندق أن نصعد إلى غرفة رفعت ونُصارحه بالحقيقة، لكي ينصرف عن التفكير في هذا الأمر، ولكي يستغرق في النوم استعدادًا لماتش الغد. وبالفعل صعدنا إلى غرفة رفعت الفناجيلي، وأخذته المفاجأة عندما رأى عثمان أحمد عثمان داخل غرفته، ومع من؟ مع سعادة الشيخ! وقال رفعت بلهجته الدمياطية مُرحِّبًا: إيه النور دا كله، عثمان بك وسعادة الشيخ!

وقال عثمان: يا رفعت دا محمود السعدني الصحفي المصري، لا شيخ ولا حاجة، دا راجل على قد حاله وزينا. وعاوزك تنسى الكلام اللي قالهولك، وتروق مخك عشان الماتش بتاع بكرة.

وردَّ رفعت وعلى شفته ابتسامة بلا معنًى: الماتش بتاعنا بكرة يا عثمان بك.

– هوه دا المطلوب يا رفعت.

وعندما تأهَّبنا للانصراف قال عثمان لرفعت: أنا عاوزك تنام كويس.

وعندما مد رفعت يده لمصافحتي، قال له عثمان: سلم على عمك محمود السعدني.

وقال رفعت وهو يصافحني: مع السلامة يا سعادة الشيخ.

وقلت للمهندس عثمان: دا لسه فاهم إني شيخ!

– لا ما أظنش … دا أنصح منك.

في اليوم التالي كنا نجلس في المدرجات نشاهد المباراة بين الإسماعيلي والنادي الخليجي. وفجأة دبَّت خناقة حامية بين اللاعبين … وهرولت أنا والمستكاوي داخل الملعب لتهدئة لاعبي الإسماعيلي. كنت أرتدي البدلة كاملة، والكرافتة تتدلى على صدري، واقتربت من رفعت الفناجيلي الذي كان مشتبكًا في ماتش مصارعة مع أحد لاعبي الخليج، وصرخت فيه بكل قوة: حتى انت يا رفعت، بقى أنا بقول عليك عاقل وراجل كبير وفاهم، ألاقيك نازل ضرب أنت راخر. مش عيب عليك يا رفعت!

ونظر نحوي طويلًا وبان الخجل على وجهه: صدقني يا سعادة الشيخ أنا ماعملتش أي حاجة، هو اللي ضربني، إي والله كده يا جناب الشيخ … وقلت للفناجيلي … لأ ده انت باين عليك اتجننت فعلًا يا رفعت!

فنظر إليَّ مستعطفًا … والله يا حضرة الشيخ أنا عقلت ومستعد أنفذ شروط العقد وخصوصًا بند الست عمتك … بس اوعى تزعل مني يا سعادة الشيخ ربنا يخليك.

وهنا قررت أن أنسحب من الملعب بعد أن وصل صوته إلى أسماع الجمهور في المدرجات. لكن الفناجيلي تبعني كظلي وأنا أهدئ من روعه … يا ابني أنا محمود السعدني الصحفي المصري كنت راكب معاكم الطيارة من القاهرة … ولكن الفناجيلي راسه وألف سيف إنني شيخ قبائل الشلوح، وأنني زعلان من فعلته في الملاعب؛ وعلى هذا الأساس ادعيت أنني الصحفي المصري محمود السعدني … ومرت سنوات طويلة على هذا المقلب قبل أن يعرف الفناجيلي حقيقة الأمور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤