الفصل الثامن
لم يطق «محسن» صبرًا عن مصر دقيقة واحدة بعد اليوم، وما الذي يبقيه هنا الآن وقد تسلم الخطاب، وقرأه مائة مرة حتى حفظه عن ظهر قلب.
وأعلم والديه بعزمه على السفر وبميعاد سفره، وأخبرهما متلطفًا عما ينبغي حمله إلى أعمامه من هدايا الريف، وأفهمهما في كياسة أن يسخوا في الهدية هذه المرة، وكان يقصد في نفسه بهذا أن يجعل عمته «زنوبة» تقتطع من الهدية جزءًا تهديه إلى «سنية»، فما كان اليوم التالي حتى أخذ الكل يجهزون «محسن» للرحيل.
فهيئت السلال و«الطرود» مملوءة من «برام» الأرز ذات الحمام والفراخ، ومن «الكعك» و«المنين» و«البتاو الفلاحي»، والفطير «المشلتت»، يضاف إلى ذلك بلاصان من العسل النحل، وصفيحتان من المسلي «وفردان» من الإوز ونحو خمسمائة بيضة.
وقد اصطفت هذه الهدية الوافرة صفًّا طويلًا جعل يتأمله «محسن» في زهو وافتخار.
وجاء ميعاد الرحيل، ولبس «محسن» بذلته، وهو فرح مبتهج؛ إذ بعد ثلاث ساعات يكون في مصر. نعم بعد ثلاث ساعات فقط يصير في منزل أعمامه الملاصق لمنزل «سنية»، ولأول مرة ذكر «محسن» وأدرك أنه يسكن بجوار «سنية» … لأول مرة أحس معنى هذا الجوار وقيمته، وكم من الحقائق تمر بالإنسان فلا يراها ولا يدركها إلا بعد زمن، وبعد أن تغدو تلك الحقائق صورًا، كأنما قُدر للإنسان ألا يرى من الحياة أيضًا إلا الأحلام والصور. نعم إنه يقطن دائمًا المنزل المجاور لمنزلها، ولكنه لم يفطن ولم يقدر ذلك إلا اليوم وهو بعيد.
وكان عندئذٍ يضع طربوشه أمام المرآة على رأسه، وعيناه تائهتان تتأمل هذه الخواطر، فما وصل إلى ذلك الإحساس: «أن ما بينه وبينها ليس إلا الحائط بين المنزلين» حتى شعر بالهناء يغمره، ووقعت عينه على صورته في المرآة، فهش لها، وأطال النظر إليها، ودخل عليه والده فجأة والساعة في يده ينبهه إلى الوقت، فصحا «محسن» لنفسه مرتبكًا بعض الشيء، وجعل ينظر حوله؛ كمن يتأكد أنه لم ينسَ شيئًا من حوائجه، ثم اتجه إلى الباب في أثر والده.
وكانت والدته قد انتهت من الإشراف على نقل الأمتعة، وقد رؤي أن يسبق «العفش» «محسن» إلى «دمنهور»، على عربة نقل يجرها بغلان، وأن يقفو «محسن» أثرها في المركبة الفخمة بصحبة والده، وأقبلت والدة «محسن» فالتفت البك إلى ولده، وقال بلهجة سريعة: سلم على نينتك قوام ألا مفيش وقت.
فتقدم الفتى إلى والدته فعانقته وأوصته بالمواظبة على المكاتبة، ثم التفتت إلى زوجها وسألته عما إذا كان قد أعطى «محسن» «مصروفه»، فأجاب مسرعًا: في المحطة.
فقالت له وهي تومئ إليه إيماءة مصطلحًا عليها: اعطي له بس زي ما قلت لك؛ ألا يروح يعطي الفلوس لاعمامه.
فاستاء «محسن» ونظر إليها نظرة تأنيب؛ واحتج على الفلوس قائلًا: إن أعمامه ليسوا في حاجة إلى أخذ نقوده الخاصة، إنهم أطيب من ذلك قلبًا، ولا يدري الفتى لماذا أوجعته تلك الكلمة، ولا أي شعور بعثه على الدفاع عن أعمامه ورفاقه.
لاحظ والده ذلك فقال في هدوء بدون أن يغضب زوجته: إنه يرسل إلى «حنفي أفندي» كل شهر مبلغًا عاديًّا، في نظير إقامة «محسن» عنده. وإن هذا المبلغ غير مبالغ فيه … فقالت الست بلهجة جافة بعض الجفاف إنها تقصد القول بأن «محسن» لا يحب النقود، ولا يهتم لها منذ صغره، وإنها ما زالت تذكر أيام الأعياد، عندما كانت تعطيه ريالًا «عيدية»، حاسبة أنه سينفقه مثل غيره من الأطفال في شراء «زمارة» أو «أمبولة» أو «شيكولاتة»، ولكنه ما كان يفعل شيئًا من ذلك. بل كان يلعب بالقطعة الفضية قليلًا، ثم يعود بها إلى والدته ويردها، فتدهش وتسأله: جرى إيه يا «محسن»؟
فيجيبها: «خلاص».
فتلح في سؤاله متعجبة: خلاص إيه؟
فيقول لها: خلاص لعبت به وشبعت.
وسكتت الست قليلًا، فقال لها البك: لكن «محسن» النهارده ماطلبش شيء زيادة عن المعتاد كل شهر.
فغضبت السيدة، وقالت في حدة وبرود: طيب … طيب … عرفت … هو انا كفرت، أنا قصدي تمشي بالحساب علشان بعد كده ماتقولش إن العزايم هي اللي ناهبة المصاريف.
•••
جاء القطار، وهجم عليه الخدم بالأمتعة والطرود، وركب «محسن»: وتحرك به القطار، وأشار لوالده على الرصيف إشارة الوداع، ثم جلس في مقعده، وخلا إلى نفسه يحاول أن يستذكر أثر الريف في نفسه، أو على الأقل آخر صورة لوالديه اللذين فارقهما منذ برهة، غير أنه لم يجد في رأسه الآن سوى صورة واحدة … «مصر — سنية»، ولا أثر في قلبه غير أثر واحد: الخطاب الذي في جيبه منها … هذا هو كل ماضيه، وكل مستقبله: «سنية» … خلا ذلك فليس بنفسه شيء حتى الساعة؛ كأنه لم يكن في الريف، ولا شاهد شيئًا، ولا لقي أحدًا.
كذلك لم يشأ «محسن» أن ينظر إلى المسافرين معه، ولا إلى ما يجري حوله، بل أخرج من جيبه الخطاب، وأخذ يقرؤه ويقرؤه متأملًا كل عبارة، حتى بلغ القاهرة والخطاب بيده، كان والد «محسن» قد أرسل تلغرافًا إلى «حنفي أفندي» عن ميعاد وصول القطار؛ حتى يجد من ينتظره بالمحطة، فما كاد يقف القطار حتى نهض «محسن» ونفض عنه الغبار، ثم أطل من النافذة، ونظر إلى الرصيف في سرور هائل؛ كي يشير إلى عمه «حنفي» … غير أنه لدهشته لم يجد فقط «حنفي»، وحده؛ بل وجد معه كذلك كل الرفاق «الشعب» جميعه: «عبده» و«سليم» و«مبروك» و«حنفي»، واقفين كلهم ينظرون إلى القطار الداخل عليهم يتبختر … و«مبروك» بسذاجته المضحكة يرفع ذراعه في الهواء، ويشير إشارة طائشة إلى المركبة التي يظن بها «محسن»، ولم يكن «لمحسن» الوقت الكافي، ولا العقل الهادئ في تلك اللحظة؛ ليتساءل في نفسه عن سبب مجيء الجميع لاستقباله؟ … أتراه الشوق إليه؟ … نعم إن الرفاق في الواقع شعروا كأنهم فقدوا شيئًا بغياب خامسهم؛ فما جاءتهم البرقية حتى أسرعوا إليه فرحين، ولكن ألهذا فقط؟ لم يعلم «محسن»، إلا أنه سُرَّ برؤيتهم، وما كاد نظره من نافذة القطار يقع على «مبروك» وهو يشير ويتكلم على طريقته المعهودة حتى امتلأ قلبه ضحكًا داخليًّا، وشعر كأنما قد عاد أخيرًا إلى مائه وجوه الذي يستطيع أن يعيش فيه.