الفصل العاشر

سِحر وتنجيم

٦٨

لعل قمة اللامعقول في حياة الإنسان العملية — والعلمية الزائفة كذلك — هي أن يُدخِل السحر عاملًا من عوامل المسير والمصير؛ إذ ما السحر إن لم يكن هو تعليل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية؟ فإذا كانت علة المطر الطبيعية — مثلًا — هي مقدار ما يتكثف في الهواء من بخار الماء، جعلها الساحر ورقةً يكتب عليها أحرفًا يختارها أو عبارات، يزعم لها القدرة على إنزال المطر؛ وإذا كانت علة الشفاء من مرض معيَّن هو أن تُزال الجراثيم التي تُحدِثه، كانت هذه العلة عند الساحر عفريتًا سكن الجسد العليل، والشفاء من المرض إنما يكون بطرد هذا العفريت بأقوال تقال وبخور يعطِّر جو المكان ويطهِّره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس، وهكذا.

ولئن كانت هذه الصور الصارخة من أشكال السحر أمرًا يألفه الناس في حياتهم العملية على أنه سحر علني مكشوف، فهنالك ضروب أخرى منه خافية إلا عن أعين الخبراء، كأن يُحاوِل شعب أن يتغلب على عدوه في ساحة القتال بدعوات يوجِّهها إلى السماء، في حين لا تكون الغلبة إلا بطائرات ودبابات يحسن إدارتها وتوجيهها، أو أن يرقب شعب ازدهار معيشته ببركات الأولياء، سواء أحكمت خطط الإنتاج الاقتصادي أو تُركت سبهللًا في أيدي السفهاء. هذه وأمثالها تندرج تحت مقولة «السحر» لأنها جميعًا ربط غير علمي بين المعلول وعلته.

ولقد تجد في تراثنا القديم أحاديث عن السحر والتنجيم والتعزيم والرُّقى والتمائم وسائر أعضاء هذه الأسرة غير الكريمة من أدوات الجهل، ألوف الصفحات مُبعثَرة هنا وهناك في أنفس ما خلَّفه الآباء من ميراث ثقافي، ولم تكن أمثال هذه الأحاديث لتشغلنا بخطرها وخطورتها، لو لم تجدها واردة في أماكنها من الكتب مسوقة على نحوٍ يُشعر القارئ بأنها أمور لا تحتمل الجدل؛ فترى الكاتب — وقد يكون من جهابذة الأعلام المفكرين — تراه يحدِّثك عن التأثيرات السحرية بكل أنواعها وكأنه يحدِّثك عن طلوع الشمس وجريان النهر واخضرار الزرع، فهي عنده أمور تجري مجرى الطبيعة المألوفة في اطرادها، وربما كان لهؤلاء الآباء أعذارهم في ذلك إذا نسبنا الأمر إلى مرحلتهم التاريخية والحضارية، ولكن كارثة الكوارث التي تكرثنا اليوم — نحن «المعاصرين» — أننا ما زِلنا نقرأ هذه الأشياء، بل ونُدخِل بعضها في شئون حياتنا العملية والعلمية، بروح مَن لا يجد فيها غضاضة ولا داعيًا للشك والتردد، ثم تعظم المصيبة حين نُدرِجها تحت مقولة «الإيمان» ونصبُّ الويل على من تحدِّثه نفسه بمجرد المراجعة الفاحصة.

وليس بذي نفع كثير أن نتقصى الأمثلة من تراثنا على نحوٍ يُشبه الحصر والشمول، بل ليس ذلك في مقدورنا حتى لو أردناه؛ لأنك إنما تسلِّح نفسك بالشواهد الكثيرة لو كنت تعلم أنك ستُواجه من يُعارضك في زعمك، بيدَ أن الأمر هنا معكوس؛ فالأرجح جدًّا ألا يُطالع هذه الأسطر قارئ إلا وهو ذو عقيدة سابقة بحقيقة السحر وبقية أفراد أسرته من تنجيم وتعزيم إلخ، وإنما الغضبة منصبَّة على كاتب هذه الأسطر لاجترائه على التشكك في مسلَّمات كهذه، والدعوة إلى تنحيتها فيما ينبغي أن ننحِّيه من تراثنا، وإذن ففيمَ كثرة الشواهد على موقف مسلَّم به ولا يُطلَب له شهادة إثبات؟

ومع ذلك فيكفينا في هذا السياق مثل واحد أو مثلان، نأخذ أولهما من رسائل إخوان الصفا، وما أدارك ما إخوان الصفا؟ هم ذروة المثقَّفين في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) الذي هو بدوره ذروة ما صعد إليه الفكر العربي القديم؛ فإذا وجدنا صفوة الصفوة هؤلاء، برغم نزوعهم القوي نحو التفكير العلمي ما وسعهم ذلك، يختمون رسائلهم برسالة يخصِّصونها ﻟ «ماهية السحر والعزائم والعين»، لا ليُحيطوا الموضوع بما يُثير الريبة، بل ليُحيطوه بما يؤيِّد كل ما يقال عنه من قوة وتأثير، أقول إذا وجدنا تلك الصفوة الممتازة من المثقَّفين تقف هذه الوقفة من موضوع السحر وفروعه، علِمنا أن المسألة لم تكن عند القوم موضعًا لسؤال، وهذا هو مصدر خوفنا من هذا الجانب من التراث الفكري المأثور عن أسلافنا.

يبدأ إخوان الصفا هذه الرسالة الثانية والخمسين من رسائلهم، وهي الأخيرة، بقولهم إنهم رتبوا «فنون العلم وغرائب الحكمة» في الرسائل السابقة (ويلفت نظرَنا أنهم يجعلون هذه الرسائل السابقة خمسين، مع أننا أمام الرسالة «الثانية والخمسين») بحسب ما تقتضيه درجات المتعلمين ومراتب الطالبين المستفيدين. وهم يتوقعون من أنصارهم أن يعرضوا على الناس موضوعات تلك الرسائل بحسب ترتيبها الذي وردت فيه؛ لأن كل خطوة تالية على الطريق تتطلب عقلًا أكثر نضجًا من الخطوة التي سبقتها. ولما كانت رسالة «السحر والعزائم والعين» هي آخر الطريق، وجب ألا تُعرَض إلا على من ارتقَوا بعقولهم ونفوسهم درجات الصعود إلى الكمال درجة درجة ومرتبة مرتبة!

«وهذه الرسالة هي آخر الرسائل — هكذا يقولون — نريد أن نذكر فيها ماهية السحر وكيفية عمل الطِّلَّسمات، وأنها كأحد العلوم والمعارف المتعارفة، وكبعض الحِكم المستعملة، ونستشهد عليها بما سمعناه من العلماء وعرفناه من كتب القدماء الذين كانوا فيما مضى قبلنا.» وليلحظ القارئ هنا أنهم يُشيرون إلى السحر وتفريعاته على أنها «علوم» من جهة، و«حِكم مستعملة» من جهة أخرى؛ أي إنها أمور تدخل في الحياة العلمية وفي الحياة العملية على حد سواء، ثم ليلحظ مرة أخرى أن الشاهد على صدقها — في رأيهم — أنهم «سمعوها من العلماء»، و«عرفوها من كتب القدماء»؛ أي إن أحدًا منهم لم «يجرِّبها» تجربة مباشرة! وما زِلنا إلى يوم الناس هذا، وهو اليوم الذي أكتب فيه هذا السطر من هذا الكتاب، يوم السبت السابع عشر من شهر مارس سنة ١٩٧٣م، أقول إننا ما زِلنا إلى يوم الناس هذا نسمع من كل مَن يحيط بنا توكيدات مُرتعِشة لحقيقة السحر وأفراد أسرته، حتى إذا ما سألت أيًّا منهم، هل رأيت؟ أجابك بل سمعت!

هذه هي حالنا نحن اليوم، العلماء منا وغير العلماء، أفليس مِن حقنا — إذن — أن نعجب لقول إخوان الصفا: «… رأينا اليوم أكثر الناس المتغافلين إذا سمعوا بذِكر السحر، يستحيل [على] واحد منهم أن يصدِّق به، ويتكافرون بمن يجعله من جملة العلوم التي يجب أن يُنظَر فيها أو يُتأدَّب بمعرفتها، وهؤلاء هم المتعالمون والأحداث من حكماء دهرنا، المتخلِّفين والمدَّعين بأنهم من خواص الناس المتميِّزين.» إننا إذا اعتمدنا على هذا القول من إخوان الصفا، وجعلناه تصويرًا للحياة العلمية في عصرهم، أخذنا العجب حقًّا؛ فمؤدَّاه — كما ترى — أن هؤلاء الإخوان (والحظْ جيدًا أنهم من خاصة المثقَّفين في أزهى عصور الفكر العربي) يميِّزون بين «العلماء» و«المتعالمين»، والآخرون وحدهم — أي المتعالمون دون العلماء — هم الذين يتنكرون للسحر ويُنكِرونه، وأما «العلماء» — من أمثالهم هم — فيقبلونه حقيقةً علمية! ولماذا يتنكر «المتعالمون» للسحر والتنجيم، على حين يقبلهما العلماء؟ يُجيب إخوان الصفا عن ذلك بقولهم: «وذلك لأنهم لما رأوا بعض المتعاملين بهذا العلم، والخائضين في طلبه من غير معرفة له، إما أبله قليل العقل، أو امرأة رعناء، أو عجوزًا خرِفة بلهاء، فرفعوا أنفسهم عن مشاركة مَن هذه حاله — إذا سمعوا بذكر السحر والطلسمات — أنَفةً منهم؛ لئلا يُنسَبوا إلى الجهل وإلى التصديق بالكذب والخرافات.» فإذا نهض بخواطرنا سؤال: كيف — إذن — يُؤمِن علماؤهم الأصحَّاء بما يُؤمِن به أولئك البلهاء المخرِّفون، مع أن «المتعالمين» قد أنِفوا من ذلك؟ أجابنا إخوان الصفا بأن البلهاء والمخرِّفين إنما يطلبون هذا العلم (المقصود هو «علم» السحر والتنجيم) «لأغراض لهم سخيفة دنيئة من غير معرفة …» وما علِموا أنه آخر ما يرقى إليه طالب الحكمة؛ لأنه يتضمن معرفة علمية سابقة بثلاثة أشياء، هي: الكواكب، والأفلاك، والبروج.

والذي نريد إثباته هنا هو أن اليوم شبيه بالبارحة؛ مما قد يدل على أن تراثنا قد سرى في عروقنا أكثر مما كان ينبغي له أن يفعل لو وجد الموانع والضوابط؛ فما زِلنا إلى اليوم نستنكر مَن يُنكِر أن يكون السحر وأتباعه من «العلوم» كما كان أسلافنا يستنكرون، ثم ما زِلنا اليوم كما كانوا بالأمس لا نجد غضاضة في أن ندرج أفعال السحر فيما يجوز للعقل أن يقبله. ولو شرِبنا من ثقافة عصرنا العلمية، بمنهجها التجريبي الصارم، لوجب أن نعكس الوضع؛ فمَن عدَّهم إخوان الصفا «متعالمين» لإنكارهم أن يكون هذا التخريف جزءًا من العلم، عددناهم نحن «العلماء» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ومن عدُّوهم «علماء» لقولهم ما «سمعوه» عن الأقدمين وما «قرءوه» في الكتب الغابرة، أخرجناهم نحن من عداد العلماء والمتعالمين معًا؛ لأنهم عندئذٍ إنما يسلكون في زمرة البلهاء الخرفين الذين أشار إليهم «الإخوان» منذ حين.

وبعدئذٍ يأخذ إخوان الصفا في حديث طويل يزيد على ثمانين صفحة عن الموضوع بما يظنونه «علمًا»، وليس في وسعنا هنا أكثر من أن نسوق قبسات من أقوالهم «العلمية» هذه؛ ليرى القارئ معي كيف أننا بإزاء كتلة ضخمة من «اللامعقول» الذي ينبغي ألا ندخر جهدًا في تنقية عصرنا من آثاره وشوائبه. بعد أن يذكروا لنا كم هنالك من الكواكب وكم من الأفلاك والبروج، يقولون إن ثمةَ سواها أشياء، «منها العقدتان اللتان تُسمَّى إحداهما الرأس والآخر الذنَب؛ فالرأس يدل على السعود، والذنَب يدل على النحوس، وليسا هما كوكبَين ولا جسمَين ظاهرَين، ولكنهما أمران خفيَّان، فخفاء ذاتَيهما وظهور أفعالهما يدل على أن في العالم نفوسًا خفية عن الحس، أفعالها ظاهرة وذاتها خفية، يُسمَّون الروحانيين، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين، ويعرف ذلك أصحابُ العلوم والسحر والطلسمات» (الرسائل، ج٤، ص٢٨٥).

«واعلم يا أخي أن الكواكب ملائكة الله وملوك سمواته، خلقهم لعمارة عالمه، وتدبير خلائقه، وسياسة بريَّته، وهم خلفاء الله في أرضه، يسوسون عباده، ويحفظون شرائع أنبيائه، بإنفاذ أحكامه على عباده؛ لصلاحهم وحفظ نظامهم على أحسن الحالات.

واعلم يا أخي — أيَّدك الله — أنه لا يكاد يعرف كيفياتِ تأثيرات هذه الكواكب وأفعالها في جميع ما في هذا العالم من الأجسام والأرواح والنفوس إلا الراسخون في العلم، البالغون في المعارف، والناظرون في العلوم الإلهية، المؤيَّدون بتأييد الله وإلهامه لهم» (ص٢٨٥).

تلك هي النغمة التي كتب بها «الإخوان» عن السحر وما هو إلى السحر بسبيل، وهم يستنكرون كل من يُنكِر حقيقته عن نية صادقة أو عن كذب وادعاء، استنادًا إلى أنه كان موضع القبول من فلاسفة أقدمين من أصحاب المكانات العالية كأفلاطون، يقولون: «… فلا بد مما يُورَد على هؤلاء المُنكِرين لهذا العلم، والمكذِّبين لمن يدَّعي صحته، من الشهادات: بعض ما ذكر المتقدِّمون في كتبهم وسطَّروه من أخبارهم، ويُحكى من ذلك ما كان واضح الشهرة لا يخفى موضعه على طالبيه، ولا يُكذَّب قائله؛ حتى لا يجد السفهاء إلى تكذيبنا سبيلًا، فنقول: إن أفلاطون الفيلسوف قد ذكر في المقالة الثانية من كتاب السياسة … إلخ.» ثم يروي لنا المؤلفون قصة خاتم ذي قوة سحرية، أوردها أفلاطون في تلك المقالة المذكورة (ص٢٨٧-٢٨٨)، وبعد أن يفرغ الرواة من الحكاية عن أفلاطون، يتساءلون في استنكار: هل يُمكِن لرجل له ما لأفلاطون من منزلة رفيعة أن يقول عن السحر ما قاله كذبًا وزورًا؟! «وإنما السبب الذي يدعو هؤلاء الأحداث إلى التكذيب والإنكار لمثل هذا، هو ما فيهم من الكسل وقلة الرغبة في التعلم والأنفة وقلة الحياء!» (ص٢٨٨).

وبالطبع لم يفُت «الإخوانَ» أن يستشهدوا على حقيقة السحر وقوة فعله بما قد أوردوه من آيات قرآنية كثيرة، لو قُرئت من السطح ظن قارئها أنها حجة لهم، وربما كان لها من التأويل ما يخرج منها المعنى الصحيح الذي يتفق مع نظرة العقل في فهم الأحداث وتعليلها، ثم عقَّبوا على شواهد القرآن بأخرى من التوراة «مما يعتبره ويُقرُّ بصحته أمَّتانِ من الأمم، وهما اليهود والنصارى جميعًا، والتوراة موجودة بأيدي اليهود والنصارى باللغة العبرانية وباللغة السريانية، وباللغة العربية، لا خلاف بينهم فيها» (ص٢٩١). وكذلك وردت الشواهد على صدق السحرة في دعواهم «في كتب أخبار ملوك بني إسرائيل التي تجري عند اليهود مجرى التوراة …» (ص٢٩٣). وهكذا تعدَّدت المصادر التي تؤيِّد فعل السحر والسحرة، «فمنها ما هو من جهة الفلاسفة، ومنها ما هو من جهة الأنبياء وكتب الشرائع، ومنها ما هو مذكور في القرآن» (ص٢٩٤). «أفَترى هذا كله كذبًا لا أصل له، وسخفًا وحماقة ممن يذكره عند هؤلاء المتعجِّبين المُنكِرين بأنفسهم، المكذِّبين بما يُسمُّونه بجهلهم، تكبرًا منهم وتيهًا وصلفًا، لقلة عقولهم وقِصر علومهم وقصورهم عن نيل العلوم الحقيقية، فيجدون الإنكار والتكذيب أخف عليهم» (ص٢٩٤-٢٩٥).

إن همنا في هذه الصفحات هو أن نبيِّن للقارئ كيف غلب «اللاعقل» على أسلافنا في بعض المواقف؛ مما يستوجب انصرافنا عن تراثهم في هذا الجانب اللاعقلي، ومهما يكن من أمر السحر على حقيقته، فها أنت ذا ترى إخوان الصفا يركنون — في تأييدهم لصدق تأثيره — أولَ ما يركنون وآخرَ ما يركنون على ما «سمعوه» من أخبار الأولين، وما «نقلوه» عن أسفار الأقدمين، والعجب بعد ذلك أن تراهم ينعتون المُنكِرين ﺑ «قلة العقل»، في الوقت الذي نرى هؤلاء المُنكِرين لا يعتمدون إلا على منطق العقل وحده، وأما «الإخوان» فيأخذون ما يأخذونه في هذا الباب سمعًا ونقلًا، ولا «عقل» هناك.

ولعل المؤلفين لتلك الرسائل قد أحسوا بضرورة التحديد للمعنى المقصود بكلمة «سحر» بعد أن أفاضوا القول فيه، وقبل أن يمضوا في حديث مطوَّل عن طرائق فعله وتأثيره، فقالوا: «إن السحر ينصرف في اللغة العربية على معانٍ كثيرة، قد ذكرها أصحاب اللغة العارفون بها وأصحاب التفسير لها، ونريد أن نذكُر منها ما يليق بكتابنا هذا ليكون دليلًا على ما نُورِده من القول في هذا الفن، فمِن ذلك أن السحر في اللغة العربية هو البيان والكشف عن حقيقة الشيء، ومنه الإخبار بما يكون قبل كونه، والاستدلال بعلم النجوم ومُوجِبات أحكام الفلك، وكذلك الكهانة والزجر والفأل، فإن كل ذلك إنما يُوصَل إليه ويُقدَر عليه بعلم النجوم ومُوجِبات الأحكام الفلكية والقضايا السماوية … وهو ينقسم أقسامًا كثيرة ويتنوع أنواعًا شتى … منه سحر عملي ومنه سحر علمي، ومنه حق ومنه باطل، ومنه ما رُميت به الأنبياء ووُسمت به الحكماء، ومنه ما يختص بعلمه النساء …» (ص٣١٢-٣١٣) — وإنه ليكفينا أن تكون لكلمة «سحر» كل هذه المعاني، لنقول إنه لا يجوز لكاتب أن يحتج له بآيات قرآنية أو بمأثورات من أقوال الأقدمين، قبل أن نعرف أولًا لأي معنًى من هذه المعاني تكون الحجة.

٦٩

في أحاديث إخوان الصفا مزيج عجيب بين حقائق «العلم» وأخبار «السحر»، كأنهما طرفان مُتعادِلان يتقسَّمان الميدان بشرعية واحدة! فمثلًا قد تراهم يقولون: إن للعقاقير والأدوية خواص معيَّنة، هي التي تجعلها تصلح لما تصلح له، وتؤذي بما تؤذي، ثم يُلحِقون بهذا القول كلامًا شبيهًا به عن «الرُّقى والعوذ والنُّشَر» (النشر: جمع النشرة، وهي رُقيةٌ يُعالَج بها المجنون والمريض)، وهم في ذلك يقولون: «إن السحر يؤثِّر في أنفس الآدميين وأجسادهم … وأما هذه الرُّقى والنُّشر والعزائم وما يُشاكلها إنما هي آثار لطيفة روحانية من النفس الناطقة تؤثِّر في النفس البهيمية وفي الحيوان» (ص٣٠٩). ويستطردون في القول ليوضِّحوا كيف تفعل نفس الساحر في نفس المسحور، مثل ما تفعله النار فيما يُجاوِرها، فإذا كان ما ينبعث من النار شرورًا، فما ينبعث من النفس المؤثِّرة شيء روحاني لطيف، وقد يبلغ التأثير حد أن يُصرَع المنظور إليه أو أن يُشَج رأسُه، وقد ترى «الراقي يستعين على الرقية بالنفث والنفخ وغير ذلك؛ لأن النفث والنفخ هما من جوهر هذه البهيمة» (ص٣١١).

وينتقلون من الحديث العام إلى التطبيقات الخاصة، فيأخذون في ذِكر المواقف الكثيرة التي يُستعان فيها بالسحر والتنجيم وما إليهما على كشف الغيب المجهول، لا فرق في ذلك بين جليل الأمور وضئيلها، وسنذكر لك أمثلة مُتناثِرة مما يقولونه في هذا الصدد، لتُدرِك كيف شُغلت جماعةٌ رفيعة الثقافة في عصرها باللاعلم على أنه من العلم واللاعقل بحسبانه عقلًا (والجماعة هي إخوان الصفا، وعصرها هو القرن العاشر الميلادي):

فإذا سألك سائل عن خبر أو ضمير أو خبيء يريد منك الإخبار به، فاحكم على ذلك مستعينًا بالساعة التي يكون فيها نجم معيَّن، فإذا كان سؤال السائل أن تعيِّن له ما قد أخفاه في يده، ووجدت أن الساعة هي أول ساعة الزهرة، فاعلم أن ما قد أخفاه في يده شيءٌ أبيض حسن اللون طيِّب الرائحة مما يدخل النار ويخرج كالفضة؛ وإن جاءك في آخر ساعة الزهرة، فاعلم أنه شيءٌ ضعيف ليِّن مما يُنسَب إلى الماء؛ وإن جاءك في أول ساعة الشمس فهو صغير من نبات الأرض؛ وإن جاءك في وسط الساعة فهو ذهب أو حليٌّ من ذهب مدوَّر أو دينار؛ وإن جاءك في آخر الساعة فهو شيء رقيق ناري شِبه القوارير. وعلى هذا المنوال يفصِّلون القول عن الطريقة التي تكشف بها حقيقة الشيء المخبوء ناظرًا إلى الساعة التي يكون فيها القمر، والمريخ، وعطارد، والمشتري، وزحل! وما يُتَّبع في معرفة الشيء الخبيء في يد السائل يُتَّبع في معرفة ما يُضمِره إنسان في نفسه ولو لم يُفصِح عنه.

إذا سألك سائل عن نفسه وحاله وما يُصيبه … وإن سألك عن دوام ما هو فيه … هكذا يفصِّلون لك مواقف الحيرة والسؤال وطرائق النظر إلى النجوم لإيجاد الحلول: «إذا سُئلت عن عمر إنسان فانظر إلى رب الطالع والقمر، فإن كان بيت الحياة قد انصرف عنه كوكب، فإن الكوكب الذي يتصل به القمر يدل على ما بقي من عمره … وإذا سألك سائل هل يُصيب مالًا؟ وكم مقدار ما يُصيب؟ ومئات الأسئلة التي من هذا القبيل، يُجاب عنها بالنظر إلى أجرام السماء! لماذا؟ وكيف؟ إن أساس الفكرة عندهم هي أن الإنسان عالم صغير يتأثر بالكون الذي هو العالم الكبير، ولكنه لا يؤثِّر فيه، «وعلم النجوم علم واسع، وهو علم العالم الأعلى السماوي الحاكم للعالم الأرضي، فذلك عالم عُلوي كبير وهذا عالم صغير سفلي … وأفعال العالم الكبير تظهر في العالم الصغير، والعالم الصغير ليس له فعل يظهر في العالم الكبير»» (ص٣٦٧).

«واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا بروح منه — أن مِن أحسن ما وصل الناس إليه من هذه الصناعة وأجل معارفها، أن يعلموا كيفية أحوال الملوك والسلاطين وولاة الأمور والعهود والأمراء والقواد وولاة الحروب والوزراء والكُتاب والعُمال والقهارمة، وابتداءات الدول وعواقبها ومدة أعمار المواليد ومواليدها، وما يظهر منهم في الأزمنة ويعلمونه في الأمكنة، فإن ذلك من العلوم المخزونة والأسرار المكنونة والأخبار المدفونة، مما استخرجتها الحكماء وعلِمتها العلماء، بما قد وقفوا عليه ووصلوا إليه من أخبار السماء بالوحي والإلهام وصدق الرؤيا» (ص٣٦٩). بعبارة أخرى، فكأنهم يريدون القول بأن علم النجوم والرؤيا وما إليهما تكفينا عن كل علم وكل بحث عن حقائق العالمين! أفَتُريد مثلًا دالًّا على اللامعقول خيرًا من هذا المثل؟

ونُعيد هنا إلى ذاكرة القارئ ما قد أسلفناه منذ حين، وهو أنه واجدٌ عند إخوان الصفا — ونحن نتخذهم نموذجًا للنظر في تراث الأسلاف — مزيجًا عجيبًا من المعقول واللامعقول، وكأن الضربَين عندهم على درجة سواء، فانظر إليهم كيف يقولون — بعد أن أفاضوا في الحديث عما يستطيعه العارف بعلم النجوم من الكشف عن الغيب المخبوء — انظر إليهم كيف يقولون في فقرة واحدة — سننقل الآن بعضها إليك — إن قدرة الإنسان على معرفة الأحداث، ماضيها وحاضرها ومستقبلها جميعًا، إنما تستند إلى معرفة الإنسان لمجموعة العلوم مضافًا إليها صفات خلقية ومهارات عملية، وليس علم النجوم وحده، وخصوصًا إذا فهم على نحو ما يفهمه العامة، بكافٍ لأحد، يقولون في الفقرة التي أشرت إليها (ص٣٨٦-٣٨٧) ما يأتي: «… إن جميع ما يحدث في العالم البشري، والخلق الأرضي، بتدبير فلكي وأمر سماوي؛ إذ كان العالم السلفي مربوطًا بالعالم العلوي في جميع أموره وأحواله (إلى هنا والنظرة أساسها اللاعقل واللاعلم لكنهم يستطردون فيقولون): إن فضيلة العلم هي المُوجِبة للإنسان اسم الإنسانية التي يتهيَّأ له بها الوصول إلى الصورة الملكية والرتبة السماوية والعلم بالأمور الغائبة عن العيان، والمتقدِّمة بالزمان، والمستقبلة الكيان، هي من أشرف العلوم وأجلها، ومعرفة ذلك تكون بعد الحذق بالصنائع كلها والتمهر فيها، وطيبة النفوس وسلامة القلب، والتسليم لما يكون، وقلة الجزع والخوف بما لا بد منه …» فبماذا نوجِّه أنفسنا في عصرنا العلمي هذا الذي نعيشه، أو الذي — على الأصح — نود أن نعيشه مع سائر أهله، إذا لم نؤسِّس توجيهنا على هذا المبدأ الذي تلخِّصه العبارة الأخيرة من أقوال إخوان الصفا؟ فالإنسان — كما يقولون — إنسان بمقدار ما يحصِّله من علم ومن مهارة عملية، ثم مِن خلق يشمل الإخلاص في العمل والشجاعة في مواجهة الحياة ومشكلاتها، وبعدئذٍ يمضي الكاتبون الإخوان في حديثهم فيقولون — تأييدًا لنظرتهم العلمية الصحيحة التي نريد تخليصها من خرافة السحر — يقولون: «لعل كثيرًا ممن يقف على رسائلنا هذه، يظن أن مرادنا في وضعها هو تعليم علم النجوم، ولعمري إن ذلك من أحد أغراضنا فيها (لاحظ أن علم النجوم عندهم في هذا السياق هو جزء من غرض واحد بين أغراض أخرى كثيرة، يقصدون إليها عندما يوجِّهون دعوتهم إلى تحصيل العلم)؛ لأننا نُحبُّ لإخواننا — أيَّدهم الله — أن يقفوا على جميع العلوم ويتعلموها ولا يجهلوها، إذا كان مذهبهم (لعلهم يريدون: إذ كان مذهبنا) هو النظر في جميع العلوم واستقراؤها كلها والإحاطة بمعرفة ظواهرها وبواطنها.»

غير أنهم ما كادوا يفرغون من كتابة الأسطر القليلة الماضية، حتى انتكسوا من جديد إلى الموقف اللاعقلي يُسانِدونه؛ إذ ينتقلون إلى فصل جديد يبدءونه: «إذا أردت أن تعرف هل الحمل واحد أو اثنان، فانظر إلى الطالع … إلخ، وإذا أردت أن تعرف متى تلد الحامل؛ ليلًا أم نهارًا؟ فانظر إلى الطالع … إلخ، وإذا مات الجنين في بطن أمه، وخُشي عليها في إخراجه الموت، وأرادوا إخراجه، فليُخرِجوه والقمر ناقص في الضوء هابط في الجنوب … وإذا وقعت النطفة في الرحم، دبَّرها زحل في الشهر الأول، ودبَّرها المشتري في الشهر الثاني، ودبَّرها المريخ في الشهر الثالث فصيَّرها دمًا، وفي الشهر الرابع تنفخ الشمس فيها الحياة بإذن الله، وفي الشهر الخامس تركِّب فيه الزهرة التذكير والتأنيث، وفي الشهر السادس عطارد يصيِّر فيها اللسان والأسنان، وفي الشهر السابع القمر يُتِم فيها الصورة، وإن وُلِد في تدبير القمر عاش، وإن تأخَّر رجع في الشهر الثامن إلى تدبير زحل، فإن وُلِد في الشهر الثامن — وهو لزحل — مات، وإن وُلِد في التاسع حين يعود التدبير إلى المشتري نجا بإذن الله، وكان منه ما قُدِّر له أن يكون في حياته … والوقوف على أسرار ذلك يكون بالزجر والكهانة» (ص٣٩٠). فها هي ذي صورة كاملة يرسمونها للجنين منذ تقع نطفته في الرحم، إلى أن يُولَد ثم يحيا حياته التي قُدِّرت له، والأمر فيها جميعًا للنجوم، والطريق إلى معرفتها إنما هو علم النجوم!

ويأخذ «الإخوان» بلا مَلَل في ذِكر عدد كبير من مواقف الحياة المُغلَقة على البشر إلا أن يستعينوا عليها بالسحر، وقد لا تكون تلك المواقف المستعان عليها بذات خطر يستوجب تمزيق النظام الكوني من أجله، كأن يشرحوا لك كيف تعلَم ما في الكتاب قبل أن تفضَّ ختامه، أو كيف تعلم إن كان مَن جاءك بخير قد صدقك القول أم كذب، ثم يقفون وقفة أطول عند الطريقة التي يُستعان بالنجوم فيها على معرفة السارق في حالات السرقة، ويبدءون هذا الجزء من حديثهم بهذه القصة: «كان لنا صديق من فضلاء الناس وخيارهم من إخواننا، وكان يستعين في معيشته بصناعة النجوم، فحضَرتُه يومًا وقد جاءه رجل فجلس عنده وقال له: قد جئتك لتُخبِرني عما في نفسي. فأخذ الطالع وقوَّمه وجوَّد الحساب وأحسن العمل وصدق العلم وأصاب الحكم، فقال له: تسأل عن شيء سُرِق؟ قال: نعم، ما هو؟ فأخبره عن جنسه. فقال: كم هو؟ فأخبره عن كميته. فقال: فمن أخذه؟ وهل الآخذ ذكر أم أنثى، حرٌّ أم عبد؟ فذكره. فقال: كم سنُّه؟ فذكره. فقال: أين ذهب؟ فأخبره. فقال: كيف هو؟ فأعلمه. فمضى في طلبه ثم عاد وقد أصاب …» (ص٣٩٧).

ويطول بنا الحديث لو طفقنا ننقل عن «الإخوان» ما ذكروه وفصَّلوه من أمور السحر والتنجيم والتعزيم، فلنختم كلامنا عنهم في هذا الصدد بقصة روَوها في آخر رسالتهم عن هذا الموضوع، راجين أن يكون ما ذكرناه كافيًا لرسم صورة عن وقفتهم اللاعقلية إزاء هذا الجانب من جوانب النظر:

في غضونِ حوارٍ أجراه «الإخوان» المؤلِّفون بين حكيم وتلميذه، قال التلميذ للحكيم، بعد أن سمع كل ما سمعه عن أعاجيب السحر والتنجيم: «هل بقي في هذا الباب ما لم يأتِ عليه الشرح في هذا المعنى؟ فقال الحكيم: ليس قدر ما ذكرنا إلا كقدر قطرة من بحر، وإن في علم روحانيات الكواكب ومعانيها عجبًا عجيبًا، ومما شاهدتُ مِن عجب هذا العالم أني كنت بجزيرة «أُوال» (وهي جزيرة بناحية البحرين)، وكان بها رجل من المتَّصلين بحبل الله، عالمًا بهذا العلم، فقصدتُه زائرًا، فرأيت قومًا من أهل البلد قد دخلوا عليه وشكوا إليه غمَّهم بمحبوس لهم قد حبسه أمير البلد في جناية جناها، قالوا: قد طرحنا أنفسنا على الوزير والحاجب وخواصِّ الأمير، فلم ينفعنا ذلك، وقد بذلنا له من الرشوة بحسب طاقتنا فلم يقبل، وقد ذُكر لنا عنه أنه قال: لا بد لي مِن قتله. فأطرق ذلك الفاضل إطراقةً، ثم رفع رأسه وقال: الليلة في آخرها صاحبُكم عندكم فامضوا ولا تُشعِروا أحدًا بما ألقيته إليكم. فخرج القوم من عنده فقلت له — على طريق الملاعبة: قد أُوحي إليك أن الأمير الليلة يُطلِق هذا المحبوس؟ قال لي: سوف ترى! فقلت: ولا يجوز أن يُطلِقه غدًا؟! فقال: إن تأخَّر إطلاقه الليلة لم يصح إطلاقه إلى ستة أشهر وكسر، وإنما قد اتفق سعادةٌ لهذا المحبوس أن جاءني هؤلاء القوم في هذا اليوم.

واشتغل بحديث آخر، وخرجت من عنده، فلما كان من الغد أتيته مسلِّمًا، فوجدت القوم الذين جاءوه بالأمس قد سبقوني إلى عنده وهم شاكرون له بما بشَّرهم به من تخلية المحبوس، ويسألونه عن عمله بذلك، فقال لهم: الطالع الذي دخلتم به شهد أن محبوسكم في هذه الليلة يُطلَق، ولم يكشف لهم عن حقيقة الأمر.

ورأيت غلامًا شابًّا مصفرَّ اللون قد نهكه الحبس والقيد، فأقبل الشيخ على الشاب فقال له: حدِّث هذا الرجل كيف خلَّاك الأمير البارحة، فالتفت إليَّ الشاب الذي كان محبوسًا، فقال: إني كنت محبوسًا في المطمورة مطروحًا، وأنا مكبَّل بالحديد، وقد هدَّدني السجَّان في آخر يوم أمس، وقال: إن الأمير قد أنفذ بأن يُحمَل إليه قوم قطعوا الطريق، وإنه ينتظر أولئك، وإنه يصلبك في جملتهم. ذكر لي هذا عند اصفرار الشمس، فبكيت طول ليلي، ولم يحملني النوم أصلًا، فبينا أنا كذلك — وقد عبر من الليل النصف الأول — إذ سمعت حركة شديدة، وباب المطمورة يُفتَح، ففزعت وشِلتُ رأسي إلى السماء مستعينًا بالله تعالى، وإذا الجماعة من الخدم قد نزلوا، وحملني أحدهم بحديدي، فأُدخِلت على الأمير، فإذا به قائم، فلما رآني قال: حُطوه برفق. واستدعى مَن فكَّ الحديد عني، وسألني أن أجعله في حلٍّ مما فعل بي، وأمر بأن أُجعَل في جملة خدمه، وأثبت لي رزقًا جاريًا مع خاصته، وأفرج عني، وهذه حالي.

وقاموا فخرجوا من عنده، فجدَّدت السؤال للشيخ، ورغبت إليه أن يُعلِمني السبب في تخليته؛ إذ لم يقُل لهم إنه سيُخلي الليلة عن غير فائدة، فقال: لا يُمكِنني أن أُخبِرك في هذا اليوم، فإن صبرت ثمانية وعشرين يومًا أعلمتك. فقلت له: إني من الصابرين. فلما انقضت الأيام جدَّدت السؤال، فقال: هؤلاء القوم الذين جاءوا حدَّثوني بحديث المحبوس، قومٌ أخيار يلتزمني أمرهم، ورأيتهم مغمومين بهذا المحبوس، فقلت لهم ما قلت، ولما كان في تلك الليلة على ساعتَين من الليل، تجرَّدت وعملت نَيرَنج المريخ، وقصدت بالنيرنج الأمير والمحبوس، فأطلقه كما رأيت.

فقلت للشيخ: أُحبُّ أن تُعلِمني سبب إطلاقه له. فقال: سبب ذلك أن الأمير رأى فيما يرى النائم كأن قد دخل عليه رجل أشقر أزرق، على رأسه شعر، وهو مكشوف الرأس، وبيده سيفٌ مجرَّد، يقول: إن لم تُخلِّ في هذه الساعة فلانًا ابن فلان المحبوس عندك، وجاءت الليلة، قطعت رأسك بهذا السيف! فكان هذا سبب التخلية له، فاستطرفت ذلك واستعظمته.»

ليعذرني قارئ هذا الكتاب إذا رآني قد وقفت فأطلت الوقوف عند هذه القصة، رويتها له بلغة كاتبها كما جاءت في آخر رسالة من رسائل إخوان الصفا؛ وذلك لأنني رأيتها — فوق طرافتها من الناحية الأدبية — نموذجًا لكثير جدًّا مما جرَت به الألسنة والأقلام في تراثنا، ثم رأيتها — وهو الجانب الأخطر — نموذجًا لما نحن اليوم على استعداد تام لقبوله في غير ريبة ولا تردد؛ فلقد هُيِّئت عقولنا على صورة تجعل أمثال هذه القدرات عند «المقرَّبين» من السماء أمرًا يكاد يكون مفروغًا مِن صدقه وصوابه، تقوله لعامة الناس، أو تقوله لخاصتهم، فلا تجد إلا نفوسًا مؤمنة به وعقولًا مصدِّقة له، كأنك تقول لهم إن الشمس تُشرِق في الصباح وتغيب آخر النهار! وليكن قارئي على يقين أو ما يُشبِه اليقين أن صفة الشذوذ الفكري إنما يُوصَف بها مَن يعرض الروايات التي تُروى عن هذه القوى السحرية عرض المتشكِّك المرتاب، ولا أقول عرض المكذِّب لها تكذيبًا قاطعًا، لا مَن يُسرِع إلى تقبُّلها كما يتقبل عمليات الجمع والطرح في علم الحساب. مصيبةٌ فادحة هي تلك التي تُصيبنا اليوم في تفكيرنا فتميل بعقولنا إلى الشلل، لتمرح القوى اللاعقلية كما يشاء لها أصحابها، ثم نزعم لأنفسنا وللناس أن مثل هذا الخبل هو من علامات «الروحانية» التي تميِّزنا من سوانا، لا تمييز الأضعف الأجهل الأضل، بل هو — كما نتوهم — تمييز الأقوى والأعلم والأهدى سبيلًا!

إنني ما كتبت هذه الصفحات إلا توضيحًا لوجهة نظري التي حاولت بسطها في هذا الكتاب، وهي أن تراثنا الفكري قد اختلطت فيه العناصر المتباينة، التي ربما كانت كلها مُنبثِقة من طبيعة حياة الأسلاف وما اعترضهم من مواقف ومشكلات، والتي إذا ما ألقينا عليها النظر الآن بكل ما يُحيط بنا نحن اليوم من مناخ ثقافي، ألفينا بعضها ما زال صالحًا لنا وبعضها الآخر لم يعُد صالحًا، وتقدَّمت بفكرتي الرئيسية التي عرضتها في كتابي السابق «تجديد الفكر العربي»، وهو أن وسيلة ربط حاضرنا بماضينا هي في أن أواصل النظر إلى الأمور بنفس المنظار الذي نظر به الأقدمون، شريطةَ أن أقصر هذا المنظار على ميدان النظر «العقلي» وحده، وأما ميدان المشاعر الوجدانية أو الرؤى التي هي أقرب إلى أحلام اليقظة أو أحلام النوم، فهو — بحكم طبيعته — يقتصر على أصحابه ولا يُمكِن نقله كما هو من عصر إلى عصر، وها نحن أولاء قد بسطنا في القسم الأول من كتابنا هذا — وهو أكبر القسمَين — نماذج من المواقف العقلية عند أسلافنا لنزداد نحن وضوحًا في الرؤية إذا أردنا أن نُواصِل مثل هذه الوقفات العقلية من حياتنا الراهنة، ثم عرضنا في القسم الثاني من الكتاب، لمحات من الجانب الآخر؛ أعني الجانب اللاعقلي الذي عاشه الأسلاف؛ لنرى ماذا نطرح من تراثنا الفكري، نعم قد يكون من الحق أن الإنسان يعيش بوجداناته كما يعيش بعقله، وإن اختلفت مجالات هذا عن مجالات تلك، ولكننا نريد لجانبنا الوجداني اللاعقلي أن ينبت من عناصر حياتنا؛ فلقد شاءت مرحلة التطور الحضاري لآبائنا أن تتخذ أوهامهم صورة التنجيم والسحر وما إليهما، وقد يتحتم للطبيعة البشرية دائمًا أن تكون لها أوهامها اللاعاقلة، غير أن النتيجة التي تلزم عن هاتَين المقدمتَين ليست هي أن نستعير أوهام الأولين كما عاشوها، بل أن تكون لنا أوهامنا المناسبة لعصرنا وظروفه.

لقد حكيت لك حكاية الشيخ الذي خلَّص المسجون مِن قتل كان محكومًا به عليه، وذلك بفعل النجوم كما استطاع أن يستخدمه ذلك الشيخ، وعلَّقت على الحكاية بقولي إن معظم القراء يُرجَّح لهم أن يميلوا إلى تصديقها؛ لأنهم أُشرِبوا منذ طفولتهم بما يميل بهم نحو تصديق هذه الدعاوى وأمثالها، كما رجَّحت أن يكون المُستنكِر عندهم ليس هو أن تصدِّق ما يقال عن السحر والتنجيم، بل هو أن ترتاب في ذلك. وأودُّ الآن أن أعود إلى القصة كما حكاها إخوان الصفا في ختام الرسالة الأخيرة من رسائلهم؛ لأن التكملة ربما أحدثت نفورًا عند القارئ يدفعه إلى التنكر للقصة كلها.

فلقد سأل التلميذ شيخه، بعد أن ألمَّ بما زعم له المتحدِّث من استخدامه لكوكب المريخ في تخليص المسجون، سأله: هل للمريخ نيرنج يعمل؟ فقال له الشيخ شارحًا: «لزُحل لباس سواد، وللمشتري بياض، وللمريخ حُمرة، وللشمس أصفر، وللزهرة أخضر، ولعطارد ملوَّن، للقمر سمكون (السمكون لون السماء)، ولهم مع ذلك (أي إلى جانب ما يُلبَس لكل منها من لون يُناسِبه) دُخن وبخورات وأشياء أُخَر يعرفها العلماء (!) الواقفون على أسرار الخليقة، مثل أكاليل … يضعها العامل على رأسه، ومخانق … يتقلَّد بها، فإن كان العمل لزحل احتاج أن يكون الإكليل من شوك والمخانق من عظام.»

«فقلت له (أي إن التلميذ سأل شيخه بعد أن شرح له الشيخ ماذا يلبس وماذا يقول لكل كوكب أراد استخدامه): قد عارضني في هذا الموضع سؤال، ولست سائلًا عنه لشكٍّ عرض بل لاستفهامٍ حسبُ (ليلحظ القارئ هنا ما عند التلميذ من قبول لا عقليٍّ لما يسمعه، فهو يسأل لا لشكٍّ … ولماذا لم يشك؟ ألِأنَّ مجرد الشك لم يكن مقبولًا، كما هو لا يزال بيننا إلى اليوم غير مقبول في هذه الأمور؟!)»

«فقال لي ذلك العالم الفاضل: هلمَّ سؤالك!»

«فقلت له: الأنبياء — عليهم السلام — ما وقفوا على هذا العلم؟ ما سمعنا أنهم … هربوا من أيدي أعدائهم سرًّا، ومنهم من تأدَّى أمره مع أعدائه إلى أن قُتل، فيا ليت شعري! مع قدرتهم على هذا العلم الشريف، لمَ لا يعملون لأعدائهم من هذه النيرنجات ما كان يضطرُّونهم معها إلى إجابتهم؟»

سؤال جيِّد ونافذ من التلميذ، أفتدري بماذا أجاب الشيخ؟ قال:

«ما أحسنَ ما سألت … لم يستعمل الأنبياء — عليهم السلام — هذا العلم لأحوال: أحدها أنه ضربٌ من الحيلة والمكر، وهم لم يُبعَثوا بذلك! وثانيها أنهم لو فعلوا ذلك لكان إجابة الناس إلى الخديعة لا إلى العلم الذي به نجاة أنفسهم، وكان يفوتهم الغرض الذي جاءوا فيه، الذي هو نجاة الأنفس، ولأن هذا العلم فوائده مختصة بالعلم الأرضي، والأنبياء — عليهم السلام — دعاة إلى العالم العُلوي الذي هو أعلى من عالم الأفلاك، وأيضًا لم يجُز لهم أن يُضيفوا إلى تأييد الله ووحيه بوساطة الملائكة المقرَّبين، حيلةً بشرية ولا نيرنجية فلكية.»

لست أدري ماذا يكون موقف القارئ بعد استماعه لحوار كهذا بين التلميذ وشيخه في موضوع التنجيم، لكنني لا أُخفي على القارئ شيئًا من نفسي إذا قلت إن موقفي من هذا كله هو موقف الرفض الصريح، فهو كله سخف في سخف وضلال في ضلال، وينبغي لأبناء هذا العصر أن يتخلصوا من كل حرف فيه، فيطرحونه وراء ظهورهم نصًّا وروحًا.

٧٠

أولئك هم إخوان الصفا، المثقَّفون العلماء! فماذا نتوقع من طراز المثقَّفين الذين يبدءون برفض العلم أساسًا وبالتنكر للعقل معيارًا؟ ولنأخذ الغزالي نموذجًا لهذا الطراز؛ فهو يُناصِر اللاعقل مناصرة حارة، ويعجب ممن يركنون إلى «العقل» برغم ما يتعرض له هذا العقل من زلل، والأعجب هو أن الغزالي إذ يؤيِّد اللاعقل ويُناصره، فإنما يفعل ذلك بما يُشبِه مناهج العقل المنطقي الذي يتنكَّر له ويُهاجِمه!

جاء قُبَيل خاتمة كتابه «المُنقِذ من الضَّلال» ما يلي:

«الإيمان بالنبوة أن يُقرَّ بإثبات طور وراء العقل، تتفتح فيه عين يُدرِك بها مُدرَكات خاصة، والعقل معزول عنها، كعزل السمع عن إدراك الألوان، والبصر عن إدراك الأصوات، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات.»

ويُعلِّق الغزالي بعد ذلك بقوله إن القارئ أمام هذا الذي نقرِّره من عجز العقل عن رؤية هذه المُدرَكات، إما أن يكون رافضًا وإما أن يكون مُتَّفقًا معنا، فإذا كان من الرافضين «فقد أقمنا البرهان على إمكانه بل على وجوده»! ويريد الغزالي بذلك أنه قد أقام «البرهان» في صفحات كتابه السابقة على ورود هذه العبارة، أفلا يكفي أن يكون قد لجأ إلى «برهان» — والبرهان لا يكون إلا عملية عقلية — ليتبدَّى ما في كلامه من تناقُض؟! أيُمكِن ﻟ «العقل» أن يُثبِت عجزه في ميادين هي بحكم الفرض لا ينفذ إليها عقل؟ أيُمكِن للأنف أن يحكم على روائح تستعصي على شمه وللبصر أن يصف ألوانًا تستحيل على رؤيته؟ إن «البرهان» إنما يكون على نتيجة نزعم لها أنها جاءت عن عملية «عقلية»، وأما ما سوى ذلك فلا «برهان» عليه، وقصارى ما نستطيعه إزاءه هو أن «نُؤمِن» به أو لا نؤمن، نميل إليه أو لا نميل، نُحبُّه أو لا نحبه.

وأما القارئ المصدِّق لما زعمه الغزالي في عبارته السالفة، «فقد أثبت أن ها هنا أمورًا تُسمَّى خواصًّا (هل يجوز التنوين في كلمة «خواص»؟ لكن هكذا وردت) لا يدور تصرُّف العقل حوالَيها أصلًا، بل يكاد العقل يكذِّبها ويقضي باستحالتها.»

ولينظر القارئ معي في كيفية إثبات الغزالي لوجود بعض الخواص التي يقضي العقل باستحالة أن تفعل فعلها الذي عرفناه لها، يقول:

«فإن وزن دانق من الأفيون سمٌّ قاتل؛ لأنه يجمِّد الدم في العروق لفرط برودته، والذي يدَّعي علم الطبيعة يزعم أن ما يبرِّد من المركَّبات إنما يبرِّد بعنصرَي الماء والتراب، فهما العنصران الباردان، ومعلومٌ أن أرطالًا من الماء والتراب لا يبلغ تبريدهم (هل نُشير إلى أرطال الماء والتراب بالضمير «هم»؟ لكن هكذا وردت) في الباطن إلى هذا الحد، فلو أُخبرَ طبيعيٌّ بهذا (أي بأن وزن دانق من الأفيون يجمِّد العروق لفرط برودته) ولم يجرِّبه، لقال: «هذا مُحال، والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية، والهوائية والنارية لا تزيد بها برودة» …»

يزعم الغزالي بهذا ما يدَّعيه بعد ذلك مباشرة من أن «أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبنيٌّ على هذا الجنس؛ فإنهم تصوَّروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه، وما لم يألفوه قدَّروا استحالته.»

أودُّ هنا أن أُعيدَ القضية التي يعرضها الغزالي في الأسطر السابقة، على مسمع القارئ بعبارتي؛ ليَعجب عجبي من موقفه؛ فهو يقول إن العقل لا يستطيع إدراك كل شيء، وإن ما لا يُدرِكه يظن أنه مُحال الحدوث، وبرهان ذلك أنك لو قلت له إن وزن دانق من الأفيون يجمِّد الدم في العروق لفرط برودته لما صدَّق؛ لأن الأفيون مركَّب من نار وهواء، وهذان حارَّان لا تنتج عنهما برودة! ونحن نسأل الغزالي: من ذا الذي قال إذن إن الأفيون يجمِّد الدم لبرودته؟ أليست هي تجربة الناس بما شاهدوه؟ وهل تقع هذه التجربة في قائمة الإلهامات الروحانية التي تستعصي على العقل، أو هي من صميم عمل العقل عندما يستخرج قوانين الأشياء؟ إننا بالطبع لا ننقد الغزالي من حيث هو يُقيم الحجة على خصائص الماء والهواء والتراب والنار، فتلك كانت ثقافة عصره ولا يُلام عليها، ولكننا نُنكِر على أي قارئ معاصر لنا يُساير الغزالي في حديث كهذا يسقط كله — بخطئه وصوابه — بسقوط الأساس الذي ينبني عليه في تحليل الطبيعة إلى عناصر أربعة، كما كان الأمر عند القدماء.

وهل صحيحٌ أن «أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبنيٌّ على هذا الجنس؟» أعني أن أكثر براهينهم كان قائمًا على أساس أن ما لم يألفوه في تجاربهم عدُّوه مستحيلًا؟ لست أظن أن ذلك حُكمٌ يُنصِف تلك الطائفة من قادة الفكر.

على أي حال، لماذا يقول الغزالي هذا؟ إلى أي شيء يمهِّد بهذه المقدمة؟ إن مرماه هو أن ينتهي إلى نتيجة يريدها، وهي أن مَن يُنكِر قدرة الإنسان على الخوارق بقواه الروحانية، فإنما يبني إنكاره على عدم إلفه لها في خبرته، يقول: «ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة، وادَّعى مدَّعٍ أنه عند ركود الحواس يعلَم الغيب، لأنكره المتَّصفون بمثل هذه العقول.»

ويعود الغزالي مرة أخرى فيسوق مثلًا محسوسًا، مما يقول عنه الذين لم يرَوه إنه مستحيل، مع أنه يحدث فعلًا، والمَثل هنا هذه المرة أعجب مِن مَثَل دانق الأفيون في المثل السابق، وهذه هي عبارته: «ولو قيل لواحد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء هو بمقدار حبة يُوضَع في بلدة ليأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه، فلا يُبقي شيئًا من البلدة وما فيها، ولا يبقى هو في نفسه؟ لقال: هذا مُحال وهو من جملة الخرافات، وهذه حالة النار، يُنكِرها مَن لم يرَ النار، إذا سمعها.» فأولًا: إن ما يأكل البلدة ليست هي شرارة النار التي هي «بمقدار حبة» على حد تعبير الغزالي، وإنما الذي يأكل البلدةَ هو أن كل ما فيها يشتعل ويتحول من صورة مادية إلى صورة أخرى، فحجم النار التي تأكل البلدة هو مُساوٍ لحجم البلدة نفسها؛ وثانيًا: لماذا نقول: «شيء هو بمقدار حبة» لتُضفي على الكلام صورة الأحاجي والألغاز؟ لماذا لا تقول: «شرارة نار» ثم تلحق ذلك بوصف علمي موضوعي تحليلي لطبيعة النار؟ فعندئذٍ لو كان السامع ممن يُدرِكون اللغة العلمية التحليلية لطبائع الأشياء، لما أنكر ذلك حتى ولو لم يرَ النار من قبل؛ وثالثًا: أئذا أنكرت إمكان شيء لكونه لم يقع لي في خبرتي السابقة، كان ذلك دليلًا على صِدق الزعم بأن فعل الخوارق مُمكِن للإنسان إذا استعان بوسيلة غير وسيلة العقل؟ أم الأقرب إلى الصواب أن يكون دليلًا على أن المُنكِر لم يستخدم عقله على نحو ما يريده العلم أن يستخدمه؟

ولقد أذهلني أن أجد الغزالي يعقِّب على مثل النار التي تأكل البلدة وتأكل نفسها، بقوله: «وأكثر إنكار عجائب الآخرة هو من هذا القبيل.» سألت نفسي دهشًا: أيُّ قبيل؟! كم صادف الغزالي في حياته من الناس الذين إذا قيل لهم إن جذوة النار تُلقى على الشيء القابل للاحتراق فيحترق، تعجَّبوا وأحسوا في بواطنهم برفض عقلي لما يسمعون، أيكون هذا — في رأي الغزالي — على نفس المستوى مع قولٍ يُنبِئنا بأن صورًا يُنفَخ فيه يوم القيامة، فتُعاد إلى الحياة ملايين الملايين من بشر ماتوا بكل صور الموت وفي كل أصقاع الأرض وأرجاء السماء؟ هل يرى الغزالي أن القلق العقلي في قبول الخبر هنا كالقلق العقلي في قبول خبر الجذوة المشتعلة التي تحرق قطعة الخشب أو الورق؟ أليس يرى بين الحالتَين بُعدًا شاسعًا، هو نفسه البُعد بين ما يقبله العقل مستندًا إلى شواهد الحواس، وبين ما يستحيل على «العقل» أن يقبله فيُحيله إلى الإيمان؟

يستأنف الغزالي حديثه فيقول: «نقول للطبيعي: قد اضطررت إلى أن تقول في الأفيون خاصية في التبريد ليس على قياس المعقول في الطبيعة، فلمَ لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص في مداواة القلوب وتصفيتها ما لا يُدرَك بالحكمة العقلية، بل لا يُبصَر ذلك إلا بعين النبوة؟»

اللهم اهدني إلى رؤية الحق إذا كنت قد ضللت إلى هذا المدى! ذلك أن العجب يشتد بي كلما أمعنت في قراءة النص الغزالي الذي أنقله هنا إلى القارئ جزءًا جزءًا؛ فالغزالي بلا شك ثاقب النظرة قادر على التحليل قدرةً ندر أن رأيت مثلها في مفكِّر آخر، وهو فوق هذا مؤلِّف في المنطق حتى كاد المنطق أن يستوعب كل ما كتب إذا استثنيا ما كتبه في الفقه والتصوف، ولكني مع علمي بهذا كله أقرأ هذا الذي يقوله ليُثبِت به عجز العقل عن رؤية الحقائق، مما يحتاج بالضرورة إلى قوة يستمدها الإنسان من عالم ما فوق العقول، أقول إني أقرأ له هذا الذي يقوله فيشتد عجبي لما ينطوي عليه من تهافُت منطقي عجيب! انظر إلى الأسطر القليلة السالف ذِكرها، تجده يعقد الموازنة بين خاصة الأفيون في تبريد الجسم وبين خواص الأوضاع الشرعية في مداواة القلوب وتصفيتها! يعقد هذه الموازنة بين الجانبَين ليراهما مُتشابِهَين في كونهما معًا مما تعجز العقول عن إدراكه؛ بالتالي لا يكون ثمةَ مِن مناص للإنسان إلا أن ينتظر ما يُشبِه الوحي النبوي لإدراكه! الأفيون مادة كسائر المواد في الطبيعة، فكيف يُحيط الإنسان علمًا بالطبيعة إلا أن يُشاهِد كائناتها كيف تتأثر وكيف تؤثِّر، ثم يسجِّل عنده ما قد شاهد فإذا هو عِلمه بالطبيعة، وإذا وسيلته في ذلك هو العقل الاستقرائي الذي يستند في صياغة أحكامه العامة على ما تُخبِره الحواس؛ فإذا كان الطبيعي الذي يُشير إليه الغزالي، لم يكن قد علِم من قبل أن للأفيون خاصية التبريد، ثم شهد تلك الخاصية، فالضرورة «العقلية» العلمية تقضي عليه حينئذٍ أن يُضيف هذه المشاهدة الجديدة إلى ما يعلَمه عن الطبيعة، فإذا وجد هذه الحقيقة الجديدة تتنافى مع بعض المبادئ العلمية التي كان قد كوَّنها لنفسه عن ظواهر الطبيعة وكائناتها، فلا حيلة له إلا أن يعدِّل من تلك المبادئ حتى تتَّسق مع ما يُشاهِده في دنيا الوقائع، وهو يفعل ذلك بإملاء «العقل» لا برغم العقل؛ فكيف إذن يقيس الغزالي حالة عقلية صِرفة بحالة أخرى لا تدخل في مجال العقل من قريب أو بعيد، وأعني الحالة التي تعمل فيها بعض «الأوضاع الشرعية» على مداواة القلوب؟! إن هذه الحالة الثانية إذا كان لا بد فيها من قوة نسلِّم بها تسليمًا إيمانيًّا، فليست الحالة الأولى من هذا القبيل نفسه.

ولك أن تزداد معي عجبًا على عجب، إذا مضيت مع الغزالي في هذا النص الذي ننقله عنه، حين يستطرد في القول عن علماء الطبيعة الذين يُسرِفون في الاعتداد بعقولهم: «بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم، وهي من الخواص العجيبة المجرَّبة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق، بهذا الشكل:

ب ط د ٢ ٩ ٤
ز ج ٧ ٥ ٣
و أ ح ٦ ١ ٨

يُكتَب على خرقتَين لم يُصِبهما ماء، وتنظر إليهما الحامل بعينها، وتضعهما تحت قدمَيها، فيُسرِع الولد في الحال إلى الخروج، وقد أقرُّوا بإمكان ذلك وأوردوه في كتاب «عجائب الخواص»، وهو شكل فيه تسعة بيوت، يُرقَم فيها رقوم مخصوصة، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو على التأريب.»

(أودُّ للقارئ أن يُلاحظ أن الأرقام في المربَّع الثاني هي الأعداد التي تُقابل الحروف في المربَّع الأول، فيما يُسمُّونه بحساب الجُمَّل، وجاءت هذه المقابلة من أنك لو كتبت الحروف بترتيب أبجد هوز حطي … فإنها في التسعة الأحرف الأولى تُقابل التسعة الأعداد الأولى، هكذا:

أ ب ج د و ز ح ط
١ ٢ ٣ ٤ ٥ ٦ ٧ ٨ ٩

فقابِل بين الحروف في المربَّع الأول وبين الأعداد في المربَّع الثاني تجد أن لكل حرف ما يُقابله من عدد على الوجه الذي أسلفناه.)

ولنستأنف عبارة الغزالي السابقة، يقول:

«فيا ليت شعري! من يصدِّق بذلك، ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير صلاة الصبح بركعتَين، والظهر بأربع، والمغرب بثلاث، هي لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟! وسببُها اختلاف هذه الأوقات، وإنما تُدرَك هذه الخواص بنور النبوة.»

نقطتان نريد هنا أن نعلِّق عليهما؛ الأولى: إذا كنت قد رأيت بعض من كتبوا في علم الطبيعة — كجابر بن حيان مثلًا — قد «اعترف بخواص» هي أعجب مما ذكرته سابقًا (ليلحظ القارئ أن الغزالي لم يكن قد أسلف إلا أمثلة لا تُثير أي تعجُّب؛ إذ أسلف مثلَين: مثل الأفيون وخاصته في التبريد، ومثل النار تحرق بلدة بأكملها)، أقول: إنك إذا كنت قد رأيت من علماء الطبيعة مَن ذكر في كتبه خواص المربَّعَين اللذَين بيَّنت لنا شكلَيهما، على أنهما ذوا تأثير في معالجة الحامل التي عسر عليها الوضع، فقد كان الأَولى — بدل أن تستشهد بذلك على عجز العقل عن إدراك هذه الأمور وإحالتها إلى نور النبوة — كان الأَولى أن تقِف أحد موقفَين، فإما أن تُخرِج صاحب هذا الزعم من زمرة علماء الطبيعة، وإما أن تُخرِج هذه الخرافة من علم الطبيعة، أما أن تسلِّم بصدق ما هو مرجَّح الكذب، ثم تجعله هو نفسه حجة على ما تريد إثباته، فذلك ما لا نُوافق عليه. وأما النقطة الثانية التي نريد التعليق عليها، هي هذه الموازنة القريبة بين خواص المربَّعَين المذكورَين في تسهيل عملية الوضع، وبين خواص ركعات الصلاة من حيث عددها، فقد يحق لنا، بل يجب علينا أن «نُؤمِن» بأن وراء عدد الركعات المفروضة حكمة، ربما ظهرت لنا وربما خفيت، ولكن مَن ذا الذي يُوجِب علينا الاعتقاد بصحة ما يزعمونه عن خواص المربَّعَين السابقَين في تيسير الولادة العسِرة؟ لو قُلنا إن هذه الخواص «مجرَّبة»، كما ورد في النص الغزالي المذكور، فلماذا تكون «عجيبة»، كما ورد عنها أيضًا في النص نفسه؟ إن العلم الطبيعي كله مؤلَّف من «مجرَّبات»، ولا مبرِّر «للعجَب» من أي ظاهرة أثبتتها التجربة.

ويختم الغزالي كلامه في سياق الحديث الذي ننقله للقارئ، بموازنة أخرى أشد عجبًا، خلاصة ما ورد فيها هي أنه يُخاطب قومًا لو قيل لهم على لسان نبي صادق مؤيَّد بالمعجزات لم يُعرَف قط بالكذب إن هنالك حكمة إلهية في أعداد الركعات وفي رمي الجمار، وعدد أركان الحج، وسائر تعبُّدات الشرع، لأنكروا لك من جانب العقل، على حين أنهم إذا قال لهم منجِّم إن قراءة الطالع تدل على أن أحدًا منهم لو لبس ثوبًا جديدًا في وقت معيَّن، قُتل في ذلك الثوب، لرأيتهم مصدِّقين لما قاله المنجِّم، مع أنه قد كذب في أحكامه قبل ذلك مائة مرة. يريد الغزالي بهذه الموازنة أن يقول لمن يوجِّه إليهم الخطاب: إنه إذا كان قول المنجِّم مقبولًا عندكم برغم تعرُّضه للكذب، وبرغم كونه مُجاوزًا لحدود «العقل»، أفليس الأَولى بالقبول قول النبي في حكمة أشياء قد تُجاوِز هذه الأخرى حدود المعقول؟

كتب الغزالي ما كتبه دفاعًا عن «اللامعقول»، وهو حر في اختيار موقفه، وأحسبنا بدورنا أحرارًا إذا اخترنا ألا نقبل من تراثهم إلا المعقول وحده؛ لأنه — دون اللامعقول — هو الذي يُجاوِز حدود مكانه وزمانه، فما قد قبِله العقل يومًا، فإنه يقبله كل يوم، وأما ما أرضى اللاعقل فينا يومًا، فقد لا يُرضيه حين تتغيَّر الظروف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤