الفصل التاسع

يقظة الحالمين

٦٣

لست أُجادِل هنا في أن يكون الحالم أو لا يكون في نعيم من أحلامه، لكن الذي أقرِّره هو أن المتصوف رجلٌ يحلم في يقظته، وسواءٌ أوَجدَ النشوة في أحلامه تلك أم لم يجدها، فهو على كلتا الحالتَين ليس مؤهَّلًا بأحلامه للدخول في دنيا العمل. إنه لا يُنجِز شيئًا لا لنفسه ولا لغيره، إلا أن تزول عنه تلك الحالة التي ملأته بأوهام الحلم حتى لتعجز عيناه أن تُبصِرا ما تراه العين، وأذناه أن تسمعا ما تسمعه الأذن. نعم إنه يعوِّض لنفسه ما فقدته حواسه برُؤًى وأنغام ينفرد بها دون سائر الناس، لكنها لهذا السبب نفسه لا تصلح مُتكَأً يرتكز عليه في أن يسلك طريقًا بين كائنات الواقع؛ وبالتالي فهو لا يمدنا بخبرة تُفيد، مهما أمدَّنا بمادة لها عند القراءة سِحرها. وسأسوق لك أمثلة من أقوالهم لترى كم هي شديدة الشَّبه برُؤى الحالمين.

يقول الشيخ نجم الدين الكبرى (في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي) في كتابه «فوائح الجمال وفواتح الجلال» (تحقيق المستشرق فرتيز ماير أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة بازل بسويسرا):

«يا حبيبي! أطبِق جفنَيك وانظر ماذا ترى؟ فإن قلت لا أرى حينئذٍ شيئًا، فهو خطأ منك؛ بَلى، تُبصِر، ولكن ظلام الوجود — لفرط قربه من بصيرتك — لا تجده؛ فإن أحببت أن تجده وتُبصِره قدَّامك — مع أنك مُطبِقٌ جفنَيك — فتنقَّص من وجودك شيئًا، أو أبعِد من وجود شيئًا. وطريق تنقيصه والإبعاد منه قليلًا، المجاهدة! ومعنى المجاهدة بذل الجهد في دفع الأغيار، أو قتل الأغيار، والأغيار: الوجود والنفس والشيطان» (ص٢).

هذا رجل ينصحنا — لكي نرى الحق — أن نكفَّ البصر؛ لنعتمد على البصيرة، شريطةَ أن نقتل ثلاثة أعداء تحُول دون أن تُدرِك بصائرنا ما هو في وسعها أن تُدرِكه إذا رُفِعت عنها تلك الحُجب، وهؤلاء الثلاثة الأعداء هي أجسادنا، ثم أنفسنا، ثم بعدهما الشيطان! وكيف أقتل الجسد ببصره وسمعه وذوقه وشمه ولمسه؟ أقتله بالجوع الذي يُذبِله ويُفنيه، ثم كيف أقتل النفس؟ أقتلها بطمس شهواتها ورغباتها وميولها وغرائزها وعواطفها وانفعالاتها! فافرض أنني قد أفنيت ما أفنيت من جسدي، وقتلت ما قتلت من نوازع نفسي، فكيف أقتل العدو الثالث الذي هو الشيطان؟ وهل يبقى لهذا الشيطان مَطمع في جسدٍ ذوى ونفسٍ جفَّت عصارتها؟ وهل يُمكِن لصاحب جسد ونفس كهذَين ألا تهوِّم في رأسه أطياف وأشباح هي التي — إذا ما استيقظ وعيه لحظة من غيبوبته — قد يُطلِق عليها اسم «الحق»؟! إنني لأذكُر في هذا الصدد تجربة قام بها العالم النفسي الحديث «وليم جيمس»، وهي أنْ عرَّض بعض أشخاص تجاربه لرائحة الغاز إلى الدرجة التي أفقدتهم القدرة على تركيز الحواس فيما حولهم، فطفِقوا ينطقون بعبارات، سجَّلها الباحث، فإذا هي شديدة الشَّبه بما يزعم لنا كثير من أهل التصوف أنهم رأوه أو سمعوه.

ولنمضِ مع الشيخ «الكبرى» في حديثه؛ فلقد أراد أن يبصِّرنا ببعض ملامح الأعداء الثلاثة التي أوصانا بقتلها إذا أردنا للبصيرة منا أن تُدرِك الحق، وألفت نظر القارئ هنا إلى استخدام المتحدِّث للألوان في وصفه. فأما الوجود المادي، وهو العدو الأول، فهو في بداية الأمر «ظلمة شريرة»، حتى إذا ما صفا قليلًا اتخذ هيئة «الغيم الأسود»، لكنه إذا ما حل به الشيطان كان ذا لون أحمر؛ فلو أصلحت من أمر وجودك هذا — أي جسدك — على النحو الذي أوصانا به الشيخ المتصوف، وهو أن تقتله بالجوع، «صفا وابيضَّ مثل المزن.»

ويجيء دور العدو الثاني — النفس — فلونها أمام الرائي أزرق كزرقة السماء، «ولها نبَعانٌ كنبَعان الماء من أصل الينبوع»، فإذا ما حل بها الشيطان تحوَّلت وكأنها «عينٌ من ظلمة ونار.» وأما العدو الثالث — الشيطان — «فقد يتشكل قدَّامك كأنه زنجي طويل ذو هيئة عظيمة، يسعى كأنه يطلب الدخول فيك، وإذا طلبت منه الانفكاك فقل في قلبك: يا غياث المُستغيثين أغِثني! فإنه يفرُّ عنك، واعلم أنه يُبصِر بك وتُبصِر به، وثيابه مخيطةٌ بثيابك، فإذا فصلت ثيابك من ثيابه، عمي بصره وتعرَّى عن ثيابه» (ص٣). صورٌ تصلح أن تُساق في قصيدة من الشعر ليعبِّر بها الشاعر عن نفسه المكروبة كيف تلتمس طريق خلاصها. أما إذا رأيناها بغير منظار الشعر — ومن الشعر ما هو أقرب شيء إلى رؤى الأحلام — فعندئذٍ يكون ضلالنا الذي لا يُسأل عنه صاحب القول المقروء.

ولعل الشيخ بعد أن كتب ما وصف به الشيطان من أنه «نار» أخذه القلق لعِلمه بأن «الذِّكر» (أي «الله») نار كذلك، وإذن فيتحتم أن يفرِّق لنا بين نارَين؛ حتى لا نخلط بين نار هي الجلال نفسه ونار هي الشيطان، فيقول: «الفرق بين نار الذِّكر ونار الشيطان، أن نيران الذكر صافية سريعة الحركة والصعود إلى الفوق، ونار الشيطان في كدر ودخان وظلمة، وكذلك بطيئة الحركة. وكذلك يُفرَّق بين النارَين بطريقة الحالة؛ فإن السيَّار (= السالك طريق التصوف) إذا كان في ثِقل عظيم وضيق صدر، وقد تعذَّر عليه الذِّكر، ولا ينطلق له القلب، ولا ينشرح له الصدر، وكأن أعضاءه كادت تُرضُّ رضًّا بالحجارة وهو يُشاهِد النار المظلمة، فهي نار الشيطان؛ وإن كان السيار في خفة ووقار وشرح صدر وطيبة قلب وطمأنينة، وهو مع ذلك يرى نارًا صاعدة صافية، مثل ما يُشاهِد أحدنا النار في الحطب اليابس، فهي نيران الذِّكر في فضاء الصدر» (ص٤). فليُمتِعنا هذا التصوير الشعري لما يكون من فرق بين حالة يشيع فيها الضيق وأخرى تنفرج فيها الغمة، لكن هذا كله شيء، والوقفة العقلية من هذه المشكلة نفسها — ضيق النفس أو انفراجها — شيء آخر.

ولا يفوت هذا الشيخَ المتصوف الكاتب أن يُدرِك الفرق بين «ما نعلَمه بعقولنا» و«ما نُشاهِده بالعيان»؛ أي بالبصيرة؛ ففي عبارة جميلة — بمقاييس الشعر — يصوِّر لنا كيف يُمكِن «أن نُشاهِد عيانًا ما علِمناه عقلًا»؛ وذلك بأن نقتل من أنفسنا مقوماتها ولو إلى حد محدود، وما تلك المقومات إلا ضروب أربعة من الوجود: تُرابيٌّ ومائي وناري وهوائي، وهي كلها معوِّقات لا نتخلص منها خلاصًا كاملًا «إلا بالموت الكبير الأخير»، لكننا — إلى أن يجيئنا هذا الموت الكبير الأخير — نستطيع أن نُفني من هذه المعوِّقات بعضها؛ فعندئذٍ تتكشف لك رُؤًى عجيبة، يقول الشيخ نجم الدين: «إذا شاهدت بِحارًا تعبُرها وأنت فيها مُستغرِق، فاعلم أنه فناء الحظ المائي، وإذا كانت البحار صافية وفيها شموس غريقة أو أنوار أو نيران، فاعلم أنها بحار المعرفة!» ليلحظ معي القارئ هذه الصور الجميلة يرسمها صاحب رؤية فنية؛ فهي إن لم تكن أحلامًا رآها الشيخ بالفعل في نعاسه، فهي كالأحلام يذكرها ويذكر تأويلها معها؛ فإذا أنت أفنيت الجانب المائي من طبيعتك، رأيت نفسك وكأنك تعبُر بحارًا صافية في أعماقها شموس ساطعة وأنوار ونيران. ومعنى ذلك أنك عندئذٍ قد انجاب عنك غشاء الجهل وجاءت إليك المعرفة دافقة في صدرك. ثم يمضي الشيخ في تصويره: «وإذا شاهدت مطرًا ينزل، فاعلم أنه مطر ينزل من مَحاضر الرحمة لإحياء أراضي القلوب الميتة.»

ولنقطع حديث الشيخ «الكبرى» لحظة لنعود إليه بعد حين، فنضع بين يدَي القارئ قولًا آخر لمتصوف آخر عظيم القدر في دنيا التصوف، هو «عبد القادر عبد الله السهروردي»، أورده في كتابه «عوارف المعارف» تأويلًا للآية القرآنية: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا؛ لنرى كيف تتشابه الرؤى عند المتصوفة؛ فالمطر عندهم — من التصور الشعري — معرفة تهتدي إليها القلوب برحمة من السماء، يقول السهروردي في تأويل هذه الآية ما معناه إن «الماء» هنا هو «العلم»، و«الأودية» هي «القلوب». ويستشهد ﺑ «ابن عطاء» الصوفي في قوله تعليقًا على قول الله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً: «هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للعبد، وذلك إذا سال السيل في الأودية، لا يبقى في الأودية نجاسة إلا كنسها وذهب بها، كذلك إذا سال النور الذي قسمه الله تعالى للعبد في نفسه لا تبقى فيه غفلة ولا ظلمة.» وكذلك يستشهد السهروردي في تأويل أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بمتصوفة آخرين غير «ابن عطاء»؛ فقد قال بعضهم إن الماء الذي أنزل الله من السماء هو «الكرامات»، يأخذ منها كل قلب بحظه ونصيبه، وأما الأودية التي يسيل فيها ماء «الكرامات» فهي قلوب علماء التفسير والحديث والفقه، وكذلك تسيل بذلك الماء النازل — ماء العلم أو ماء الكرامات، أيَّ تفسير منهما شئت — قلوب الصوفية من العلماء الزاهدين في الدنيا، المتمسِّكين بحقائق التقوى، وهي تسيل بقدرها؛ فمن كان في باطنه لوث محبة الدنيا من فضول المال والجاه وطلب المناصب والرفعة، سال وادي قلبه بقدره، فأخذ من العلم طرفًا صالحًا، ولم يحظَ بحقائق العلوم؛ ومن زهد في الدنيا اتسع وادي قلبه فسالت فيه مياه العلوم» (عوارف المعارف، ص١٣-١٤).

هكذا وجد السهروردي — وغيره ممن استشهد بأقوالهم — المطر النازل من السماء يراه المتصوف في الحلم (أم هل يقصدون أن المتصوف يراه في يقظته الحالمة؟ لا أدري) معرفة بأسرار الحق ينفتح لها قلب الزاهد، كما رأينا الدلالة الرمزية نفسها عند نجم الدين الكبرى. ولنعُد إلى الشيخ نجم الدين في تصوراته لمن أهلك من نفسه جوانبه المادية ماذا يرى؟ ولقد أسلفنا القول فيما يراه من أمات جانبه المائي كيف يجد نفسه خائضًا في بحر المعرفة خوضًا، وشموس المعرفة وأنوارها هناك تسطع في القاع، ومطر المعرفة هاطل عليه من السماء؛ فالماء يُحيط به من كل أقطاره، ليعوِّضه عما قد تخلَّص منه، وأعني الجانب المائي من طبيعته! ولننظر فيمن تخلَّص من عنصره الناري ثم من عنصره الهوائي كيف يكون: «إذا شاهدت نيرانًا وأنك خائض فيها ثم تخرج عنها، فاعلم أنه فناء الحظوظ النارية؛ وإذا شاهدت بين يدَيك فضاءً واسعًا ورحبًا شاسعًا ومن فوقه هواء صافٍ، وترى في نهاية النظر ألوانًا كالخُضرة والحُمرة والصفرة والزرقة (ليلحظ القارئ انشغال الشيخ بالألوان في تصويره)، فاعلم أن عبورك على هذا الهواء إلى تيك الألوان، علامة حياة الهمة، والهمة معناها القدرة» (فوائح الجمال وفواتح الجلال للشيخ نجم الدين الكبرى، ص٦-٧). ويقول المؤلف في ختام عبارته «الملونة» السالفة إن أمثال هذه المعاني التي يراها المتصوف مصوَّرةً في تلك الصور، إنما هي معانٍ تنطق بأنفسها، بلسانَي الذوق والمُشاهَدة؛ فإنك تذوق بنفسك ما تُشاهِده ببصيرتك، وتُشاهِد ببصيرتك ما تذوقه بنفسك، «وهو أنك متى شاهدت الخضرة أحسست من قلبك انطلاقًا، ومن صدرك انشراحًا، ومن نفسك طيبة، ومن روحك لذاذة، ولبصيرتك قرة، وهذه صفات الحياة.» فالألوان ألسنة تنطق بالحق للمتصوف، إذا وجدها بارقة فهو ميسَّر له في طريقه، وإذا رآها باهتة صفراء فهو في شدة وكرب مما يُعاني من أفاعيل الشيطان. وكأنما يريد الشيخ نجم الدين أن يؤيِّد هذه الإشارة بما نراه جميعًا في طبائع الأشياء والأحياء من حولنا؛ ألا تدل خضرة النبت على قوته وحياته وسرعة نموه، بقدر ما تدل صفرته على ضعفه وذبوله؟ ثم ألا تدلُّك ألوان الوجوه على عوارض خافية ما لم يُفصِح عنها لون الوجه؛ فحمرة الوجه تدل على شيء، وصفرته تدل على آخر وهكذا؟ ونحن نُعيد ما قلناه مرة ومرة وثالثة: هذا كله تصوير جميل لرؤية المتصوف ورؤاه؛ فهي معرفة لحقائق الأشياء ﺑ «الذوق» وبالعيان المباشر، ولكن هذا كله شيء، والنظر العقلي شيء آخر.

يروي لنا هذا الشيخ المتصوف — نجم الدين الكبرى — عن نفسه؛ كيف صعد إلى السماء، أو نزلت السماء إليه — لا أدري — فيقول: «عرَّجني ملَكٌ فجاء من وراء ظهري، فالتزمني وحملني ودار إلى وجهي، فقبَّلني، وتشعشع نوره في بصيرتي، ثم قال: بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. وعرَّج بي قليلًا ثم وضعني. كنت أسمع وقت السَّحر — وأنا ذاكر في الخلوة — تسبيح الملائكة، وكأن الحق نزل إلى السماء الدنيا، فأسرعت الملائكة في قولهم كأنهم خافوا وطلبوا النجاة، كالصبي يخاف الأب إذا غضب عليه وهمَّ بالضرب، فيقول: تُبتُ! تُبت!» (ص١٠ من المرجع المذكور).

ومثل هذا القول — بمعناه إن لم يكن بلفظه — مما تراه شائعًا في كتابات المتصوفة. وأما أنه بعيد عن المعقول بُعدَ المجرة والسديم فذلك واضح، ولكنني أريد أن أضيف إلى ذلك أنه قول لا أراه يندرج حتى فيما يجوز أن يُعَد وجدانا شعريًّا؛ لأنه ليس بذي مضمون على الإطلاق، لا من جهة «العقل»، ولا من جهة «الشعور»، وإذن فماذا يكون؟ إنه لا شيء، فلا نفع لنا من ورائه ولا إيحاء بما ينفع، ولا غذاء فيه لقلب ولا إيحاء بما يُريح القلب ويُرضي.

ومع ذلك ففي وهم هذا الشيخ أنه قال بالعبارة التي أسلفناها كلامًا يُعَد من «خواطر الحق»؛ ذلك أنه يعقِّب عليها بتعليق أراد به أن يفرِّق بين ما أسماه «خاطر الحق» وما أسماه «خاطر النفس»، فقال: «خاطر الحق يكون إلهامًا، والإلهام صحيح، وإذا خطر لا يعترض عليه عقل ولا نفس ولا شيطان ولا قلب ولا ملَك، ثم هذا الإلهام تارة يكون في الغيبة فيكون أشد ظهورًا وأقرب إلى الذوق، والسر فيه أن الخواطر الحقانية هي العلم اللدني، وهي ليست في الحقيقة خواطر، بل هو علم أزلي، علَّمه الله الأرواح حين خاطبهم: ألست بربكم؟ قالوا بلى! وعلَّم آدم الأسماء كلها، فتعلَّمت هي كذلك بالعلم اللدني، إلا أن العلم قد يُستَر بظلام الوجود؛ فإذا صفا السيار (أي المتصوف) وغاب عن الوجود ظهر العلم اللدني، أو حكمٌ من أحكامه، فيرجع السيار إلى الوجود ومعه العلم وهو الإلهام، وصار كالخط المكتوب على اللوح إذا اندرس بغبار وقع عليه ثم أُزيلَ الغبار فيظهر الخط» (ص١١).

لو أننا قرأنا لشيخنا هذا كلامًا كهذا على سبيل التفكهة التي نخفِّف بها عبوس الحياة العصرية بكل ثقلها، لقلنا: نعم ونعامَ عين! أما أن نقرأ في التراث صحائف مُلئت بمثل هذا «العلم اللدني» الذي ينبثق في النفس إبان غيبوبتها عن الوجود، ثم نشتمُّ فيه شيئًا من رائحة الجد، فتلك هي النكبة! وقد تسألني: وهل منا مَن يقرأ لأمثال هؤلاء قراءةَ الجاد؟ فأجيبك: بأنني قد صادفت رجالًا، لا من عامة الناس وطغامهم، بل كانوا من أساتذة الجامعات، قد مُلئت شعاب رءوسهم بمادة كهذه، يصدِّقونها ثم يحملون طلابهم على تصديقها وإجلالها احترامًا للسلف.

وبعد، فانظر كيف يستطرد الشيخ في حديثه ليصل إلى ما يكون عليه المتصوف من قوة على تحقيق المعجزات الخوارق، وكأنه لم يعُد بشرًا من البشر، وكأن الطبيعة قد تحوَّلت لعبةً يلهو بها طفل كيف شاء، يقول: «الذوق والمشاهدة ثابتان معًا، إلا أن المشاهدة (يعني مشاهدة «الحق») سببها فتح البصيرة بكشف الغطاء عنها، والذوق سببه تبديل الوجود والأرواح، والذوق هو الوجدان بما يأتيك، ويدخل في هذا التبديل تبديل الحواس (أرجو من القارئ أن يقرأ هذه الأسطر متمهِّلًا)؛ فإن الحواس الخمس تتبدل بحواس أُخَر، ومثاله النوم؛ فإنه مهما نام واستخلص قليلًا عن أثقال الوجود، انفتحت حواس أُخَر إلى الغيب، من عين وسمع وشم وفم ويد ورجل ووجود آخر، فيرى ويسمع ويأخذ من لُقَم الغيب ويأكل — وربما يقوم من نومه بعد الأكل فيجد لذة الطعام في فمه — ويتكلم ويمشي ويبطش ويصل إلى البلاد القاصية، ولا يحجبه البعد، وذلك وجود أكمل من هذا، وربما تجد في ذلك الوجود قوة الطيران والمشي على الماء والدخول في النار ولا يحترق، ولا تحتسب هذا جزافًا! بل هو حقيقة! وهو أخ الموت، فما يجده العامي في منامه بحسب قوة وجوده الأدنى، يجده السيار (أي المتصوف) بين اليقظة والمنام، لضعف وجوده الخسيس، وقوة وجوده الشريف النفيس، ثم يقوى هذا الوجود الشريف فيقع الفعل إلى عالم الشهادة، فيطير ويمشي على الماء ويدخل في النار فلا يضره. والحاضر معه (أي من يُجالِسونه من سائر الناس) محجوب بالوجود الكثيف، لا يجد ذلك» (ص١٨).

هكذا يقول المتصوف من الأقدمين، وهكذا أيضًا يردِّد قولَه ألوفُ الناس من المعاصرين، منهم العامة ومنهم العلماء! وخلاصة القول مرة أخرى هي هذه: أليس يرى النائم فيما يحلم أنه قد يفعل أي شيء مما يستحيل عليه فعله ساعات الصحو؛ لأن الواقع العنيد يأبى عليه عندئذٍ أن يتحكم فيه إلا بما تسمح له به قوانينه الطبيعية؟ فإذا جاز هذا في النوم دون الصحو لعامة الناس، فإنه بالنسبة لأصحاب الوجود الشريف النفيس (كالمتصوفة) يجوز في النوم وفي الصحو على حدٍّ سواء. إن الرجل من عامة الناس قد يحلم بأنه يطير في الهواء أو يمشي على الماء أو يدخل في النار فلا يُصيبه الأذى، فكذلك الرجل من الطائفة المقرَّبة قد تفعل هذه الأفعال كلها في دنيا الواقع وعلى مرأًى من الناس ومسمع! وأترك لكل قارئ أن يستعيد من ذكرياته الخاصة كم مرة سمع ممن تحدَّثوا إليه عن رجال يفعلون هذه الخوارق نفسها، يفعلونها اليوم الذي هو عهد الصواريخ تشق السماء لتهتك أستارها. والذي أردت أن أقوله هنا هو أن مثل هذا «اللامعقول» لا يصح له بقاء.

٦٤

تفتح الطبيعة كتابها لكل ذي عينَين فيقرأ قوانينها في ظواهرها، ثم يتعامل معها على أساس تلك القوانين، وعندئذٍ يركب هواءها ويغوص في مائها ويستنبت أرضها ويستخرج خبيئها أشكالًا وألوانًا، على أن يتم له ذلك كله في إطار قوانينها، على غرار ما يتحدث إنسان إلى إنسان بلغته ليتفاهما، وذلك هو سبيل «العقل»، لكن سبيل العقل إنما هو سبيل الأقوياء الصابرين على إمعان النظر في ظواهر الطبيعة لمعرفة طرائقها في السير والفعل والتفاعل. أما إذا أقعد العجز نفرًا عن متابعة العقل في سبيله، ثم ظلوا على رغبتهم في استخدام الطبيعة لأغراضهم، فماذا يبقى أمامهم سوى أن يلتمسوا لأنفسهم طريقًا مختصرًا إلى الغاية المنشودة؟ هل يريدون للمريض أن يُشفى من علته؟ إذن فلماذا يبحثون ويفحصون فيصدِّعون رءوسهم بالبحث والفحص عن أصل العلة من جراثيم وغير جراثيم؟ إن فلانًا الفلاني قد كرَّمه الله بأن جعل فيه السر المكنون، ويستطيع أن يكتب لك أحرفًا هو عليم بقدراتها، فإذا هي الوسيلة العاجلة إلى شفاء سريع! أم هل يريدون طعامًا من جوع وليس في الدار ما يتبلغ به الجائعون؟ إذن فلا عليهم من ارتياد الأسواق واجتلاب الأرزاق من مصادرها، فها هو ذا فلان الفلاني على صلة بالسماء تمكِّنه من لمسة بأصابعه أو تمتمة بشفتَيه، فإذا قدور الدار مَلأى باللحم والمرق والأرز وما شاءوا من ألوان الطعام! وتلك «كرامات» يهبُها الله لمن شاء من عباده المقرَّبين، كأنما الله سبحانه يُرضيه أن تسري الفوضى في مخلوقاته بدل أن تنتظمها قوانينها!

جاء في «الرسالة القشيرية في علم التصوف» عن الكرامات قوله: «ظهور الكرامات على الأولياء جائز، والدليل على جوازه أنه أمرٌ موهومٌ حدوثه في العقل، لا يؤدي حصوله إلى رفع أصل من الأصول، فواجبٌ وصفُه — سبحانه — بالقدرة على إيجاده، وإذا وجب كونه مقدور الله سبحانه فلا شيء يمنع جواز حصوله.» ونحب أن نسوق على هذا القول العجيب ملاحظتَين: الأولى هي أنه إذا كانت الكرامات جائزة الحدوث على مقتضيات «العقل» كما يزعم صاحب «الرسالة»، فما حاجته بعد ذلك إلى التعليل بقدرة الله تعالى على إيجاد الكرامات؟ إن هذا التعليل الأخير إنما يعني أن الله هو القادر على أن يغيِّر من مجرى الطبيعة كما يشاء، ثم له تعالى أن يهبَ هذه القدرة لمن يشاء، فتكون النتيجة هي «كرامات» هؤلاء القادرين، وأما إذا وسَّعنا من مجال التطبيق بحيث يشمل كل ظاهرة طبيعية في الأرض أو في السماء، مما يقع تحت حساب العلوم، فأين يكون امتياز أصحاب الكرامات؟ والملاحظة الثانية هي أن صاحب «الرسالة» قد أطلق لنفسه الأعِنَّة كلها، لا العنان الواحد، في استخدامه لكلمة «عقل» حين قال إن ظهور الكرامات جائز لأنه أمر لا يُناقِض «العقل». إن أبسط معاني «العقل» هو أن نفهم الكلمة بمعناها اللغوي، وهو أنه «عقال» أو «قيد» يحدُّ من حرية الحركة فلا يجعلها سائبة تتجه أينما شاءت الرغبات، فمِن بين الطرق الكثيرة التي قد ينتهجها إنسانٌ ما حيالَ موقف معيَّن، طريق واحد يرضى عنه «العقل»، وأما الأخرى فمُمكِنة الحدوث ولكن على أساس النزوة والهوى. إنه إذا كان طريق العقل في إبلال المريض من مرضه هو أن يُحقَن بالعقار الفلاني — مثلًا — فكيف يكون طريقًا للعقل أيضًا أن يُتمتِم له صاحب الكرامة بكلمات فإذا الكلمات لها فعل العقار؟ إن طريق العقل واحد، وأما اللاعقل فله ألف ألف طريق؛ فقد كان من حق صاحب «الرسالة» أن يقول: «إن ظهور الكرامات على الأولياء جائز بغير دليل.» وأما أن يقول إنه جائز ﺑ «دليل» أن «العقل» لا يُناقِضه فقد وضع فعل الكرامة — في هذه الحالة — على مستوًى واحد مع سائر أفعال الظواهر الطبيعية التي ضبطها العلماء ضبطًا رياضيًّا؛ أعني أنه بذلك قد أزال عن الكرامة خصوصيتها التي هي أن تجيء مضادة لما يجري على سنن العقل مما يستطيعه كل رجال العلوم.

وانظر إلى ما يقوله صاحب الرسالة القشيرية بعد أن أورد لنا عبارته السالفة الذِّكر: «هذه الكرامات قد تكون إجابة دعوة، وقد تكون إظهار طعام في أوانِ فاقةٍ من غير سبب ظاهر (الحظْ أيها القارئ قوله: «من غير سبب ظاهر.» لتزداد عجَبًا بعد ذلك أن يكون مما يتفق مع العقل أشياء تحدث من غير سبب ظاهر، وسنعود فيما بعد إلى التعليق)، أو حصول ماء في زمان عطش، أو تسهيل قطع مسافة في مدة قريبة، أو تخليص من عدو، أو سماع خطاب من هاتف، أو غير ذلك من فنون الأفعال الناقضة للعادة» (والحظْ أيها القارئ مرة أخرى قوله: «الأفعال الناقضة للعادة»).

بناءً على هذا القول، يُمكِن لصاحب الكرامة أن يُظهِر للجائعين خبزًا «من غير سبب ظاهر»؛ أي إنه يستطيع إظهار الخبز دون أن يكون هنالك الدقيق، ولا القمح الذي يسبق الدقيق، ولا شجرة القمح التي تسبق حبَّات الغلال، ولا التربة التي تنمو عليها شجرة القمح؛ لأنه لو كانت هنالك هذه السوابق التي تسبق الخبز، لكان لظهور الخبز سبب ظاهر، أما وصاحب الكرامة يُظهِره «من غير سبب ظاهر» فلا بد أن يكون قد أظهره من العدم، من «لا شيء» من عالم غير هذا العالم. وسؤالنا الآن ليس هو: كيف يتم له ذلك، بل نقتصر على السؤال: وهل تكون هذه هي الحالة، ومع ذلك تكون مما لا يتناقض مع «العقل»؟ إن لمن شاء أن «يُؤمِن» بما شاء، على أن يكون على وعي كامل بأن إيمانه في مثل هذه الحالة هو من «اللاعقل»؛ حتى لا يخلط في حياته بين معقول ولا معقول، وحتى يُمكِن للحوار بيننا أن يقوم على أساس مقبول إذا ما قلنا: إن جانب اللامعقول من تراث أسلافنا لا يجوز أن نسمح له بالتسرب في حياتنا العقلية الحاضرة.

إن أصحاب اللاعقل في تراثنا، وأتباعهم ثم أتباع أتباعهم الذين ما يزالون يملئون رحاب الأرض، إنما ينظرون إلى الطبيعة وتصاريفها نظرة الساحر لا نظرة العالم، فما السِّحر؟ هو محاولة استحداث النتائج عن غير أسبابها؛ فإذا كان نزول المطر نتيجة لعوامل مناخية معيَّنة، يُحاوِلون هم أن يستنزلوه بقراءة التعازيم من كَلمٍ يظنون به القدرة على فعل ما يريدون، وإذا كانت مقاتلة العدو في ساحة الحرب بحاجة إلى دبابات وطائرات ومعها مهارة وتدريب عند المقاتلين حتى يُمكِن التغلب على ذلك العدو، فهم يأملون أن يُنزِلوا بعدوهم الهزيمة بكلمات الدعاء يوجِّهونها إلى السماء، وهكذا قُل في شتى جوانب الحياة.

للكلمات عندهم، بل لأحرف هذه الكلمات، قُوًى سحرية تفعل الأعاجيب؛ فهذا هو الشيخ المتصوف الذي أتينا بفقرات من كتابه تصوِّر لنا عقيدة الصوفي في قدراته الخوارق؛ أعني الشيخ نجم الدين الكبرى، هذا هو ينظر في أحرف المد الثلاثة: الألف والياء والواو، فلا يجدها مجرد أحرف للفتح والكسر والرفع، بل يجعل من الألف رمزًا مُشيرًا إلى السماء، ومن الياء رمزًا مُشيرًا إلى الأرض؛ وإذن فالألف تستدعي بقوتها قوى «الحق» العلوي، وأما الياء فنصيبها موجَّه نحو ما هو كائن على الأرض بما في ذلك قلب الإنسان بكل ما يختلج به من مشاعر، وأما الواو فشأنها آخر؛ لأنها وسط بين النصب والكسر؛ ولذلك فهي الحرف الذي يمثِّل «الروح» إذ الروح هي همزة الوصل بين «الحق» سبحانه، وبين الخلق من كائنات الأرض، فهي تسكن الأبدان الأرضية من جهة، لكنها تصعد إلى السموات العُلا من جهة أخرى؛ ولهذا كانت الواو عند هذا الشيخ هي بمثابة الأمر الذي انتقل من قول الله تعالى: «كن» إلى المخلوقات التي تكوَّنت بفعل ذلك الأمر. ويستطرد الشيخ في قوله، فيتناول قول الله عز وجل: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي بالتفسير، وهو يرى في ذلك أن هذه الآية الكريمة هي تفسير لمعنى الروح، وليس هو بالسكوت عن ذلك المعنى كما يشيع بين الناس؛ فالروح — التي يمثِّلها حرف الواو لوقوعه وسطًا بين الألف والياء — هي «الأمر» الإلهي الصادر بقوله «كن» لما يراد خلقه «فيكون». وما دامت هذه الأحرف الثلاثة عنده لها هذه القوة، فلا بد أن يكون لها كذلك سلطان أي سلطان على خلق الأحداث أو تغيير مجراها (انظر «فوائح الجمال وفواتح الجلال» للشيخ نجم الدين الكبرى، ص٥٣).

وهذا صوفي آخر، هو جعفر الخلدي، يتناول كلمة «الصمد» حرفًا حرفًا ليستشفَّ قواها الكامنة في حروفها، فيقول إنها من حروف خمسة: ا ل ص م د؛ فأما «الألف» فدليل على أحديته، و«اللام» دليل على إلهيته، وهما مُدغَمان لا يظهران على اللسان ويظهران في الكتابة، فانطق بلسانك عبارة «الله الصمد» تجد أول حرف ورد على لسانك بعد اسم الجلالة هو حرف «الصاد»، وأما الألف واللام فيختفيان في النطق، لماذا؟ لأن أحديته وإلهيته خفية مستورة الحقيقة؛ وذلك لأنه لا يُدرَك بالحواس ولا يُقاس بالناس؛ فخفاؤه في اللفظ دليلٌ على أن العقول لا تُدرِكه ولا تُحيط به علمًا، وأما إظهاره في الكتابة فدليل على أنه يظهر على قلوب العارفين، ويبدو لأعين المحبين في دار السلام. ثم ينتقل المتحدِّث الصوفي إلى الأحرف الثلاثة الباقية من كلمة «الصمد» — أي بعد تأويله لما يكمن في الألف واللام من رمز له قوته — فيقول إن حرف «الصاد» تُشير إلى أنه — سبحانه — صادقٌ، وإن «الميم» تدل على أنه مالك الملك، وأن كل ملك غير ملكه زائل، وأن «الدال» معناها دوامه — تعالى — في أبديته وأزليته (راجع كتاب «علم القلوب» تأليف: أبو طالب المكي، ص١٢١).

ونضرب مثلًا ثالثًا وأخيرًا لوقفات المتصوفة من الحروف، محيي الدين بن عربي في رسالة له عنوانها «كتاب الميم والواو والنون»، فاسمع ما يقوله هذا الشيخ الجليل في رسالته تلك: يبدأ بحمد الله الذي اختص أهل المعروف (ويعني المتصوفة) بخصائص الأسماء وخواص الحروف؛ فقد أراد الله تعالى للحروف أن تكون أمة من الأمم! أرجو القارئ أن يتأمل هذه المعاني العجيبة؛ فللأسماء خواص غير كونها أسماء تسمِّي أشياء بعينها، وللحروف كذلك خواص تجعل لكل حرف فاعلية في تسيير الأحداث إذا ما عرف المحرِّكون له كيف يستثيرون أسراره الكوامن فيه؛ فليست الأحرف رموزًا تُشير إلى مجموعة أصوات جاءت اتفاقًا بين المتكلِّمين بلغة واحدة، كلا، بل هي أقرب شيء إلى مجمع من أحياء كأنها أمة من الأمم.

وينتقل ابن عربي بعد فاتحة الحمد هذه، إلى القول بأن «أسنى الحروف وجودًا، وأعظمها شهودًا: «الميم» و«الواو» و«النون» المعطوفة أعجازها على صدروها.» يريد أن يقول إن هذه الحروف الثلاثة — دون سواها — هي التي إذا ما نُطقت (أو كُتبت) جاء كلٌّ منها من أحرف ثلاثة؛ أولها مكرَّر في آخرها، ويتوسط بينهما حرف علة هو الياء في «ميم» والألف في «واو» والواو في «نون»، ثم يزعم لنا ابن عربي أن حروف العِلل هذه «مؤيَّدة بسلطانِ «كن» ليكون ما لا بد أن يكون.» وما مَغزى أن تكون الأوائل والأواخر موحَّدة في «ميم» و«واو» و«نون»؟ مغزاه أنها إشارات لما ليس له أول ولا آخر! «اعلموا — وفَّقكم الله — أن الحروف سرٌّ من أسرار الله تعالى، والعلم بها من أشرف العلوم.» «ولتعلموا أن العلم بالحروف مقدَّم على العلم بالأسماء تقدُّم المفرد على المركَّب، ولا يُعرَف ما يُنتجه المركب إلا بعد معرفة نتيجة المفردات التي تركبت عنه.»

«فأما (الواو) فهو حرف شريف له وجوه كثيرة ومآخذ عزيزة، وهو أول عدد تام، فإن له من العدد ستة؛ فأجزاؤه مثله وهي: النصف وهو ثلاثة، والثلث وهو اثنان، والسدس وهو واحد؛ فإذا جمعت السدس إلى الثلث إلى النصف كان مثل الكل؛ فيُعطي «الواو» — عند أصحاب الحروف — ما تُعطيه الستة من العدد عند العدديين، كالفيثاغوريين ومن جرى على مذهبهم. فمن وقف على أسرار «الواو» تنزل به الروحانيات العُلا تنزلًا شريفًا» (راجع «رسائل ابن عربي» وفيه ست عشرة رسالة).

ولنقِف هنا وقفة قصيرة شارحة. يقول ابن عربي في الفقرة الأخيرة السابقة إن حرف «الواو» هو أول عدد تام لأن له من العدد ستة، وهو بذلك يُشير إلى ضرب من الترقيم للحروف كان شائعًا لإظهار قوة تلك الحروف؛ فالأبجدية مرتَّبة هكذا: أ ب ج د ﻫ و … كانت تُرقَّم الأحرف التسعة الأولى منها بالأرقام من واحد إلى تسعة بالترتيب؛ فالألف يُقابلها العدد واحد، والباء يُقابلها العدد اثنان … وهكذا حتى تصل إلى حرف الواو، فتجد أن ما يقابله هو العدد ستة، وما قيمة ذلك؟ قيمته هي أن العدد ستة هو أول عدد «تام»، ومعنى التمام هنا هو أننا لو جزَّأناه إلى أجزائه: النصف والثلث والسدس، وجدنا أن مجموع هذه الأجزاء تُماثِله. إن كاتب هذه السطور ما يزال يذكُر كيف كان وهو في الريف المصري يقرأ على أغلفة الخطابات دائمًا كلمة «بدوح» بعد كل عنوان، ويتساءل ما معناها وما سرها ولماذا تُضاف في آخر العنوان على الغلاف؟ فكان يُقال له إنها كلمة تُضاف لتضمن الخير والسعادة لمن أُرسِل إليه الخطاب؛ فلما اتسعت قراءته فيما بعد، عرف أن هذه الأحرف الأربعة: ب د و ح، لها في حساب «الجُمَّل» — هكذا يُسمُّون المقابلة بين الحروف والأعداد — الأعداد التالية: ٢ – ٤ – ٦ – ٨، وهي كلها أعداد زوجية تتوالى في ترتيب الأبجدية، وأن هذا التوالي للأعداد الزوجية يتضمن مَعاني الخير. وقد كان مألوفًا لنا كذلك — أيام الصِّبا — أن نجد الشعراء المادحين لذوي الجاه يحرصون على أن يجيء البيت الأخير من القصيدة بحيث تدل أرقام حروفه على اسم الممدوح. وإنما ذكرت هذه الذكريات لأدل بها على مدى تغلغُل هذا الجانب اللاعقلي الذي تركه لنا بعض السلف إلى أعماق النفوس على امتداد الزمن.

ونعود إلى الفقرة الأخيرة من حديث ابن عربي عن حرف «الواو»، فنراه يقول إن هذا الحرف «يُعطي — عند أصحاب الحروف — ما تُعطيه الستة من العدد عند العدديين كالفيثاغوريين ومن جرى على مذهبهم.» فلعل القارئ يُلمُّ بطرف من الفلسفة الفيثاغورية القديمة — التي كان لها أبعد الأثر فيمن جاء بعد اليونان كالعرب وغيرهم — وهي الفلسفة التي أرادت تفسير الطبيعة بالرياضة، ولولا غلطة أصابتهم في الأساس، لجاءت فلسفتهم تلك أول صيحة نحو الفكر العلمي بمعناه في أيامنا، وهو فكرٌ يردُّ قوانين الطبيعة إلى صِيَغ رياضية؛ أي إنه فكرٌ يردُّ الصفات الكيفية التي تُدرِكها حواسنا من الأشياء إلى مقادير كمية، وأما الغلطة التي أصابتهم في الأساس فضيَّعت عليهم سداد الفكرة، فهي أنهم وحَّدوا في تصورهم بين «النقطة» في الهندسة و«الواحد» في الحساب؛ فإذا كانت النقطة يُعادِلها الواحد، وجدنا أن كل شكل من أشكال الكائنات المكانية يُمكِن النظر إلى طريقة تركيبه من نقاط المكان؛ لنعلَم بعدئذٍ العدد الذي يُقابِل ذلك التركيب. وليس المجال هنا مجال تفصيل في هذا الموضوع، وإذا أراد القارئ فليرجع إلى أي كتاب في تاريخ الفلسفة اليونانية، ويهمنا هنا الوقوف عند قول ابن عربي بأن حرف «الواو» عند أصحاب الحروف يُعادِل العدد ستة عند أصحاب العدد. وكأنما هو يريد بذلك أن يقول إننا نستطيع أن نفسِّر كائنات الطبيعة بأحد وجهَين، فإما فسَّرناها بما يُقابِلها من العدد كما فعل الفيثاغوريون قديمًا، وإما لجأنا في تفسيرها إلى ما يُقابِلها من الحروف كما يُحاوِل هو وسائر المتصوفة أن يفعلوا، لكن الفرق بعيد بين الحالتَين، والمغالطة هنا غليظة؛ فمحاولة الفيثاغوريين محاولة «عقلية»؛ لأنها تلتمس في الأشياء جانبها «الرياضي» الذي عمل على تكوينها كما هي مكوَّنة، وأما محاولته هو وأترابه أن يفسِّر الطبيعة بالحروف وأسرارها، فهي إنما تقع في صميم الصميم من اللامعقول، الذي يلتمس النتائج في غير أسبابها.

٦٥

لقد انصرف أسلافنا بكثير من جهودهم الفكرية نحو «الأولياء» و«كراماتهم»، حتى لقد أخذوا يفرِّقون بقدرة تحليلية ميَّزتهم في إدراك الفوارق الطفيفة التي تختلف بها الطوائف والمذاهب بعضها عن بعض، أقول إنهم أخذوا بهذه القدرة التحليلية يفرِّقون بين «النبوة» و«الولاية»، ثم بالتالي بين «معجزات» أولئك و«كرامات» هؤلاء، بل ذهبت بهم الموازاة بين الصفتَين إلى حد أن جعلوا للأولياء «خاتمًا» (أو «ختمًا») كما أن للأنبياء خاتمًا هو محمد عليه السلام. وواضحٌ لي أن هذا الجهد الفكري كله، من أوله إلى آخره، مهما تكن أهميته وخطورته بالنسبة لأسلافنا، فلم تعُد بنا حاجة إليه اليوم إلا في حدود المَشوقين إلى دراسة التواريخ للدراسة ذاتها. وسنختار كتابًا نقِف عنده ليكون سبيلنا إلى توضيح الفكرة؛ لنفهم بعد ذلك وجهة نظر مؤيِّديها ووجهة نظر معارضيها من بين السلف أنفسهم، ودع عنك المعاصرين.

سنختار «كتاب ختم الأولياء» للحكيم الترمذي (تحقيق عثمان إسماعيل يحيى، عضو المركز القومي للأبحاث في باريس). ولقد سُمِّي الترمذي باسمه هذا نسبة إلى مدينة «ترمذ» مَسقط رأسه، وفيها قضى الشطر الأكبر من حياته، ثم على أرضها فاض روحه، وكانت حياته في غضون القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري).

ولقد صوَّره لنا فريد الدين العطار في كتابه «تذكرة الأولياء» تصويرًا حيًّا، فكان مما قاله عنه: «كان الشيخ الترمذي قد عقد النية في أول أمره على الرحلة لطلب العلم في رفقة اثنَين من إخوانه، وفي أثناء ذلك مرضَت أمه، فقالت له: يا بُنَي! إني امرأة ضعيفة، لا عائل لي، ولا مُعِين يُعِينني، وإنك المتولي لأمري، فإلى من تكِلني وتذهب؟ فنالت هذه الكلمات من نفسه، وعدل عن الرحلة، ومضى زميلاه في سبيلهما.

ثم مضى على ذلك بعض الوقت، فبينما كان في إحدى المقابر، يبكي بكاءً شديدًا ويقول: ها أنا ذا قد بقيت جاهلًا مُهمَلًا، وسيرجع أصحابي وقد حصلوا على العلم. إذا به يرى أمامه — فجأة — شيخًا مُشرِق الوجه، فسأله الشيخ عن سر بكائه، فأفضى إليه الفتى بحاله، فقال له الشيخ: ألا أعلِّمك في كل يوم شيئًا من العلم؟ فلا يمر عليك كثير وقت حتى تسبق إخوانك؟ فأجابه الفتى إلى ذلك، واستمر الشيخ على تعليمه كل يوم، ومضت على ذلك أعوام، ثم عرف الترمذي بعد ذلك أن الشيخ هو «الخضر» عليه السلام! وأنه إنما حصل على هذا ببركة دعاء أمه» (مأخوذ من مقدمة عثمان إسماعيل يحيى لكتاب «ختم الأولياء»، ص١٠-١١).

وكذلك ترك الترمذي بخط يده صحائف هامة كتبها بنفسه عن تربيته الروحية والعلمية، وإنها لوثيقة هامة من أي زاوية نظرت إليها؛ فهي أوثق ما نقرؤه عن حياته، ثم لعلها أن تكون أقدم نص نعرفه عن حياة رجل من رجال الفكر الإسلامي مكتوب بخط يده. نعم إنها ترجمة ذاتية شديدة الإيجاز؛ إذ هي لا تُجاوِز بضع صفحات، ولكن الذي استوقفني منها بصفة خاصة هي الأحلام التي أخذ يرويها عن زوجته، والتي كانت تراها في نومها عن حياة زوجها، ففيها لوحات تصويرية بديعة من الناحية الفنية، وأما قدرة الزوجة على كشف حجاب الغيب في رؤاها، فذلك أمر كان مقبولًا في عصره، ولكن علم النفس اليوم قد قال في ذلك كلمته.

ولكن فيمَ كتب الكاتب الصوفي كتابه «ختم الأولياء»؟ لقد كتبه ليوضِّح به فرقًا هامًّا بين صنفَين من «الذوق الصوفي»، ولقد وضع لنا معيارَين مختلفَين نقيس بكل معيار منهما صنفًا من ذَينك الصنفَين دون الآخر؛ أحدهما هو معيار «الصدق»، والآخر هو معيار «المنَّة». أما أولهما فيُستخدم حين يكون النشاط الروحي قائمًا على أساسٍ مِن عمل الإنسان ومكابدته وجهاده، وأما الآخر فيكون حين تجيء الفاعلية الروحية التي من شأنها أن يكون للمتصوف ما له من كرامات، «منةً» أو جودًا من الله تعالى، بغضِّ النظر عما قد يبدو لنا من عمله الظاهر وسلوكه الملحوظ؛ ففي هذه الحالة الثانية تأتي الهداية الربانية إلى من خُص بالمنة الإلهية، عن طريق الصلة المباشرة التي لا تحتاج إلى مراحل وسطى على الولي أن يجتازها.

عن المعيار الأول — الذي هو معيار «الصدق» — يقول الترمذي إن طريق السَّير أمام السالك ذات شعبتَين؛ شعبة منهما ظاهرة والأخرى باطنة. وهو يريد بذلك أن يقول إن هنالك قيدَين، أو التزامَين، لا بد أن يُراعيهما من أراد بلوغ منزلة الولاية عن طريق عمله؛ فمن حيث الظاهر ينبغي له أن يقيِّد جوارحه وكيانه البشري كله حتى ينحصر داخل الحدود التي رسمتها الشريعة، فلا تندُّ من نشاطه البدني حركة ولا كلمة تنحرف به عن الجادة المرسومة؛ وبهذا تنسجم الإرادة مع الفعل في اتساق يسلكهما معًا في إطار ما قد أحلَّه الشرع، لكن ذلك القيد المفروض على السلوك الظاهر لا يكفي وحده، بل لا بد أن يُضاف إليه رقابة باطنية شديدة تُراقِب النفس من داخل، وتُراجِع نزواتها لتصحِّح ما انحرف منها، بعبارة أخرى واضحة نقول إن الترمذي بهذَين القيدَين معًا، لا يكفيه أن يسلك الإنسان السلوك الصحيح الذي لا تشوبه شائبة من خطأ، على حين تتعلق شهواته من الداخل بما لا يُرضي الله، لا يكفيه — مثلًا — ألا يقترف الإنسان إثمًا من سرقة أو اعتداء على الحرمات أو غير ذلك، ثم يُرسِل الحبل على غاربه لخياله من الداخل يُشبِع له في أحلام يقظته ما قد حرَّمه على نفسه في يقظته الواعية المتجلِّية في سلوكه الفعلي، لا، لا يكفيه ذلك، بل يُشترَط لمن أراد بلوغ منزلة الولاية التزام الجادة المشروعة ظاهرًا وباطنًا، سلوكًا وأحلامًا؛ وبهذا يروِّض أعضاءه على أحكام «العبادة» كما يروِّض نفسه على شئون «العبودية».

ولعمري إنه لمثَلٌ أعلى من الأعلى، ولا عجَب أن رأينا الترمذي نفسه يرتاب أشد الريبة في قدرة الإنسان على تحقيق هذا الذي يُطلَب منه، بل إنها لريبة تُساوِر المتصوفة جميعًا في معظم الأحيان؛ إذ يكادون يُوقِنون — كما أيقن الترمذي — بأن الإنسان الطامح في سلوك هذا الطريق لا بد مغلوب على أمره بضغط طبيعته البشرية، فيسلك من مراحل الطريق ما يسلك، ويعلو في مدارجه ما يعلو، لكنه قمينٌ في اللحظة بعد اللحظة أن تستبد به رغبات جسده فيُوصَد أمامه السبيل؛ وإذن فأين يكون تحقيق الأمل؟ وكيف؟ الجواب: إنه يتحقق برحمة من الله ومنَّة.

فبينما تصطرع في أنفس «الصادقين» نزعات ونزوات ورغبات وشهوات، يُغالِبها فيغلبها وتغلبه، حتى ليندر جدًّا أن يخرج «الصادق» من معركة النقائض تلك بنصر حاسم لغاياته العليا على مطالبه الدنيا، ترى صاحب «النعمة الإلهية» — بفضل عون الله وجوده ورعايته وهدايته — محفوظًا من الزلل دائمًا وبغير جهد مبذول؛ فإذا كان «الصادق» مُثقَلًا بقيود الضرورات المادية، فإن «صاحب المنة» متحرِّر من تلك القيود. إن «الصادق» فرد تُحيط به لوازم الوجود المادي المحدودة بحدود المكان الذي هو فيه والزمان الذي ينخرط في مجرى حوادثه، وأما «صاحب المنة» فهو ذات لا تتقيد بحيِّز مكانها ولا بحوادث زمانها؛ ومن ثَم ففي مقدورها الفكاك من قوانين الطبيعة المادية كلها والسبح في سماء المُطلَق بلا حدود. إن الرجل من الصنف الأول «صادق»، وأما الرجل من الصنف الثاني فهو «صِديق».

تُرى هل هناك فارق بين الأولين والآخرين في أسلوب الحياة؟ أم إن أولئك يُشبِهون هؤلاء فيما ينظر الناظرون؟ نعم هنالك فارق فيما يرى حكيم ترمذ؛ فالأولون — في الحياة الروحية — شأنهم شأن العاملين الأُجراء في الحياة المادية، ألست ترى بين الناس في حياتنا هذه الدنيا من يعملون ونُصبَ أعيُنهم الجزاء المباشر يتقاضَونه على عملهم؟ هكذا أيضًا «أهل الصدق» من الصوفية، فهم يُجاهِدون أنفسهم ابتغاء منفعة، إن لم تكن عاجلة فهي آجلة؛ أي إنهم لم يُخلِصوا العمل لله وحده، أو لوجه الله الكريم، ولا عجَب أن تراهم مُنكبِّين على الفعل ينشطون به، فيصوِّب أبصارهم نحو الأرض، لا يشخصون بها إلى سماء التأمل المحض أو المشاهدة الخالصة لوجه الحق، ولا كذلك «الصديقون» المُنعَم عليهم بالمنة الإلهية، فهم — كما يصفهم الترمذي — الأحرار الأوفياء النبلاء، لا بغية لهم إلا أن يتحرروا تحررًا تامًّا من ربقة الفردية المحدودة الضيقة؛ ليوجِّهوا أرواحهم نحو الحق وحده، ثم لا يريدون عن ذلك جزاءً؛ لأنه هو في ذاته الجزاء الأوفى.

ومؤدَّى هذا كله — عند الحكيم الترمذي — أن «الولاية» إلهية لا إنسانية، يُوهَبها صاحبها من لدن عزيز حكيم، ولا يكسبها بفعل يؤديه؛ فالخطأ أفحش الخطأ أن تقيس ولاية الأولياء بمقاييس المنطق البشري؛ فهذا المنطق خاص بحياة الإنسان هنا على هذه الأرض، لكنه لا يُجدي فتيلًا في مجال هو من نعمة الله ورحمته على من شاء أن يقرِّبه من عباده.

ولا يفوت الترمذيَّ أن يُقارِن بين «النبوة» و«الولاية»، فيقول ما معناه إن رسالة النبوة إلهية لغرض يتصل بحياة الناس؛ ولذلك كان النبي أو الرسول إنما يتلقى الرسالة من السماء ليبلِّغها إلى البشر، ومن هنا لازمتها المعجزة لتكون برهانًا أمام الناس على صدقها. أما الولاية فهي أيضًا إلهية، لكنها خاصة بصاحبها، وتحمل صدقها في ذاتها. فإذا جاءت النبوة «مع» البرهان، فالولاية «هي» البرهان.

على أن الترمذي قد يعُد «الصادقين» و«الصِّديقين» معًا أولياء، لكنه يظل يفرِّق بين المجموعتَين؛ إذ يفرِّق بين من يسمِّيهم أولياء حق الله (أي شرعه ووصاياه وأوامره) وأولياء الله. وسنضع بين يدَي القارئ النص الآتي من كلام الترمذي؛ ليسمعه وهو يرسم تلك الحدود الفارقة بين الصنفَين:

«أما ولي حق الله فرجلٌ أفَاق من سكرته فتاب إلى الله تعالى، وعزم على الوفاء لله تعالى بتلك التوبة، فنظر إلى ما يراد له في القيام بهذا الوفاء، فإذا هي حراسة هذه الجوارح السبع: لسانه، وسمعه، وبصره، ويده، ورجله، وبطنه، وفرجه؛ فصرفها من باله، فهو رجل يؤدي الفرائض حافظ للحدود، لا يشتغل بشيء غير ذلك، يحرس هذه الجوارح حتى لا ينقطع الوفاء لله تعالى بما عزم عليه، فسكنت نفسه وهدأت جوارحه، فنظر إلى حاله فإذا هو على خطر عظيم؛ لأنه وجد نفسه بمنزلة شجرة قُطعت أغصانها والشجرة باقية بحالها، فما يؤمِّنه أن يغفل عنها قليلًا فإذا الشجرة قد بدَت لها أغصان كما كان بديًّا، فكلما قطعها خرج مكانها مثلها؟ فقصَد الشجرة ليقطعها من أصلها ليأمن من خروج أغصانها، فقطعها، فظن أنه قد كُفي مؤنتها، فإذا أصلها قد بدت منه أغصان! فعرف أنه لا يخلص من شرها دون أن يقلعها من أصلها، فإذا قلعها من أصلها استراح.

فلما نظر هذا العبد إلى جوارحه قد هدأت التفت إلى باطنه، فإذا نفسه محشوَّة بشهوات هذه الجوارح، فقال: إنما هي شهوة واحدة، أُبيحَ لي منها بعضها وحُظر عليَّ بعضها، فأنا على خطر عظيم! أحتاج أن أحرس بصري حتى لا ينظر إلا المباح، فإذا بلغ المحظور عليه أغمض وأعرض، وكذلك اللسان وجميع الجوارح، فإذا غفلتُ ساعةً عن الحراسة رمَتني في أودية المهالك. فلما وقع في هذا الخوف، ضيَّقت عليه المخافة جميع الأمور، وحجزته عن الخلق، وأعجزته عن القيام بكثير من أمور الله عز وجل، وصار ممن يهرب من كل أمر، عجزًا منه، وخوفًا على جوارحه من نفسه الشهوانية.

فقال في نفسه: قد اشتغل قلبي بحراسة نفسي في جميع عمري، فمتى أقدر أن أفكِّر في مِنَن الله وصنائعه؟ ومتى يطهر قلبي من هذه الأدناس؟ فإن أهل اليقين يصفون من قلوبهم أمورًا أنا خلوٌ منها. فقصَد ليطهِّر الباطن بعدما استقام له تطهير الظاهر، فعزم على رفض كل شهوة في نفسه لهذه الجوارح السبع، مما أُطلِق أو حُظر عليه، وقال: إنما هي شهوة واحدة، تُطلَق لي في مكان وتُحظَر عليَّ في مكان، فلا خلاص منها حتى أُميتها من نفسي.

فافترقت الإرادة هنا؛ فمنهم من صدَق اللهَ في رفضه؛ لينال ما وعد الصادقين من ثواب جهدهم، ومنهم من صدَق اللهَ في رفضه ليلقاه بخالص العبودية غدًا، فتقرَّ عينه بلقائه، ففتح لهذا الطريق إليه، وترك الآخر على جهده واقتضائه ثواب الصدق يوم لقائه؛ فأما الذي فتح له الطريق إليه، فهذا الذي ذكره في تنزيله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» (كتاب ختم الأولياء، ص١١٧–١٢٠).

٦٦

إن كاتب هذه الصفحات ليجد مُحالًا عليه أن يُقاوِم شعور الرفض الذي يُقابِل به مثل هذا الموقف من الولاية والأولياء، لكنه في الوقت نفسه يُحِس بضرورة أن تكون بعض الصفات التي ميَّزوا بها الأولياء — بقسمَيهم عند حكيم ترمذ — نماذج مُثلى لمن أراد أن يعلو بنفسه عن مستوى النزوة والهوى حيثما يتطلب الأمر تجردًا وتنزهًا وموضوعية نظر، فلكَم يودُّ هذا الكاتب أن ننقل تلك الصفات العليا من «أولياء»، بالمعنى الذي يجعلهم فئة تعطِّل قوانين الطبيعية بقوة «الكرامات»، إلى «أولياء» بمعنى «العلماء» كما نفهم هذه الكلمة اليوم. فهؤلاء، على خلاف أولئك، يكشفون الحجاب عن تلك القوانين، لا ليعطِّلوها بقوتهم، بل ليستخدموها في منفعة الإنسان ورفعة شأنه؛ فمَن ذا لا يتمنى لجماعة «العلماء» — ولنجعلهم هم «الأولياء» — أن يقيِّدوا سلوكهم إذ هم في ميادين البحث العلمي تقييدًا لا يحيد بهم عن جادة الصواب، فيتعقَّبون أمور الواقع كما تقع لا كما يشتهون لها أن تقع، أن يُراقِبوا ضمائرهم العلمية من الباطن مراقبةً تضمن لها اليقظة الدائمة في حراسة أصحابها حتى يأمنوا الضلال؟ مَن ذا لا يتمنى لهم مثل هذه الحياة المتحرِّرة من الضرورات المُذلة للأعناق، دون أن يكون بهم حاجة — من أجل تحقيق هذه الغاية الشريفة — إلى اقتلاع الفطرة البشرية من جذورها، كما يريد الحكيم الترمذي وغيره من رجال التصوف؟

وفيما يلي وقفات قصار نقِفها مع بعض هؤلاء الرجال، مُحاوِلين أن نبدِّل في أذهاننا معنى «الولاية» كما أرادوه لها، وهو أن يفكَّ الولي عن نفسه قيود الطبيعة وقوانينها ليحرِّكها كيف شاء ويجمِّدها كما رغب؛ ليُصبِح المعنى الجديد ﻟ «الولاية» خلافة لله تعالى في الأرض، تتمثل في جماعة الباحثين الدارسين العلماء وهم يكشفون الستر عن حقيقة نواميسها ليملكوا في أيديهم زمامها شيئًا فشيئًا، فإذا رأينا أحد المتصوفة الأقدمين — كالهجويري كما سوف نرى — يقول عن «الأولياء» إنهم «ببركة حلولهم تُمطِر السماء، وبنقاء حياتهم ينبت الزرع من الأرض، وبدعائهم ينتصر المسلمون على الكفار.» تبدَّل المعنى في أذهاننا ليُصبِح: «إنه بعلم العلماء تُمطِر السماء حتى لو لم تكن الظروف الطبيعية مهيَّأة لنزول المطر؛ وذلك بكونهم يركِّبون تلك الظروف المواتية تركيبًا ويُنشِئونها إنشاءً، وبعلم العلماء ينبت الزرع من الأرض حتى ولو لم تكن لتُنبِت شيئًا إذا هي تُركت لطبيعتها، وذلك بتسميدها وباستخدام الوسائل التي باتت في مقدور العلماء في عصرنا، والتي مكَّنتهم لا من إنبات الزرع في الأرض الجرداء وحدها، بل مكَّنتهم من إنبات الزرع في الهواء وعلى سطح الماء.» مثل هذا التبديل لمعنى «الولاية» يُتيح لنا أن نُحافِظ على المُثل الخلقية العليا التي قيلت في «أولياء» المعنى القديم لتُقال في «أولياء» المعنى الجديد.

والآن فلننظر في بعض ما قاله المتصوفة في الولاية والأولياء. قال أبو عثمان الهجويري (في كتاب «كشف المحجوب» ترجمة نكلسون، ص٢١٠–٢٤١):

«اعلم أن أساس التصوف والمعرفة قائم على الولاية، وقد أكَّد هذه الحقيقةَ كلُّ الشيوخ وإن اختلفت عباراتهم في ذلك.» وواضحٌ أن الهجويري يُشير ﺑ «المعرفة» التي أساسها «الولاية» بمعناه، لا معرفة الوسائل التي نُنزِل بها المطر ونُنبِت الزرع ونُقاتِل الأعداء، بل معرفة الله عز وجل بالصورة التي تصوَّرها المتصوفة. وليس يعنيني هنا في كثير أو في قليل أن أُجادِل المتصوفة فيما يزعمونه لأنفسهم من «معرفةٍ» هذا هو نوعها، وإنما الذي يعنيني هو أنه — على فرض أنهم صادقون فيما يزعمون لنا — فلا فائدة لنا نحن بني الإنسان من «معرفتهم» تلك. إنها معرفة مفيدة — ربما — لصاحبها المتصوف؛ لأنها تضعه في حالة يرضى بها عن نفسه حينئذٍ، وأما سائر الناس في كل جوانب حياتهم فلا يتغيرون قيدَ شعرة بمعرفته تلك.

ونمضي مع الهجويري في حديثه: «فاعلم أن الولي هو لفظٌ جارٍ على ألسنة الناس، وجاء في القرآن وحديث الرسول؛ فمن هذا نرى أن الله تعالى اختار له أولياء اختصَّهم بصحبته، واختارهم حكامًا لمُلكه، ومنحهم أنواع الكرامات، وطهَّرهم من فساد الطمع ومن وساوس النفس والهوى، وجمع أفكارهم فيه ومعرفتهم به، كانوا فيما مضى — وهم الآن كذلك، وإلى ما شاء الله إلى يوم القيامة — لأن الله فضَّلهم على غيرهم.» وإني لأرجو القارئ أن يقرأ العبارة السابقة وفي ذهنه أن الحديث إنما ينصبُّ اليوم على علماء الرياضة والطبيعة بكل ما قد تفجَّر في حياتنا من أسباب العيش على أيديهم، فسوف يرى عندئذٍ أن الذي تغيَّر بيننا وبين من يصفهم الهجويري إنما هو أفراد الفئة التي نخصُّها بالحديث، وأما إطار القيم التي نضعهم فيه فباقٍ اليوم كما كان في الأمس، وبمثل هذا نتصور ارتباط الجديد بالقديم. إننا إذا قرأنا العبارة السابقة على ضوء المعنى الجديد، قلنا إن الله تعالى اختار له علماء ألهمهم سداد البحث والنظر، حتى لَيجوز القول بأنهم — بحكم ما قد اخترعوا وكشفوا — هم الحكام الحقيقيون وإن لم يجلسوا على عروش الحاكمين؛ فقد منحهم الله القدرات التي مكَّنتهم مما بلغوه، وطهَّرهم من فساد الطمع ومن وساوس النفس والهوى، وجمع أفكارهم فيما تتجلى فيه قدرة الخالق عز وجل من نواميس الطبيعة بما فيها من مختلف الكائنات.

ونستأنف النظر في كلام الهجويري؛ فهو بعد أن طرح وجهة نظره التي يقول إن المعتزلة والحشوية فريقان يُخالِفانه فيها. فأما المعتزلة فلِكونهم يقصرون المفاضلة بين مسلم وغير مسلم، أما ضمن جماعة المسلمين فلا مفاضلة، ومعنى هذا أن الأولياء لا يفضُلون سواهم من المسلمين؛ وأما «الحشوية العوام» فيُقرُّون بأفضلية الأولياء على سواهم من المسلمين، لكنهم يدَّعون أن ذلك كان فيما مضى حين كان أولياء؛ إذ لم يعُد لهم وجود. أقول إن الهجويري بعد أن طرح وجهة نظره إزاء وجهات نظر المعارضين، طفق يؤكِّد امتياز الأولياء؛ فلقد جعلهم الله تعالى «حكام هذا العالم، وجعلهم لا يتبعون حواسهم، فببركة حلولهم تُمطِر السماء، وبنقاء حياتهم ينبت الزرع من الأرض، وبدعائهم ينتصر المسلمون على الكفار، وهم ليسوا معصومين من الذنب — لأن ذلك للأنبياء خاصة — ولكنهم محفوظون من الفتنة بالولاية.» وقد سبق لنا التعليق على مضمون هذه العبارة.

ولما كانت الموازنة بين «الأنبياء» و«الأولياء» موضوعًا يشغل اهتمامهم كان لا بد للهجويري أن يُثبِت رأيه فيها، فقال: «اعلم أن شيوخ الصوفية بوجه عام يقولون: إن الأولياء في كل وقت وحال أقلُّ رتبة من الأنبياء، وإن الأنبياء أفضل من الأولياء؛ لأن نهاية الولاية بداية النبوة، وكلُّ نبيٍّ وليٌّ، وبعض الأولياء ليسوا بأنبياء، والأنبياء خالون دائمًا من الصفات الإنسانية، والأولياء كذلك في بعض الأوقات.»

•••

وهاك صوفيًّا آخر من الأعلام، هو شهاب الدين يحيى سهروردي، نقدِّم لك من كلامه قبسًا، حين يبيِّن لنا كيف يتلقى الأولياء الكاملون الغيب، وسوف ترى فيه حديثًا هو أقرب — من حيث المضمون — إلى أحاديث الشعراء حين يغرقون في بحور الوجد، فإذا استطعنا أن نفهمه على نفس الأُسُس التي نفهم بها الشعر، وأعني أن نُتابِع الخط الوجداني التصويري ثم نبحث له في عالم الواقع عن خط يُوازيه، فربما أعطيناه عندئذٍ قيمته الحقيقية لنا، وأما إذا خلب ألبابنا بحيث نأخذه مأخذ الجد عندما يحدِّثنا عن تلقِّي الغيب كيف يكون عند من كتَب الله لهم أن يتلقوه من أوليائه، فلن يكون ذلك منا إلا مشاركة له في دنيا «اللامعقول» التي اختارها لحياته، يقول:

«وما يتلقى الأنبياء والأولياء وغيرهم من أمور الغيب، فإنها قد ترِد عليهم في أسطر مكتوبة، وقد ترِد بسماع صوت، وقد يُشاهِدون صور الكاين، وقد يرَون صورًا حسنة إنسانية تُخاطِبهم — في غاية الحسن — فتُناجيهم بالغيب، وقد يُرى الصور التي تُخاطِب، كالتماثيل الصناعية، في غاية اللطف.

وجميع ما يُرى في المنام من الجبال والبحور والأرضين والأصوات العظيمة والأشخاص، كلها مُثُل قايمة، وكذا الروايح وغيرها؛ وما يُرى من الجبل والبحر صريحًا في المنام — الصادق أو الكاذب — كيف يسعهما الدماغ أو بعض تجاويفه؟ وكما أن النايم ونحوه إذا انتبه فارق العالم المثالي دون حركة ولم يجده على جهة منه، فكذا من مات عن هذا العالم يُشاهِد عالم النور دون حركة وهو هناك» (من كتاب «حكمة الإشراق» للسهروردي، ص٢٤٠-٢٤١).

هكذا يُريدنا السهروردي أن نُميت أنفسنا عن هذا العالم، فالعين لا ترى والأذن لا تسمع؛ ليُتاح لنا عندئذٍ أن نشهد عالم النور! وها هنا يسرح في ضروب النور وضروب الصوت الذي نُشاهِدها هناك أو نسمعها، فاسمع:

«اعلم أن النفوس إذا دامت عليها الإشراقات العلوية، يُطيعها مادة العالم (!) ويُسمَع دعاؤها في العالم الأعلى.

وإخوان التجريد يُشرِف عليهم أنوار، ولها أصناف:

نورٌ بارق يرِد على أهل البدايات، يلمع وينطوي كلمعة بارق لذيذ، ويرِد على غيرهم أيضًا نورٌ بارق أعظم منه، وأشبه منه بالبرق، وربما يُسمَع صوت كصوت رعد أو دويٍّ في الدماغ.

ونور وارد لذيذ، يُشبِه وروده ورود ماء حار على الرأس.

ونور ثابت زمانًا طويلًا، شديد القهر، يصحبه خَدرٌ في الدماغ.

ونور لذيذ جدًّا، لا يُشبِه البرق، بل يصحبه بهجة لطيفة حلوة يتحرك بقوة المحبة.

ونور مُحرِق يتحرك من تحرُّك القوة، وقد يحصل من سماع طبول وأبواق أمورٌ هايلة للمبتدئ.

ونور لامع في خطفة عظيمة يظهر مشاهدةً وإبصارًا، أظهر من الشمس في لذة مُغرِقة.

ونور برَّاق لذيذ جدًّا، يتخيل كأنه متعلِّق بشعر الرأس زمانًا طويلًا.

ونور سانح مع قبضة مثالية تتراءى كأنها قبضَت شعر رأسه، وتجرُّه شديدًا وتُؤلِمه ألمًا شديدًا.

ونور مع قبضة تتراءى كأنها متمكِّنة من الدماغ.

ونور يُشرِق من النفس على جميع الروح النفساني، فيظهر كأنه تدرَّع بالبدن شيء، ويكاد يقبل روح جميع البدن صورةً نورية، وهو لذيذ جدًّا.

ونور مَبدؤه في صولة، وعند مَبدئه يتخيل الإنسان كأن شيئًا ينهدم.

ونور سانح يسلب النفس.

ونور يُتخيَّل معه ثقلٌ لا يكاد يُطاق.

ونور معه قوة تحرِّك البدن حتى يكاد يقطع مَفاصله.

وهذه كلها إشراقات على النور المُدبِر، فتنعكس إلى الهيكل وإلى الروح النفساني، وهذه غايات المتوسِّطين، وقد تحملهم هذه الأنوار فيمشون على الماء والهواء» («حكمة الإشراق» للسهروردي، ص٢٥٢ وما بعدها).

فماذا تسمِّي كلامًا كهذا إلا أنه أجراس لفظ قد تُوحي بحالات كتهاويم النائمين الحالمين؟

•••

ولننظر في لمحة مما يقوله ابن عربي في «خاتم الأولياء»، ذاكرين كيف نشأت عند بعضهم الفكرة بأن ثمة تسلسلًا من أولياء، ينتهي بولي يكون خاتمًا لهم، ولا يكون بعده ولي، على غرار ما يقال عن «خاتم الأنبياء» إنه لا نبي بعده، يقول ابن عربي:

«فهو (أي «الحق» سبحانه) مرآتك في رؤيتك نفسَك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، وليست سوى عينه.» أي إن الصوفي الذي يرقى بجهاده إلى أن يتحد بالله، إنما يرى نفسه إذ يراه، كما أن الله تعالى — سبحانه — يرى أسماءه التي هي حقيقته، متمثِّلة في ذلك الصوفي، فكلٌّ من الذاتَين ترى صورتها في الذات الأخرى. ويمضي ابن عربي في الحديث فيقول: «… منَّا مَن جهل في علمه فقال: والعجز عن دركِ الإدراكِ إدراكٌ، ومنَّا مَن علِم فلم يقُل مثل هذا — وهذا أعلى القول — بل أعطاه العلم السكوت، ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه — متى رأوه — إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة — أعني نبوة التشريع ورسالته — تتقطعان والولاية لا تنقطع أبدًا.» ويستوقفنا في هذه الأسطر بعض المعالم التي نحتاج منها إلى تعليق، ففيها موازنة لطبقة لطيفة بين رَجلَين؛ أحدهما قد جهِل ما أراد العلم به والآخر قد علِم، ولكن أولهما على جهله قد يرى في موقفه شيئًا من إدراك؛ لأن عِلمه بأنه قد عجز عن درك ما أراد إدراكه هو في حد ذاته ضربٌ من الإدراك، وأما ثانيهما فهو وإن يكن قد بلغ مرتبة العلم بما أراد العلم به، فهو يسكت عن كل قول، لكن سكوت الذي علِم لا سكوت الذي عجز، وهنا نُلاحظ أن مثل هذا العالم الصامت هو — عند ابن عربي — «أعلى عالم بالله». وإن رأيًا كهذا ليدل وحده على أن المتصوف فردٌ قد ينفع نفسه بما يكون قد ارتقى إليه، لكنه لا ينفع الناس، هو فرد وليس هو بعضو في جماعة. إن مثل هذا العالم الصامت لا يضع حجرًا واحدًا في بناء الحضارة أو في بناء العلم، حتى إذا أخذنا بتعريف العلم الذي ورد عرضًا في الأسطر السابقة، وهو أن العلم علمٌ بالله؛ لأنه سيظل علمًا منحصرًا في شخص مَن علِمه، لا سبيل إلى انتقاله منه إلى سواه. ولئن كان «المعقول» هو دائمًا وفي كل الحالات «قولًا» ينضبط ببعض الضوابط التي تجعله معقولًا، فلا بد أن يكون الصمت في حالة العلم — مهما يكن نوع العلم — هو قمة «اللامعقول». إننا نكتب هذه الصفحات بهدف رئيسي، هو أن نرى ماذا يُمكِن أخذه من تراثنا، وبديهيٌّ أننا لا نأخذ شيئًا عن رجل «صامت» لم ينطق بكلمة حتى وإن علم. وتجيء بعد ذلك ملاحظة ثالثة على الفقرة التي أوردناها، وهي أن العلم بالله الذي هو مُوجِب للصمت عن الإفصاح به، «ليس إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء.» وإنه ليتعذر علينا تصوُّر «الرسول» صامتًا عن علم؛ إذ فيمَ تكون «الرسالة» إذن؟ وكذلك الأمر بالنسبة «للولي». ومع ذلك فابن عربي يقول — ما يقوله كثيرون جدًّا من المتصوفة — بأن سائر الأنبياء والرسل إنما علِموا ما علِموه عن طريق خاتم الأنبياء، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الأولياء فهم إنما استمدوا مواهبهم عن طريق خاتم الأولياء! أما كيف أخذ السابق في الظهور عن اللاحق، فتفسيره مُستنِد إلى حديث يُنسَب إلى النبي عليه السلام، وهو: «كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين.» أي إنه خلق نبيًّا قبل ظهوره في لحظة معيَّنة من التاريخ، على حين أن غيره من الأنبياء ما كان نبيًّا إلا حين بُعث، وكذلك الأمر بالنسبة للأولياء وخاتمهم؛ فخاتم الأولياء — هكذا يقول ابن عربي في النص الذي ننقل عنه — كان وليًّا وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليًّا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية (راجع «الفص الشيثي» من كتاب «فصوص الحِكم» لابن عربي).

•••

لكَم أشعر في ضميري بأُنسِ المُطمئن حين أجد واحدًا من أعلام القدماء يتصدى لمثل الحديث الذي أوردناه عن ابن عربي، أو عن الحكيم الترمذي أو غيرهما بالتفنيد، ولو من وجه واحد دون سائر الوجوه؛ فإن ذلك وحده لكفيلٌ لنا بجواز التفنيد على إطلاقه، في هذا الوجه الواجد أو في غيره من الوجوه؛ فلست أكذب مُخادعًا للقارئ إذا قلت في صراحة تامة بأن حدود إدراكي لم تتسع قط — ولا أريد لها أن تتسع — لترى في أقوال الصوفية هؤلاء نفعًا أقل نفع لنا، اللهم إلا إذا أخذناها مأخذ التعبير الشعري الذي ينفض فيه صاحبه ما تعتمل به نفسه بطريقة الشعراء، وعندئذٍ لا يدل القول إلا على صاحبه، وأما سائر الناس فلا تقع عليهم تبعة القبول.

لقد أسلفتُ رأيًا عرضته بين يدَي القارئ، وهو أن نُحاوِل قراءة ما كُتب عن «الأولياء» قراءةً عصرية، فنفهم كلمة «الأولياء» على أنها تعني اليوم علماء الرياضة والطبيعة والدراسات الإنسانية كما نفهمها الآن، ومبرِّر ذلك عندي هو أنه إذا كان أولياء الماضي وسيلة معرفة بالله حتى عرفناه جهد طاقتهم وطاقتنا، فوسائل معرفتنا اليوم هم العلماء، لكنني إذ أقترح هذه المحاولة في الفهم لينساب قديمٌ في جديد، فإني لا أجد في اقتراحي هذا مكانًا لما أسمَوه ﺑ «خاتم الأولياء»؛ لأن العلماء لن يكون لهم خاتم يسد الطريق على سواه.

وسأثبت فيما يلي أسطرًا من «ابن تيمية» يتصدى فيها بالتفنيد لفكرة «خاتم الأولياء»؛ مما لا يجعل في موقفنا بدعًا منكورًا، يقول:

«… إن دعوى المدَّعي وجودَ خاتم الأولياء باطلٌ لا أصل له، ولم يذكر هذا أحدٌ من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الولاية»، وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وهو — رحمه الله تعالى — وإن كان فيه فضل ومعرفة … ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده؛ ومِن أشنعها ما ذكره في ختم الولاية: مثل دعواه فيه أن يكون في المتأخرين مَن درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر وعمر وغيرهما، ثم إنه تناقَض في موضع آخر، لما حكى عن بعض الناس أن «الولي» يكون منفردًا عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر، وقال: «يلزم هذا أن يكون (أي الولي المعتزل) أفضل من أبي بكر وعمر.» وأبطل ذلك … ومنها (أي من أخطاء الحكيم الترمذي) ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان، وتفضيله وتقديمه على مَن تقدَّم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء، وهذا ضلال واضح؛ فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار … ولفظ «خاتم الأولياء» لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا له ذِكر في كتاب الله ولا سنة رسوله؛ ومُوجِب هذا اللفظ أنه آخر مُؤمِن تقي … مع أن كل من كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا … وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء ولا أكملهم، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم … والأولياء — وإن كان فيهم محدَّثٌ (أي مُلهَم) — كما ثبت في الصحيحَين عن النبي أنه قال: «إنه كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي، فعمر.» فهذا الحديث يدل على أن أول المحدَّثين من هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه إذ هو الصِّديق، والمحدَّث، وإن كان يُلهَم ويحدَّث من جهة الله تعالى، فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة؛ فإنه ليس بمعصوم.

ثم إن خاتم الأولياء هذا (ما زلت أنقل كلام ابن تيمية) صار مرتبة موهومة لا حقيقة له، وصار يدَّعيها لنفسه أو لشيخه طوائفه، وقد ادعاها غير واحد، ولم يدَّعِها إلا مَن في كلامه من الباطل ما لم تقُله اليهود ولا النصارى، كما ادعاها صاحب الفصوص (يقصد ابن عربي صاحب «فصوص الحِكم»)، وتابعه صاحب الكلام في الحروف (ربما كانت الإشارة إلى الفارابي في «كتاب الحروف»)، وآخر كان يزعم أنه المهدي الذي يزوِّج بنته بعيسى بن مريم وأنه خاتم الأولياء.

ثم إن صاحب الفصوص وأمثاله بنَوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملَك؛ ولهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب! فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه، وإذا كان محدَّثًا (أي مُلهَمًا) فقد أُلقي إليه شيء وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة.

وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه: من وراء حجاب كما كلَّم موسى، وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء، وبالإيحاء. وهذا (الأخير) فيه للولي نصيب، وأما المرتبتان الأُولَيان فإنهما للأنبياء خاصة، والأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم، فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة، ويكون هذا الأخذ أعلى، وهم لا يصِلون إلى مقام تكليم موسى، ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم كما نزلت على الأنبياء؟ وهذا دين المسلمين واليهود والنصارى.

وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية (الكلام ما يزال لابن تيمية) فبنَوا على أصلهم الفاسد أن الله هو الوجود المُطلَق الثابت لكل موجود، وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر، وإن كانت من وساوس الشيطان، يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة، وأنهم يكلِّمون كما كُلِّم موسى بن عمران، وفيهم من يزعم أن حالهم أفضل من حال موسى بن عمران؛ لأن موسى سمع الخطاب من شجرة، وهم — على زعمهم — يسمعون الخطاب من حي ناطق … وفي دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه … وأعظم من ذلك، زعم «ابن عربي» أن الأولياء والرسل — من حيث ولايتهم — تابعون لخاتم الأولياء، وأخذوا من مشكلاته، فهذا باطل بالعقل والدين؛ فإن المتقدِّم لا يأخذ من المتأخِّر، والرسل لا يأخذون من غيرهم …» (من «حقيقة مذهب الاتحاديين» لابن تيمية، ص١١٥–١٢٣).

لست أعتذر للقارئ عن طول العبارة التي أقتبسها من ابن تيمية في تكذيبه لما زعمه الزاعمون — ومنهم الحكيم الترمذي وابن عربي والسهروردي — عن الأولياء وعن خاتم الأولياء؛ فقد أردت أن أبيِّن للقارئ موقف إمام فقيه في بعض ما يقال عن هؤلاء؛ كي ينفتح لنا طريق العقل فنُضيف ما نراه بدورنا متعذِّر القبول، لا سيَّما إذا انتقلنا من المحيط الثقافي الذي أحاط بتلك المشكلة حين تحدَّث عنها من تحدَّث من الأقدمين، إلى محيطنا الثقافي في عصرنا هذا الذي نعيش فيه؛ فربما تعاطَف قارئ هذا الكتاب مع كاتبه في إحالة المشكلة برُمَّتها على دنيا اللامعقول في تراثنا؛ ومن ثَم يُصبِح تناولها مشروطًا بطبيعتها هذه.

ولقد تناوَل ابن تيمية كذلك (في المصدر السابق، ص١٢٦-١٢٧) ما بناه ابن عربي على الحديث القائل: «كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين.» وهو — أي النتيجة التي استدلها ابن عربي من هذا الحديث — أن النبي محمدًا عليه السلام كان موجودًا من الأزل، بخلاف غيره من الأنبياء، وكذلك خاتم الأنبياء — في رأي ابن عربي — كان وليًّا وآدم بين الماء والطين. فيعلِّق ابن تيمية على هذا بقوله: «هذا كذبٌ واضح، مُخالف لإجماع أئمة الدين، وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد، فإن الله علِم الأشياء وقدَّرها قبل أن يكونها، ولا تكون موجودة بحقائقها إلا حين توجد، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكن حقيقته (أي حقيقة محمد عليه السلام) موجودة قبل أن يُخلَق إلا كما كانت حقيقة غيره؛ بمعنى أن الله علِمها وقدَّرها، لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورًا أعظم من غيره.»

بل ماذا تقول في اتهام ابن تيمية للمتصوفة الذين قالوا ما قالوه مما أسلفنا نموذجًا منه، بالإلحاد، لا بمجرد الخطأ في الرأي! فمن قوله في ذلك عنهم: «كان الملاحدة من المتصوفة، كابن عربي وابن سبعين وغيرهما، قد سلكوا مَسلك ملاحدة الشيعة كأصحاب رسائل إخوان الصفا» (من «الرد على المنطقيين» لابن تيمية، ص٤٨٦).

أفيكون بدعًا منا بعد ذلك أن نكتفي بالقول عن مثل هذه المشكلات وما يقال فيها بأنه يندرج تحت «اللاعقل»، فهو كله من البداية وجدانات كالتي تجيش بها صدور الشعراء، قد تلذُّ قراءتها، أما أن نطرحها أمام العقل ومنطقه فلا؛ وإذا كان أمرها كذلك فلا يجوز أن تكون هي وأمثالها جسر العبور بيننا وبين أسلافنا.

٦٧

إنني إذ أقول ما أقوله، فإنما أحتكم إلى العقل، وللعقل في أحكامه حدود معلومة، ولعل أوضح هذه الحدود أن يكون المحكوم بعقله في حالة من «الوعي» الكامل بما يؤديه، فأما أن يقال عن رجل إنه عن طريق «اللاوعي» يستطيع أن يكشف عن الحق فيعلمه، فذلك قول ينقض بعضه بعضًا، نعم إن من حقك أن تقول: «ولماذا أشقى بالوعي إذا كانت حالات اللاوعي تُسعِدني بوجدانها؟» من حقك أن تقول هذا، ولا حرج عليك أن تنعَم بما تراه مصدرًا لنعيمك، لكن الذي ليس من حقك أن تدَّعي بلوغ «العلم» عن غير طريقه، اللهم إلا أن تُعطي كلمة «العلم» معنًى ليس هو ما نفهمه منها اليوم، وذلك بالفعل هو موقف المتصوفة حين يقولون إنهم كشفوا عن «الحق» بحالات هي أقرب إلى حالات الغيبوبة منها إلى حالات الصحو الواعية، وسأنقل لك أسطرًا من الغزالي يصف لنا فيها ما يظنه طريقًا لبلوغ «الحق»:

«… فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا، والتبرِّي من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها، والإقبال بكُنهِ الهمة على الله تعالى؛ فمن كان لله كان الله له، وزعموا أن الطريق في ذلك أولًا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها، وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والطن وعن العالم والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود الشيء وعدمه، ثم يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مجموع الهم، ولا يفرِّق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره، بل يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى؛ فلا يزال — بعد جلوسه في الخلوة — قائلًا بلسانه: الله! الله! على الدوام، مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثم يصبر عليه إلى أن يُمحى أثره عن اللسان، ويُصادِف قلبًا مُواظبًا على الذِّكر، ثم يُواظِب عليه إلى أن يمَّحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقى معنى الكلمة مجردًا في قلبه، حاضرًا فيه كأنه لازم له لا يُفارقه، وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد، واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس، وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى، بل هو بما فعله صار متعرِّضًا لنفحات رحمة الله، فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطرق.

وعند ذلك — إذا صدقت إرادته، وصفَت همته، وحسنت مواظبته، فلم تُجاذِبه شهواته، ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا — تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف لا يلبث، ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفًا، وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق، وقد يقتصر على فن واحد، ومنازل أولياء الله تعالى فيه لا تُحصَر، كما لا يُحصى تفاوُت خلقهم، وأخلاقهم، وقد رجع هذا الطريق إلى تطهيرٍ محضٍ من جانبك وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط» (راجع كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، ج٣، ص١٩-٢٠).

الحق أني لأسائل نفسي دائمًا كلما قرأت أقوالًا كهذه لكبار المتصوفة: في أية حالة يا تُرى كتبوا هذا الذي كتبوه، ثم لماذا كتبوه؟ فهذا هو الغزالي — على عظيم قدره مفكِّرًا وفقيهًا ومتصوفًا — يُعلِنها صريحة بأن الأمر ينكشف لمن ينكشف له «لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا»، ويوصي من أراد بلوغ الحق أن يقطع همته عن «العالم»، وأن يضع نفسه في حالة «يستوي فيها وجود الشيء وعدمه»، وعليه أن يُجاهِد نفسه حتى «لا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى»؛ وعندئذٍ فقط يكون قد هيَّأ الظروف من جانبه، ولا يبقى عليه إلا الانتظار لرحمة الله … إلخ، أقول: تُرى هل تمرَّس الغزالي نفسه بمثل هذه الحالة التي يصفها؟ فإن كان قد فعل، فلا بد أن يكون — كما وصف — قد بتر علائقه بالعالم، واستوى عنده وجود الأشياء وعدمها، ولم يعُد يخطر بباله شيء سوى الله … فمتى — إذن — ولماذا، وكيف كتب هذا الذي كتب؟ أليست الكتابة فيها ورق ومداد وقلم وألفاظ وانشغال بالناس الذين يأمل أن يقرءوا كتابته؟ أيكون قد كتب هذا بعد أن أفاق من غيبوبة استغراقه؟ لكنه إذا أفاق ولم تعُد له إلا ذكرى ما حدث له في لحظة ماضية، أفلا يكون عندئذٍ في حالة جديدة مما يُحسِن الخروج منها بأسرع ما يستطيع ليعود إلى لحظة استغراقه؟ ثم لماذا لا يذكر لنا المتصوفة في حالات صحوهم ووعيهم تفصيلات ما قد رأوه وعلِموه ساعات وجدهم، أم إنه شيء يُحَس ولا يوصف، فما فائدة هذا الذي يكتبونه لمن يوجِّهون إليهم القول؟ … مرةً أخرى أقول: إن من حق من شاء أن يستمتع بقراءة هذا الصنف من الكلام — وهو في تراثنا كثير — لكن ليعلَم أن الدنيا لن تتقدم به قيد إصبع واحدة.

•••

وإن المتصوفة أنفسهم ليعلمون أن حالاتهم الوجدانية هذه أمور خاصة بأشخاصهم (وإن كنت لا أدري: لماذا — إذن — يؤلفون الكتب للناس؟) وهم يعلمون أن دنيا الناس لن تتقدم قيد إصبع واحدة بكل ما كتبوه، والأرجح أنها ستتأخر بمقدار ما فيها من أفراد لا يُعنَون بشئونها، ويستوي في أعينهم وجود الأشياء وعدمها؛ ولذلك تراهم يجعلون «الزهد» في الدنيا شرطًا من شروطهم، والزاهدون — بحكم تعريف الكلمة نفسها — قد ينفعون أنفسهم، لكنهم لا ينفعون حضارة الناس في شيء.

يقول الحارث المكي في كتابه «قوت القلوب في معاملة المحبوب»: «الزهد يكون بمعنيَين: إن كان الشيء موجودًا فالزهد فيه إخراجه وخروج القلب منه، ولا يصح الزهد فيه مع تبقيته للنفس؛ لأن ذلك دليل الرغبة فيه، وهذا زهد الأغنياء، وإن لم يكن موجودًا؛ فالزهد هو الرضا بالفقر، وهذا هو زهد الفقراء» (ص٥٠٣). «حقيقة الفقير أن يكون مُغتبِطًا بفقره، خائفًا أن يُسلَب الفقر، كما يكون الغني مُغتبِطًا بغناه يخاف الفقر» (ص٥٠٦). «قوت الزهد الذي لا بد منه، وبه تظهر صفة الزاهد وينفصل به عن الراغب هو ألا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس، ولا يحزن على مفقود من ذلك، وأن يأخذ الحاجة من كل شيء عند الحاجة إلى الشيء، ولا يتناول عند الحاجة إلا سد الفاقة، ولا يطلب الشيء قبل الحاجة» (ص٥٠٧). «خالص الزهد إخراجُ الموجود من القلب، ثم إخراج ما خرج من القلب عن اليد» (ص٥٠٧). «القناعة من باب الزهد، والرضا باليسير من الأشياء حالٌ من الزهد، والتقلل في الأشياء مفتاح الزهد» (ص٥٠٨).

ويروي صاحب «قوت القلوب» عن إبراهيم بن أدهم قوله: «قد حُجبت قلوبنا بثلاثة أغطية، فلن يُكشَف للعبد اليقين حتى تُرفَع هذه الحجب: الفرح بالموجود، والحزن على المفقود، والسرور بالمدح. فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذَّب، وإذا سُررت بالمدح فأنت مُعجَب والعُجب يُحبط العمل» (ص٥٠٨).

وكذلك روى صاحب «قوت القلوب» عن بشر بن الحارث قوله: «لا تحسن التقوى إلا بزهد؛ العبادة لا تليق بالأغنياء. مَثلُ العبادة على الغني، مثل روضة على المزبلة، ومثلُ العبادة على الفقير مثل عقد الجوهر في جيد النساء.»

سئل الجنيد عن الزهد فقال: معنيان، ظاهر وباطن؛ فالظاهر بُغضُ ما في الأيدي من الأملاك، وترك طلب المفقود؛ والباطن زوال الرغبة عن القلب، ووجود العزوف والانصراف عن ذِكر ذلك. الزاهد يجدُّ في العمل بتقصير الأمل وتقريب الأجل. يكون في الزهد استواء الأشياء فيكون عدمها كوجودها.

وهكذا وهكذا تستطيع أن تجد في تراثنا عن الصوفية ألوف الصفحات من هذا القبيل. ولقد يكون في هذه الأقوال وأمثالها جاذبية لقلوبنا، لكني أسأل: إذا فرضنا أن أمة في عصرنا قد تشبَّع أفرادها بهذه المُثل، ثم جاءهم «مُصلِح» يمنِّيهم برفع مستويات معاشهم ووفرة محصولهم، وبإقامة مشروعات اقتصادية وصناعية تُعطيهم القوة والغنى، بل وإذا وعدهم بنشر التعليم، فماذا هم قائلون له؟ ألا تُراهم يُصمُّون آذانهم عن دعوته؛ لأن «إصلاحه» هذا إنما هو تخريب للنفوس، ولأن زيادة الثراء اهتمام بالدنيا وذلك مذموم، ولأن نشر التعليم انصراف إلى كتب وكتابة، وهو ما لا يريدونه حتى ينسدل حجاب بين المرء ونفسه؟ أم إنهم يريدون للنموذج الصوفي أن يقتصر على صفوة قليلة، وألا يشيع في الناس؟

إن في تراثنا ميلًا شديدًا نحو تحقير الحياة الدنيا والتقليل من شأنها وضرورة أن يصرف الناس أنظارهم عنها حتى لا تفتنهم الفانية عن الباقية، وهو ميل قد تخفق له قلوبنا وتهتز مشاعرنا لكثرة ما أوصينا به، لكنه يتناقض تناقضًا صريحًا مع أسباب النجاح والقوة في عصرنا، وعلينا أن نختار؛ فإذا قال قائل: «ليس من الناس أحد إلا وهو ضيف على الدنيا، وماله عارية، فالضيف مُرتحِل والعارية مردودة.» ثم أعجبتنا الصياغة الأدبية الجميلة، فلا يجوز أن يفتننا جمال اللفظ عن فساد المعنى؛ لأنه إذا كان الإنسان ضيفًا على الدنيا وشيك الارتحال، وذلك من حيث هو إنسان فرد، فليس هو كذلك من حيث هو نوع تتعاقب أجياله أبد الدهر؛ وإذن فالعمل المُنتِج الثابت واجبٌ مفروض، وليس صحيحًا أيضًا أن «المال عارية والعارية مردودة»؛ لأن معنى المال قد يتسع ليشمل المنشآت الصناعية الكبرى والمشروعات الحضارية العظيمة، فهذه رواسخ ثابتة على فترات طويلة من الزمن وليس «عارية مردودة»؛ وهكذا نجد في تراثنا الأدبي ما يبث قيمًا تصرف الناس عن الحياة الدنيا بكل أوجه نشاطها؛ فإذا أردنا معايشة عصرنا في حيويته وعقلانيته، وجب أن نُسقِط من حسابنا كل ما من شانه أن يجمِّد في عروقنا دماء الحياة أو يتجه بنا وجهة اللاعقل هذه، سئل علي بن أبي طالب أن يصف الدنيا، فقال: «ما أصف من دارٍ أولُها عناء وآخرها فناء …» وهذا صحيح، لكن لا ينبغي أن يفوتنا بأن المعوَّل هو الطريق الممتد بين عناء الولادة وفناء الموت. إن محفوظاتنا التي نحفظها من مأثورات التراث، ونحن بعدُ في المدارس الابتدائية أطفال، ثم تظل تتدرج معنا في الخط نفسه كلما ارتقينا سُلَّم التعليم، تكاد تلتقي كلها — في هذا الموضوع الذي نتحدث الآن عنه — عند نقطة واحدة هي التحريض على الفرار من الفاعلية الحيوية التي يقتضيها الإقبال على الدنيا، بحجة أنها «فانية» و«باطل يصرف النظر عن سبيل الحق» وما شابه ذلك، فنخرج من المدارس آخر الشوط وهذه هي النماذج المثلى أمام أبصارنا، ولولا أن فطرة الحياة نفسها تدفع الأحياء في الطريق السليم، لتأثَّرنا بهذه النماذج، كما يفعل المتصوفة الزاهدون، فنترك الدنيا لا أدري لمن؟ كل هذا نشأ من عوامل ثقافية في كياننا الفكري، من بينها انحصار النظر في حياة «الفرد» الواحد، ولا عجب بعد ذلك أن تُسرِع مؤسَّساتنا الاجتماعية إلى الانهيار؛ لأن شرط بقائها هو أن يعمل الأفراد ونُصبَ أعينهم امتداد البقاء ﻟ «الأمة» في مجموعها الذي يتخطى في وجوده حواجز الزمن. مَن منا لا يحفظ منذ طفولته عبارات حِكمية وأبياتًا من الشعر تُحاول بجمال صياغتها اللفظية أن تنفِّره من الدنيا بكل من فيها وما فيها؟ وإنه ليقفز إلى ذاكرتي الآن بيت أبي نواس:

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشَّفت
له عن عدو في ثياب صديق

ولم ألحظ إلا الآن حقيقة محتواه، فما هي الدنيا إلا أن تكون ناسًا وطبيعة؟ فكيف لا تكون الطبيعة ولا يكون الناس — بعد امتحان تلك وهؤلاء — إلا أعداء اتَّشحوا بثياب الأصدقاء ليخدعونا؟ أليس الناس هم الذين أتعاون معهم ويتعاونون معي على إعداد الطعام وإقامة البيوت، وعلى التعليم من جهل والتطبيب من مرض؟ ثم أليست الطبيعة هي ما فيها من ضوء وكهرباء وهواء وماء وحديد ونحاس، فلو كانت هذه كلها أعدائي وأردت اجتناب عداوتها، فماذا يقترح عليَّ أبو نواس بديلًا لها ليكون هو الصديق؟ أحسب أن لا بديل إلا الموت، وهذه هي خلاصة ما يحملنا الجانب الصوفي من تراثنا على فعله. إنه لمِمَّا يميِّز العقلَ البدائيَّ أن يرى صاحبه في كل شيء إما عدوًّا أو صديقًا، مع أن الصداقة والعداوة — عند النظرة الأعلى — لا يُجديان نفعًا لمن شاء أن «يفهم» العالم من حوله على أسس موضوعية علمية.

أود هنا أن أؤكِّد للقارئ بأنني — كسواي من حملة التراث العربي — أُحسُّ خفقة القلب كلما قرأت للمتصوفة أو لغيرهم ممن يبشِّرون بالقيم نفسها، وكأنما هي الخفقة التي تحفِّزني أن ألبِّي الدعوة إلى زهد في الدنيا وانصراف عنها، وإلى وأد الرغبات في أكمامها؛ وبالتالي وأد النفس في مَنبتها، لكنني بكل هذا الذي أعرضه على القارئ من وجوب الإعراض عن الجانب اللامعقول من تراثنا، ونشر المعقول وحده من ذلك التراث. إنما أغالب في جوفي نزعة بثَّها القوامون على تربيتي وتعليمي بما وضعوه أمام عيني من نماذج حملوني على احتذائها ولو من الناحية النظرية التي تجعلها أملًا إن لم تكن عملًا.

مؤدَّى النظرة الصوفية الزاهدة التي يحملنا عليها التراث في جوانبه اللاعقلية هو أن الدنيا بأسرها «وهم»، لا فرق فيها بين ما يعُده الناس خيرًا وما يعده الناس شرًّا. نقول «ما يعده الناس»؛ لأن المتصوف حينما يعلو عن تفصيلات الحياة الدنيا بخيرها وشرها، يرى أن «الحق» الأعلى هو خير صِرف، فلئن كانت ظواهر الحياة الدنيا تتفاضل خيرًا وشرًّا في أعين الناس، فالكون في إجماله خير ويستهدف الخير وليس ثمةَ شرٌّ يُعارضه، ولو اصطنعنا هذه الوجهة من النظر لما عرفنا بأي مقياس نميز بين المحمود والمرذول من جوانب حياتنا العملية، عندما نسعى فيها إلى علم وصناعة وزراعة وغير ذلك، إذا كانت هذه كلها أوهامًا يجب الارتفاع عنها إلى حيث «الحق» الذي تنمحي فيه الفواصل والتجزئة. ولطالما تردَّد في النفس سؤال كلما طالعت كتابًا أو قولًا لمتصوف، يُحاوِل به أن يردَّنا عن أوهام الحياة الدنيا وخداعها إلى عالم أعلى هو عالم «الحق»، الذي يتنزه عن تحولات الزمن وتغيراته: تُرى ماذا عسى هذا الوجدان الصوفي أن يكشف لنا من حقائق الدنيا؟ إنه لا يكشف لنا البتة عن شيء، اللهم إلا عن طبيعة نفسه هو، أو قل إنه قد يكشف لنا عن طبيعة النفس البشرية عامة، وذلك على أحسن الفروض. أما ما ليس نفسًا بشرية فهو فيه أشد منا جهلًا؛ فلا طبيعة الكون بصفة عامة عرفناها منه، ولا طبائع الكائنات بصفة خاصة كُشفت لنا، فسواءٌ وُجد هذا الجانب اللامعقول من تراثنا أو لم يوجد، فلم يكن ليتأثر بوجوده أو بعدمه إنسانٌ واحد من البشر في طريقة معايشته لظروف هذا العصر العلمي العملي الصخَّاب بضروب الحركة والنشاط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤