حصاد الدراسة
إن الاتجاهات التي أَدَّت إلى ظهور ثقافة الطبقة الوسطى، وأتاحت فرصة لها مَغزاها للتعبير من خلال الكتابة، والتي قُمنا بتقديمها في هذه الدراسة؛ ترسم صورة لثقافة القرنين السابع عشر والثامن عشر تختلف تمامًا عن الصورة المُستَقبَلة عند المؤرِّخِين المُحدَثِين. فلا تقتصر دراستنا هذه على إقامة الدليل على وجود مثل تلك الثقافة، وأنه يمكن تحديدها فَحسْب، بل ذهبت أيضًا إلى أن لتلك الطبقة دورًا فيما يَتَّصل بالواقع المعاصر، وما تَرتَّب عليه من تطورات.
ويعني هذا الطرح أن ثقافة القرن التاسع عشر لا يمكن فَهْمُها على أنها إقامة المتاحف، أو إدخال الأوبرا أو المسرح، وانتشار الصحف، ومع إقرارنا بأهمية تلك — البِدَع — فهي تُمثِّل اتجاهًا واحدًا في ثقافة القرن التاسع عشر وليس ثقافة القرن كله. أضف إلى ذلك، أنها في معظمها (باستثناء الصحف) تربط هذا الاتجاه بالشرائح الاجتماعية العليا، ولا يمكن فَهْمُها باعتبارها ممثِّلة للمجتمَع أو مُعبِّرة عن مختلف القوى الاجتماعية.
إن ظهور ثقافة ترتكز على التعليم بين بعض أفراد الطبقة الوسطى الحَضَرية، تطوَّرت في اتجاه مستقِل عن اتجاه تطوُّر ثقافة المُؤسَّسة في تلك الفترة الزمنية، وبعيدًا عن سياسات الدولة التي وجَّهَت النظام التعليمي في القرن التاسع عشر، يقوم شاهدًا على حيوية (دينامية) أفراد الطبقة الوسطى، وأهمية ثقافتهم كأساس قامت عليه التطورات التالية.
وتضمَّنَت ثقافة الطبقة الوسطى في بعض ملامحها «الحداثة» التي اعتمد عليها القرن التاسع عشر؛ فقد أوجدت الظروف المركبة للقرنين السابع عشر والثامن عشر؛ عناصر مهمة «للحداثة» في ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية تَمثَّلت في رؤيتهم للعلم، باعتباره واسع المدى، شاملًا، عمليًّا، واقعيًّا، ومُتاحًا للراغبِين في طلبه، من خلال اهتمامهم بالفرد العادي، وفي تجارب الحياة اليومية، وبروز الحياة الخاصة للفرد كمصدر للمعرفة عند الشخص المتعلم، مستقلة تمام الاستقلال عن أي معانٍ غيبية.
لماذا لا نرى رابطة بين الكتابات المعارِضة لفكر مؤسَّسة السُّلْطة عند محمد حسن «أبو ذاكر» في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وعند رجل مثل عبد الله النديم في أواخر القرن التاسع عشر. فقد كان الرجلان مُثقفَين، لا يندرجان ضمن نخبة السُّلْطة، ولهما اهتماماتهما الاجتماعية. كذلك يمكننا أن نربط بين اهتمام عبد الله النديم بالفرد العادي، واهتمامه بالقضايا الاجتماعية، ونقده لبعض الجماعات التي قَلدَت الأوربيين في ملبسهم ونمط حياتهم، ومعارضته لممارسات المتصوِّفة … يمكن أن نربط بين ذلك كله وثقافة القرن السابق عليه؛ حيث تناول في كتاباته الحقائق الاجتماعية التي لاحظها في البيئة المحيطة به، كما كانت له آراؤه السياسية وانتقاداته لأهل السُّلْطة، كذلك قام يعقوب صَنُّوع — في السبعينيات من القرن التاسع عشر — باستخدام العامية في الكتابة بأسلوب ينضح سخرية من مؤسَّسة السُّلْطة التي منعت عرض مسرحياته، غير أن تلك الانتقادات لم تربط بين اتجاه أولئك الكُتاب ونظرائهم في القرن الثامن عشر.
وكان اتخاذ الثقافة المحلية إطارًا مرجعيًّا من أهم ملامح ذلك الاتجاه الذي تَطوَّر نتيجة التحولات الجيوسياسية الإقليمية، ويمكن اعتبارها مصدرًا من مصادر ما أصبح يُعرَف «بالثقافة الوطنية». وقد بَيَّنَت هذه الدراسة أن الثقافة التي تطورَت على يد الطبقة الوسطى القاهرية كانت محلية الطابع، مختلفة كثيرًا عن الثقافة الإسلامية عالمية الطابع، أو ثقافة «العلماء». وتجليات الطابع المحلي لهذه الثقافة واضحة في استخدام اللغة الدارجة في الكتابة، وكذلك استخدام التعابير المحلية، والتعبير غالبًا عن هموم محلية خالصة، وهو اتجاه برز في بعض المناطق الأخرى من الدولة العثمانية، ربما للأسباب نفسها.
وقد تم التعبير عن تلك الملامح في عدد صغير — نسبيًّا — من الكتب التي عكست خبرة لا تَقِل عمقًا عن خبرة القرن التاسع عشر، فقد كانت ثقافة الطبقة الوسطى في القرن الثامن عشر أساسًا قامت عليه التطورات الثقافية التي شهدها القرن التاسع عشر. وإذا أخذنا ذلك في اعتبارنا، وَجدْنا الثقافة الحديثة أقل تسطحًا، وأكثر تنوعًا وتركيبًا مما كان يُظَن، ويعني ذلك أن ثمة عمقًا تاريخيًّا للثقافة الحديثة، وأنها لم تأتِ من أعلى بإيحاء من الحاكم أو نتيجة لسياسات أخذت بها الدولة، كما أنها لم تأتِ نتيجة للنماذج الغربية التالية.
وبعبارة أخرى، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في ما يعنيه مصطلح «النهضة» في القرن التاسع عشر. ولا يكفي أن نضع في اعتبارنا دور النُّخْبة، أو الدول، أو سياسة الدولة، طالما أنها كانت تلك تمثل جانبًا من الحقيقة، ولا تُعبِّر عن الحقيقة الكاملة بمختلف جوانبها. والفهم الكامل لما شهده القرن التاسع عشر، إنما يتحقق عندما نضع في اعتبارنا مكوِّنات الحقيقة الأقل وضوحًا، والأقل بروزًا، ولكنها كَوَّنت قواعد سياسية لتلك التطورات.
وهناك بُعد آخر كان أساسًا للتطورات التي حدثت نتيجة لسياسات محمد علي باشا هو ظهور المتعلِّمِين من أفراد الطبقة الوسطى، الذين تَميَّزت ثقافتهم عن ثقافة «العلماء». لقد ارتبط التحديث في عهد محمد علي بالإصلاحات التي أُدخلت على الهياكل الإدارية للدولة، وعلى الأداة العسكرية، والصحة، والتعليم. ولكن، هل كان من الممكن تحقيق تلك الإصلاحات إذا كان مَن تولَّوا تنفيذها أناسًا لم يَتعوَّدوا مثل هذا الانفتاح، وتَقبُّل الأفكار الجديدة، وغيرها؟
إننا نستطيع فقط أن نخمِّن أبعاد دورهم المتوقَّع في الإدارة الجديدة، التي أقامها محمد علي، والتي استخدمت أعدادًا كبيرة من الناس في مختلف المواقع الإدارية، وليس غريبًا أن تصور أن أولئك الأفراد لعبوا دورًا في الإدارة الجديدة، وفي تحريك هيكل السُّلْطة الحديث. فنحن نعلم أن الموظَّفِين الذين شغلوا الوظائف المتوسطة في الإدارة الحكومية، تَحمَّلوا جانبًا كبيرًا من عبء دفع عجلة العمل. كذلك كانت إقامة المدارس الحديثة في القرن التاسع عشر، لا تحقق بذاتها الإصلاح التعليمي المنشود، ما لم يكن هناك مستوًى معيَّن من القبول والتعاون متوفرًا عند أولئك الذين أُقيمَت من أَجْلهم هذه المدارس، أو مَن اتصلوا بها بحكم عملهم. والواقع أن إقامة النظام التعليمي الجديد جاء مُنفصلًا عن ثقافة «العلماء»، مؤكدًا لمنهج الملاحظة والتجربة، وبذلك ربما يكون قد تم إدماج عناصر هامة من ثقافة الطبقة الوسطى المتعلِّمة في ذلك النظام. وهكذا مُهِّدَت الأرض لتوسيع إطار نظام التعليم، وأُتِيحَت الظروف الملائمة لتأصيل جذور الثقافة.
وهناك جوانب أخرى تتصل بمغزى هذه الثقافة، فهي تضيف بُعدًا لثقافة الفترة يساعدنا على فَهم بواكير العصر الحديث، يُكسب المشهد الثقافي العالمي تنوعًا، وثراءً، ويعطيه عمقًا جديدًا. فعندما تُدمَج ثقافة متعلِّمي الطبقة الوسطى الحَضَرية في الصورة، نحصل على رؤية شاملة للثقافة كلها. والحق أن المصطلحات التي استُخْدِمت للدلالة على ثقافة القرن الثامن عشر مثل القول بأنها «ثقافة تقليدية» أو «ثقافة دينية»، يفتقر إلى الدِّقَّة، ولا يخدم إلا أولئك الذين يريدون أن يجعلوا الصورة الغنية المركبة تبدو بسيطة يمكن فَهْمُها، ولكن ذلك يحرم مَن ينظر إليها من سَبْر غور عمقها وإدراك تركيب تكوينها، ومن ثَمَّ يكون «فهمه» لها سطحيًّا.
وبذلك تُقدِّم لنا ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية تعليقًا على المشهد المعاصر بطريقة تعجز عن تحقيقها دراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ لأن مصادر ثقافة الطبقة الوسطى محدودة، وخاصة ما اتصل منها بالتاريخ الاقتصادي والسياسي. غير أن فهم التطورات الثقافية للطبقة الوسطى تُلقي الضوء على السياق الاجتماعي، وتكشف عن أبعاد لا يستطيع التاريخ الاجتماعي توضيحها. كذلك تساعدنا هذه التطورات على رؤية المشهد الاجتماعي من زاوية أخرى مختلفة عن غيرها من الزوايا. كما أن اعتبار ثقافة تلك الفترة جزءًا من عملية التغير وثيقة الصِّلة بالمجتمع وبالتحول في هياكله، دون الحكم المجرد على نوعية الإنتاج الثقافي، على نحو ما فعلنا في هذه الدراسة، فإن دور الثقافة في عملية التغيُّر يَحسُن النظر إليه باعتباره جزءًا من سياق التحول التاريخي الأوسع نطاقًا.
أَضِف إلى ذلك، أن هذه الدراسة تُقدِّم رأيًا مناقضًا لنظرية «التدهور» — إذا كانت لا تزال بحاجة إلى دحض — بدلًا من النظر إلى استخدام الدارجة قرينة على ضعف مستوى اللغة العربية، أو انتشار الكتابة بخطوط تفتقر إلى قواعد الخط على أنه تَدهوُر لفن الخط العربي، يمكن أن نفسِّر ذلك في إطار بروز طبقة وسطى أَقبلت على القراءة واقتناء الكتب، مما أَثَّر على إنتاج الكتب من حيث الشكل والمضمون.
وإذا كانت هذه الدراسة قد رَكَّزت على الطبقة الوسطى القاهرية، فإن ذلك لا يعني أن تَطوُّرها أو تطوُّر القاهرة كان فريدًا في بابه، أو أن القاهرة اختلفت جذريًّا عن المدن الكبرى الأخرى في الدولة العثمانية؛ مثل حلب، أو إسطنبول. فالاتجاهات التي نجدها بالقاهرة يمكن ملاحظتها في المدن الفرنسية أو الإيطالية، وفي مدن الدولة العثمانية كإسطنبول، ودمشق، وحلب. فانخفاض أسعار الورق نتيجة انخفاض تكلفة الإنتاج (الذي كان اختراعًا أوروبيًّا) كان حافزًا للتوسع في تجارته، دون ارتباط بحدود سياسية، ونَتج عن ذلك انتشار اقتناء الكتب، وتكوين أفراد من الطبقة الوسطى مكتبات خاصَّة بهم في بعض المدن الواقعة شمال وجنوب حوض المتوسط، مع فروق زمنية طفيفة لبروز هذه الظاهرة هنا وهناك.
وما نريد أن نَلفت النظر إليه هنا، أن هناك إشكالية حول فَهم ثقافة العصر العثماني، مَردُّها إلى الحاجة إلى المزيد من الدراسة لها. ومن بين نتائج هذه الدراسة عدم صلاحية مصطلح «الثقافة العثمانية» في هذا السياق؛ لأنه استُخْدِم في الماضي لتغطية كل الاتجاهات. غير أن دراسة الثقافة ترتبط بإطار جغرافي محدد ولكنه مُركَّب ومتغيِّر، فالأبعاد المختلفة التي تكون ثقافة مُعيَّنة؛ كالدين، والاقتصاد، والتعليم، وغيرها لا تقع كلها بالضرورة داخل حدود طبيعية واحدة. فحدود الثقافة الإسلامية — عالمية الطابع — امتدت لتضم كيانات سياسية مختلفة، وقُوى اجتماعية متنوعة. وكان لحدود الرأسمالية التجارية أبعاد أخرى، تشمل حدود السُّلْطة السياسية، وحدودًا غيرها مع درجات مختلفة من التداخل، والتغطية، وتحول التعامل على هذه المستويات.
وكبديل لمفهوم الثقافة «العثمانية» الذي يجعل إسطنبول مركزًا لها، ويضع الولايات العثمانية على أطرافها، طرَحْنا طريقة أخرى لفهم التاريخ الثقافي للإقليم، لا زال بحاجة إلى تطوير. فمن أهم ملامح ثقافة إسطنبول وجود البلاط السلطاني القوي والثري، وثقافة البلاط التي عَبَّرت عن ذلك بكُتَّابها ورسَّامِيها وخطاطِيها، الذين وضعوا النماذج التي يجب أن يتبعها الآخرون. وأدَّى وجود عدد هائل من أفراد المُؤسَّسة الدينية التي أَنتجت واستهلكت الكتب وغيرها، إلى إنتاج نوع من الثقافة لا يُوجَد — بالضرورة — في غيرها من المدن.
وفيما يتعلق بثقافة الطبقة الوسطى، قُمنا بدراسة تجلِّياتها وعلاقتها بالهيكل سالف الذِّكر، وإمكانات التعبير الشفاهي والمُدوَّن. ومن الممكن أن تكون الظروف في القاهرة موائمة للطبقة الوسطى؛ لأنها لم تكن خاضعة لسيطرة هيكل هيراركي لفترة من الزمن أو لكونها ذات خصائص ثقافية وتاريخية مُعيَّنة. والدراسة العميقة لإسطنبول والمدن الأخرى هي التي تُعيننا على تكوين واستيعاب صورة شاملة. وحقل الدراسات العثمانية من الحقول التي تنمو بسرعة في تاريخ الشرق الأوسط، وهناك كثير من الأعمال التي ظهرت على شكل دراسات حالَة مخصصة لأقاليم أو مدن مُعيَّنة. وربما نرى يومًا ما — نرجو ألا يكون بعيدًا — دراسات تضع الاتجاهات الإقليمية في اعتبارها ليس على أساس فكرة المركز والأطراف التي تُعد من تراث مدرسة الاستشراق القديمة، التي تقيس تطور إقليم مُعيَّن على ضوء ما حققه إقليم آخر في سياق مختلف، ولكن على أساس دراسات حالَة، تقدم نظرة متعمِّقة لمجتمع مُعيَّن، والكيفية التي تطوَّر بها، مثل هذه الدراسات تضع الأساس، الذي يمكن أن تقوم عليه دراسة شاملة للإقليم تتناول كيفية وأسباب تبلور اتجاهات مُعيَّنة مثل تلك التي كانت موضع عنايتنا في هذه الدراسة، ومدى انتشار الاتجاه حيثما تُوجد اتفاقات أو اختلافات في الإطار الزمني، والطريقة التي تَحقَّق بها الاتجاه المعنِي، والقوى الاجتماعية التي ارتبطت به، وغير ذلك مما تتطلبه الدراسة.
وخلاصة القول
إننا ندعو إلى إعطاء الدراسات الخاصة بتاريخنا في العصر العثماني دفعة جديدة على طريق، تستهدف تحقيق غايات أبعد منالًا.