الفصل السابع عشر

المدة الأخيرة لنابوليون في القطر المصري

من ١٤ يونيه–٢٢ أغسطس سنة ١٧٩٩

(١) مسألة القضاء الشرعي

كانت المدة التي قضاها نابوليون في القطر المصري بعد عودته من سورية إلى مبارحته هذه الديار «من ١٤ يونيه إلى ٢٢ أغسطس سنة ١٧٩٩» مملوءة بالحوادث الهامة، منها ما هو محلي موضعي، ومنها ما هو عام دولي، فمن الحوادث المحلية التي كان لها شأن هام واهتمام في الهيئة الاجتماعية المصرية حادثة ابن القاضي التي فتحت باب القضاء الشرعي في مصر، وقد سبق للقارئ أن علم من الفصل السابق في الحوادث التي وقعت أثناء الحملة السورية، أن مصطفى بك أمير الحج قد استغوى إبراهيم أفندي أدهم قاضي قضاة القطر المصري المعين بأمر جلالة السلطان، خليفة المسلمين صاحب السلطة الشرعية، فأصبحت مصر في ذلك الحال بغير قاضٍ شرعي تصدر باسمه الأحكام ويأذن للقضاة بالنظر في الدعاوى، ويظهر أن الجنرال دوجا لما تغيب القاضي خاف من اضطراب القضاء، فساس الأمور بحكمة ودهاء، وترك مركز القاضي لولده المدعو ملأ زاده أفندي، ويظهر أن العلماء والمشايخ والأعيان لم ينكروا عليه ذلك بل سرهم ورضوا به، كما يتبين لنا من تمسكهم بابن القاضي واهتمامهم بأمره كما سيجيء بيانه، ولا أدري كيف كان تصور القوم في ذلك الزمن، ألمجرد أن إياه كان متواليًا للقضاء بفرمان سلطاني، يكون لذلك الفتى ما كان لأبيه من السلطة الشرعية؟ أم لمجرد أنه تركي وابن تركي يكون له حق النظر في شئون المسلمين والفصل في قضاياهم وخصوماتهم؟

وعلى كل حال فإن الذي ارتضاه الجنرال دوجا لم يرضه نابوليون، وأراد البت في مسألة القضاء الشرعي في مصر حتى يقطع الصلة بينها وبين السلطنة العثمانية بعد كل الذي أظهر من رغبة الاتفاق مع الدولة العلية، وبعد علمه بأن تركيا قد اشهرت عليه الحرب، وأن الجيوش العثمانية بالاتفاق مع إنكلترا، قادمة للنزاع معه على السلطة في هذه الديار! فلم يكد يفرغ نابوليون من حفلاته وزياراته، وتوزيع منشوراته، حتى أصدر أمره في ٢٢ محرم سنة ١٢١٤ بإلقاء القبض على ملأ زاده، ابن القاضي، وسجنه في القلعة، فأحدث عمله هذا ضجة في الدوائر الأهلية، كما يظهر ذلك من رواية الجبرتي الذي يقول: «فلما اجتمع أرباب الديوان حضرت إليهم ورقة من كبير الفرنسيس فقرئت عليهم، ومضمونها أن ساري عسكر قبض على ابن القاضي وعزله، وأنه وجه إليكم أن تقترعوا وتختاروا شيخًا من العلماء يكون من أهل مصر ومولودًا بها يتولى القضاء ويقضي بالأحكام الشرعية، كما كانت الملوك المصرية يولون القضاء برأي العلماء، فلما سمعوا ذلك أجاب الحاضرون بقولهم إننا: جميعًا نتشفع ونترجى عنده في العفو عن ابن القاضي، فإنه إنسان غريب ومن أولاد الناس، وإن كان والده قد وافق كتخدا الباشا «مصطفى بك أمير الحج» في فعله فولده مقيم تحت أمانكم.»

فانظر كيف أهمل المشايخ الأفاضل المسئولون عن إقامة العدل وإرشاد الناس أمر مسألة القضاء التي فتح بابها عليهم نابوليون، واهتموا بادئ ذي بدء بأمر ابن القاضي وخلاصه! ذلك لأن الهيبة التركية ونفوذها متأصلان في نفوس القوم، ولم تكن جلسة الديوان هذه قاصرة على أعضائه كما يؤخذ ذلك من رواية الجبرتي عن وجود السيد السادات، فقد روى أنه كان حاضرًا في المجلس وأغلظ القول للفرنساويين، ولم يذكر الجبرتي شهودًا آخرين من العلماء والأعيان، ممن ليسوا أعضاء هذه الجلسة التي قصد فيها الفصل في مسألة القضاء الشرعي، ولكن يؤخذ من العريضة التي قدمها المجتمعون لنابوليون، والتي عثرنا على صورتها بالفرنسية في كتاب شرفيس، أنه حضر تلك الجلسة التاريخية، عدا السيد السادات، المشايخ الأمير الشيخ الحريره «كذا في الأصل وصوابه الحريري» والدسوقي الجوهري والسرسي والعريشي والعناني، وكثير من أعيان القاهرة وقد شدد السيد السادات في طلب العفو عن ابن القاضي وقال للمندوبين الفرنساويين الحاضرين «كيف تفعلون هذا وأنتم دائمًا تقولون إن الفرنساوية أحباب العثمانية، وهذا ابن القاضي من طرف العثماني فهذا الفعل مما يسيء الظن بالفرنساوية ويكذب قولهم خصوصًا عند العامة.»

قال الشيخ الجبرتي: «فلما ترجم هذا الكلام للوكيل الفرنساوي قال: لا بأس بالشفاعة، ولكن بعد تنفيذ أمر ساري عسكر في اختيار قاضٍ خلافه.» ثم هددهم بقوله: «ولا تكونوا مخالفين يلحقكم الضرر بالمخالفة فامتثلوا، وعملوا القرعة فطلعت لأكثرية باسم الشيخ أحمد العريشي الحنفي ثم كتبوا عرضحالًا بصورة المجلس والشفاعة.»

فيظهر من هذه الرواية أنه لولا تهديد الفرنساويين للمشايخ لما قبلوا انتخاب واحد منهم من علماء مصر لتولي القضاء في الديار المصرية، ولفضلوا أن تنتقل تلك الوظيفة السامية من الوالد إلى ابنه، ولو كان الابن فتى غير عالم بالشرع الشريف، وذلك لمجرد أنه تركي وابن تركي! وهذه العاطفة جديرة بالنظر، وكان لها ولا يزال لها شأن مهم في أمور هذه الديار، ويجب أن تبقى دائمًا موضع اهتمام وعناية من يتم له الأمر على ضفاف وادي النيل.

ولما علم نابوليون بما دار في المجلس من الكلام والأخذ والرد حنق على السيد السادات واستدعاه إليه ولامه وعنفه، ولولا تلطف الشيخ المهدي وحيلته ونيله ثقة نابوليون وحسن ظنه، لاتسعت مسافة الخلف، ولربما صودر السيد السادات وعوقب كما وقع له بعد ذلك في مدة الجنرال كليبر.

وواجب علينا أن نقول في هذا الموقف أن السيد محمد أبا الأنوار شيخ السجادة الوفائية في ذلك الزمن، كان من ذوي الكفاية والجرأة وكان له من النفوذ والمنزلة في العالم المصري، ما جرأه مرارًا وتكرارًا على مقاومة النفوذ الفرنساوي والاحتفاظ بالكرامة الإسلامية، وكان على جانب عظيم من العلوم الدينية وتلقى دروسه على أكبر مشايخ ذلك العصر؛ قال عنه الجبرتي، وهو قليل المدح، إنه لما انتظم أمره أحسن سلوكه بشهامة وحكمة ورياسة وتؤدة، مع التباعد عن الأمور المخلة بالمروءة، ومع أنه كان صديقًا للشيخ عبد الرحمن الجبرتي بدليل قوله عنه: «ولما قدمت الفرنساوية لم يتعرضوا له في شيء وراعوا جانبه وقبلوا شفاعاته وتردد إليه كبيره وأعاظمهم وعمل لهم الولائم وكنت أصاحبه في الذهاب إلى مساكنهم والتفرج على صنائعهم ونقوشهم وتصاويرهم وغرائبهم» … إلخ … فإنه لم يخله من الانتقاد واللذع اللذين كان يميل إليهما الجبرتي بطبعه، وكانا سببًا في نكبته في آخر عمره، فوصف الشيخ السادات بالشره في حب المال، وبالكبرياء والدعاوى الكاذبة، فمن قوله عنه، إنه ترفع على العلماء والأقران وصار يلبس قلووقًا بعمامة خضراء، متشبهًا بالأكابر من الأمراء، وبعدًا عن التشبه بالمتعممين والمقرئين والفقهاء، ولما طالت أيامه، وماتت أقرانه، الذين كان يستحيي منهم ويهلبهم، غالى في دعواه وصار في داره كبيت حاكم الشرطة يضرب ويجلد، ومدحوه على منبر الخطابة في صلاة الجمعة في زاويتهم المعروفة أيام الموالد، حتى إن الجبرتي سمع قائلًا يقول بعد الصلاة لم يبق على الخطيب إلا أن يقول: اركعوا واسجدوا واعبدوا الشيخ السادات، إلى غير ذلك من الصفات التي حفظ بها هيبة ذلك البيت القديم، وألبسه بها هالة من المجد والوقار، ولكن خلطهم لأنسابهم، وامتزاج دمائهم بأبناء السراي من النسوة الرقيقات من الجراكس والأرمن والأروام، أدخل في خلفهم بذور الفساد والانحلال، فانقرض ذلك المجد وهوى ذلك الجلال!

وقلد الشيخ أحمد العريشي قضاء مصر، ولم يذكر لنا الجبرتي ولا سواه صورة المكاتبة التي بعث به المشايخ يرجون العفو والإفراج عن ابن القاضي، وقد رأيت صورتها باللغة الفرنسية فيما نقله كرستبان شيرفيس في كتابه «نابوليون والإسلام» وخلاصة تلك العريضة أن أعضاء الديوان قد انضم إليهم في جلسة خصوصية المشايخ السادات، والأمير، والحريري، والدسوقي، والجوهري، والسرسي، والعريشي، والعناني، ,كثيرون من أعيان المدينة قد اختاروا بالاقتراع بناء على طلب الجنرال بونابرته الشيخ أحمد العريشي لتولي قضاء مصر مكان ابن القاضي المعزول، وأن أولئك المجتمعين من أعضاء الديوان والعلماء والأعيان يرجون بونابرته في الصفح أو الإفراج عن ابن القاضي الذي لم تكن له علاقة بعصيان أبيه وانضمامه إلى أمير الحج، ثم ذكروا له أن الأهالي تولاهم الكدر والحزن على ما أصاب القاضي وولده، وأن أمه وجدته وأخته في غم شديد واضطراب عظيم قلقًا عليه، ومما قالوه أيضًا: إنه لو عين للبلد كل يوم قاضٍ جديد فإنه لا يرتاح لهم بال، ما دام الذي كان متوليًا للقضاء معتقلًا مسجونًا، وإن أعضاء الديوان يتكلفون بابن القاضي ويضمنون حسن سيره وولاءه للحكومة، وذكروا له أن واجبهم هو الذي قضى عليهم بهذا الطلب لكي يوقفوا بونابرته على عواطف الأمة وشعورها، إزاء ذلك الحادث، ودعوا له بطول العمر والسلامة! فلما وصل هذا الخطاب إلى نابوليون أصدر أمره بإعداد حفلة لتولية الشيخ العريشي قضاء مصر، وخلع عليه خلعة ثمينة وسار في موكب كبير إلى دار المحكمة الكبرى بين القصرين، ثم أصدر أمره بإطلاق سراح ابن القاضي، وكان الرجل الطيب الوجيه السيد أحمد المحروقي كبير تجار مصر قد أخذ أسرة القاضي إلى داره تطمينًا لخواطرهم، وانتهى ذلك الحادث الذي أظهر فيه المشايخ والأعيان تضامنًا يحمدون عليه.

ويظهر حقيقة أن الشعب المصري كان متأثرًا من اعتقال ابن القاضي حتى إن الفرنساويين رأوا من الضروري، على رواية الجبرتي، عندما أفرجوا عن ذلك الفتى، «أن يركب مع أرباب الديوان والأغا وساروا به وسط المدينة ليراه الناس ويبطل القيل والقال».

وسرعان ما فعل ذلك نابوليون حتى أتبع خروج ابن القاضي من سجن القلعة بمنشور طبعه ووزعه وألصقه بالأسواق كرد على خطاب العلماء، وقد ترك لنا الجبرتي صورة هذا المنشور كعادته في جمع ما طبع ووزع، وعدم وصول يده إلى غير ذلك، مما كتبه أعضاء الديوان، ولما كان هذا المنشور على جانب من الأهمية؛ لأنه يشرح سياسة نابوليون ورأيه في مسألة القضاء الشرعي رأينا أن نأتي على أهم ما جاء فيه، قال:
من ساري عسكر الكبير بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية محب أهل الملة المحبوبة، خطابًا إلى السادات العلماء أنه وصل لنا مكتوبكم بشأن القاضي فنخبركم أن القاضي لم أعزله، وإنما هو هرب من إقليم مصر وترك أهله وأولاده وخان صحبتنا من المعروف والإحسان الذي فعلناه معه، وكنت استحسنت أن ابنه يكون عوضًا عنه في محل الحكم في مدة غيبته، ولكن ابنه لم يكن قاضيًا متواليًا للأحكام على الدوام؛ لأنه صغير السن وليس أهلًا للقضاء، فأنا لا أحب مصر خالية من حاكم شرعي يحكم بين المؤمنين، فاستحسنت أن يجتمع علماء المسلمين ويختاروا باتفاقهم قاضيًا شرعيًّا من علماء مصر وعقلائهم لأجل موافقة القرآن العظيم باتباع سبيل المؤمنين، وكذلك مرادي أن حضرة الشيخ العريشي الذي اخترتموه جميعًا أن يكون لابسًا من عندي وجالسًا من المحكمة، وهكذا كان فعل الخلفاء في العصر الأول باختيار جميع المؤمنين … وسبب رفعنا لابن القاضي «رفعه للقلعة؛ أي: اعتقاله» سكون الفتن والإصلاح بين الناس، وأعرف أن أباه ما كان يكرهني، ولكنه ذهب عقله وفسد رأيه، وأنتم يا أهل الديوان تهدون الناس إلى الصواب والنور من جنابكم لأهل العقول، فعرفوا أهل مصر أنه انقضت وفرغت دولة العثمانلي، من أقاليم مصر وبطلت أحكامها منها، وأخبروهم أن حكم العثمانلي أشد تعبًا من حكم الملوك وأكثر ظلمًا، والعاقل يعرف أن علماء مصر لهم عقل وتدبير وكفاية وأهلية للأحكام الشرعية يصلحون للقضاء أكثر من غيرهم في سائر الأقاليم، وأنتم يا أهل الديوان عرفوني عن المنافقين المخالفين أخرج من حقهم١ لأن الله تعالى أعطاني القوة العظيمة لأجل ما أعاقبهم فإن سيفنا طويل ليس فيه ضعف، ومرادي أن تعرفوا أهل مصر أن قصدي بكل قلبي حصول الخير والسعادة لهم مثل ما هو بحر النيل أفضل الأنهار وأسعدها، كذلك أهل مصر يكونون أسعد الخلائق أجمعين، بإذن رب العالمين. ا.ﻫ.

ومع أن نابوليون قد أكد على المشايخ في خطابه الذي وجهه إليهم أن يكون القاضي الذي ينتخبونه من أهل مصر ومولودًا بها، فإن الشيخ أحمد العريشي لم يكن مصري الأصل؛ لأنه في الواقع ونفس الأمر سوري، ولد في بلدة خان يونس واسمه أحمد اللجام الخانيونسي أو اليونس، وقدم إلى الدار المصرية عام ١١٨٧ﻫ؛ أي: قبل هذه الحوادث بنحو اثنين وعشرين سنة، وتلقى الدروس بالأزهر والتصق بابن بلدته الشيخ عبد الرحمن اليونسي الملقب بالعريش أيضًا، وحضر الفقه على الشيخ حسن الجبرتي، والد الشيخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ، ثم تولى بعد الشيخ عبد الرحمن العريشي مشيخة رواق الشوام، وكان يسكن في دار واسعة بسوق الزلط، وقال عنه الجبرتي: إنه كان فصيحًا مستحضرًا منضلعًا من المعقولات والمنقولات وتُوفي سنة ١٢١٨ هجرية.

(٢) استعداد الإنكليز والترك

لم يكن ليكفي إنكلترا إخفاق نابوليون في غاراته على سوريا، أو فشله في مشروع تأسيس مملكة شرقية يسطو بواسطتها على الهند، بل بقيت إنكلترا مصممة على إخراج مصر من سلطة الفرنساويين، ولم تكن إنكلترا وحدها بقادرة على ذلك لصغر جيشها، وعدم إمكانه مجاراة الجيش الفرنساوي المدرب الذي يقوده نابوليون، نابغة الحرب في ذلك الزمان.

صحيح أنها سدت في وجهه السبل، وحطمت سفنه، وحالت بينه وبين بلاده إلا أن نابوليون قد أظهر في غارته على سوريا، ومقدرته على البقاء في مصر، أنه قادر بمن معه من الجيوش والقواد والعلماء أن يغير مركز مصر، ويرقي مواردها الطبيعية، ويصلح من شئونها الإدارية، بحيث يستطيع أن يوجد على ضفاف النيل دولة جديدة قوية ينشئ فيها السفن في البحر الأحمر، ويغير على الهند أو غيرها متى توفرت معداته، هذا عدا أن وجوده في مصر معطل لسير التجارة الإنكليزية، ولمشروعات إنكلترا الإمبراطورية، وإذا كان محمد علي الأمي، بلا قواد عظماء ولا علماء فضلاء، ولا مشرعين ولا مخترعين، استطاع بعد ذلك بعشرين عامًا أن يوجد من مصر الأساطيل والجيوش، فهلا كان في استطاعة نابوليون ومن معه، إذا بقوا في أرض مصر، أن يفعلوا فعله؟ لا شك في أن ذلك هو ما كان يفكر فيه نابوليون بعد واقعة أبي قير البحرية، كما صرح بذلك في كثير من أقواله.

ولم يكن لدى إنكلترا من الوسائل إلا استخدام الفكرة الإسلامية، وتحريض الدولة العثمانية والمماليك الذين اغتصب نابوليون الحكم من أيديهم، لمقاومة الفرنساويين وتكدير صفو عيشهم في أرض مصر حتى يتركوها، إما بالقهر وإما بالرضا والصلح، فلما تم اتفاق إنكلترا مع الدولة العثمانية وعاد نابوليون بالفشل من سوريا وضعت إنكلترا خطة لاحتلال مصر بواسطة الجيوش العثمانية في البر، وأسطولها تحت قيادة السر سدني سميث في البحر.

وكانت تلك الخطة تقضي بأن تبعث الدولة العثمانية جيشين، أحدهما تنقله السفن العثمانية والإنجليزية من رودس والموانئ العثمانية إلى أبي قير، والجيش الثاني يزحف من سوريا وتكون مقدمته مؤلفة من إبراهيم بك ومماليكه، ومن ينضم إليه من جيش الجزار، وإتمامًا لضمان نجاح هذا المشروع تقرر الاتفاق مع المماليك الموجودين في مصر تحت إمرة مراد بك وغيره من كبار الزعماء، مثل عثمان بك الطنبرجي وعثمان بك الشرقاوي وحسن بك الجداوي وغيرهم، ووضعت لذلك خطة مقتضاها أن يكون مراد بك مستعدًّا بجيشه في مديرية البحيرة وأن يكون عثمان بك الشرقاوي بعزوته ومماليكه في الشرقية، فالأول يلتقي بالجيش العثماني القادم بحرًا إلى أبي قير، والثاني ينضم إلى الجيش القادم من سوريا عن طريق العريش.

وربما سأل سائل: وكيف كان يمكن الاتفاق والمخابرة مع المماليك في الوجه القبلي، والفرنساويون في جميع بلاد القطر المصري قد سدوا في وجوههم السبل وضيقوا عليهم المذاهب؟ والجواب على هذا هو أن طرق الصحراء شرقًا وغربًا، كانت في أيدي العربان، وهم موالون للمماليك والأتراك، فأولئك كانت مهمتهم إيصال الأخبار والمراسلات بين مصر وسوريا وشواطئ طرابلس الغرب حيث تلقي السفن الإنكليزية مراسيها، ويلتقي ضباطها بالعربان، ويزودونهم بالرسائل والأموال لرؤساء البدو والمماليك، فيسير أولئك في الصحراء من واحة سيوه إلى وادي النطرون ثم إلى الفيوم وغيرها.

فلما تم وضع نظام تلك الخطة تحرك مراد بك بمن معه من المماليك من الصعيد إلى مديرية البحيرة، وانحدر محمد بك الألفي وعثمان بك الشرقاوي على الضفة اليمنى من النيل ومعهما نحو ثلاثمائة من فوارس المماليك، وانضم إليهم نحو ثلاثمائة أخرى من عرب الصحراء الشرقية، وعسكر هذا الجيش في البقعة المسماة «سبع آبار» بين السويس ومصر، وكان ذلك في ٧ يونيه سنة ١٧٩٩ «الموافق يوم الأحد ٣ صفر سنة ١٢١٤» وأخذت الرسل تذهب وتجيء بين ذلك المعسكر وأهالي الشرقية لتحريضهم على الثورة في وجه الفرنساويين، فتنبه لذلك الجنرال لاجرانج Lagrange المتولي القيادة في الشرقية، فزحف بفرقة من الخيالة ونصف أورطة من الهجانة وباغت ذلك الجيش الصغير من المماليك والأعراب واحتاط به في ليلة «٢٢ يوليه/٨ صفر» ودارت بين الطرفين معركة غير منتظمة انتهت بتشتت المماليك وقتل كثيرين منهم، وغنم الفرنساويون عددًا وافرًا من الجمال، وجميع ما كان مع تلك القوة من الميرة والذخيرة وأسروا نحو ثلاثين مملوكًا جيء بهم إلى القاهرة، وهذه الرواية عن المصادر الفرنسية، لا تختلف كثيرًا عن رواية الجبرتي التي سردها في حوادث ١١ صفر، «أي: بعد أربعة أيام من حدوث الواقعة»، وإنما ذكر الجبرتي أن القوة التي داهمت المماليك كانت مؤلفة من «جماعة من العسكر المنضمة إليهم» ثم قال: «فلما داهموهم بادروا بالفرار وركب عثمان بك بقميص واحد على جسده وطاقية فوق رأسه، وتركوا متاعهم وحملتهم، ووجدوا على فراش عثمان بك مكاتبة من إبراهيم بك يستدعيهم للحضور إليه بالشام.»
والحقيقة أن عثمان بك ومن معه استدعوا لانتظار إبراهيم بك ومماليكه وجيش الجزار، بناء على التعليمات الواردة من رسل الإنكليز، فأما إبراهيم بك — وهو دائمًا شديد الحرص — فكان يسير من غزة على مهل لكيلا يدخل مصر قبل قدوم الجيش العثماني من رودس، وذلك خوفًا من الوقوع في أيدي الفرنساويين، فلما جاءه خبر تلك الهزيمة لعثمان بك والألفي بك عاد أدراجه إلى سوريا، وأما الجزار الخبيث فاكتفى بعودة الفرنساويين من سوريا، واستخلاصه هو عكا، وامتداد نفوذه في الولايات السورية، ثم قلب للدولة العثمانية وللإنكليز ظهر المجن، ولم يحفل بفرمانات الدولة، ولا برسائل يوسف باشا الصدر الأعظم، الذي قدم بجيش عظيم إلى سوريا قاصدًا مصر، وكذلك لم يحفل بخطابات السر سدني سميث صاحب الفضل الأكبر عليه، ذلك الذي أنقذه من مخالب الفرنساويين وأبقاه سلطانًا مستبدًّا في عكا وسوريا، فلم يبعث ذلك الطاغية بما وعد به من الجند، ولا ما وعد به من الميرة والذخيرة إلى الجيش العثماني القادم بحرًا، ولذلك حنق عليه السر سدني سميث وعزم على التنكيل به، كما يؤخذ ذلك صريحًا من نص خطاب عثرت عليه في كتاب تاريخ الأمير حيدر الشهابي، مكتوب من السر سدني سميث إلى الأمير بشير الشهابي بعد هذا التاريخ بستة أشهر،٢ وأما مراد بك فتحرك بمن معه من الممالكي والعربان من الفيوم سائرًا في طريق الصحراء إلى أن وصل إلى جهة وادي النطرون في مديرية البحيرة، وهناك وقعت بينه وبين الجنرال «مورات» قائد الخيالة المشهور في تاريخ الحروب النابوليونية في أوروبا، موقعة انتهت بهزيمة مراد بك ورجوعه بمن معه من فوارسه إلى مديرية الجيزة جنوبًا، وفي رواية أخرى أن الجنرال «مورات» سبق مراد بك إلى وادي النطرون فلما قدم هذا ورأى قلائل في أثناء تعقب الفرنساويين له، وتجد أخبار الذين أسروا من المماليك في حوادث الأسبوع الأول من شهر صفر من يوميات الجبرتي.
ونقل لاكروا عن المذكرات التي أملاها نابوليون في سنت هيلين أن مراد بك لما عاد من البحيرة إلى الجيزة وصل إلى جهة الأهرام وصعد إلى قمة الهرم الكبير في يوم ١٣ يوليو، وأخذ يتبادل الإشارات مع زوجته السيدة نفيسة وهي فوق سطح منزلها، قال: ولما تناقل الناس في القاهرة خبر هذه الإشارات قلقت السيدة المذكورة، وخافت أن يلحق بها الفرنساويون أذى، فذهبت إلى منزل الجنرال بونابرت وطلبت مقابلته، فتلقاها بكل احترام وإكرام، وأكد لها أنه لم يحفل بما وجه لها من التهم ثم قال لها: «ولو أنك تريدين الاجتماع بزوجك لما تأخرت عن أن أهادنه أربعة وعشرين ساعة لكي تلتقيا، إذا كان في هذا ما يسرك ويسره.» ولولا أن سند هذه الرواية قوي ومصدرها مما يجب الوثوق به، لما حفلنا بها ولما اعتقدنا صحة وقوعها على تلك الصورة، وكيفما كانت حقيقتها فمما لا شك فيه هو أن نابوليون كان شديد الميل — وخصوصًا في ذلك الوقت — إلى الاتفاق مع مراد بك، ولا يبعد أنه أراد أن يتخذ من منزلة السيدة نفيسة ومكانتها لدى زوجها، وسيلة للصلح والتحالف معه، ولقد كانت السيدة نفيسة دائمًا موضع إكرام الفرنساويين وإجلالهم، وكان يحتمي في نفوذها نسوة أمراء المماليك وغيرهن من كبار وصغار.٣

ولقد أدرك نابوليون بثاقب فكره أن تلك الحركات المتوافقة في الشرق والغرب، وتلك التنقلات في الصحارى المحرقة في فصل الحر الشديد، ليست إلا مقدمة لحركة حربية من جانب أعدائه، ولذلك انتقل بجزء كبير من الجيش في ١٤ يوليه إلى جهة الجيزة، وأصدر أمر الجنرال برتبة رئيس هيئة أركان الحرب بأن يجهز حملة بالبطاريات والمدافع وينتقل بها إلى جهة الأهرام، وقضى نابوليون ليلته معسكرًا في تلك البقعة، وإلى هذه الفترة تنسب الإشاعة التي رواها بعض المؤرخين الذين قالوا إن نابوليون استدعى مشايخ المسلمين إلى الجيزة وسار بهم إلى الأهرام، ثم أعلن إسلامه هناك، وإنه دخل الهرم الكبير، وقد نفى «بوريين» في مذكراته هذه الرواية، وقال: إن نابوليون لم يستدع المشايخ ولم يعلن إسلامه، بل ولم يدخل الهرم أبدًا!

وفي اليوم التالي «١٥ يوليه» عند الساعة الثانية ظهرًا أبصر نابوليون فارسيًّا ينهب الأرض نهبًا فتلقاه، ووجد معه رسالة من الجنرال مارمون (Marmont) قومندان حامية الإسكندرية، وفي هذه الرسالة ينبئه بأن ثلاث عشرة سفينة كبيرة وتسع فرقاطات وثلاثين غرابًا (Chaloupes) مسلحة، وتسعين نقالة محملة بالجنود العثمانية وقد ألقت مراسيها في مساء ١٢ يوليو في مياه خليج أبي قير، وأنها استطاعت أن تنزل جنودها إلى الساحل في يوم ١٤، وأنها استولت على الطابية المقامة في تلك النقطة.

(٣) قبل معركة أبي قير

فلما تلقى نابوليون هذا الخبر أدرك في الحال عظيم أهميته؛ إذ لم يخف على مثله، ولا سيما وقد قتل المسائل فكرًا وتمحيصًا بعد عودته من سوريا وعرف حرج مركزه في هذه الديار، أن المعركة الفاصلة بينه وبين الإنكليز في مصر قد حان وقتها، فإذا استطاعت القوة العثمانية التوغل في أرض مصر، واستطاع الإنكليز والترك الاستيلاء على الثغور المصرية، فقد قضي على نابوليون وجيشه، وقضي على هاتيك المطامع الكبرى القضاء المبرم.

ولقد أدرك نابلوين بثاقب فكره وخبرته العسكرية، أن الجيش العثماني الذي جيء به إلى أبي قير هو بقية الجيش الذي كان في رودس، والذي أخذ منه جزء لإمداد عكا، وأن هذه البقية لا تزيد عن خمسة عشر ألف مقاتل، مع فئة من الضباط الإنكليز، وإن هذا الجيش إنما جاء معتمدًا على أمرين:
  • أولهما: تعضيد المماليك الذين يقومون مقام الخيالة لهذا الجيش الذي لم تكن معه الخيول الكافية.
  • وثانيهما: قيام الأهالي والعربان في وجه الفرنساويين في جميع جهات القطر المصري، فإذا استطاع نابوليون أن يحول بين اتصال الجيش العثماني بالمماليك، ويمنع حدوث الاضطرابات في داخلية البلاد، فقد استطاع أن يخلص من ذلك المأزق الحرج.

ولقد أجمع كُتاب المذكرات الخصوصية، ورواة الأخبار العمومية، ومؤرخو هذه الفترة من المتقدمين والمتأخرين، أن نابوليون لم يبد في حياته نشاطًا وذكاء وقادًا، وبعدًا في النظر، مثلما أظهره في ذلك الحين، فإنه ما كاد يتلقى نبأ نزول الجنود العثمانية في ساحل أبي قير حتى أخذ يصدر الأوامر تباعًا بسرعة البرق، وبحيث لم تكد تمضي أربعة وعشرين ساعة، حتى كان جميع الجيش الفرنساوي المتشتت في وادي النيل، شرقًا وغربًا، وجنوبًا وشمالًا، يسير إلى نقطة معينة وهي الرحمانية، فالجنرال «ديزيه» في الصعيد صدرت له الأوامر بالتخلي عن جميع الوجه القبلي ليقدم بجيشه إلى القاهرة، والجنرال «رينيه» المعسكر في لبيس أمر بترك ثلاثمائة جندي في الصالحية لمراقبة الحدود الشرقية، وأن يسير هو بجميع الجنود الفرنساوية، من أقرب طريق إلى نقطة الرحمانية، وكذلك تلقى الجنرال كليبر الأوامر بالتحرك من دمياط إلى جهة أبي قير، وكذلك تلقى الجنرال كليبر الأوامر بالتحرك من دمياط إلى الإسكندرية، وكذلك تلقى الجنرال منو الأوامر بالسير من رشيد.

والخلاصة أن نابوليون لم يبت تلك الليلة في الجيزة حتى كان الجيش الفرنساوي من جميع الجهات يسير قاصدًا نقطة واحدة.

ولم تمض ثلاثة أيام حتى كانت جميع القوى الفرنساوية مجتمعة في الرحمانية، وهناك أصدر نابوليون منشورًا للمصريين يعدهم ويهددهم ويحذرهم ويتملقهم ويتقرب منهم، موجهًا فيه الخطاب إلى أعضاء الديوان، وقد حفظ الجبرتي ونقولا الترك ذلك المنشور باللغة العربية وهذا نصه:

لا إله إلا الله محمد رسول الله ، نخبركم يا محفل الديوان بمصر المنتخب من أحسن الناس وأكملهم بالعقل والتدبير، عليكم سلام الله تعالى ورحمته وبركاته، بعد مزيد السلام عليكم، وكثرة الأشواق إليكم، نخبركم يا أهل الديوان، المكرمين العظام، بهذا المكتوب إننا وضعنا جماعات من عسكرنا بجبل الطرانة، وبعد ذلك سرنا إلى إقليم البحيرة لأجل أن نرد راحة الرعايا المساكين، ونقاصص أعداءنا المحاربين، وقد وصلنا بالسلامة إلى الرحمانية وعفونا عفوًا عموميًّا عن كل أهل البحيرة حتى صار الأقاليم في راحة تامة، ونعمة عامة، وفي هذا التاريخ نخبركم أنه وصل ثمانون مركبًا صغارًا وكبارًا حتى ظهروا بثغر الإسكندرية، وقصدوا أن يدخلوها فلم يمكنهم الدخول من كثرة البنب وجلل المدافع النازلة عليهم، فرحلوا عنها وتوجهوا يرسون بناحية أبي قير وابتدءوا ينزلون إلى البر، وأنا الآن تاركهم وقصدي أن يتكامل الجميع في البر، وأنزل عليهم أقتل من لا يطيع وأخلي بالحياة الطائعين، وآتيكم بهم محبوسين تحت السيف لأجل أن يكون في ذلك شأن عظيم في مدينة مصر، والسبب في ذلك في مجيء هذه العمارة إلى هذا الطرف العشم بالاجتماع على المماليك والعربان، ولأجل نهب البلاد وخراب القطر المصري، وفي هذه العمارة خلق كثير من «الموسقو» الإفرنج الذين كراهتهم ظاهرة لكل من يوحد الله، وعداوتهم واضحة لمن كان يعبد الله، ويؤمن برسول الله، يكرهون الإسلام، ولا يحترمون القرآن، وهم نظرًا لكفرهم في معتقدهم يجعلون الآلهة ثلاثة، وإن الله ثالث تلك الثلاثة، تعالى الله عن الشركاء، ولكن عن قريب يظهر لهم أن الثلاثة لا تعطي القوة، وإن كثرة الآلهة لا تنفع، بلى إنه باطل؛ لأن الله هو الواحد الذي يعطي النصرة لمن يوحده، هو الرحمن الرحيم، المساعد المعين، القوي للعادلين الموحدين، الماحق رأي الفاسدين المشركين، وقد سبق في علمه القديم، وقضائه العظيم، أنه أعطاني هذا الإقليم وقدر وحكم بحضوري عندكم إلى مصر لأجل تغييري الأمور الفاسدة، وأنواع الظلم، وتبديل ذلك بالعدل والراحة، مع صلاح الحكم، وبرهان قدرته العظيمة، ووحدانيته المستقيمة، إن لم يقدر الذين يعتقدون أن الآلهة ثلاثة قوة مثل قوتنا؛ لأنهم ما قدروا أن يعملوا الذي عملناه، ونحن المعتقدون وحدانية الإله، نعرف أنه العزيز القادر، القوي القاهر، المدبر للكائنات، والمحيط علمه بالأرضين والسماوات، القائم بأمر المخلوقات، هذا ما في الآيات، والكتب المنزلات، ونخبركم بالمسلمين إن كانوا بصحبتهم، يكونوا من المغضوب عليهم لمخالفتهم وصية النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، بسبب اتفاقهم مع الكافرين الفجرة اللئام؛ لأن أعداء الإسلام، لا ينصرون الإسلام، ويا ويل من كانت نصرته بأعداء الله! وحاشا الله أن يكون المستنصر بالكفار مؤيدًا، أو يكون مسلمًا ساقتهم المقادير، للهلاك والتدمير، مع السفالة والرذالة، وكيف لمسلم أن ينزل في مركب تحت بريق الصليب، ويسمع في حق الواحد الأحد، الفرد الصمد، من الكفار، كل يوم تخريفًا واحتقارًا، ولا شك أن هذا المسلم في هذا الحال، أقبح من الكافر الأصلي في الضلال.

نريد منكم يا أهل الديوان أن تخبروا بهذا الخبر جميع الدواوين والأمصار، لأجل أن يمتنع أهل الفساد من الفتنة بين الرعية، في سائر الأقاليم والبلاد؛ لأن البلد الذي يحصل فيه الشر يحصل لهم مزيد الضرر والقصاص، انصحوهم يحفظوا أنفسهم من الهلاك خوفًا عليهم أن نفعل فيهم مثل ما فعلناه في أهل دمنهور، وغيرها من بلاد الشرور، فإنهم بسبب سلوكهم المسالك القبيحة قاصصناهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تحريرًا بالرحمانية في يوم الأحد ١٥ صفر ١٢١٤، طبع بالمطبعة الفرنسية العربية.

ولقد قصد نابوليون بهذا المنشور عدة أمور: أولها وأهمها، إلقاء الرعب في قلوب المصريين ليخلدوا إلى السكينة، وليخافوا عاقبة الفتك بهم، كما حصل لأهالي دمنهور عقب ثورة المهدي، أو مولاي محمد، وأراد نابوليون أن يفهم المصريين أن القادمين ليسوا أتراكًا مسلمين، بل هم روسيون مسيحيون لا يعتقدون بالوحدانية مع أنه لم يكن مع الجيش العثماني الذي نزل في أبي قير جند من الروس، ولا من الإنكليز، ولم يثبت التاريخ سوى وجود بعض الضباط الإنكليز الذين قدموا مع الأسطول البريطاني ليكونوا في هيئة أركان حرب المشير مصطفى كوسة باشا قائد ذلك الجيش، وما قصد نابوليون بذلك الاختلاق إلا الإيهام والتغرير بالعقول، وتلك خطة تبررها السياسة في أيام الحروب، ولكن المعلم نقولا الترك أراد أن يعتذر عن هذا الاختلاق — أي: دعوى أن الجيش القادم معظمه من الروس المسيحيين — فقال:

وخشي أمير الجيوش من العامة في مصر وغيرها من البلدان، فكتب فرمانًا إلى علماء مصر وأرباب الديوان يخبرهم بورود المراكب وخروج عساكرها إلى البر، وإنها مراكب نصارى، ولكن ربما معهم بعض المسلمين، وتعريفه بذلك استنادًا على الفرمان الذي ورد من الدولة العثمانية إلى الجزار والأقطار الشامية حيث يقول: «قريبًا نحضر لكم الدونتمة الهمايونية مع دونتما الدولة المسكوبية المتحدة مع دولتنا بالحب والصداقة، ونحضر لكم عشرين ألف مقاتل في البر مع الدولة القوية غير العساكر البحرية، لأجل طرد الملة الفرنساوية.» وهذا الفرمان قد حضرت صورته إلى أمير الجيوش وأطلع عليه العلماء والأعيان وأهل تلك البلدان. ا.ﻫ.

والمعلم نقولا يشير بالطبع إلى المنشور الذي سبق لنا الكلام عنه وليس فيه شيء مما يقوله المعلم نقولا، اللهم إلا إذا كان يشير إلى منشور لم نقف له على أثر في الكتب الفرنسية ولا الإنكليزية ولا العربية، ومع ذلك فإن ذكر العمارة الروسية وقدومها مع الجيش العثماني ليس معناه إنزال جنود روسية مع العساكر التركية في أرض مصر، ولكن يظهر أن المعلم نقولا أراد أن يعتذر لنابوليون بما لم يعتذر به نابوليون عن نفسه!!

وأغرب من هذا تعليق المرحوم مخائيل بك شارويم على هذا المنشور في كتابه «الكافي» بالعبارة الآتية:

قلت: وفي هذا الخطاب، إن كان صحيحًا، من النقد على بونابرته والتعيب، ورميه بالغش والخديعة، ما يزري به ويحط من عظمته ويذهب بشهرته.

ولماذا لا يكون ذلك المنشور صحيحًا ونصه في الجبرتي ورسالة المعلم نقولا وصورته المطبوعة محفوظة في أوراق نابوليون المحفوظة،٤ ثم لماذا يزري من نابوليون ويحط من عظمته ويذهب بشهرته الأبدية الخالدة، وهو إنما فعل ما تقضي به السياسة وأساليبها، وأكاذيبها أيضًا!!

ولقد أحدث قدوم ذلك الجيش العثماني حركة في نفوس المصريين فانتعشت أرواحهم، وانتشت آمالهم وخيل لهم الخلاص من الاحتلال الأجنبي، مع أن القادمين عليهم لا يريدون لهم خلاصًا، ولا يودون لهم حرية واستقلالًا، ولكن هذا نظر المصريون على أنهم والأتراك أمة واحدة، وإن لم يرض الأتراك باعتبار المصريين كذلك، ولا سيما في ذلك الزمن إذ الجندي جندي، والفلاح فلاح!! ولذلك خشي الفرنساويون عاقبة هيجان المصريين، وقيامهم عليهم فترك نابوليون في القاهرة الجنرال «دوجا» الذي اشتهر بدهائه ولينه وحسن تصرفه مع المصريين أثناء الحملة السورية، وترك له قوة كبيرة من الفرنساويين في القلعة عدا قوة أخرى من الأروام الذين جندوهم ودربوهم، وكلف الجنرال ديزيه بالتخلي عن الصعيد والقدوم بجيشه إلى القاهرة.

ولقد كانت ساعة الفرنسيين عصيبة والجو أمامهم مظلمًا قاتمًا؛ لأنه مع هذه الاحتياطات الكثيرة، ومع ذلك المنشور الذي أكثر فيه نابوليون من التزلف للمصريين ودعوى الإسلام والطعن على المسيحية، فإن الحركة التي دب دبيبها بين المصريين كانت تشعر بما داخل نفوس القوم من الفرح والسرور بقدوم الجيش العثماني، فقد روى الجبرتي الحادثة الآتية: قال في حوادث يوم ١٦ صفر:

ولما تحققت هذه الأخبار «نزول الجيش العثماني في أبي قير» كثر اللغط بين الناس، وأظهروا البشر وتجاهروا بلعن النصارى، واتفق أنه تشاجر بعض المسلمين بحارة البرابرة بالقرب من كوم الشيخ سلامة مع بعض نصارى الشوام، فقال المسلم للنصراني: إن شاء الله بعد أربعة أيام نشتفي منكم، وكلام من هذا المعنى فذهب ذلك النصراني مع عصبة من جنسه إلى الفرنسيس، وأخبروهم بالقصة وزادوا وحرفوا وعرفوهم أن قصد المسلمين إثارة فتنة، فأرسل قائمقام إلى الشيخ المهدي وتكلم معه في شأن ذلك وحاجه وأصبحوا فاجتمعوا بالديوان، فقام المهدي خطيبًا وتكلم كثيرًا ونفى الريبة وكذب أقوال الخصوم، وشدد في تبرئة المسلمين عما نسب إليهم، وبالغ في الحطيطة والانتقاص من جانب النصارى، وهذا المقام من مقاماته المحمودة، ثم جمعوا مشايخ الأخطاط والحارات وحبسوهم.

فهذه الحادثة البسيطة تمثل لنا صورة مجسمة للشعور القومي في تلك الفترة، وهي حال يجب على المؤرخ أن لا يفوتها، والدليل على تخوف الفرنساويين أنهم زادوا في الحيطة فجمعوا، كما ذكر الجبرتي، مشايخ الأخطاط والحارات واعتقلوهم.

فلنترك أهل القاهرة في آمالهم وتصوراتهم، ولنتبع نابوليون وجيشه إلى تلك المعركة الهائلة التي وقعت بينه وبين الجيش العثماني، وكانت عاقبتها وبالًا على العثمانيين تلك الواقعة التي قال عنها نابوليون للجنرال مورات: «على هذه الواقعة سيرتب مستقبل العالم بأسره.» ولكن نابوليون وحده هو الذي كان يدرك السبب في ذلك، ويعلم أن انتصاره في تلك المعركة يمهد له سبيل العودة إلى فرنسا، وعلى جبينه إكليل الفوز والنصر، فيستطيع أن يقبض على السلطة في تلك الديار، ويستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه من الملك والمجد والفخار.

(٤) واقعة أبي قير

أخطأ سرهناك باشا وغيره من المؤرخين الذين قالوا: إن نابوليون قهر الجيش العثماني الذي نزل في أبي قير بستة آلاف مقاتل، والحقيقة التي أثبتها الكُتاب الفرنساويون أن الجيش الذي جمعه نابوليون في الرحمانية وسار به إلى أبي قير كان لا يقل عن عشرين ألف مقاتل من خيرة الجنود المشاة المدربين عدا ثلاثة آلاف من الخيالة، ولم يكن الجيش العثماني يزيد عن ثمانية عشر ألفًا من الجنود، وليس معهم سوى مائتي جواد للقائد وأركان حربه، وبعض الضباط، وذلك باعتراف نابوليون في المذكرات التي أملاها في سانت هيلانة.

قلنا: إن القائد العثماني أنزل جنوده في يوم ١٤ يوليو على ساحل أبي قير، ونقول: إنه كان يؤمل أن تصل إليه المماليك بالخيول والإمدادات، وروى المعلم نقولا في رسالته أن المشير مصطفى كوسه باشا لما أنزل جنوده واستولى على القلعة التي أقامها الفرنساويون، أرسل المنشورات إلى المصريين والعربان يستنهضهم للقيام في وجه الفرنساويين، وأن كبار القوم ذهبوا إليه وخلع عليهم الخلع الثمينة، ولا أثر لهذه الرواية، لا في المصادر العربية ولا في المصادر الفرنساوية، وكل ما ذكره الجبرتي من علاقة الجيش التركي بالمصريين، قوله في حوادث ١٨ صفر: «إنه وردت أخبار وعدة مكاتيب لكثير من الأعيان، وكلها على نسق واحد تزيد عن المائة مضمونها أن المسلمين وعسكر العثمانيين ومن معهم ملكوا الإسكندرية، فصار الناس يحكي بعضهم لبعض … إلى آخره.»

ولا شك في أن السرعة التي جمع بها نابوليون جيشه وهاجم العثمانيين لم تمكنهم، لا من الاجتماع بالمماليك، ولا من دعوة سواهم، وكان ذلك سر فوز نابوليون في تلك الموقعة، وفي كثير من المواقع الكبيرة التي كسبها في أوروبًا، ولو أن الجنرال منو، بعد هذا التاريخ بنحو سنتين، قلد رئيسه في السرعة والنشاط وعدم إضاعة الوقت، لما استطاع الجيش الإنكليزي الذي قدم تحت قيادة الجنرال «أبركرومبي» أن يحصره في الإسكندرية، وينتهي بالاشتراك مع الجيش العثماني بالوصول إلى القاهرة، وإخراج الفرنساويين منها.

وكان نابوليون يتصور أن الجيش العثماني لا يبقى في أبي قير بعد أن احتل قلعتها أكثر من يوم واحد، وأنه سيزحف في داخلية البلاد فيجتمع عليه المماليك المشتتون في الوجه البحري، ويلتف عليه عربان البحيرة وسواها، ولذلك عسكر نابوليون عند الرحمانية في يوم ١٩ يوليو، فلما وصلت إليه الأخبار بأن الجيش العثماني لا يزال مرابطًا في أبي قير أسرع في نقل مركز جيشه من الرحمانية إلى بركة غطاس الواقعة بالقرب من بحيرة المعدية، وعلى مسافة قريبة من الإسكندرية وأبي قير، فمنع بذلك الجيش العثماني من التحرك إلى داخلية البلاد، أو إلى محاصرة الإسكندرية دون أن يلتقي مع الجيش الفرنساوي في معركة فاصلة.

وفي ٢٤ يوليو اتخذ نابوليون الإسكندرية مقرًّا للمعسكر العام، ولم يكن قد رأى ذلك الثغر منذ احتله عند قدومه منذ سنة وشهر، ولما التقى نابوليون بالجنرال مارمون (Marmont) قومندان حامية الإسكندرية، لامه وعنفه على تمكين الجيش العثماني من النزول إلى البر، وكان هذا الجنرال قد خرج بألف ومائتي مقاتل لمقاومة العثمانيين، فلما رأى أنه لا يقدر على مقاومة ذلك الجيش الكبير عاد أدراجه إلى الإسكندرية وتحصن فيها، ولو أسرع القائد العثماني، ولم ينتظر قدوم نابوليون من الرحمانية لكان من الممكن أن تكون النتيجة غير ما كانت، ولكن الجيش العثماني بقي في أبي قير من يوم ١٤ إلى يوم ٢٤ حتى تمكن نابوليون من الوصول إلى الإسكندرية والوقوف في وجه خصمه، كل ذلك والجيش العثماني لا يظن أن الفرنساويين قد أصبحوا أمامه وجهًا لوجه، وأن المسافة بين الفريقين لا تزيد على بضع كيلومترات.

ولقد سبق لنا أن قلنا إن وصف الحركات العسكرية في المواقع الحربية ليس من اختصاص المؤرخ المصري الذي يقصد تدوين تاريخ أمته، وأما وصف المعارك الحربية من الوجهة الفنية فهو من اختصاص كتاب الإفرنج الذين يهمهم وصف المعارك لأسباب فنية وقومية، ولهذا نكتفي بأن نقول: إن الجيش العثماني في هذه المعركة لم يكن مستوفيًا الأسباب التي تساعده على الفوز لعدم وجود قوة كافية من الخيالة، ولأن المماليك الذين اعتمد على مساعدتهم لم يستطيعوا تقديم تلك المساعدة، ولأن سرعة نابوليون ونشاطه لم تمكن الأتراك من التحصن اللازم واستعمال الوسائل التي يستطيع بها شل حركات الجيش الفرنساوي.

وخلاصة ما يمكن ذكره من وصف هذه المعركة التاريخية أنه في فجر ٢٥ بدأ الجيش الفرنسي في الزحف، وكان الجنرال «مورات» Murat على رأس جيش عدده ٢٣٠٠ فارس في المقدمة، والجنرال «لان» Lannes ومعه ٢٧٠٠ في الميمنة والجنرال «لانوس» Lanusse ومعه ٢٤٠٠ رجل لحفظ خط الرجعة، والجنرال دافو Davout ومعه ثلاثمائة من فرسان يقوم بحفظ المواصلات بين الجيش والإسكندرية، وبمنع الأعراب من دخول شبه جزيرة أبي قير.

وتلاقى الجيشان وجهًا لوجه ومكثا ساعتين وقد لزما السكون، ثم بدأت المدافع الكبيرة تقذف نيرانها على مراكب صغيرة للأتراك دخلت بحيرة ادكو فغرق بعضها وانسحب البعض الآخر، وتقدم الجنرال مورات بفرسانه وبأربعة بطاريات من المدفعية ونزل الأتراك إلى السهل حيث كان الفرسان الفرنسويون ينتظرونهم، وقذفت المدافع عليهم النار، وفغرت البنادق أفواها تمطرهم الرصاص فحاولوا العودة والنزول إلى المراكب.

وكانت النتيجة أن نابوليون تمكَّن في يوم واحد «٢٥ يوليو» من القضاء على ذلك الجيش العثماني المؤلَّف من خيرة الجنود الإنكشارية بسالة وإقدامًا، وقتل منهم في هذه الواقعة عدد كبير، واختل نظام الجيش العثماني فأركن جنوده إلى الفرار طالبين النجاة بالالتجاء إلى القوارب في مياه أبي قير، ولكن الجزء الأكبر منهم لم يتمكن من اللحاق بالسفن فغرق منهم خلق كبير.

وقد ذكر الفرنساويون أن نحو عشرة آلاف من الجنود الإنكشارية غرقوا في محاولتهم الفرار، وذكروا أيضًا أن السر سدني سميث أميرال الأسطول الإنكليزي كان في البر مع فئة من ضباط الإنكليز هيئة أركان حرب المشير مصطفى باشا، فلما رأى هزيمة الجيش العثماني، وبعد أن كاد يقع أسيرًا في يد الفرنساويين، أسرع بالنزول في القارب للحوق بسفينته، وهنا ذكر المؤرخون رواية لا أجد ما يدعو إلى عدم تصديقها، وإن كنت لم أجد ما يثبتها أو ينفيها في المصادر الأخرى، تلك الرواية هي أنه كان بين الجنود العثمانيين الذين ألقوا بأنفسهم في البحر فرارًا من الفرنساويين، جندي من الباشبوزق قد غلبته الأمواج، وحامت حوله رسل الموت، وهو يطفو مرة ويرسب أخرى، حتى ألقته المقادير بجوار قارب السر سدني سميث الذي أبصر ذلك الجندي المشرف على الهلاك فمدَّ يده لإنقاذه، وتمكن بمساعدة من معه من رفعه إلى القارب فلم يكن من المغرقين.

أفتدري أيها القارئ، أو كنت تعلمين أيتها المقادير، من كان ذلك الجندي المشرف على الهلاك الذي طرحته أمواج القدرة الإلهية بجوار ذلك القارب الذي يحمل بحارة من الإنكليز؟ ولم ترمه بجوار قارب من القوارب التي وصل إليها بعض أولئك الجند الذاهلين عن إخوانهم في الملة والدين، وكل منهم قد ذهل عن أخيه، وفصيلته التي تأويه؟

ذلك الجندي هو محمد علي من بلدة قولة الحقيرة، قدم مع القادمين المتطوعين لخلاص مصر من أيدي الفرنساويين، وما كان هو يدري، ولا المنجم يدري، أنه جاءها وسيجيئها ليستخلصها لنفسه، ولأولاده من بعده، سواء من أيدي الفرنساويين، ثم المماليك، ثم الإنكليز، ثم الأتراك … ولكن إلى حين!! وهل كان يدري السر سدني سميث، وهو يمد يده إلى ذلك الجندي البائس الضائع الذي يكاد يلفظ النفس الأخير، أن هذا الرجل، بعد ثمانية أعوام بالضبط من هذا التاريخ ١٨٠٧، تحت قيادة الجنرال «فريزر» ويلحق بها العار والشنار، ويباع بعض جنودها الأسرى من الإنكليز، بيع السلع والمماليك والعبيد في سوق الرقيق؟ أتراه لو كان يدري ماذا كان يفعل؟ أظنه كان ينقذه من الغرق، ولكن ما أظنه كان يسمح له بالعودة إلى أرض مصر في الحملة العثمانية الثانية؟! ولو غرق ذلك الجندي في تلك اللحظة، لتغيرت صحائف التاريخ، ولما رأت مصر نبوغ محمد علي وهمته، ولا بسالة إبراهيم وبطولته، ولا إسراف إسماعيل ومهارته، ولا ذكاء عباس وكارثته!

أما قائد الحملة العثمانية السر عسكر مصطفى كوسة باشا فإن الجنرال مورات — قائد الخيالة الفرنساوية التي أبلت بلاء حسنًا في هذه الواقعة وكانت لها اليد العليا في ذلك الفوز الذي أنعش قلوب الفرنساويين وأحيا ميت آمالهم — أسره بيده بعد أن أطلق عليه القائد العثماني رصاصة من غدراته أصابت يده، وجاء به إلى نابوليون فأحسن وفادته وأكرم مثواه.

وكان مع المشير مصطفى كوسة باشا أحد أولاده فامتنع مع نحو ثلاثة آلاف من الإنكشارية وتحصن في طابية أبي قير، وأبى التسليم على الرغم من النصائح التي أسداها إليه أبوه، وقد كلف الجنرال منو، الذي قدم بفرقة من الجند الفرنساوي من رشيد واشترك في المعركة، بأن يوالي حصار ذلك الحصن حتى يسلم من فيه، وقد سلموا فعلًا بعد قليل من الزمن.

ولما وصلت أخبار هذا الفوز الفرنسي إلى القاهرة طرب الفرنساويون وشاركهم في أفراحهم وسرورهم جميع الذين كانوا يخشون قدوم الأتراك، سواء في ذلك النصارى وبعض أفراد المسلمين الذين انحازوا للفرنساويين، وارتبطت مصالحهم بوجودهم معهم، فقد روى «ميو» في مذكراته: أنه لما أذيع في القاهرة انتصار الفرنساويين في واقعة أبي قير كان النصارى يعانقون الفرنساويين فرحًا وطربًا، وأقيمت الاحتفالات والزينات ثلاثة أيام متوالية، وقال الشيخ الجبرتي في حوادث شهر صفر: «وفي عشرينه أشيع أن الفرنساوية تحاربوا مع العساكر الواردين على أبي قير، وأخذوا مصطفى باشا أسيرًا وكذلك عثمان خجا وغيرهما، وأخبر الفرنسيس أنه حضرت لهم مكاتبة بذلك من أكابرهم، فلما طلع النهار ضربوا مدافع كثيرة من قلعة الجبل، وباقي القلاع المحيطة بصحن الأزبكية وعملوا في ليلتها «أعني ليلة الأربعاء» حراقة بالأزبكية من نفوط وبارود وصواريخ تصعد في الهواء» … ولم يذكر الجبرتي صورة الخطاب الذي بعث به الجنرال دوجا إلى المشايخ واكتفى بقوله … «وفي يوم الجمعة تاسع عشرينه «صفر» حضر مكاتبة من الفرنسيس بحكاية الحال «عن موقعة أبي قير» التي وقعت لم أقف على صورتها.» ولكن المعلم نقولا الترك حفظ نص ذلك المنشور الذي طبع في المطبعة الفرنساوية في القاهرة وتاريخه ٢ ربيع الأول، وهذا نصه حرفيًّا من رسالة المعلم نقولا:

من حضرة ساري عسكر الجنرال «دوكا» قائمقام أمير الجيوش بمصر حالا: إلى علماء الإسلام، وكافة أرباب الديوان:

بعد السلام عليكم، وكثرة الأشواق إليكم، لا يخفاكم أنه وصلني خبر صحيح بأن العساكر الفرنساوية ملكت قلعة أبو قير في ١٤ ترميدور الموافق شهر صفر سنة ١٢١٤، وأنهم استأسروا فيها ثلاثة آلاف نفر ومن الجملة مصطفى باشا، وغاية ما وقع أن العمارة التي نزلت في أبو قير كانت بها عساكر خمسة عشر ألف لم يخلص منهم أحد بل الكل تلاشوا وهلكوا، ثم أخبركم عن لسان حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته أنكم في الحال تظهرون هذا الخبر بين الخاص والعام، وتشهروه في الأقاليم المصرية فإنه خبر فيه سرور وفرح، وألزمكم أن تعرفوني في الحال عن إشهار هذا الخبر الفاخر المعتبر، وأخبركم أن حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته يحضر إليكم عن قريب، والله تعالى يحفظكم والسلام ختام.

تحريرًا في ٢٢ ترميدور سنة السابعة لمشيخة الفرنساوية الموافقة إلى ٢ ربيع الأول سنة ١٢١٤.

وأما عثمان خجا أو خواجة الذي ذكره الجبرتي، فقد كان من المماليك الذين تولوا الأحكام في مدة مراد بك، وكان من أتباع صالح بك الذي كان أميرًا للحج عند قدوم الفرنساويين، وكان مولى من قبله على ثغر رشيد فسام أهلها سوء العذاب ظلمًا واستبدادًا، وكان مع صالح بك في حجته الأخيرة، فلما مات هذا بالشام ذهب عثمان خجا إلى الآستانة وجاء مع المشير مصطفى باشا وجيشه.

ومع أن نابوليون أحسن معاملة مصطفى باشا وولده توددًا للعثمانيين وتقربًا منهم، ورغبة منه في اتخاذ أسيره العظيم واسطة في الصلح والمخابرات مع رجال الدولة، فإنه أراد، من جهة أخرى، أن يفهم المصريين والعثمانيين أنه لا يعفو عن المماليك ولا يعاملهم كما يعامل الأتراك، فأصدر أمره بقتل عثمان خجا، وفي رواية الجبرتي، أنهم ذهبوا به إلى رشيد «وطافوا به في البلدة يزفونه بطبولهم وهو مكشوف الرأس حافي القدمين حتى وصلوا به إلى داره، فقطعوا رأسه وعلقوه على شباك داره ليراها الناس أجمعين» … وهذه الرواية ناقصة؛ لأن نابوليون ما كان ليأمر بقطع رقبة كبير من أمراء المماليك بعد أن وقع في يده أسير حرب، كما وقع مصطفى باشا وولده وغيره، إلا بناء على تهمة توجه إليه، وحكم يصدر عليه، وقد وفق المعلم نقولا الترك في رسالته، إلى الحصول على صورة التهمة التي وجهت إلى عثمان خجا، والفتوى بالحكم عليه بالإعدام، وقد طبعت تلك الفتوى في المطبعة الفرنساوية، ولأهميتها التاريخية ولعدم تداولها في المصادر العربية نأتي على نصها:

هذه صورة الفتوى حكم الشرع الشريف الذي صدر من محكمة رشيد دام جلالها على عثمان خجا «خواجة» خطابًا إلى حضرة الجنرال الحاكم في البلد المذكورة مؤرخ في أربعة وعشرين من شهر ترميدور من إقامة الجمهور الفرنساوي، الموافق ٨ ربيع أول سنة ١٢١٤:

وصلتنا مكاتبتكم بالأمر أننا نستخير ونكشف عن جميع الأعمال التي حدثت من طرف عثمان خواجة كردلي، وننظر إن كان حصل منه الشر أكثر من الخير، وبموجب هذا الأمر بحضور حضرة سيدنا شيخ الإسلام العالم المتورع الشريف أحمد الخضري مفتي حنفي، ونقيب الأشراف المكرم المحترم الشريف بدوي، وقدوة الأعيان الحاج أحمد أغا السلحدار، والمكرم علي شاويش كتخدا، وقدوة النجار أحمد شحال، والمكرم إبراهيم الجمال والشريف على الجماني «لعله الحمامي» والشيخ مصطفى ظاهر والشريف إبراهيم سعيد والمكرم محمد القادم والحاج باشي سليمان وبحضور جماعة من المسلمين خلاف المذكورين أعلاه.

ثم حضر رمضان حمودي ومصطفى الجبار وأحمد شاويش وعبد الله والحاج حسن أبو جودة والحاج بدوي المقرالي وعلي أبو زرازين، وبدوي دياب وحسن عرب، وثبت من إقرارهم ومن شهادتهم أن عثمان الخواجة المذكور كان ظلمهم ظلمًا شديدًا بالضرب والحبس من دون حق، ونهب أملاكهم وخلاف ذلك، سئل جماعة من المسلمين الحاضرين في المجلس إن كان حصل من عثمان خواجة الشر أكثر من الخير فكلهم قالوا بلسان واحد: إنه حصل من طرف عثمان خواجة الشر أكثر من الخير، وبسبب ذلك انقطع رأس عثمان خواجة حاكم رشيد سابقًا.

مطابق لأصله ومعناه باسم حاكم رشيد الآن، طبع بالمطبعة الفرنساوية بمصر المحروسة.

فهل كانت تلك المحكمة الغريبة تصدر هذا الحكم على عثمان خواجة حاكم بلدتهم سابقًا، لو أتيح للعثمانيين الظفر والفوز في واقعة أبي قير؟ أو ما كان أولئك المشايخ والأعيان يستقبلونه بالطبول والزمور، ويقيمون له الولائم، ويمدحونه بالقصائد، ويذكرون ما كان عليه من عدل وكرم وسماحة؟؟

ألا إنها الأيام أبناء واحد
وهذي الليالي كلها أخوات

إن في ذلك لعبرة!

ومع أن انتصار الفرنساويين في واقعة أبي قير قد كان عظيمًا وحاسمًا، إلا أنهم ابتاعوا ذلك الفوز بثمن غالٍ وبأرواح ثمينة عزيزة خصوصًا لدى جيش سدت في وجهه السبل وصار إمداده بالرجال مستحيلًا، فقد خسر الفرنساويون في هذه الوقعة — على رواية نابوليون في تقريره لحكومة الديكتوار «ولاحظ أنه كان في جميع هاتيك التقارير يخفف من ذكر الخسارة ويباهي بانتصاره ويبالغ في خسائر أعدائه» — خمسمائة قتيل وخمسمائة جريح، ومات من قواده وضباطه الجنرال لاتورك (Letureq) والقائد دوفيقية (Duvivier) والقائد كريتين (Cretin)٥ ومن أركان حربه الضابط (Guilbert) وجرح الجنرالان لان ومورات وفوجيبر والضابط مرانجيه.
ومما يدل على سرور الفرنساويين بنتيجة تلك الواقعة، ذلك المنشور الذي أصدره الجنرال نابوليون إلى جيشه في اليوم التالي وفيه يقول:

إن اسم أبي قير كان شؤمًا لدى عموم الفرنساويين، ولكن يوم ٧ ترميدور «٢٥ يوليو» جعل ذلك الاسم مقرونًا بالفخار، وأن الانتصار الذي حازه الجيش في هذا اليوم سيساعد على عودته إلى أوروبا في وقت قريب، لقد فتحنا «ماينيس» وامتلكنا حدود «الرين» بإغارتنا على جزء من ألمانيا ونعيد اليوم فتح أملاكنا في الهند وأملاك حلفائنا، وهكذا تمكنا بواسطة معركة واحدة من أن نضع في يد حكومة بلادنا الوسائل اللازمة لإجبار حكومة إنجلترا، على الرغم من انتصاراتها البحرية، على عقد صلح تفتخر به الجمهورية، ولقد تكبدنا كثيرًا من المشاق وقاتلنا أعداءً من جميع الأجناس والعناصر، وسنضطر أن نقهر غيرهم ولكن النتيجة ستكون جديرة بفخارنا، وجديرة بتقدير الوطن لأعمالنا حق قدرها.

وبدأ نابوليون في تنشيط رجاله بمكافأتهم على أعمالهم ومجهوداتهم فأصدر أمره لقومندان الطوبجية بأن يسلم إلى فرقته الجنرال مورات الخيالة المدفعين اللذين كانت الحكومة الإنجليزية أهدتهما للباب العالي وغنمهما الفرنساويون في هذه المعركة، وأمر أن يحفر على ذينك المدفعين اسم الأورط الخيالة التي اشتركت في الواقعة، وأن يحفر عليهما كذلك اسم الجنرال مورات والأدجونات جنرال «رواز» وأن يكتب على حافة كل مدفع «واقعة أبي قير»، ثم أصدر أمره بأن تسمي ثلاث قلاع من قلاع الإسكندرية بأسماء كريتين ودوفيفيه ولاتورك؛ تذكارًا لأولئك القواد والضباط الذين قتلوا في المعركة، وقد ورد ذكر أسماء هذه القلاع في حصار الإنجليز للإسكندرية في الحرب الأخيرة مدة الجنرال منو، وأصدر كذلك نابوليون أمره بترقية الجنرال فولتريه والجنرال برتران، ومنح الأطباء الذين عالجوا الجرحى ثلاثة آلاف جنيه.

ومما هو جدير بالذكر، فيما له مساس بتأثير الظروف والحظوظ أو المقادير على بني الإنسان، أن واقعة أبي قير هذه أثرت في تاريخ الجنس البشري، وفي حياة الأشخاص الذين اشتهر اسمهم فيها، ولا سيما نابوليون بونابرت وصهره «فيما بعد ذلك» الجنرال مورات، فواقعة أبي قير مهدت لنابوليون العودة إلى فرنسا متوجًا بنار الفوز والانتصار والشهرة الحربية، فمكنه ذلك من القبض على صولجان الحكم في فرنسا، وواقعة أبي قير الذي أظهر فيها مورات من المهارة العسكرية في حركات الخيالة، ومن الجرأة والإقدام ما جعل نابوليون ينسى، أو يتغاضى عما نسب إلى مورات من العلاقات الغرامية مع زوجته جوزيفين أثناء معارك إيطاليا، فقد كان مورات فتى رشيق القوام، حلو الشمائل، محبوبًا لدى السيدات، وكانت له منزلة خاصة لدى «مادام تاليان» ولدى «جوزيفين» وطن في أذن نابوليون نبأ هذه العلاقات النسائية مع مورات فغضب عليه وأساء معاملته في إيطاليا، وما قبله في حملة مصر إلا مضطرًا بتأثير مادام تاليان، أو رغبة من نابوليون في إبعاده عن فرنسا خلال غيبته في حملة مصر، ومع أن مورات أبلى بلاء حسنًا في واقعة إمبابة، فإن قلب نابوليون لم يصف له إلا بعد ذلك الفوز الحاسم في أبي قير — ذلك الفوز الذي اشتراه مورات بتعريض حياته للخطر والهلاك.

وكان ذلك سببًا في توطيد علائق المحبة بين الرجلين! وكانت أبو قير سببًا في زواج مورات «بكارولين» أخت بونابرت، ثم إلى ما وصل إليه حتى صار ملكًا لنابولي في إيطاليا … وهكذا الأقدار!!

•••

ولما وصلت أنباء تلك الواقعة إلى أوروبا اهتزت لها جوانب فرنسا طربًا وسرورًا سيما وقد كانت فرنسا في ذلك الوقت مخذولة في حروبها مع النمسا وغيرها من الدول المعادية.

وأما الباب العالي فإنه أظهر السخط على السر سدني سميث الذي كان سببًا في المجازفة بتلك الحملة، وتعريض جيش كبير من عساكر الدولة العثمانية للانكسار، دون اتخاذ الوسائل الكافية للنصر، وانتهز أحمد باشا الجزار حاكم عكا فرصة انخذال السر سدني سميث فأكثر من التشنيع عليه ليبرر لدى رجال الدولة تأخره عن المخاطرة برجاله في تلك الحملة المشئومة.

وكان أميرال الأسطول العثماني يدعى باترونابك، فلما فشلت الحملة اتهمه الإنكشارية في رودس بأنه مالأ أعداء الإسلام وقصر في واجباته فحكموا عليه بالإعدام وقتلوه أشنع قتلة، ومن آراء نابوليون في هذه المعركة قوله في مذكراته التي أوحى بها للجنرال برتران في سانت هيلانة:

ليت شعري ماذا كان يؤمل السر سدني سميث من تقرير تلك الحملة والإشارة بها؟ أكان يؤمل الاستيلاء على مصر بواسطة ثمانية عشر ألف رجل من المشاة عديمي الخبرة والدربة، ولا خيول عندهم ولا مدافع ولا آلات حربية تحمي ظهورهم؟ أم كان يرجو من وراء ذلك أن يحمل الجيش الفرنسي على فتح باب المخابرات لكي يعود إلى أوروبا؟ فهل نسي أن بونابرت كان قائد ذلك الجيش وبطله المغوار؟ لا يوجد إلا جواب واحد على هذه الأسئلة، وهو أن جهل ذلك الضابط البحري بشئون الحرب البرية هو الذي برر عنده مشروع تلك الحملة، ولقد ارتكب مثل هذه الغلطة الفظيعة حين ألقى في يد الهلاك والفناء، على سواحل دمياط، بضع مئات من أحسن الجيوش الإنكشارية بعد هذا التاريخ بشهور قلائل. ا.ﻫ.

ولكن هناك جوابًا آخر غير جهل السر سدني سميث القائد البحري، بالحرب البرية … ذلك الجواب الذي أثبته تاريخ إنكلترا الاستعماري في جميع حوادث القرن الماضي، هو أن الإنكليز لا يبالون بمقدار ما يعرضون من الرجال للموت والفناء، ما دام أولئك الجنود من جنس غير جنسهم، وطينة غير طينتهم، فلهم الغنم وعلى غيرهم الغرم، ووقائع السودان، وحملة هيكس باشا، وحوادث الحرب الأخيرة في شمال فرنسا، أعظم برهان على هذا الرأي، والسياسة لا قلب لها ولا ضمير، وهكذا فعلت فرنسا بأهل مراكش والجزائر في الحرب الأخيرة وهكذا تفعل جميع الأمم والدول.

(٥) استطلاع أخبار فرنسا

وفي صبيحة اليوم التالي للواقعة «٢٦ يوليو»، وقبل أن يعود نابوليون إلى الإسكندرية أوفد اثنين من ضباطه لمقابلة السر سدني سميث في بارجته المسماة «تايجر» «النمر» بحجة المخابرة معه في تبادل الأسرى من الفريقين؛ إذ كان عند الأميرال الإنكليزي نحو ثلاثين من الجند الفرنساوي الذين أسروا في حصار عكا، كما أنه كان عند الفرنساويين كثير من أسرى الأتراك، ولم تكن رغبة تبادل الأسرى هي التي حملت نابوليون على إيفاد ذينك الضابطين لمقابلة عدوه اللدود، بل كانت له من وراء ذلك غاية أخرى، وهي الوقوف من السر سدني سميث على أخبار فرنسا وأحوالها، بعد أن انقطعت أخبارها عن نابوليون عدة شهور، وربما كانت له غاية أخرى، وهي الوقوف على حركات خصمه وسكناته، لعله يتمكن من الإفلات من يده، خصوصًا وقد صمم نهائيًّا على مغادرة القطر المصري والعودة إلى فرنسا بعد أن تحقق لديه أن الحملة الفرنساوية في مصر مقضي عليها بالفشل، لضعف الحكومة المركزية في باريس، ولانقطاع المواصلة والمدد بين فرنسا ومصر بعد تحطم الأسطول الفرنساوي، وعجز البحرية الفرنساوية عن مجاراة الإنكليزية، فلما وصل الضابطان المشار إليهما آنفًا إلى البارجة الإنكليزية، استقبلهما السر سدني سميث بالحفاوة والتكريم، وذكر «بوريين» في مذكراته أن نابوليون بعث مع رسوليه بهدايا نفيسة للسر سدني سميث، فأهدى هذا مثلها للضابطين ولاطفهما كثيرًا وقبل منهما ما جاءا لأجله من تبادل الأسرى.

ولم يكن ليخفى على مثل السر سدني سميث أن وراء فكرة تبادل الأسرى وزيارة أولئك الضباط غاية أخرى لنابوليون، ولكن لم يثبت لنا التاريخ في مذكرات أو معلومات ما كان ينويه الأميرال الإنكليزي حين أعطى الضابطين الفرنساويين، فيما أعطاهم، بضع نسخ من الجرائد الإنكليزية ومجموعة من أعداد جريدة «لاجازيت فرنسيز ده فرانكفورت» الصادرة في المدة الواقعة بين أول إبريل وآخر يونيو من تلك السنة، وقد كانت أعداد هاتيك الصحيفة والصحف الإنكليزية مشحونة بأخبار انخذال الجمهورية الفرنساوية وخسائرها في حروب ألمانيا والنمسا وإيطاليا.

ويرى فريق من كُتاب الإنكليز أن السر سدني سميث أراد، بإرسال تلك الصحف لنابوليون، إيقافه على أحوال بلاده واختلال شئونها ليحمله على فكرة الانجلاء عن مصر والعودة إلى فرنسا، وكانت نظرية عقد صلح، مع قائد الجيش الفرنسي في مصر، يقضي بجلاء ذلك الجيش عن وادي النيل، جلاء مقرونًا بالحقوق العسكرية، أو ما يسمونه «شرف الحرب»، فكرة قائمة برأس السر سدني سميث، والدليل على ذلك أن قرر تنفيذها مع الجنرال كليبر ووضعت لذلك معاهدة وافية بعد سفر نابوليون، دون أن تكون لدى السر سدني سلطة تخول له ذلك العمل من حكومة بلاده، ويرى فريق من كُتاب الفرنساويين أنه أراد أن يحرك في نفس نابوليون فكرة الفرار من مصر حين يعلم باختلال الأحوال في فرنسا ونضوج الثمرة التي كان يتطلع إليها، وربما كان يؤمل السر سدني سميث من وراء ذلك أن ينقض على نابوليون ويأسره في البحر، ويأخذ كل ما معه من التحف والطرف غنيمة باردة!!

ويرى غير هؤلاء أن السر سدني سميث أراد مجرد النكاية بنابوليون حين أرسل له تلك الصحف، كأن يقول له: «كيفما كانت انتصاراتك في البر فأنت في قبضة يدي، وبلادك مخذولة في حروبها مضطربة في داخليتها» وربما أراد الأميرال الإنكليزي كل هاتيك الأغراض، ولكن ما لا نزاع فيه، والذي عليه ثقاة المؤرخين، هو أن نابوليون لم يكن جاهلًا بأحوال بلاده واضطراباتها، فقد ثبت من التحقيقات التاريخية أن يوسف بونابرت، شقيق نابوليون، بعث له برسائل وصلت إليه، على رواية بعضهم، وهو في حصار عكا، وعلى رواية آخرين، وصلت إليه في القاهرة، شرح له فيها حالة فرنسا وحثه على الإسراع في العودة إليها، وقد روى «ميو» في مذكراته حكاية غريبة، وهي أن أسرة نابوليون في فرنسا استأجرت رجلًا يونانيًّا اسمه «بورباكي» وكانت له سفينة راسية في ميناء «ليفورنو» بإيطاليا، واتفقت معه على مبلغ أربعة وعشرين ألف فرنك تدفع له إذا هو استطاع إيصال الخطابات التي كتبها شقيقه إلى يده في مصر، وذكر «ميو» أن بورباكي وصل إلى الإسكندرية وتواترت إشاعة في الجيش الفرنساوي، بعد عودته من سوريا بقدوم رجل يوناني في بعثة سرية من فرنسا، وشك «ميو» في وصول خطاب من حكومة الديركتوار لنابوليون يدعوه إلى العودة إلى فرنسا لتولى قيادة جيوشها، ولكن المؤرخين المعجبين بنابوليون، ذكروا نص ذلك الخطاب وتاريخه من باريس في ٢١ مايو سنة ١٧٩٩، فيكون وصوله إلى القاهرة في أواخر شهر يونيو معقولًا.

وعلى كل حال فلا نزاع في أن نابوليون لم يكن في حاجة إلى صحف السر سدن سميث ليصمم على العودة بنفسه إلى فرنسا، فإنه قبل أن يتولى قيادة الحملة على مصر كان متطلعًا إلى السيادة على فرنسا، ولا يخفى على ذكاء مثله الوقاد أن مصر لا تكون إلا في يد صاحب السيادة البحرية، وأن اتصاله بفرنسا قد أصبح مقطوعًا، وأن آماله في الشرق قد قضي عيها القضاء المبرم في عكا، فعودته لبلاده في ذلك الوقت كانت ضربة لازب، وإنما اتخذ ما ورد في تلك الصحف واسطة للتأثير على من أراد أن يعود بهم من القواد، وليبرر خطته أمام بقية ضباط الجيش وقواده ورجال البعثة العلمية الذين جاء بهم، ثم تركهم وانسل إلى وطنه.

قال بويين في مذكراته ما نصه:

لما وصلت الصحف التي أرسلها السر سدني سميث انكب نابوليون على تلاوتها طول الليل.

ومن حديثه بعد ذلك مع بوريين قوله:

لقد وقع ما كنت أخشاه! لقد خسر أولئك البلهاء إيطاليا، وذهبت انتصاراتنا هباء منثورًا، فلا بد لي من مبارحة مصر حالًا.

ثم أمر بأن يستدعى إليه الجنرال الكسندر برتييه، فلما حضر أمره بالجلوس وقال له: «إن الأمور في فرنسا سائرة من رديء إلى أردأ، ولا بد لي من السفر، وأحب أن تكون معي.» ثم اجتمع نابوليون بالأميرال «غانتوم» واستدعوا إليهم «بوريين» ناقل هذه الرواية، واتفق الأربعة فيما بينهما على كتم السر، وأمر غانتوم بإعداد البارجتين لامويرون ولاكاريير La carrier, La Muiron وإعداد سفينتين آخريين صغيرتين وهما لارافانش ولافورتون «الانتقام والحظ»، وأن تكون بحارة هاته السفن لا يزيدون عن ٤٠٠ إلى ٥٠٠، وأن يعد ما يلزم من المئونة والمياه ما يكفي لمدة شهرين، واختلى نابوليون بغانتوم وتباحث معه في طريق الفرار والتحيل للخلاص من الوقوع في أيدي السفن الإنكليزية.

وأصدر نابوليون أمره بالسفر إلى القاهرة، وذلك أولًا لكي يوهم السر سدني سميث الذي كان واقفًا بالمرصاد في بارجته «النمر»، بأنه مصمم على البقاء في مصر، وثانيًا ليدعو معه من يشاء من خاصة رجاله، وليأخذ إلى فرنسا كل هاتيك الجواهر الثمينة، والمقتنيات الفاخرة، والطرف النادرة، التي جمعها من دور المماليك ومن نسائهم … ولا نقول هذا القول الذي سبقت لنا الإشارة إليه جزافًا، فقد ذكر المعلم نقولا الترك العبارة الآتية بحروفها «ودبر بونابرته أمر السفر، وهيأ ثلاث مراكب وأرسل لهم ليلًا عدة صناديق مملوءة بالجواهر الثمينة، والأسلحة العظيمة، والأمتعة والقماش، والأمور التي كان اكتسبها.»

(٦) آخر عهد القاهرة بنابوليون بونابرت

ففي الخامس من شهر أغسطس سنة ١٧٩٩، الموافق يوم الاثنين ٣ ربيع الأول سنة ١٢١٤ برح نابوليون الإسكندرية قاصدًا القاهرة، فبات يوم ٦ في الرحمانية، وفي مساء يوم السبت ١٠ أغسطس وصل إلى القاهرة، قال الشيخ الجبرتي في حوادث ذلك اليوم: «وفي ليلة الأحد تاسعه حضر ساري عسكر الفرنساوية بونابرته ودخل إلى داره بالأزبكية، وحضر صحبته عدة أناس من أسرى المسلمين وشاع الخبر بحضوره، فذهب كثير من الناس إلى الأزبكية ليتحققوا الخبر على جليته، فشاهدوا الأسرى وهم وقوف في وسط البركة ليراهم الناس، ثم إنهم صرفوهم بعد حصة من النهار فأرسلوا بعضهم إلى جامع الظاهر خارج الحسينية واصعدوا باقيهم إلى القلعة، وأما مصطفى باشا ساري عسكر فإنهم لم يقدموا به لمصر بل أرسلوه إلى الجيزة مكرمًا.» ا.ﻫ.

وفي نفس ذلك اليوم الذي كان يتفرج سكان القاهرة على أسرى الأتراك الذين اختار الجبرتي أن يسميهم «أسرى المسلمين» — مما يدل على أن المسلمين لا يميزون في الدين جنسية — كان المشايخ العلماء والأعيان في القاهرة وسراتها يسمعون من فم نابوليون، على لسان تراجمته، مر الكلام وقاذع اللفظ توبيخًا لهم على ما أظهره المصريون من السرور والاستبشار بقدوم العثمانيين، وقد نقل لنا الجبرتي كلمات قليلة من العبارات التي فاه بها نابوليون في ذلك الموقف، إلا أن المعلم نقولا الترك جاءنا بخلاصة خطبة نمقها قلمه بعبارات مسجعة، كأنما كتبها لنابوليون ليلقيها بذلك النص!! والمؤرخون الجبرتي ونقولا الترك، إنما جمعا شتات كلمات سمعها كل واحد منهم على حدة من أفراد من الذين حضروا ذلك المحفل، ولا يبعد أن يكون كل واحد منهما حاضرًا؛ لأن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي وإن لم يكن إذ ذاك عضوًا من أعضاء الديوان، إلا أنه كان من كبار العلماء، وشيخ رواق الجبرتية، فله حق الذهاب مع العلماء والأعيان للسلام على نابوليون، كما أن المعلم نقولا الترك قد كان بالطبع من الأدباء المعروفين، وقد مدح نابوليون بقصيدة، وله صلات بالمستشرقين والسوريين المترجمين من أبناء جنسه، فمن الممكن أن تكون روايته لأقوال نابوليون أصدق وأوفى من عبارة الجبرتي، خصوصًا وأن في عبارات نابوليون شيئًا من التعريض بمنزلة النبي ، فلا يرضى الجبرتي أن يثبتها في كتابه.

لهذا نرى من الضروري أن نثبت العبارتين، ولا سيما أن المسيو «كرستيان شرفيس» صاحب كتاب «بونابرت والإسلام» اهتم بعبارة المعلم نقولا ونقل صورة فوتوغرافية للصحيفة الواردة فيها، من النسخة المطبوعة في باريس.

وإلى القارئ عبارة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي: قال: «ولما استقر ساري عسكر بونابرته في منزله ذهب للسلام عليه المشايخ والأعيان وسلموا عليه، فلما استقر بهم المجلس قال لهم على لسان الترجمان: إن ساري عسكر يقول لكم: إنه لما سافر إلى الشام كانت حالتهم طيبة في غيابه، وأما في هذه المدة فليس كذلك؛ لأنكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا يرجعون، بل يموتون عن آخرهم فكنتم فرحانين مستبشرين، وكنتم تعارضون الأغا في أحكامه، وأن المهدي والصاوي ما هم «بونو»؛ أي: ليسوا بصليبيين ونحو ذلك، وسبب كلامه الحكاية المتقدمة التي حبسوا بسببها مشايخ الحارات فإن الأغا الخبيث٦ كان يريد أن يقتل كل يوم أناسًا بأدنى سبب، فكان المهدي والصاوي يعارضانه ويتكلمان معه في الديوان ويوبخانه ويخوفانه سوء العاقبة، وهو يرسل إلى ساري عسكر فيطالعه بالأخبار ويشكو منها، فلما حضر عاتبهم في شأن ذلك فلاطفوه حتى انجلى خاطره، وأخذ يحدثه على ما وقع له من القادمين إلى أبي قير والنصر عليهم وغير ذلك.» ا.ﻫ.

وأما عبارة المعلم نقولا الترك فهي كما يأتي «وفي خامس شهر ربيع أول «هذا خطأ وصوابه عاشر» حضر أمير الجيوش إلى مصر، ودخل بالعز والنصر، وبليت أعداؤه بالذل والقهر، وصحبته مصطفى باشا وولده مأسورين مع جملة الأسارى «وهذا أيضًا غير صحيح؛ لأن مصطفى باشا وابنه أرسلا للجيزة قبل قدوم نابوليون بعدة أيام» وفي ثاني يوم من وصوله حضرت لعنده جميع الحكام والعلماء والأعيان وأرباب الديوان، وهنئوه بقدومه وانتصاره، فنظر إليهم بعين فراسته واختباره، وقد وجدهم في حزن شديد، وقد بلغه الهرج الذي حصل في غيابه، وعزمهم عليه في انقلابه، والكتابات التي أتت إليهم من مصطفى باشا وعثمان خواجة حين حضروا إلى أبي قير فقال لهم: «لقد أخذني منكم العجب أيها العلماء والسادات إذ إنني أراكم تغتمون وتحزنون من انتصاري، حتى الآن ما عرفتم مقداري، وقد خاطبتكم مرارًا عديدة وأخبرتكم بأقوالي بأنني أنا مسلم موحد، وأعظم النبي محمد، وأود المسلمين، وأنتم إلى الآن غير مصدقين، وقد ظننتم أن خطابي هذا خشية منكم مع أنكم شاهدتم بأعينكم، وسمعتم بأذنكم، قوة بطشي واقتداري، وحققتم فتوحاتي وانتصاري، فقولي لكم إني أحب النبي محمد، ذلك لأنه بطل مثلي، وظهوره مثل ظهوري، بل وأنا أعظم منه؛ إذ إنني غزوت أكثر منه، ولي باقي غزوات غزيرة، وانتصارات كثيرة سوف تسمعونها بآذانكم وتشاهدونها بأعينكم، فلو كنتم عرفتموني، لكنتم عبدتموني وسوف يأتيكم زمان به تذلون، وعلى ما فعلتم تندمون، وعلى أيامنا تتحسرون وتبكون، فأنا قد بغضت النصارى ولاشيت ديانتهم وهدمت معابدهم، وقتلت كهنتهم، وكسرت صلبانهم، ورفضت إيمانهم، فهل تريدون أن أرجع نصرانيًّا ثانيًا، فإذا رجعت فلا تجدون في رجوعي فائدة، فدعوا عنكم هذه الأحوال، وامتثلوا لأمر الله المتعال، وكونوا فرحين مطمئنين، ليحصل لكم النجاح والصلاح، وقد نبهتكم مرارًا عديدة، ونصحتكم نصائح مفيدة، فإن كنتم تعرفونها وتذكرونها فتربحوا وتنجحوا، وإن كنتم رفضتموها تخسرون وتندمون.» ا.ﻫ كلام نابوليون، وقال المعلم نقولا: «ثم انصرفت العلماء وهم منذهلون من هذا الخطاب، ومتعجبين كل الإعجاب، ولم يقدر أحد أن يرد له جواب.» ا.ﻫ.

ونحن نترك مناقشة ما كتبه مسيو شرفيس تعليقًا وبحثًا في هذه الأقوال المنسوبة إلى نابوليون بونابرت، إلى الباب الذي سنخصصه في الكلام على مسألة بونابرت وإسلامه، وقد وعدنا بذلك في مواقف سابقة، ولكن لا بد لنا من القول هاهنا بأن عبارة المعلم نقولا مبالغ فيها، وأن نابوليون ما كان ليخطر له ببال في تلك اللحظة، أن له بقية من «غزوات غزيرة وانتصارات كثيرة» ولعل المعلم نقولا كتب رسالته، أو أعاد تنقيحها، بعد أن ذاعت شهرة نابوليون وغزواته في أوروبا فاختلق من دماغه ما اختلق.

وكان من نتائج فوز الفرنسيين في واقعة أبي قير، كما هو ظاهر من عبارات نابوليون التي أذاعها في طول البلاد وعرضها، أن يقوى النفوذ الفرنسي، وأن يجنح الذين أظهروا الميل والولاء للفرنسيين إلى التغالي والتعالي على المصريين، وعدم المبالاة بشعورهم، ولا سيما بعد أن بدت من المصريين بوادر الشماتة والاستبشار بقدوم الأتراك، وما كان المصريون في ذلك الزمن يظنون أو يتخيلون أن الجيش التركي يقهر ويذل على أيدي جماعة كالفرنسيس، ومن العبارة الآتية التي ننقلها عن الجبرتي، دليل جلي على الحالة السياسية والشعور المصري في تلك الفترة، والعبارة على بساطتها لها دلالة قوية على ما كان يحس به المصريون بارزًا، في صورة أبقتها لنا ريشة الجبرتي: قال بمناسبة الاحتفال بحفلة وفاء النيل عقب عودة نابوليون للقاهرة:

خرج النصارى البلدية من القبطة والوشام والأروام وتأهبوا للخلاعة والقصف والتبرج واللهو والطرب، وذهبوا تلك الليلة إلى بولاق ومصر العتيقة والروضة واكتروا المراكب ونزلوا فيها وصحبتهم الآلات والمغاني، وخرجوا في تلك الليلة عن طورهم، ورفضوا الحشمة، وسلكوا مسلك الأمراء سابقًا من النزول في المراكب الكثيرة المقاديف وصحبتهم نساؤهم وقحابهم وشرابهم، وتجاهروا بكل قبيح من الضحك والسخرية وغير ذلك، وأجرى الفرنساوية المراكب المزينة وعليها البوارق وفيها أنواع الطبول والمزامير في البحر، ووقع في تلك الليلة في البحر وسواحله من الفواحش والتجاهر بالمعاصي والفسوق ما لا يكيف ولا يوصف … إلى آخره …

ونترك للقارئ ما يستنتجه من مغزى هذه العبارة، وننتقل إلى بقية أعمال نابوليون في مصر قبل مبارحته أرضها.

(٧) محاولات سياسية مع تركيا

كانت المدة التي قضاها نابوليون بونابرت في القاهرة بعد معركة أبي قير عبارة عن أسبوع واحد «من يوم الأحد ١١ أغسطس إلى الأحد ١٨ منه» وصادف يوم ١١ ربيع الأول الموافق ١٣ أغسطس المولد النبوي، فاحتفل السيد خليل البكري بالمولد كعادته احتفالًا كبيرًا أقام له مهرجانًا فخمًا في الأزبكية، ودعا إليه نابوليون بونابرت إلى منزله فلبى الدعوة، وإلى القارئ رواية الجبرتي في هذا الصدد، قال: «دعا الشيخ خليل البكري ساري عسكر الكبير مع جماعة من أعيانهم وتعشوا عنده، وضربوا ببركة الأزبكية مدافع وعملوا حراقة وصواريخ، ونادوا في ذلك اليوم بالزينة وفتح الأسواق والدكاكين ليلًا وإسراج قناديل واصطناع مهرجان.» ا.ﻫ. وهكذا شارك نابوليون في احتفال المولد النبوي للمرة الثانية والأخيرة في حياته، وهو مشغول البال بالاستعداد للسفر، أو بعبارة أصح للهرب من القطر المصري.

وفي هذه المدة حاول نابوليون الصلح مع الدولة العثمانية، خصوصًا وقد علم أن الصدر الأعظم يوسف باشا ضيا قد برح الآستانة وحضر بنفسه إلى الأناضول وسوريا ليجمع جيشًا يهاجم به مصر من طريق الشرق، وأراد نابوليون أن يتخذ من وجود الشيخ مصطفى كوسة باشا في القاهرة أسيرًا، واسطة في المخابرة مع الصدر الأعظم فكتب خطابًا طويلًا، لا تزال صورته باللغة الفرنساوية محفوظة في أوراق وزارة الحربية، وفي مكاتبات نابوليون بنمرة ٤٣٦، وتاريخه ١٧ أغسطس؛ أي: قبل سفره من القاهرة لإسكندرية ومنها لفرنسا بيوم واحد، ولما كان هذا الخطاب على جانب عظيم من الأهمية السياسية، رأينا أن نأتي على تعريبه من الأصل الفرنساوي، قال بعد الديباجة مخاطبًا الصدر الأعظم:

أريد بواسطة هذا الخطاب أن أوقفكم على مركز مصر الحقيقي لعلي بذلك أساعد على فتح باب المخابرات بين الباب العالي والجمهورية الفرنساوية فيما عساه يؤدي إلى وضع حد للحرب القائمة بين الأمتين، تلك الحرب التي لا تعود إلا بالخسارة على الجانبين، وأني لا أدري أي طالع نحس قضى بشبوب نار الحرب بين أمتين عاشتا طول الزمان على صفاء ووفاق لبعد ما بينهما من الشقة، ولعداوة فرنسا للروسيا، وعداوة هذه الأبدية لتركيا، وكيف لا ترى دولتكم أن كل جندي تخسره فرنسا، هو خسارة للأمة العثمانية؟ وكيف خفي على فطنتكم السياسية، وخبرتكم بشئون ممالك العالم أن الروسيا وألمانيا طالما اتفقتا على تجزئة المملكة العثمانية، ولم يمنعها عن ذلك إلا معارضة فرنسا؟

إن مثل دولتكم لا يخفى عليه أن العدوة الحقيقية للإسلام هي الروسيا! أوليس القيصر بولس الأول رئيس فرسان مالطة يعلن أنه يحمل شعار الصليبيين ضد الإسلام؟ أوليس هو حامي ذمار الأرثوذكسية الرومية وأتباعها أكثر أعداء المسلمين عددًا وأشدهم حقدًا؟

وأما فرنسا فإنها بالعكس من ذلك قضت على فرسان مالطة وأفرجت عن الأسرى الأتراك الذين اعتقلهم المالطيون، وفرنسا هي التي تعتقد الآن كما يعتقد المسلمون أن الله واحد فرد صمد.

ومعنى هذا كله أن الباب العالي قد أعلن الحرب على أصدقائه الأوفياء، وحالف عليهم أعداءه الألداء، ومن الغريب أن الباب العالي يبقى صديقًا لفرنسا وهي مسيحية حتى إذا خلعت رداء المسيحية، وقاربت في معتقداتها دين الإسلام، قلب لها الباب العالي ظهر المجن وبادأها بالشر والعدوان! فلا نزاع إذن في أن روسيا وإنكلترا قد خدعتا الباب العالي، ومنعنا وصول رسلنا الذين بعثنا بهم للآستانة ليشرحوا لحكومتها فكرة وخطة الحملة الفرنساوية على مصر، تلك الخطة، التي صرحت مرارًا وتكرارًا من أنها لا ترمي إلا للقضاء على المماليك والإضرار بمصالح إنكلترا، دون التعرض إلى حقوق صديق فرنسا جلالة السلطان سليم، وأن المعاملة التي عاملت بها جميع رجال الدولة العثمانية الذين وجدتهم في مصر، وكذلك معاملتنا للسفن التي تحمل الراية العثمانية لأصدق برهان على حسن نيات الجمهورية الفرنسية، ولكن مع كل هذا أعلن الباب العالي الحرب على فرنسا في أول يناير، ومع علمي بذلك فإنني لم أيأس من إمكان إعادة المياه إلى مجاريها، فبعثت بالستوين «بوشان» قنصل الجمهورية الفرنساوية رسولًا للباب العالي فقوبل بالقبض عليه وسجنه، وقوبلت مساعيّ بحشد الجيوش في غزة وأمرها بالزحف على مصر، فاضطررت أن أحاربها في سوريا، بدلًا من أن تحاربني في وادي النيل.

ولا يخطرن على بالكم أنني أكتب هذا خوفًا وتزلفًا! كلا فإن جيشي قوي مدرب جامع لكل الصفات التي تؤهل لقهر أعدائه، وقد أقمت القلاع والحصون على الحدود وعلى شواطئ البحار فأصبحت في أمن، وأضحت جيوشي لا تُغلب، ولكني مع كل هذا رأيت من واجبي نحو الإنسانية، ونحو السياسة الرشيدة الصحيحة، ونحو أقوم وأصدق حليف لفرنسا، أن أسعى هذا المسعى.

وإني واثق من أنه لا يمكن للباب العالي أن يدرك بالحرب وإراقة الدماء، ما يناله بالمسالمة والصفاء، وإني لعلى قدم الاستعداد لسحق أي جيش يقصد به الإغارة على مصر، ولكني مستعد من جهة أخرى أن أقابل كل مسعى للتوفيق بأحسن ما تريده الدولة العثمانية من التساهل، فعليكم بعد هذا أن توقفوا تيار هذه الاستعدادات التي تبذلون فيها نهاية جهدكم عبثًا، ولتعلموا أن أعداء تركيا ليسوا في مصر، بل هم على مقربة من البوسفور، وهم الآن في جزيرة كوفو تمخر سفنهم في مياه الأرخبيل بسبب سوء تصرفات رجال الدولة «يشير إلى وجود السفن الروسية في البحر الأبيض وخروجها من البوسفور».

على تركيا أن تُقوي جيوشها وتُكثر من بناء السفن وتسليحها، ولتدعو المسلمين تحت ظل البيرق النبوي، لا لمحاربة فرنسا، بل لمحاربة الروس والألمان الذين يريدون جميعًا إضعاف تركيا ونيل أغراضهم، وإن قلتم: إن تركيا تريد مصر، نقول لكم: إن فرنسا لم ترد ولا تريد أن تسلبكم إياها.

فإما أن تبعثوا بسفراء مفوضين لباريس، وإما أن تبعثوا برسول منكم إلى القاهرة، وإني أؤكد لكم أنه لا تنقضي ساعتان من الزمان في المناقشة والإيضاح، حتى يتم الاتفاق على الصلح والسلام، ونحن مستعدون أن نقفل البحر في وجه الروسيا ونقاوم تلك الدولة التي تتخذنا جميعًا ألعوبة لأغراضها ومطامعها، فليس من مصلحة فرنسا أن توجه مهارة جيوشها وبسالة جنودها ضد المسلمين، بل بالعكس تقضي مصلحتها بالاتفاق على الدوام ضد أعدائها وأعداء الإسلام، وأظن أنني وفيت المقام حقه من الشرح والبيان، فإن أردتم المخابرة، ففي إمكانكم استدعاء الستوين بوشان الذي بلغني أنه محجوز عندكم، وفي إمكانكم اتخاذ أية وسيلة أخرى، وأني أؤكد لكم أن أسعد أيام حياتي هو اليوم الذي أستطيع فيه إيقاف تيار العداوة بين تركيا وفرنسا، والقضاء على هذه السياسة العقيمة … إلخ.

الإمضاء «بونابرت»٧

وبعث نابوليون هذا الخطاب مع أحد الضباط العثمانيين المأسورين، باتفاق وتعليمات من المشير مصطفى باشا، ولا علم لمولانا الشيخ الجبرتي بهذه المساعي؛ لأنه لم يشر إليها بحرف واحد، ولكنها اتصلت بالمعلم نقولا الترك فأشار إليها بقوله: «وابتدأ «بونابرت» يُكاتب الدولة على يد مصطفى باشا، ويذكرهم صداقة الفرنساويين ويحذرهم من باقي الدول، وأن الأوفق لهم إقامة الفرنساوية في مصر، وأنهم أنسب من الغز وتبقى الخطبة والسكة باسم الدولة العثمانية، ويمشي الحج كعادته القديمة ويدفعون الأموال المعتادة للخزينة، وأرسل مصطفى باشا هذا الخطاب مع أحد أتباعه.»

ومثل هذه البيانات لا بد أن يكون قد سمعها المعلم نقولا من المحيطين بالمشير العثماني من السوريين التراجمة، ومثل هذا لا يتيسر طبعًا للشيخ الجبرتي.

ولا شك في أن هذه المساعي النابوليونية، لم تلق من الأتراك آذانًا صاغية؛ لأن نفوذ إنكلترا كان بالغًا حده في الآستانة بواسطة الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا، الذي كانت صلاته مع السر سدني سميث على غاية الإحكام والوفاق، وكان مع ضيا باشا عدد كبير من الضباط الإنكليز، كما يظهر ذلك جليًّا من أخبار متقطعة، وجمل متفرقة، يراها القارئ في تاريخ هذه الفترة من كتاب الأمير حيدر الشهابي، وكان السر سدني سميث تعرف بالأمير بشير الشهابي في بيروت وسعى للتوفيق والصلح بينه وبين أحمد بشا الجزار، فلم يحفل به ذلك الطاغية، فأراد الأميرال الإنكليزي الاستعانة بنفوذ الصدر الأعظم فلم يحفل به الجزار أيضًا.

وليس هذا مجال البحث في تلك الآراء النابوليونية فيما يختص بعلاقات تركيا مع فرنسا السياسية، ولا سيما فيما له علاقة بمصر وبقاء السيادة العثمانية مع الاحتلال الفرنسي فإن أحوال الزمان قد تغيرت، ومراكز الدول قد تبدلت، إلا أن ذلك لا يمنع أن نقول إن ما قرره نابوليون من عداوة الروسيا لتركيا — تلك العداوة الدائمة الأبدية التي قضت بها صوالح الدولتين وتجاورهما، وتعارض أغراضهما — لا يختلف فيه اثنان، ولكن مع هذا وقفت بينهما السياسة الإنجليزية في ذلك الزمن كما وفقت بين فرنسا وتركيا ونفسها ضد الروسيا في حرب القريم، وكما وفقت بين فرنسا وروسيا ونفسها أيضًا ضد ألمانيا وتركيا في الحرب الأخيرة الكبرى! فهل معنى هذا أن السياسة الإنكليزية أرقى وأدق وأمهر من جميع سياسات الدول الأخرى؟ وهل أوتي الإنكليز من الحكمة والدهاء وبعد النظر ما لم يؤته غيرهم؟ الحقيقة في رأينا القاصر أن الفضل في نجاح السياسة الإنكليزية في جميع الأدوار، راجع إلى تماسك أجزاء الأمة البريطانية، وتوحيد أفكار القائمين فيها بإدارة الأمور وتدبير مهام الملك، وإلى الكثير من الحظ الذي لا يزال طالعه ملازمًا لهذه الدولة البريطانية.

(٨) الاستعداد للسفر

في اليوم الذي كتب فيه نابوليون بونابرت ذلك الخطاب إلى صاحب الدولة الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا كتب خطابًا بعث به إلى أعضاء الديوان من المشايخ والأعيان، لم يذكر نصه الجبرتي، ولا المعلم نقولا سوى ما قاله الأول: «وفي ثالث عشر أشيع أن كبير الفرنسيس سافر إلى جهة بحري، ولم يعلم أحد أي جهة يريد، وسأل أحدهم بعض أكابرهم فأخبر أن ساري عسكر المنوفية «الجنرال لأنوس» دعاه إلى ضيافته بمنوف، وراج ذلك على الناس وظنوا صحته.»

وإلى القارئ نص خطاب نابوليون معربًا عن المصادر الفرنسية:

إلى أعضاء الديوان الموقرين

غدًا أسافر إلى منوف حيث أنوي التنقل في جهات الوجه البحري لأقف بنفسي على المظالم التي يمكن أن يكون قد ارتكبها الحكام، وأتفقد الأحوال وأتعرف بأهالي البلاد، ولذلك أطلب منكم أن توطدوا دعائم الثقة عند الخاصة والعامة، وأكدوا للأمة المصرية، أنني أحب المسلمين، وأسعى في خيرهم وسعادتهم، وأفهموا الناس أن لدي من الوسائل ما أنفع به الأصدقاء، وأنكل بواسطته بالأعداء، وأحب أن تبعثوا لي دائمًا بأخباركم، وتوقفوني على حقائق الأمور ومقتضيات الأحوال. ا.ﻫ.

الإمضاء «بونابرت»

وظاهر أن نابوليون إنما قصد بهذا الخطاب التعمية والإبهام لكيلا يذيع سر سفره من القطر المصري.

وروى بعض المؤرخين أنه قد كان في نية نابوليون قضاء أسبوع آخر في القاهرة لكثرة ما لديه من المهام التي تقضي وضع خطط ونظامات، ولأنه كان يود أن يأخذ معه صديقه الجنرال «ديزيه» فاتح الصعيد ليكون من أكبر أنصاره وأعوانه فيما يطمع إليه من الأغراض في فرنسا، ولكن «ديزيه» كان في أقاصي الصعيد وتلزم لحضوره مدة طويلة، وما منع نابوليون من انتظاره إلا ما ورد إليه من الأخبار التي بعث بها الأميرال غانتوم من الإسكندرية يخبره فيها بابتعاد السفن الإنكليزية عن المياه المصرية، أنه إن لم تسافر السفينتان اللتان ستقلان نابوليون وحاشيته ٢٤ أغسطس، فلا يبعد أن تعود البواخر الإنكليزية، ويكون السفر إلى فرنسا مهددًا بالخطر إن لم يكن مستحيلًا.

ففي ١٨ أغسطس برح نابوليون القاهرة قاصدًا منوف، وكان القواد الذين صمم على أخذهم معه الجنرالات مورات، وبرتران، وأندريوسي، ومارمون، ولان، ومن رجال البعثة العلمية مونج وبرتلو ودنوني وبرسفال، وروى بوريين سكرتير نابوليون في مذكراته قال: «وبقي سر السفر إلى فرنسا مكتومًا، إلا أن الجنرال «لانوس»، قومندان مديرية المنوفية، لما نزل عنده في يوم ١٩ لم تخف عليه وجهتنا، فقال لي: «إنكم مسافرون إلى فرنسا» ولم يزده جوابي بالنفي إلا زيادة في الشك.»

وفي يوم ٢٢ وصل نابوليون ومن معه إلى الإسكندرية، وقد قال برتران في مذكرات سانت هيلانة عند اختياره للجنرال كليبر في قيادة الجيش الفرنساوي في مصر ما نصه: «كان الجنرال ديزيه أكفأ ضابط لتولي رياسة جيش الشرق، ولكن وجوده في فرنسا كان أنفع، ويليه في الدرجة كليبر، ثم الجنرال رينيه، ولقد فكر نابوليون في استصحاب أولئك الثلاثة معه إلى فرنسا، وفي أن يترك القيادة في مصر للجنرال لاونس، ولكن لما فكر في أخطار السفر في البحر، فضل أن يترك رياسة الجيش في مصر في يد ضابط ذي كفاية ووقع اختياره على الجنرال كليبر.»

وهذه العبارة كتبت بعد ستة عشر عامًا من هذا التاريخ، وأراد بها نابوليون تبرئة نفسه مما وجه إليه من التهم، مع أنه لم يكن يحب الجنرال كليبر، ولم يرد أن يقابله قبل سفره من مصر خشية من جرأة كليبر ولسانه المر، وتحاشيًا من أن يقول له: «إما أن نسافر معًا وإما أن نبقى معًا»، وإلا لو أراد أن يجتمع بالجنرال كليبر قبل سفره، لضرب له موعدًا مناسبًا، بل وما كان ليكلفه مشقة العودة إلى دمياط بعد أن حضر إلى أبي قير بعد نهاية الواقعة، والدليل على هذا الرأي أنه اختار لمقابلته وإعطائه الرسائل والتعليمات التي كتبها لخلفه، الجنرال منو المعروف بوداعته وخضوعه وولائه لنابوليون.٨
وكان نابوليون لما وصل إلى الإسكندرية أقام خيمته في الجهة المعروفة الآن في الرمل بمحطة «كامب سيزار» «معسكر القيصر» فلما اجتمع به منو أعطاه كتاب التعليمات التي وضعها لكليبر، وترك معه أيضًا عدة رسائل منها واحدة إلى ديزيه بدعوة إلى السفر لفرنسا بأقرب فرصة، ورسالة أخرى لصديقه الحميم «جونو» يعتذر فيه لعدم تمكنه من أخذه معه، وفي هذه الفترة، وفي تلك البقعة الأثرية، صرح نابوليون للجنال منو، لأول مرة، بما تتوق إليه نفسه من التطلع إلى ملك فرنسا؛ إذ قال له كما ورد في مذكرات سانت هيلانة:

سأصل إلى باريس وأطرد أولئك المحامين «أعضاء حكومة الديركتوار» الذين يهزءون بنا، والذين لا يصلحون لإدارة أحكام الجمهورية، وعند ذلك أضع نفسي في رياسة الحكومة وأجمع حولي الأحزاب المتنافرة، وأعيد الجمهورية الإيطالية، وأثبت قدم فرنسا في هذه المستعمرة الفاخرة (مصر).

رسالة بونابرت لكليبر خليفته

ترك نابوليون كليبر خلفًا له في القيادة العامة على الجيش الفرنساوي في مصر، وبعبارة أخرى حاكمًا عامًّا مطلق التصرف في شئون القطر المصري، وكتب له خطابًا مطولًا له قيمة تاريخية عظمى؛ لأن نابوليون رسم في ذلك الخطاب أو في تلك المذكرة السياسية، الخطة التي يسلكها الجنرال كليبر في الأمور الداخلية والخارجية.

وهذا الكتاب محفوظ بالنص الأصلي في وزارة الحربية الفرنسية «وثيقة نمرة ٤٣٧٤»، ولأهمية هذا الخطاب، وعدم وجود أثر له في اللغة العربية، رأينا أن نأتي هنا على تعريبه بدقة وإتقان، قال:
تجد أيها القائد المواطن طي كتابي هذا أمرًا تستلم بموجبه قيادة الجيش العليا، فإني قد عزمت على تقديم موعد سفري يومين أو ثلاثة أيام خوف عودة السفن الإنجليزية، وقد اصطحبت معي القوادبرتيه وأندريوسي ومورات ولان ومارمون والمواطنين مونج وبرتواليه، وتجد مع كتابي هذا بعض الأوراق التي ترى منها أننا قد خسرنا إيطاليا، وأن مدن ماتو وتورين وتوتون محصورة،٩ على أنه يوجد مجال للأمل بأن المدينة الأولى تتحمل الحصار إلى نهاية شهر نوفمبر المقبل، وأنا أرجو أن أصل إلى أوروبا — إذا ابتسم لي الحظ — قبل ابتداء شهر أكتوبر.

وتجد أيضًا لغة اصطلاحية للمخاطبة مع الحكومة ولغة أخرى للمخاطبة معي أنا.

أرجو لا أن تسفر في شهر أكتوبر «جونو» ومعه خدمي وجميع حوائجي التي تركتها في القاهرة، ولا مانع أن تبقى لديك من تريده منهم.

ترغب الحكومة في سفر الجنرال ديزيه إلى أوروبا في شهر نوفمبر ما لم تطرأ حوادث مهمة، وستعود لجنة الفنون إلى فرنسا في شهر نوفمبر؛ أي: حالما تنتهي مهمتها وأعضاؤها يهتمون الآن في إنجاز الأعمال الباقية التي تقوم بها في زيارة صعيد مصر، على أنه يجوز لك أن تستبقي منها من تتوسم فيه المنفعة لك.

سافر الأفندي الذي أسرناه في أبي قير إلى دمياط، وقد كتبت لك لترسله إلى قبرص فهو يحمل إلى الصدر الأعظم كتابًا تجد طيه نسخة منه.

إن وصول أسطولنا إلى برست وطولون، ووصول الأسطول الإسباني إلى قرطجنة مما لا يدع مجالًا للشك في إمكان إرسالنا إلى مصر البنادق والسيوف والمسدسات وباقي المهمات التي تحتاجها، والتي سأرسلها لك مع قسم من الجيش الاحتياطي لتعويض الخسائر التي أصابتنا في الموقعتين، وستعلمك الحكومة حينئذ عن نياتها، وأنا شخصيًّا بصفتي العمومية وبصفتي الخصوصية سأعد الإجراءات اللازمة لإرسال لك ما يهمك من الأخبار من آن إلى آخر.

وإذا لم تنجح الوسائل التي سنستعملها للاتصال بك لطروء حوادث ليست في الحسبان، ولم يصلك من الآن إلى شهر مايو أية نجدة وأي خبر من فرنسا، وإذا تفشى الطاعون في مصر على الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذت هذه السنة، وقضى على ١٥٠٠ جنديًّا من جيوشك مما يعد خسارة كبرى، فعليك والحالة هذه أن لا تركب متن الخطر في إثارة المعركة المقبلة، بل إنك مفوض في عقد الصلح مع الباب العالي العثماني، حتى ولو كان الجلاء عن مصر من شروط الصلح الأساسية، إنما يجب أن تُرجئ تنفيذ هذا الشرط إلى حين عقد الصلح العام.

وإنك تقدر أكثر من أي شخص آخر، أيها الجنرال المواطن، أهمية امتلاك مصر وبقائها في يد فرنسا، إن السلطة التركية المتداعية الأركان تتهدم شيئًا فشيئًا وسيكون إجلاء فرنسا عن مصر من المصائب التي تعظم نتائجها؛ إذ قد نرى في أيامنا هذه البلاد تنتقل إلى يد أوروبية أخرى.

وعندما تضع خططك يجب أن تراعي الأنباء التي ترد إليك عن انتصار أو انكسار الجمهورية في أوروبا.

إذا أجابك الباب العالي قبل أن تصلك أنبائي من فرنسا، وقبل فتح باب مفاوضات الصلح التي اقترحتها عليه، فيجب أن تصرح أنك حائز على كافة السلطات التي أحوزها أنا، وباشر المفاوضة، وأبد بما سبق وصرحت أنا به من أن فرنسا لا تنوي اقتطاع مصر من أملاك الباب العالي، وأطلب انفصال الباب العالي عن التحالف، ومنحه إيانا حق التجارة في البحر الأسود، واطلب هدنة ستة أشهر نتبادل في أثنائها المصادقة على المعاهدة.

وإذا فرض أن الظروف حملته على أن تعقد أنت بنفسك المعاهدة مع الباب العالي، فيجب إشعاره بأنه لا يمكنك تنفيذها قبل التصديق عليها، وحسب المتبع بين كافة الدول تكون المهلة بين إمضاء المعاهدة والمصادقة عليها هدنة لا يحدث فيها أي عمل عدائي.

وإنك تعرف، أيها القائد المواطن، ما هي نظريتي في سياسة مصر الداخلية، فإنك مهما تفعل فستجد المسيحيين دائمًا أصدقاءنا، إنما يجب منعهم على كل حال من الاستخفاف بمواطنيهم حتى لا يتعصب الأتراك ضدنا، كما هم متعصبون ضد النصارى فتصبح العلة لا شفاء لها، ويجب أن تحذر روح التعصب، وتنومها إلى أن تتمكن من استئصالها، إذا حزت ثقة كبار مشايخ القاهرة فإنك تجمع حولك أفكار مصر بأجمعها، وأفكار كل زعيم من زعماء الشعب، لا شيء أقل خطرًا علينا من المشايخ الذين يرهبون القتال ولا يعرفون طرقه، ولكنهم مثل القسيسين يوحون بالتعصب دون أن يكونوا هم أنفسهم متعصبين.

من جهة التحصينات فإن الإسكندرية والعريش هما مفتاحا مصر، كان لدي مشروع لإقامة متاريس من النخل في الشتاء المقبل، منها متراسان من الصالحية إلى القطية، ومتراسًا من القطية إلى العريش، وأحد المتراسين الآخرين يقام حيث وجد الجنرال مينو مياهًا صالحة للشرب.

يطلعك الجنرال سانسون قائد فرقة الهندسة والجنرال سونجي قائد مدفعية الجيش على كل ما يتعلق بأمور جيشهما.

المواطن بوسيلج قد عهد إليه بالشئون المالية فقط، وعهدي به رجل جد وعمل، وقد صار لديه الآن بعض المعلومات عن الإدارة المصرية المرتبكة، كنت أفكر في إنشاء طريقة جديدة لجمع الأموال الأميرية فيما إذا لم يحدث أمر جديد مما يغنينا عن استخدام الأقباط تقريبًا، وإني أوصيك بالتفكر مليًّا في هذا الأمر قبل الإقدام عليه، فالأفضل أن تبتدئ بمثل هذا العمل متأخرًا قليلًا، من أن تبتدئ به قبل أوانه.

ستظهر السفن الحربية الفرنسية بلا ريب في هذا الشتاء أمام الإسكندرية أو البرلس أو دمياط، يجب أن تتبنى برجًا في البرلس، اجتهد في جمع ٥٠٠ أو ٦٠٠ شخصًا من المماليك حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفرهم إلى فرنسا، وإذا لم تجد عددًا كافيًا من المماليك فاستعض عنهم برهائن من العرب، ومشايخ البلدان، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يحجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة، ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليه غيرهم.

كنت قد طلبت مرارًا جوقة تمثيلية وسأهتم اهتمامًا خاصًّا بإرسالها لك؛ لأنها ضرورية للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد.

إن المركز السامي الذي ستشغله بصفتك رئيسًا أعلى، سيفسح المجال أمام المواهب التي خصتك بها الطبيعة، واعلم أن ما يجري هنا لذو أهمية كبرى، وستكون نتائجه عظيمة على التجارة فنحن في عهد ثورات كبيرة.

لقد اعتدت على أن أرى مكافأة أعمال الحياة ومتاعبها في أفكار حكم الأجيال الخالفة فإني أبرح مصر مع أسقف كبير؛ لأن مصلحة الوطن ومجده، الطاعة الواجبة عليَّ نحوه، والحوادث الاستثنائية التي وقعت أخيرًا، هي وحدها التي تحملني على المرور بين أساطيل الأعداء في ذهابي إلى أوروبا، ولكني سأبقى بقلبي وأفكاري بينكم، وسأفخر بنجاحكم مقدار فخري بنجاح ما أباشره بيدي، وأني أعتبر الأيام التي تمضي دون أن أعمل فيها عملًا نافعًا للجيش الذي أترك لكم قيادته، تعد من الأيام التي أسأت التصرف فيها، وقد عهدت إليكم إشادة البناء العظيم الذي وضعنا أحجاره الأساسية.

إن الجيش الذي أتركه في عهدتكم مؤلف جميعه من أبنائي فقد شاهدت علامات الإخلاص والتعلق بي على وجوههم حتى في أشد أيام محنتهم، فدعهم يسيرون في هذا السبيل، وسنقوم بهذه المهمة نحوهم نظرًا للاعتبار الخاص الذي أكنه لك ونظرًا لتعلقي الحقيقي بهم وسلام عليك.

بونابرت

وقع الخبر في مصر

دهش الناس في مصر من فرنسيين ومصريين حين وصل إلى القاهرة نبأ ارتحال بونابرت من مصر، فروى الجبرتي فقال:

وفي ثامن عشرينه «أي ٢٨ ربيع الأول» ورد من بونابرته ساري عسكر الفرنساوية كتاب من الإسكندرية خطابًا لأهل مصر وسكانها، فأحضر قائمقام دوجا الرؤساء المصرية وقرأ عليهم الكتاب، ومضمونه أنه سافر يوم الجمعة حادي عشرين الشهر المذكور إلى بلاد الفرنساوية لأجل راحة أهل مصر وتسليك البحر، فيغيب نحو ثلاثة أشهر، ويقدم مع عساكره ليصفو له ملك مصر ويقطع دابر المفسدين، وأن المولى على أهل مصر وعلى رياسة الفرنساوية جميعًا هو كليبر، ساري عسكر دمياط.

ونحن لا نعلم ما إذا كان الجنرال دوجا قد اكتفى بقراءة خطاب نابوليون لأعضاء الديوان من المشايخ، أو أنه أمر بترجمته وطبعه ونشره؛ إذ لو فعل ذلك لجاز لنا أن نعتقد أن الجبرتي كان يحرص على نصه، كما أن المعلم نقولا لم يشر إليه مطلقًا، وإن يكن قد حفظ لنا صورة الخطاب الذي وزع بإمضاء المشايخ، وهو ما لم يأت به الجبرتي على نصه، ولهذا فإننا نأتي على تعريب نص آخر خطاب بعث به نابوليون إلى أعضاء الديوان نقلًا عن كتاب الكابتن لاجونكيير.١٠

من القائد العام بونابرت إلى ديوان القاهرة المنتخب من خيرة الرجال وأوسعهم معرفة وأكثرهم حكمة:
القيادة العامة بالإسكندرية في ٢٢ أغسطس سنة ١٧٩٩

لما كنت عالمًا أن أسطولي على قدم الاستعداد، وأن جيشًا كبيرًا سيسافر، وكنت أعتقد كما قلت لكم مرارًا بأنني إذا لم أضرب أعدائي ضربة شديدة أسحقهم بها فلا أستطيع أن أتمتع هادئًا بامتلاك مصر التي هي أجمل بلاد الدنيا، فقد عولت على أن أكون على رأس أسطولي تاركًا القيادة العامة أثناء غيابي للجنرال كليبر، وهو رجل ذو مزايا خاصة، وقد أوصيته أن يحفظ للمشايخ العلماء ما كنت أحفظه لهم من المحبة والود.

فابذلوا جهدكم ليثق به الشعب المصري ثقته بي، ومتى عدت بعد شهرين أو ثلاثة أكون مسرورًا؛ لأني أحمل لهذا الشعب المدح والثناء، وللعلماء حسن الجزاء.

بونابرت
وكتب نابوليون الخطابين الآتيين للجنرال «دوجا» ولبوسيلج الروزنامجي:

من القائد العام بونابرت إلى الجنرال دوجا
القيادة العامة بالإسكندرية في ٢٢ أغسطس سنة ١٧٩٩

حينما تقرأ هذا الكتاب أكون أيها المواطن الجنرال في وسط البحر؛ لأن أحوال فرنسا توجب عليَّ السفر إليها، وفضلًا عن ذلك فإن سفري هو الوسيلة الوحيدة لتأمين هذه السفن ورجال الجيش.

إن كليبر يحفظ لك حبًّا واحترامًا، وأنت واثق أن بعض السفن الحربية الفرنسية ستصل في الشتاء، وتستطيع أن تبحر عليها للعودة إلى منصبك في القسم التشريعي لتتمكن من استخدام مهارتك وحزمك لحفظ السكينة في هذه المدينة العظيمة وفي مصر والجيش.

وتأكد أنه مهما كانت الظروف التي يحكم علينا بها القدر فإنني أحفظ لك دائمًا من الاحترام والود مثل ما تشعر به نحوي.

بونابرت

•••

من القائد العام بونابرت إلى المواطن بوسيلج
القيادة العامة بالإسكندرية في ٢٢ أغسطس سنة ١٧٩٩

إن الحوادث التي جرت في أوروبا منذ ١٥ يونية تجعل من واجبي الإسراع في السفر، وأرجو أن أصل قبل سقوط مدينة مانتو.

إن الجنرال كليبر الذي تولى قيادة الجيش يجلك ويحبك.

وسأطلع الحكومة يباريس على ما تقدم لهذه البلاد من الخدم الجليلة في كل يوم، ومهما كانت الظروف فإنك تستطيع أن تعتمد على نيتي في أن أقوم بتأدية كل عمل يسرك.

بونابرت

•••

قلنا إن المعلم نقولا الترك حفظ لنا في رسالة نص الخطاب الذي وزع بإمضاء المشايخ عن سفر نابوليون؛ وهذا نصه:

من محفل الديوان الخصوصي، خطابًا إلى سائر الأقطار المصرية، من الأقاليم القبلية والبحرية، وكامل الرعايا وفقهم الله!

نخبركم أنه حضر إلى الديوان مكتوب من حضرة الجنرال «دوكا» القائم مقام، بأن سري عسكر بونابرته الكبير، أمير الجيوش الفرنساوية، توجه إلى البلاد الفرنساوية لأجل حصول الراحة الكاملة إلى الأقطار المصرية، وأنه كان حضر له استعجال من الجمهور في بلاده، لطول غيابه، أقام عوضه رجلًا كاملًا عاقلًا فيه شفقة ورحمة عامة على الرعية، جعله أميرًا على الجيوش الفرنساوية، وأخبرنا القائم مقام أننا نكون في غاية الأمان والاطمئنان، على ديننا وعرضنا ومتاجرنا، وأموالنا وأسباب معاشنا، وكما كنا في زمان حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته، ننصحكم يا أيها الرعايا لا تطيعوا أهل الفساد، واتركوا الفتن والعناد، وامتثلوا أمر خالق العباد، والسلام عليكم ختام.

الفقير السيد خليل البكري (نقيب الأشراف)
الفقير عبد الله الشرقاوي (رئيس الديوان)
الفقير محمد المهدي (كاتم سر الديوان)
الفقير مصطفى الصاوي الشافعي
الفقير سليمان الفيومي المالكي
الفقير السيد أحمد المحروقي
الفقراء: علي كتخدا، يوسف باش شاويش،
لطف الله المصري، يوسف فرحات،
جبران سكروج، ولمار بودوفز ذو الفقار كتخدا.
نظر وعلم: وكيل الفرنساواية «جاوتيه»
طبع بمطبعة الفرنساوية بمصرالمحروسة
ثم قال المعلم نقولا: «ثم حضر الجنرال كليبر من دمياط إلى بولاق والتقاه القائم مقام دوكا (Dugua) وشيخ البلد دوسطين (Dustin) ودخل مصر بالعز والنصر، وقدم السلام عليه القواد والحكام والعلماء والأعيان.»
وقال الجبرتي في ختام روايته عن سفر نابوليون:

فتحير الناس وتعجبوا في كيفية سفره ونزوله البحر مع وجود مراكب الإنكليز ووقوفهم بالثغر ورصدهم الفرنساوية من وقت قدومهم الديار المصرية صيفًا وشتاء، ولكيفية خلاصه أنباء وحيل لم أقف على حقيقتها.

ونحن سنكمل لمولانا المرحوم الشيخ الجبرتي هذه الأنباء والحيل التي لم يقف على حقيقتها نقلًا عن أقوال الذين رافقوا نابوليون في سفره، ومجازفته لتتم بهذه الصورة، ونختم الرواية.

وقع الخبر على كليبر

عرف القارئ من الفصل السابق أن نابوليون لم يكن ينوي الاجتماع بكليبر، ولذلك ترك أوامره وتعليماته للجنرال منو في ضواحي الإسكندرية، أما كليبر فإنه وصل إلى رشيد انتظارًا لمقابلة نابوليون، فعلم من منو أن القائد العام سافر من الإسكندرية ولم يذهب إلى مكان المقابلة في رشيد، عند ذلك أحس كليبر بأن نابوليون خدعه، وأنه سافر قبل أن يقابله أو يستشيره في قبول تلك المهمة الشاقة في تلك الظروف العصيبة، كيف لا وقد كانت حالة الفرنسيين في مصر مما لا يغتبط به بحال من الأحوال على الرغم من انتصارهم في واقعة أبي قير؛ إذ لم يبق من الثلاثين ألف من الجنود الذين احتل بهم نابوليون مصر أكثر من عشرين ألفًا، وكانت الأحوال المالية في غاية الحرج، ومرتبات الموظفين والجنود متأخرة مما ساعد على الانحطاط الأدبي، وتمشى هذا الشعور بين طبقات الجيش وأسلحته المختلفة.

وإذا ضممنا إلى كل هذا استعداد الأتراك، بالاشتراك مع الإنجليز، للهجوم على مصر، وشعور المصريين بالاشمئزاز من الفرنسيين وسلوكهم وآدابهم ومعاملاتهم الشخصية والعمومية، ونفور المصريين أيضًا من الحاكم الأجنبي، ولو كانت حكومته أحسن نظامًا وأوفر عدلًا من حكم المماليك أو الأتراك.

نقول إذا ضممنا كل هذه الأمور بعضها إلى بعض، أدركنا حالة الجنرال كليبر النفسية، وتغيظه من بونابرت وسفره وتركه له هذه المهمة الشاذة القاسية، على الرغم من الظهور بمظهر الرياسة والسلطة الكبيرة التي كانت لسلفه نابوليون بونابرت.

روى منو فيما كتب من مذكراته بعد، أن كليبر حين وصل إلى رشيد — حيث تلقاه منو ليسلمه أوامر نابوليون — وعلم بسفر القائد العام، وأنه لم ينتظر مقابلته ووقف على أسماء القواد الذين اختارهم نابوليون للسفر معه أظهر منتهى الحنق والغيظ وسلق نابوليون بألسنة حداد.

وكان من أثر حقده وغيظه أنه أصدر أوامره في الحال بتسفير خليلة نابوليون «بولين فورس» كيما تتبعه إلى باريس وكيما تعلم بأمرها جوزفين، وفي ذلك من النكاية ما فيه، ولكيما يفهم نابوليون أنه «أي: كليبر» رفض الهدية التي أهداها له!

سفر نابوليون من مصر

كان سفر نابوليون بونابرت من مصر أشبه بالقصص الخيالية وأساطير الأولين منه بالحقائق التاريخية والحوادث الواقعية، فإنه كان يعلم علم اليقين أن السفن الإنكليزية الكثيرة العَدد والعُدد واقفة له بالمرصاد، وأن أعظم ما تتوق إليه نفس السر سدني سميث، أو أي ربان سفينة من سفن الأسطول الإنجليزي، هو أن يُلقي القبض على نابوليون بونابرت رجل فرنسا وعدو إنكلترا اللدود، وكان يعلم فوق ذلك أن القابضين على زمام الأحكام في باريس يغارون منه ولا يريدون وجوده بينهم؛ لأن الشعب الفرنسي متحمس له، معجب به، والعقلاء من القوم لا يريدون الخلاص من استبداد الملوك ليقعوا في يد استبداد حربي، أشد نكاية وأثقل وقعًا.

فنابوليون الرجل المملوء بالآمال كان يعلم كل ذلك، فلا الطريق مأمونة، ولا أصحاب السطوة في بلاده يرغبون في وجوده، ومع كل هذا صحت عزيمته على اقتحام الأخطار والمقامرة بكل شيء في الوجود، ولا أعز فيه من الحياة، التي خاطر بها؟ فلما للسماك وإما للسمك!

ونحن لا نريد أن نتبع نابوليون في سفره المحفوف بالأخطار، فتلك صحيفة من تاريخ الرجل وأخرى من تاريخ فرنسا، ونحن إنما نكتب تاريخ مصر، ويكفينا في هذا المقام أن نذكر ما له مساس بسفره من حوادث هذه الديار فنقول:

إن نابوليون اتفق مع الأميرال غانتوم على أن تكون تحت أمرته السفينتان لاكاريير La Carriére ولاميرون La Muiron وركب في الأولى بونابرت والجنرالان «برتيه ومونج» ومعهما «برتللو» العالم الرياضين و«بوريين» سكرتير نابوليون، وركب في الثانية الآخرون، وقد روى «بوريين» لنا في مذكراته أن عدد الذين ركبوا السفينتين كان يبلغ من أربعمائة إلى خمسمائة بين قواد وضباط وعلماء وأتباع، وكان ممن سافر مع نابوليون رستم المملوك المشهور الذي أهداه إليه السيد خليل البكري وسبقت لنا الإشارة إلى تاريخه معه، ومما رواه سافاري «كونت ده رفيجو» في مذكراته، أن نابوليون ومن معه غادروا ضواحي الإسكندرية ليلًا بحيث لم يعلم بهم أحد، ولما نزلوا البحر من نقطة على الشاطئ «لا بد وأن تكون برج العرب قرب المكس»، تركوا الخيول التي كانوا يركبونها فعادت أدراجها جافلة إلى الإسكندرية فذعرت الحامية وارتفعت أصوات الأبواق، وهب الحراس ظنًّا منهم أن هناك حملة فاجأتهم على غرة، حتى إذا أبصروا الخيل بلا فوارس لها، ظنوا أن كمينًا من الأعراب فتك بشرذمة من الجنود الفرنساويين، فأصدر قائد الحامية أمرًا بإعداد حملة للاستكشاف، وعرف جواد نابوليون وأخبر بعض الخدم العائدين بما جرى.

ولما كنا قد وعدنا أن نكمل لمولانا الشيخ الجبرتي عبارته بذكر أنباء الحيل التي استطاع بها نابوليون بونابرت الوصول إلى فرنسا «مع وجود مراكب الإنجليز ووقوفهم بالثغر ورصدهم الفرنساوية» فلا مندوحة لنا من نقل بيان موجز للوسائل التي اتخذت للتملص من الأساطيل البريطانية، ولدينا في مذكرات بوريين، كاتم أسرار نابوليون ورفيقه في هذه الرحلة المحفوفة بالأخطار، العبارة الآتية:

قال بوريين:

وفي يوم ٢٣ أغسطس سنة ١٧٩٩ ركبنا في السفينتين «لاموبرون، ولاكاريير» وكان عددنا يتراوح بين ٤٠٠ و٥٠٠ وكانت الليلة حالكة الظلام بحيث كنا نلتمس الوصول إلى السفينتين تحت نور النجوم الضئيل.

ولم يكن الأميرال غانتوم حرًّا في تصرفاته، واتخاذ السبل البحرية التي يراها موصلة بنا إلى الشواطئ الفرنسية؛ لأن نابوليون استبد بالأمر، وقال للأميرال بصراحة وصرامة: إن إرادتي هي أن تسير بمحاذاة الشواطئ الإفريقية إلى أن نصل إلى جنوبي جزيرة سردينيا … إن معي بضعة أفراد من الرجال الأبطال ومعي كمية من الذخائر والمدافع، فإذا انقض علينا الإنجليز ونحن بجوار الشاطئ الإفريقي، فإني أستطيع أن أنزل إلى الأرض اليابسة وأشق طريقي بهؤلاء الشجعان الصناديد إلى وهران، أو إلى تونس، أو إلى أية فرضة بحرية أخرى لعلنا نستطيع الحصول على ما يوصلنا إلى بلادنا.

تلك كانت إرادة نابوليون وعزيمته الصارمة!

ثم استمر بوريين في وصف الرحلة والقلق الذي كان يساور نابوليون ومن معه من انقضاض السفن الإنجليزية عليهم، حتى أراد الله الذي اختار نابوليون بونابرت لعرش فرنسا لينفذ على يديه إرادته العالية في أوروبا، أن تصل السفينتان الفرنسيتان إلى خليج «مريجوس» في جنوب فرنسا في الثامن من شهر أكتوبر من تلك السنة.

•••

وهنا نقف بالقلم بعد أن وصلنا بنابوليون بونابرت إلى بلاده.

وإلى هنا ينتهي أمرنا مع نابوليون بونابرت وينتهي هذا الكتاب.

هوامش

(١) تعبير في ذلك الزمن يراد به أي «أعاقبهم».
(٢) لما كان هذا الخطاب مجهولًا لدى المؤرخين، وله قيمة أثرية، فضلًا عما فيه من غرابة أسلوب للتخاطب بين السر سدني سميث والأمير بشير، ولما فيه من الإشارة إلى موقعة أبي قير البرية، رأيت أن آتي على نص هذا الخطاب في هذه الحاشية:

من سميث ساري عسكر سلطان بلاد الإنكليز ونائب حضرة السلطان سليم إلى الأخ الحبيب بشير الكامل الشرف والاحترام.

أما بعد فإنني لما وصلت إلى بيروت سألت عن أحوالك يا أخي وصديقي المحبوب، فبلغني ما وقع لك من أحمد باشا الجزار فإنه ولى مكانك أولاد الأمير سيف وطردك من الولاية التي أنعمت بها عليك الدولة العثمانية عز نصرها، فحالًا صرت أتوجه إلى غزة لمواجهة أخينا الصدر الأعظم وقائم مقام الدولة العلية، وإن شاء الله عن قريب تصل مني الأخبار التي تسرك، ولا تظن يا أخي الحبيب أن انقطاعي عنك لسبب غير كثرة الحروب، والأتعاب التي حصلت لي في أبي قير والإسكندرية وذلك لعدم إسعاف الجزار باشا إياي؛ لأنه تعهد أن يوجه إليَّ الإسعاف بالمراكب والذخائر والآلات ونكث وعده وعهده، والآن صار عدوًّا لي وللدولة العلية؛ لأن العهد بيننا أن عدو الدولة عدو الدولتين، وصديق الدولة صديق الدولتين، وأنت يا أخي كن براحة بال إن شاء الله قريبًا تنال كل ما ترغب فيه، وقد تركت لك مركبًا في بيروت لأجل كل ما يلزمك من الذخائر وغيرها، وإن شاء الله لا أبطئ عنك في الأخبار، وأنا أعلم أن بعض الوشاة في دولتك يوصلون صورة كتابي هذه إلى جزار باشا، ولكن فليعلم أنه سيحل به الندم، وتنزل عليه النقم، وقد حزوت لك هذه الأسطر من ظهر الطامور في «كانون الأول «ديسمبر» ولا بد أن تخبرني دائما عنك والسلام.

(٣) كانت السيدة نفيسة، الملقبة بالمرادية نسبة إلى مراد بك، جركسية الأصل من بلاد الكرج، تسرى بها علي بك الكبير المشهور وبنى لها — كما روى الجبرتي وغيره — دارًا مطلة على بركة الأزبكية بدرب عبد الحق قريبًا من ميدان الأوبرا الحالي، ولما جرى لعلي بك ما جرى له بسبب خيانة مملوكه محمد بك أبو الدهب، زوجها هذا إلى مملوكه مراد بك، وكانت سيدة محترمة مبجلة حازت شهرة واسعة في مدة إمارة مراد بك ومدة الاحتلال الفرنسي، وعاشت إلى زمن إمارة محمد علي باشا؛ لأنها توفيت في ٢٢ ديسمبر سنة ١٨١٦ / ٢٥ جمادى الأولى سنة ١٢٣١؛ أي بعد الحملة الفرنسية بثمانية عشرة سنة ودفنت بجوار الإمام الشافعي.
وللسيدة نفيسة هذه روايات تاريخية مع نابوليون والسياسة الفرنسية نرى من الضروري إثباتها في هذه الحاشية؛ لأنه لا أثر لها مطلقًا في المصادرالعربية، فمن هذه الروايات ما رواه فيلكس مانجن Felix Mangin مؤلف تاريخ محمد علي من أن الحكومة الفرنسية قبل الحملة ببضع سنوات كلفت مسيو ماجللون قنصل فرنسا في مصر، بأن يقدم للسيدة نفيسة المرادية، باسم الحكومة الفرنسية، ساعة ذهبية مرصعة بالماس اعترافًا بأفضالها، وجليل أعمالها، فلما كانت الحملة الفرنسية واحتل نابوليون بجنوده القاهرة لم تفزع السيدة نفيسة، ولم تكن مع زوجها بل أخذت تقوم بحماية السيدات من زوجات المماليك، وتسهر على مصالح الفقراء والمساكين، وتمد يد المعونة لمن يقضي عليهم الفرنسيون بالمغارم والضرائب، وكانت موضع احترام الجميع من المصريين والأجانب قال «مانجن»: وحدث أن الفرنسيين لما احتلوا القاهرة فرضوا على نساء البكوات والكشافة ضريبة قدرها خمسمائة ألف فرنك، فقدمت الست نفيسة «كما كانوا يسمونها» الساعة التي أهدتها إياها الحكومة الفرنسية من حصتها في الغرامة، فقدرت بأربعة وعشرين ألف فرنك، وعملت عنها لوترية فكانت من حصة «بوسيلج» فأعطاها لنابوليون، وهذا أهداها لخليلته «بولين فوريس».
ومما جرى للسيدة نفيسة مع نابوليون بونابرت ما رواه ويلسون في كتابه عن الحملة الإنجليزية نقلًا عن الثقاة إن لم يكن عن السيدة نفيسة نفسها، وهو أن هذه السيدة أقامت في منزلها مأدبة لبعض ضباط الجيش الفرنسي من باب المجاملة والتلطف، وعند انصرافهم من المنزل بشت بخاتم مرصع بالجواهر الكريمة ذي قيمة كبيرة إلى أوجين بوهارنيه «ابن جوزين زوجة نابوليون» كهدية وتكريم، قال ويلسون: «فلم يمض على هذه الهدية بضعة أيام حتى فرض الفرنسيون ضريبة فادحة على السيدة نفيسة، فلما اعترضت على ذلك وشكت من فداحة الضريبة، أفهموها أنها ما دام عندها مثل هذه الجواهر الثمينة فإنها قادرة على أن تدفع أكثر من ذلك.» … فتأمل.
ومات مراد بك زوج السيدة نفيسة بالطاعون قبل جلاء الفرنسيين عن مصر، فلم يصف لها من بعده عيش، وعاكسها الدهر، ومال ميزان عزها وسعدها، وبعد ذلك الجاه والجلال؛ وذلك لأن الأتراك لما دخلوا مصر بعد خروج الفرنسيس، ونفشوا سموم بغضهم وحقدهم على المماليك صبوا جام غضبهم على السيدة المذكورة، ووجه إليها خورشيد باشا الإهانات المتوالية حقدًا لما كان يظهره الأهالي والعلماء والأمراء نحو تلك السيدة من الاحترام والإجلال.
ولعل أمر جرعة تجرعتها في أواخر أيامها، ما لقيته من محمد علي — بعد توليه إمارة مصر — من المعاكسات والمشاكسات؛ إذ صادر أملاكها، واغتصب ما لديها من مال وعقار فضاقت ذات يدها وعاشت في فقر وفاقة، مع مروءة وحشمة حتى أدركتها الوفاة في سنة ١٨١٦.
ومما رواه «مانجين» أن نابوليون، وهو في قمة مجده في فرنسا وأوروبا لم ينس السيدة نفيسة المرادية؛ إذ بعث بأوامره إلى مسيو «ماثيو دليسبس» قنصل جنرال فرنسا في مصر، في أوائل حكم محمد علي، ليتخذ كل الوسائل لحماية السيدة نفيسة والدفاع عن صوالحها، ولكن لم يجدها ذلك نفعًا.
(٤) أوراق نمرة ١٤٢٩٦ و٤٢٩٧.
(٥) من أغرب الروايات عن «كريتين» هذا ما رواه زميله الكابتن تورمان في مذكراته التي نشرها فيما بعد الكونت فليري Le Comte Fleury وقد شهد الكابتن تورمان واقعة أبي قير بنفسه مع الضابط كريتين، وكان كلاهما من متخرجي مدرسة الهندسة بفرنسا، فقد روى عن زميله كريتين قبل الواقعة بزمن طويل بينما كانا يجوسان خلال تلك البقعة أن أبصر نجدًا أو ما يسمونه تبة مرتفعة، فقال لتورمان: إنني سأموت وسأدفن على هذه التبة، وجدت فعلًا أنه قتل في واقعة أبي قير فدفنوه على تلك الربوة وأقاموا فيها قلعة ومرصدًا عرفا باسم «حصن كريتين» في الحرب مع الحملة الإنجليزية بعد ذلك.
(٦) كانت كلمة الأغا إذا ذكرت منفردة يراد بها المستحفظان؛ أي: محافظ القاهرة، أو بعبارة أصح حكمدار البوليس، لأن الوجاق السادس في زمن المماليك كان يسمى وجاق الإنكشارية ويسمى أيضًا المستحفظان؛ أي: وجاق الحراس الذين يناط بهم حفظ المدينة، فأغا وجاق المستحفظان؛ أي: مومندان أورطة الإنكشارية يسمى «أغات مستحفظان»؛ أي: حكمدار البوليس في الوقت الحاضر، وإن كانت هناك في ذلك الوقت وظيفة اسمها رئيس الشرطة، وهي دون وظيفة أغات مستحفظان، وكان أول من عين لهذه الوظيفة عند قدوم الفرنساويين محمد أغا المسلماني الأرمي الأصل، ثم عين بدله رجل يقال له: مصطفى أغا، وكان من آلات الفرنساويين وصنائعهم، وقتله الأتراك لما دخلوا القاهرة في مدة كليبر، وكان من أتباع هذا الأغا رجل اسمه عبد العال وصل في المدة الأخيرة للفرنساويين في مصر إلى أن صار هو أغات مستحفظان، وله حوادث مشهورة، واضطر أن يسافر مع الفرنساويين عند خروجهم خوفًا من انتقام الأتراك والمصريين منه لظلمه وفجره.
وقد أقام في مرسيليا وتُوفى بها، قال عنه رفاعة الطهطاوي أحد رجال البعثة العلمية التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا العبارة الآتية:

ثم إنه يوجد في مرسيليا كثير من نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنساويين حين خروجهم من مصر، وهم جميعًا يلبسون لبس الفرنسيس، ويندر وجود أحد من الإسلام الذين خرجوا مع الفرنسيس، فإن منهم من مات ومنهم من تنصر والعياذ بالله، خصوصًا المماليك الجورجية والجركسية والنساء اللواتي أخذهن الفرنسيس صغار السن، وقد وجدت امرأة عجوز باقية على دينها، وممن تنصر إنسان يقال له: عبد العال، ويقال: إنه كان ولاه الفرنسيس بمصر أغات إنكشارية في أيامهم، فلما سافر تبعهم وبقي على إسلامه نحو خمسة عشر سنة، ثم بعد ذلك تنصر والعياذ بالله بسبب الزواج بنصرانية ثم مات بعد قليل، ولقد رأيت له ولدين وبنتًا أتوا في مصر وهم على دين النصرانية، أحدهما معلم الآن في مدرسة أبي زعبل.

(٧) محفوظات وزارة الخارجية الفرنسية، مكاتبات نمرة ٤٣٦٥ «١٧ أغسطس سنة ١٧٩٩».
(٨) يحسن بنا في هذا المقام أن نبين العلاقة التاريخية بين نابوليون بونابرت والجنرال «عبد الله» جاك متو، وإن كان الجزء الأكبر من تاريخ الجنرال منو وحكومته في مصر بعد مقتل الجنرال كليبر، مما يدخل في الجزء الثاني من تاريخ بقية الحملة الفرنسية في مصر، ولكنا نقول هنا إن نابوليون كانت له يد قديمة وفضل سابق على الجنرال منو؛ إذ كان هذا قدم للمحاكمة أمام «الكوثننسيون» لتقصيره في واجباته الحربية سنة ١٧٨٩ «أي: قبل الحملة على مصر بتسع سنوات» فدافع عنه نابوليون بونابرت عند «باراس» وعفي عنه، ولهذا بقي الرجل ذاكرًا لجميل بونابرت، وكان من أكبر أعوانه بين قواد الحملة، وأما كليبر فكانت علاقته سيئة مع نابوليون، وكان هذا الأخير يخشاه كثيرًا، وكليبر ألماني العنصر لأنه «ألزامي» الموطن.
وهذه المعلومات مأخوذة من كتاب Le General Abdallah Menou Par George Rigault.
(٩) مدن إيطالية محصنة Mantone, Turin et Tortone.
(١٠) Histoire de Ľexpédition d’Egypte par M. le capitaine G. de la Jonquière.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤