الرسالة الثالثة
يسير القطار بين هاتين المدينتين في مسافة طولها ٤٤٠ كيلومترًا يقطعها في عشر ساعات في صحراء (تقريبًا) كالتي بين مدريد وسان سباستيان، وترى على القطار لوحًا مكتوبًا عليه (الأندلس) يعني أنه يتجه إلى جهة الجنوب، وهو أشبه شيء بقطر الفروع الصغيرة عندنا قبل أن يدخل عليها الإصلاح، ومن ذلك تعرف أن السفر إلى هذه الجهة ليس فيه أي ضمان لراحة الركاب، وليست فيه بطبيعة الحال عربات للنوم ولا للأكل. وكنا كلما سرنا إلى الجنوب رأينا الأراضي الزراعية تكثر في هذا الوادي كما تكثر الأبنية التي هي أشبه شيء بالدساكر والقرى الصغيرة، وبعض هذه الأبنية باللبن النيء، وكذلك تكثر حول المباني الآبار وعليها دلاؤها بشكلها المعروف، وقد ترى بعض السواقي المعينة تدور بحصان وعصاميرها (قواديسها) من الزنك، ومن حولها بعض مزارع الخضر، وقد ترى بجوار القرى أُتُن الآجُرِّ (قمائن الطوب الأحمر) المحروق بالفحم. ولشدة الحرارة في هذه الجهات ترى في كل محطة من محطات الأندلس بعض الرجال أو البنات أو الصبيان يحملون قللًا وينادون (اغوا اغوا)، وهم أشبه شيء بتلك الصبية التي تراها في بعض المحطات عندنا مدة الصيف وهم يصرخون (ماياه)، أو ما تراه في صحراء الحجاز من العرب الذي يحملون القرب الصغيرة وهو ينادون (الما الما). وفي الساعة السابعة مساءً وصلنا إلى قرطبة.
(١) قرطبة
كانت قرطبة قبل العرب عاصمة الأندلس مدة القوط، فلما لحق موسى بن نصير بمولاه طارق بن زياد بعد الفتح أقام بها، ودعا فيها للوليد بن عبد الملك الخليفة بدمشق، وما زالت حتى استولى عليها عبد الرحمن الداخل الأموي في مبدأ الخلافة العباسية بالمشرق وجعلها عاصمة ملكه، وأصبحت منذ زمن عبد الرحمن الناصر مقر الخلافة العربية بإسبانيا. وكانت مدة الأمويين على أكبر ما تكون من العظمة، وكان قصر الخلافة في مبدأ أمره جنوبي المسجد الجامع الذي بناه عبد الرحمن الداخل، وهو باقٍ إلى الآن في مكانه لا في رُوائه وفخامته، وهو مقر البطريق الكاثوليكي في هذه الجهة. وقد بنى الخلفاء الأمويون قصور الزهراء خارج المدينة، وكانت أشبه شيء (بفرساي) بجوار باريس، لكل خليفة منهم زيادة فيها، إلا أن تعسُّف المرابطين وأيدي السلبة من جهة، ويد الغاصب وحِدَّة التعصب الديني في محو كل أثر للمسلمين بعد استيلائهم على المدينة من جهة أخرى، وكونها كانت بعيدة عن حصون قرطبة، وقد يتحصن فيها المسلمون إذا هجموا على قرطبة من جهة ثالثة، كل ذلك قضى على هذه القصور التي وصلت من فخامة الملك وأُبَّهة الخلافة العربية إلى ما لم يصل إليه شيء في بابها. وقد كانت تبلغ في طولها ثلاثين كيلومترًا بغياضها ورياضها مما وصفه مؤرخو العرب بما لم تبلغه قصور الخلافة الشرقية في دمشق وبغداد.
وقد بلغت هذه المدينة من العظمة ما سبقت به بغداد في ثروتها وحضارتها وعلومها وفنونها، ولم يبقَ لنا من آثارها غير تلك الذكرى المؤلمة، وذلك الجامع البديع الذي لا يبلغ فخامته شيء آخَر في بابه.
(٢) المسجد الجامع بقرطبة
وقد كان مكان هذا المسجد كنيسة، فأراد عبد الرحمن الداخل أن يبتني مكانها مسجدًا لحسن موقعها، فعوَّض النصارى عنها أرضًا واسعة وأموالًا جمة (وذلك بشهادة مؤرخي الإفرنج)، ثم بنى مكانها مسجده هذا على نظام المسجد النبوي الذي بناه الوليد بن عبد الملك بالمدينة المنورة (وهذا ما تدلني عليه مشاهدتي الشخصية).
وقد وصل خلط بعض الناس في أفكارهم وأقوالهم إلى الحد الذي لا يتفق مع الحقائق البدهية؛ فإن بعضهم نسب إلى عبد الرحمن الداخل أنه إنما بنى مسجده بقرطبة بهذه الفخامة حتى يستغني الناس بحجهم إليه عن حجهم إلى الكعبة المكرمة بمكة، وهذه تهمة أقل ما فيها أن الرجل بعمله هذا يهدم ركنًا من أركان الإسلام الخمسة، وحاشا لله أن يهم مثله بذلك، فما علمنا عليه من سوء.
ولو علمت أنهم ذكروا أن مالكًا رضي الله عنه سأل بعض حجاج الأندلس عن عبد الرحمن الداخل فقالوا له: «يأكل الشعير، ويلبس الصوف، ويجاهد في سبيل الله. فقال: ليت عندنا في حرم الله مثله.» وكانت هذه القولة سبب محنة مالك من العباسيين؛ لعرفت أن مثل عبد الرحمن الداخل لا يأتي بما اتهمه به هؤلاء الذين لا يعون ما يقولون.
وقد اتهموا في ذلك الوقت وبهذه التهمة نفسها المنصور العباسي، حينما بنى القبة الخضراء ببغداد.
وقد كان المنصور وعبد الرحمن الداخل في زمن واحد، وهما تهمتان كاذبتان لا تنطبقان على صفتي هذين الرجلين العظيمين اللذين إنما كانا يستمدان سلطانهما من قوة الإسلام ومن شرائع الإسلام، في وقت كان منار الإسلام فيه أصله ثابت في الأرض وفرعه في السماء، وفيه كان أمراء المسلمين وخلفاؤهم يأتون إلى مكة سعيًا على الأقدام من بلادهم لحج بيت الله تقربًا إليه وزلفى.
وما زال هذا المصحف الشريف بخزائن ملوك المغرب في مركز إجلال وإعظام، وكانوا يستصحبونه في غزواتهم، حتى ذهب أبو الحسن المريني ملك فاس إلى إفريقية (تونس)، وبينما كان عائدًا في سنة ٧٥٠ﻫ من طريق البحر غرقت مراكبه، ومن جملة ما غرق فيها هذا المصحف الشريف، وهذا آخر العهد به.
ولو عرفنا أنه قد كان بقرطبة غير هذا المسجد الجامع العظيم ما يقرب من ألفي مسجد، وعرفنا أن المساجد كانت ولا تزال في الدول الإسلامية تُستعمَل مدارس للعلوم المختلفة، كما هو الشأن إلى الآن في الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، والأزهر بمصر، والمسجد الجامع ببغداد، والمسجد الأموي بدمشق، وجامع الزيتون بتونس، ومسجد الكتبية بمراكش، وجامعي السلطان أحمد والسلطان محمد بالأستانة، ومسجد عمر بالقدس أمكننا أن نتخيل ما كانت عليه قرطبة زمن العرب، من تبريزها في العلم والعرفان إلى ما لم تلحقها فيه مدينة أخرى إسلامية أو غير إسلامية في عصرها، وأمكننا من جهة ثانية أن نقدِّر عدد سكانها في ذلك الوقت بما كان يزيد كثيرًا على نصف مليون نفس.
وعلى يمين الداخل من الحوش ترى قاعة الاستقبال، وهي أشبه شيء بالمنظرة (المندرة) في ديارنا القديمة، وفي ناحية منها السلم إلى الطبقة الثانية، والنساء يجلسن في هذا الحوش في شيء من الحجاب، وحيطان الطبقة الأرضية على الخصوص في دائرها القاشاني المختلف الألوان والأشكال إلى ارتفاع مترين، ولا شك أن هذه الرسوم بقيت في المدينة من مدة العرب، وقد بقي فيها بيت واحد قديم يقرب من المسجد الجامع لم أتمكن من زيارته لعدم وجود أصحابه فيه. ونساء المدينة محتشمات يغلب عليهنَّ الحياء وغض البصر، فإذا أبصرت واحدة منهن ترى عينيها متجهة إلى الأرض ولا تحدق بنظرها فيك مطلقًا، ومع أن بلادهم حارة جدًّا لا تكاد ترى صدورهن عارية، ومن غريب ما رأيت في هذه المدينة أن سيدة كانت تتوارى وراء باب منزلها الخارجي، وتنظر إلى الخارج من فرجة صغيرة بين مصراعي الباب، كما كنت تشاهد في الأحياء الوطنية عندنا إلى عهد قريب.
ويظهر أن رجال المدينة عملهم قليل؛ لذلك ترى القهوات على كثرتها عامرة غاصَّة بهم طول النهار، وأظن أنَّ لشدة الحرارة أثرًا في ذلك، ويكفي أن أقول لك إني كنت أدخل الحمام ثلاث مرات في اليوم في هذه المدينة، وكنت أجلس في الماء البارد أكثر من ساعتين وقت الظهر، وفي هذه الأثناء تذكرت المرحوم داود باشا مدير قنا لعهد إسماعيل، وكان يقضي غالب يومه في فنطاس ممتلئ بالماء، ومن دونه الختم، فإذا كانت أوراق هامة أتى رئيس الكتاب (الباشكاتب) وختمها وانصرف إلى سبيله. ولكن أين قرطبة من قنا، وفيها أشجارها ونيلها يلطِّفان من شدة حرارتها كثيرًا، ولو بعد غروب الشمس؟!
ولقد كانت قرطبة مدة العرب جنة زاهرة وروضة ناضرة لنظام الريِّ الذي أحدثه العرب فيها، فلما استولى الفرنجة عليها سنة ١٢٣٦م طردوا أهلها وجعلوها حصنًا على حدود مملكتهم، وأهملوا ترعها وخلجانها وكذلك الماء الذي سيَّره العرب إلى قصورها من الجبل، وبذلك أصبحت هذه المروج النضرة قفارًا لا يسكنها إلا البوم، ولا تسير فيها إلا لفحات السموم، وكان حالها كحال العراق الذي بعد أن كان جنة الأرض مدة العباسيين، أصبح بعد أن دالت دولتهم صحراء لا نبات فيها ولا زرع، ولا يسكنه الآن غير قوم من العرب الرُّحَل الذين ينتقلون وراء الكلأ، ولا شك أن البلاد تسعد أو تشقى بأهلها.
ولعل الإنجليز — وقد اصطلحوا مع الترك على الموصل، وصار العراق بحدوده الجديدة في أمن من الأتراك ومناوآتهم — يعملون على تنفيذ هذا المشروع، فيُرجِعوا إلى العراق شبابه الأول ورفاهيته المنصرمة، وإن كانت هذه الأمنية مما يهدد مصر في كيانها الزراعي (وهو كل شيء فيها)، وخاصة بعد المكوار، ومشروع جبل الأولياء، ونظام الري الذي يراد عمله في سواكن والأريترة، وهو المتفق عليه بين الإنجليز وإيطاليا على حساب الحبشة ومصر، فلا يعلم إلا اللهُ ما يكون مخبوءًا وراء هذا كله لبلادنا. وعلى كل حال ليس للفلاح المصري مخلِّص من كل هذه المهددات لحياته غير اهتمامه وعنايته بترقية زراعته حتى ترجع إليها شهرتها الأولى، ويرتفع القطن المصري إلى رتبته التي كانت له منذ عشرين سنة، بحيث لا يعدله قطن أية بلاد أخرى.
وبهذا وحده تخلص مصر من جميع المهددات التي تكتنفها من الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولا سيما إذا لاحظنا أن الأتراك يفكرون في تعميم زراعة القطن في بلادهم، وأظنهم قد تفرغوا الآن للعمل في أمورهم الداخلية بعد صَفُّوا كل مسائلهم الخارجية أو جلَّها، وأن الإسبان من جهة أخرى يزاولون التجارب العديدة لزراعة القطن في بلادهم، وقد استقدموا فعلًا بعض المصريين لهذه الغاية، ومكان هذه التجارب الآن بلنسية وإشبيلية، ولكنهم لم ينجحوا فيها لشدة حرارة إسبانيا صيفًا، وللتغيرات الجوية الفجائية التي قد تنتقل بالجو من حار إلى بارد من غير وسط بينهما في جنوب هذه البلاد، وخاصة أيام شهر سبتمبر.
(٣) للعبرة والتاريخ
وعندي أن الغافقي رحمه الله — مع شجاعته الخارقة للعادة، وإقدامه الذي لا مثيل له، ومعرفته بأساليب الحرب في جميع أبوابها — كان يجب عليه قبل أن يتغلغل بجيوشه في فرنسا أن يُنفِّذ رأي ابن زياد في تطهير جزيرة إسبانيا وجبال (البرينات) إلى منحدراتها الشمالية من القوط (والنفاريين) وغيرهم من العناصر التي كانت لا تزال تسكن شمال الجزيرة، حتى كان يُخلِّص بلاده من هذا العدو الذي كان يسكن منه بين البشرة والأدمة، هذا العدو الذي كان في حال ضعفه يعمل لكل هيجان في داخلية البلاد ينتهي غالبًا بإضرام نار الثورة بين قبيل وآخر من العرب، بل كان يصل تدخله إلى بيت الإمارة نفسه، فكان يُفسِد بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، وكانت أيام العرب كلها في الأندلس جذوة نار لا تطفأ، (وبركان) اضطرابات لا يهدأ، حتى إذا صلب ريشه وقوي ساعده، أخذ يحارب العرب إلى أن أخرجهم من ديارهم بحال من القسوة لا تزال تبكي لها الإنسانية.
ولقد أحدث انكسار العرب في فرنسا قيام الثورات الداخلية في إسبانيا الإسلامية؛ فكانت الحروب الأهلية مستمرة أحيانًا بين المضرية واليمنية، أو بين الشامية والمضرية، أو بين البربر والمولَّدين، أو بين جملة عناصر منهم ضد آخرين، مما كان سببًا في الاضطراب العام في الأندلس، قُتِلَ فيه آلاف من المسلمين وغير واحد من أمرائهم.
ولما مات عبد الله تولى بعده حفيده عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وكان الناس يرقبون سقوط الأموية لقيام الثورة في كل جهة واشتداد سعيرها، خصوصًا في جهة الشمال، فأخذ الناصر يعمل ليله ونهاره في تجهيز الجيوش وإرسالها غربًا وجنوبًا لإطفاء فتنة العرب، وشمالًا لمحارب النفاريين، وهو في أثناء ذلك يدبر أمور مملكته بعقل راجح وفكر ثاقب، وقد أقام في إطفاء نيران هذه الثورات والوقوف في وجه أعدائه من القشتاليين والبشكنس (البسك) وغيرهم نحو خمس عشرة سنة.
وهنالك أسعفته المقادير باختلاف ملوك الإسبان وإعلانهم الحرب بعضهم على بعض، وأقاموا في تيار هذه القطيعة مدة طويلة انطفأت فيها جميع الثورات الداخلية في الأندلس بحسن سياسة الناصر، وتمشَّتِ الطمأنينة بين جميع العناصر الإسلامية، وحينئذٍ أخذ الناصر في ترتيب داخلية بلاده، وفي تنظيم جيوشه البرية والبحرية وما يقتضيه ذلك من زيادة الأسطول وتقويته، ومن ابتداع الأنظمة التي ترقَّت بها مملكته في جميع مرافقها، وظهرت بها مواهبه للناس من أقصى البلاد إلى أدناها، فثبتت محبة الناس له لعدله وفضله وكرمه وعلمه وشجاعته وسياسته، ووقعت هيبته من قلوبهم ليقظته وحزمه، ولِمَا كان فيه من المزايا التي اتَّصَفَ بها حكمه بأنه الحكم الذهبي للعرب في الأندلس.
وكان لعبد الرحمن من جلال الملك وعظيم السلطان وهيبة الذات وسامي الصفات ما زاد في أبهة الخلافة وفخامتها؛ فامتدت إليه أيدي الملوك شرقًا وغربًا طلبًا للتقرب منه، ووفدت عليه ملوك قَشتالة وأرغون وليون التماسًا لرضاه، وقدَّموا إليه طاعتهم وتبعيتهم، وهاداه ملوك القسطنطينية ومصر، وأرسلوا إليه وفودهم ليوثِّقوا له دعائم محبتهم ومتين صلتهم.
وكان الناصر عالمًا فاضلًا عاقلًا، بعيد النظر في السياسة والرياسة، شجاعًا ناهضًا برقي أمته، ساهرًا على شئون دولته، وكان كاتبًا، شاعرًا، كبير الهمة، عظيمًا في نفسه، كبيرًا في كرمه، ومن قوله:
وهذا لعمري أرقى درجات الكرم والشجاعة، وقد وُجِد بخطه أن أيام سروره كانت أربعة عشر يومًا، وهي يوم كذا من سنة كذا، ويوم كذا من سنة كذا … إلخ، وتوفي الناصر رحمه الله سنة ٣٥٠ﻫ بعد أن حكم خمسين سنة، وطَّد فيها دعائم الخلافة لولده الحَكَم الذي تولَّى بعده بعهده إليه، فثارت عليه ملوك النصرانية لأول حكمه، فحاربهم بنفسه واستولى على بعض بلادهم، فطلبوا صلحه على ما كانوا عليه مدة والده، ثم أرسل جيوشه إلى نواحٍ كثيرة شمالًا وغربًا؛ ففتحوا مدنًا كثيرة، منها قُلُمْرية من بلاد (البشكنس)، وأرسل أسطوله بقيادة أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس إلى مياه البرتغال، فطرد النورمان الذين كانوا يهددون السواحل، وأجاز جيوشه إلى العدوة، فنزل له الأدارسة عن ملكهم فيها وفي الريف.
وكان الحَكَم يميل إلى السلم حتى يتفرغ لنشر المعارف والعلوم المختلفة بين أمته، وكان يرسل إلى جميع البلاد شرقًا وغربًا لشراء الكتب النادرة بأثمان عالية، حتى جمع منها مبلغًا عظيمًا، وكوَّن دار كتبه الشهيرة التي كان بها ٤٠٠ ألف مجلد من ثمين الكتب، وكانت على أغلبها تعليقات بخَطِّهِ، ورتب لها الخدم والمغيِّرين تحت إمرة مولاه تليد الخصي، وكانت لخزانة دواوينه وحدها أربعة وأربعون فهرسًا، وفي كل فهرس عشرون ورقة ليس فيها إلا أسماء الدواوين. وأقام الحَكَم للعلم والعلماء سوقًا نافقة جُلِبَتْ إليها بضاعته من كل قطر، واستمرت هذه المكتبة ينتفع بها الناس عامة إلى أن تبددت وبيعت بأرخص الأثمان مدة الفتنة زمن هشام المؤيد، بأمر الحاجب واضح مولى المنصور بن أبي عامر.
وكان الحكم عالمًا فاضلًا، بل كان أعلم بني أمية على الإطلاق؛ لأن والده استحضر لتثقيفه جلة العلماء من الشرق والغرب، ومنهم أبو علي القالي، وكانت كل لذته في مطالعاته ومذاكراته مع العلماء في مختلف العلوم، وفي مدته نَفَقَتْ سوق العلم والعلماء الذين أصبحوا مشمولين بإحسانه وفي حمايته وتحت رعايته، فظهرت آثارهم في كل علم، وتُرْجِمَتْ كتبهم إلى الإسبانية أو اللاتينية، وكان كثير من أهل البلاد المسلمين واليهود على علم تام بهما، فينقلون العلوم الأجنبية إلى العربية، كما كان كثير من القوط وغيرهم يعرفون لغة العرب لضرورة علاقتهم بالدولة العربية في محرراتهم ومعاهداتهم وسفاراتهم وغير ذلك، فكانوا يترجمون الكتب العربية إلى لغاتهم؛ ومن هنا انتشرت مدنية المسلمين وعلومهم في ممالك الفرنجة، فاستفادوا منها كل الفائدة، وجعلوها مصدرًا أخذوا عنه علومهم المختلفة من رياضية، وفلسفية، وزراعية، وفلكية، وطبية، وكيمياوية. وبالجملة إنَّ الدولة الأندلسية العربية كانت واسطة في نقل علوم العرب من شرقية وغربية إلى أوربا، فبنوا من مادتها شيئًا كثيرًا من علومهم ومدنيتهم الحالية، ولولا ذلك لكانت أوربا متأخرة بمئات من السنين عن الدرجة العلمية التي وصلت إليها الآن.
وما زال الحَكَم في أبهة الخلافة وجلالها تتقرب الملوك إليه بالهدايا والسفارة من كل جهة حتى مات سنة ٣٦٦ بعِلَّة الفالج، وكان الأمر من بَعْدِه لأخيه المغيرة، فعمل وزيره المصحفي بتدبير الحاجب بن أبي عامر على الفتك به من ليلته، وبذلك خلا الجو لهشام بن الحَكَم من السيدة صبح البشكنسية، التي كان لها الفضل في ترقية ابن أبي عامر وحظوته عند الحَكَم حتى وصل إلى درجة الوزارة. واجتهد ابن أبي عامر في أخذ البيعة له وهو لم يتجاوز سن العاشرة، وأصبح يعمل باسمه في رسوم الخلافة، وباستشارة والدته قضى على جميع مناوئيه وحاسديه من رجالات الدولة، وكان بدهائه يقتل بعضهم بسلاح بعض، حتى أصبح صاحبَ الحَوْل والطَّوْل والكلمة النافذة، وهنالك استبد بالسلطة وحجر على المؤيد في قصره بحيث لا يراه أحد، وأخذ يكوِّن لنفسه عصبية من جند البربر والصقالبة وغيرهم، وكان يقطع الألسنة عنه بكرمه وحسن إدارته وجميل سياسته، وتَسَمَّى بالمنصور، وأمر بأن يُحيَّا بتحية الملوك، وقد كثرت غزواته بحيث بلغت سبعًا وخمسين غزوة، وكان يقودها بنفسه، ويعود منها منتصرًا غانمًا، فيفيض على الناس مما أفاء الله عليه، فيأسرهم بإحسانه. وكان المنصور نصيرًا للعلم، محبًّا للعلماء، وكان يفسح لهم في مجلسه، وكان له يوم في الأسبوع للاجتماع بهم للمذاكرة في مختلف العلوم، بل كان يستصحب الكثيرين منهم في غزواته ويستأنس برأيهم، فكانوا يذيعون عنه دينه وورعه وعدله وفيضه وبره، ويتحدثون عنه بكل محمدة، ومن دهائه أنه أمر — سامحه الله — بحرق بعض كتب الفلسفة تقربًا للعامة، وكان ذلك يزيد في سلطانه ويؤكد من محبته في قلوب الناس.
وبنى المنصور الجهة الشمالية من الجامع الأموي بقرطبة، ثم قنطرة على الوادي الكبير وأخرى على نهر (شِنِيل)، وبنى قصر الزاهرة وجعله محل سلطانه وحكمه بعد أن جعله من الفخامة والجلالة لا نظير له، ووصلت جيوشه إلى قلب المغرب الأقصى بقيادة ولده عبد الملك، وخطب له على منابره.
وعلى الجملة قد كان المنصور بن أبي عامر من أكبر ملوك الأندلس سلطانًا وعلمًا وفضلًا وإحسانًا، وله في سياسته القِدْحُ المُعَلَّى، وفي إدارته المثل الأعلى، وكان الناس يتحدثون في جميع الجهات بما كان له من جميل النعوت، وعظيم الصفات، وبُعْد النظر، وثاقب الفكر، وكان كاتبًا شاعرًا بليغًا، ومن قوله:
وما زال المنصور في أبهة الملك وعظيم السلطان حتى مات رحمه الله في غزوة من غزواته سنة ٣٩٢ﻫ، ودُفِن في مدينة سالم، وهي مدينة على الطريق الحديدي بين مجريط وسَرَقُسْطَة، وكُتِبَ على قبره:
وقام بأمر الحجابة بعده ولده عبد الملك بعهده إليه، فسار على سيرة أبيه من الحَجر على المؤيد واستبداده بأمور الملك، وكان شهمًا، كبير الهمة، عظيم الهيبة، ومات بعد سبع سنين من حكمه، كانت كلها خيرًا وبركة وغزوات موفَّقة.
وخلَفه أخوه عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر، فشدَّد في الحجر على المؤيد، وأرسل إليه مَن هدده في حياته، حتى كتب إليه عهده بالخلافة من بعده، وأشهد على ذلك رجالات الدولة، فأغضب ذلك بقية الأمويين من أحفاد الناصر، وأثار عوامل الحقد في قلوب المضرية ومَن كان من شيعتهم، فقاموا بالثورة وبايعوا محمد بن عبد الجبار بن الناصر ولقبوه بالمهدي، وكان عبد الرحمن بن أبي عامر في غزوة له، فلما سمع الخبر عاد أدراجه، فانصرف عنه الناس لسوء سيرته، وقتَلَه بعضُهم وذهب برأسه إلى المهدي، وبه طُوِيَتْ صحيفة آل بني عامر. ومن هذا الوقت اشتعلت نار الفتنة في الأندلس، وأصبحت الخلافة محل وثُوب كلِّ مَن استأنس بحق فيها من بقية الأمويين وبني حمود، حتى انتهى أمرها إلى هشام بن محمد الملقب بالمعتمد، وكان ضعيفًا فخلعه الجند في سنة ٤٢٢، ففر إلى لاردة وهلك فيها سنة ٤٢٨، وبه انقضى أمر الأموية من الغرب كما قُضِيَ عليها في الشرق. وبالجملة قد كانت بلاد الأندلس كلها فوضى من سنة ٤٠٠ إلى سنة ٤٢٣ﻫ.
ولقد تولى الخلافة في هذه المدة اليسيرة من الأمويين ستة، هم: المهدي، والمستعين، والمرتضي، والمستظهر، والمستكفي، والمعتمد. وتولاها من بني حمود في هذه المدة ثلاثة: علي، والقاسم، ويحيى. وانتهى أمر البلاد إلى تفرُّق الجماعة وانقسامها إلى ملوك الطوائف، وكان نفر من بني حمود لا يزالون يتقاتلون على الخلافة إلى سنة ٤٦٠، وربما كان منهم أربعة يحكمون في منطقة صغيرة لا تزيد على ثلاثين فرسخًا، كلهم يحمل لقب الخلافة، ومنهم: الواثق، والمتأيد، والمهدي، والمستعلي، حتى قال في ذلك ابن شرف القيرواني أبياته المشهورة:
وفي أثناء هذه الفتنة هدم الثائرون قصور الخلافة بما فيها الزهراء والزاهرة، ونهبوا ما فيها من الأموال والتحف التي لا يتيسر تقديرها، بل ولا تصوُّرها إلا لمن قرأ، وقال مؤرخو العرب عنها إنها من الحقائق التي هي أشبه شيء بالقصص منها بالتاريخ، وانتهت هذه الفتنة بمحو الخلافة، وبتقسيم البلاد بين ملوك الطوائف.
وكانت قرطبة كالكرة يتلقفها كل غالب، ثم آلت إلى حُكْم ابن جهور حينما انقسمت الأندلس إلى ملوك الطوائف، وما زالوا بها ولم يتعدوا لقب الوزارة حتى غلبهم عليها المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، وآل أمر ملوك الطوائف إلى أن كانوا يدفعون الجزية لملوك الإسبان خوفًا منهم على ما في أيديهم، وكلهم كان يخطب ود ابن عباد، ويطلب مرضاته لقوته ومنعته، ولم يطل ملكهم حتى تغلب عليه المرابطون في سنة ٤٨١، ثم الموحدون سنة ٥٣٩، وفي أواخر حكمهم أخذ ملوك الإسبان يستولون على أطراف البلاد ونواحيها، حتى لم يبقَ للعرب غير غرناطة التي بقيت في يد بني الأحمر إلى آخر القرن التاسع الهجري، ثم آل أمرهم إلى أن طردهم الإسبان من الأندلس، ممَّا تراه مفصَّلًا في مكان آخر.
هوامش
قال المَقَّرِيُّ: قال ابن حيان: «إنه كان جالسًا مع المنصور بن أبي عامر في بعض الليالي، وكانت شديدة البرد والريح والمطر، فدعا بأحد الفرسان وقال له: انهض الآن إلى فج طالس وأقم فيه، فأول خاطر يخطر عليك سِقْهُ إليَّ. قال: فنهض الفارس وبقي في الفج في البرد والريح والمطر واقفًا على فرسه، إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له ومعه آلة الحطب، فقال له الفارس: إلى أين تريد يا شيخ؟ فقال: وراء حطب. فقال الفارس في نفسه: هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يريد حطبًا، فما عسى أن يريد المنصور منه؟ قال: فتركته فسار عني قليلًا، ثم فكرت في قول المنصور وخفت سطوته، فنهضت إلى الشيخ وقلت له: ارجع إلى مولانا المنصور. فقال له: وماذا عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي؟ سألتك بالله أن تتركني أذهب لطلب معيشتي. فقال له الفارس: لا أفعل. ثم قدم به على المنصور، ومثل بين يديه وهو جالس لم يَنَمْ ليلته تلك، فقال المنصور للصقالبة: فَتِّشُوهُ. ففتشوه فلم يجدوا معه شيئًا، فقال: فتشوا برذعة حماره. فوجدوا داخلها كتابًا من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور يخدمون عنده، إلى أصحابهم من النصارى ليضربوا ويقتلوا في إحدى النواحي المستوطنة، فلما انبلج الصبح أمر بإخراج أولئك النصارى، فضُرِبَتْ أعناقهم، وضُرِبَتْ عنق الشيخ معهم.
أما بعد، فإنا أَحَقُّ مَن استوفى حقه، وأجدر مَن استكمل حظه، ولبس من كرامة الله ما ألبسه، للذي فضلنا الله به، وأظهر أثرتنا فيه، ورفع سلطاننا إليه، ويسَّرَ على أيدينا إدراكه، وسهَّلَ بدولتنا مرامه، وللذي أشاد في الآفاق من ذكرنا، وعلو أمرنا، وأعلن من رجاء العالمين بنا، وأعاد من انحرافهم إلينا، واستبشارهم بدولتنا، والحمد لله ولي النعمة والإنعام بما أنعم به، وأهل الفضل بما تفضَّل علينا فيه. وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنَّا وورودها علينا بذلك، إذ كل مَدعُوٍّ بهذا الاسم غيرنا منتحل له، ودخيل فيه، ومتَّسِم بما لا يستحقه، وعلمنا أن التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه، فَأْمُرِ الخطيب بموضعك أن يقول به، وأَجْرِ مخاطباتك لنا عليه إن شاء الله، والله المستعان.
إحياء ذكرى الخلافة في قرطبة. باريس في ٢٣ يناير سنة ١٩٢٩، ورد من مدريد أن جامعة قرطبة نظمت حفلات تقام بين ٢١ و٢٦ يناير بمناسبة ذكرى مرور ألف سنة على عهد الخلافة في قرطبة، وأن لجنة تنظيم هذه الحفلات مؤلَّفة من مستشرقِين مشاهير، في مقدمتهم جوليان ريبيرا، والأستاذ المستعرب ميجل آزين بلاكيوس، الذي نشر منذ بضع سنين كتابًا عن الرواية الإلهية التي هي تأليف دانتي ألجييري، أثار جدالًا شديدًا؛ إذ إن الموضوع الذي كتب فيه دانتي كان قد سبقه إليه أحد كتاب العرب قبل بضعة قرون.
ويقام في أسبوع هذه الحفلات في قرطبة معرض للفن العربي من عهد عبد الرحمن الثالث إلى عهد المنصور، وإقامة هذا المعرض تدل على تطور الأفكار في إسبانيا وتوسعها في الحرية والتسامح. وقد نشرت جريدة «صوت مدريد» مقالة افتتاحية قالت فيها: إن أسبوع هذه الحفلات لا يتناول ذكرى تنحصر في قرطبة؛ فإن عهد الخلافة لم يكن أزهر وأزهى عهد في تاريخ قرطبة وحدها، بل إن إسبانيا كلها كانت في ذلك الزمن في مقدمة المدنية.
غير أن من يَطَّلِع على ما ذكره ابن خلدون وغيره من وصف هدية ابن شهيد إلى الناصر — وكان من وزرائه — مما يدل على عظيم ثروة الرجل، يرى أن ثروة الدولة على هذا القياس ربما بلغت الحد الذي ذكره المؤرخون من العرب، ونحن نتخيل أنهم مبالغون فيها، وإليك بعض ما جاء في هذه الهدية:
٥٠٠ ألف مثقال من الذهب، وما قيمته خمسمائة ألف دينار من سبائك الفضة، و٤٠٠ رطل من التبر، و٤٠٠ رطل من العود العالي (لعلها القاقلي)، ومائة أوقية من المسك، ومائتا أوقية من العنبر، وثلاثمائة أوقية من الكافور، وثلاثون شَقَّة من الحرير المرقوم بالذهب كلباس الخلفاء، ومائة جلد سَمُّور، و٤٨ من الملاحف لكسوة الخيل من الحرير والذهب، وقرية قفل آلافًا من أمداد الزرع، ومن الصخر للبنيان ما اتفق عليه في عام واحد ثمانون ألف دينار (ولعل ذلك أيام اشتغال الناصر ببناء الزهراء)، وعشرون ألف عود من الخشب قيمتها خمسون ألف دينار، وغير ذلك من السرادقات، والبسط المختلفة الألوان، والسلاح، والنبال، والخيل المُطَهَّمة والبغال، والوصائف والمماليك والجواري، إلى آخِر ما قالوا! وكانت هذه الهدية سببًا لإبلاغ الناصر رِزقَ ابن شهيد إلى ٨٠ ألف دينار في السنة!
وقد قدَّر المؤرخ نيكلسون إيرادات الأندلس مدة الناصر بمبلغ ٦٢٤٥٠٠٠، وقدر ما كان في بيت المال سنة ٩٥١م بعشرين مليون جنيه.