مخاطر في فكرنا القومي١

مُقدِّمة: لقد حان الوقت لتحديد خصائص فكرنا القومي، ما له وما عليه. وإنه ليصعُب علينا أن نوجد دون أن نعي تصوُّرنا للعالم، وأن يكون لدينا العمق الشعوري الكافي لرؤيته والحكم عليه، وقياسه على الواقع ورؤية توجيهه للسلوك. فالفكر القومي ليس مجموعةً من المبادئ يمكن عدُّها، ولكنه سلوك يومي يتحدَّد في أنماط فكرية ونماذج ثقافية، وخبرات مُعاشَة يمرُّ بها الجميع، ووصلت إلى درجة من العمومية والوضوح حتى أصبحَت نمطًا للحياة الثقافية وأسلوبًا في الحياة العامة لا يخرج عنه أحد، حتى ولو أراد بما لديه من بقايا فطرة، وشجاعة أدبية، ورغبة في المخاطرة، وحُبٍّ في النزال، وبراءة طفولية لا تخبو مهما كانت الظروف. وهذا لأننا نتحدث عن الغالب وليس عن النادر، ونشير إلى العام وليس إلى الخاص، ونتطرق إلى المشهور وليس إلى الشاذ، ونتوجَّه إلى الشائع وليس إلى الاستثناء، ونَصِف الخطَّ الدائم المتصل وليس النتوء البارز المتقطع.

فهذه المخاطر العامة لا تعني أنها الخطُّ الفكريُّ لكل فرد من أفراد الأمة، فقد يخرج عن هذا الخط أو ذاك فردٌ أو أفرادٌ يُكوِّنون حركة التاريخ، ولكن السمات القومية تتحدد بالسمات الغالبة وليست بالسمات الفريدة، وهي ما زالت مستمرةً تفعل فينا وتُشكِّل فكرنا القومي، وتُحدِّد سلوكنا اليومي، وتُكوِّن نظريتنا السياسية. فإذا كان تبرير السُّلطة القائمة هو الطابع السائد فهذا لا يعني عدم وجود فكر مناهض للسُّلطة ومعارض لها. وغلبة المنهج الاستنباطي النازل لا يعني بالضرورة غياب كل فكر تحليلي علمي صاعد. وغياب المؤسَّسات الفكرية وتهرُّؤها لا يمنع من وجود بعض التنظيمات والجماعات الفكرية المؤثرة في حياتنا القومية. وغياب البُعد التاريخي في فكرنا القومي لا يمنع من وعي البعض منَّا بالتاريخ ومحاولته استكشافَ في أيَّة مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟

وقد يبدو من الصعب تحديد مخاطر في فكرنا القومي دون التعرف على هذا الفكر ذاته وتحديد خصائصه. والحقيقة أن هذه هي إحدى المخاطر الأولى، وهي غياب معالم لفكرنا القومي يصعُب تحديده من خلالها، وقد ينفيه البعضُ كليةً لأن الفكر لا يكون قوميًّا، فالفكر لا جنس له ولا دين، وقد يُثبته البعضُ الآخرُ على نحوٍ لا شعوريٍّ فتكون مهمَّتنا إذَن تحليل النفس وإخراج ما تحت الشعور إلى الشعور. وقد يُثبته فريقٌ ثالثٌ على نحوٍ شعوري، ويحكُم بوجوده، بل ويُحدِّد سماتٍ دائمةً له تقترب أحيانًا من الصفات الدائمة، حتى نقترب في النهاية من الفكر العنصري الذي يُحدِّد لكل فكر قومي صفاتٍ ثابتةً عبر التاريخ لا تتغير بتغير الظروف أو بتوالي الفترات التاريخية.

ولكنْ بصرف النظر عن حُجج كل فريق، فإن فكرنا القومي هو ما يُعبِّر عنه الكثير باسم الثقافة الوطنية عندما تتحدَّد بصورة بارزة؛ فالفكر القومي هو الذي يُحدِّد معالم الثقافة الوطنية، والثقافة الوطنية هي تحقُّق للفكر القومي في مجالات التربية، خاصةً تربية الجماهير من خلال الكوادر السياسية أو أجهزة الإعلام أو مناهج التربية.

وفكرنا القومي هو ما يُعَبَّر عنه أحيانًا أخرى باسم الشخصية الوطنية التي كثُر عنها الحديث في هذه الأيام،٢ أو الشخصية القومية، أو الشخصية فحسب. ولكن الشخصية هي تحقيق الفكر بطريق محسوس قائم على حُبِّ الذات والرغبة في الحصول على وجود ملموس في مواجهة الضياع. الشخصية تحقيق مبدئي وسريع للفكر القومي، وإحساس مرحلي بالوجود في مواجهة العدم. ولكنْ سرعان ما ينحلُّ هذا التجمُّد، ويتحول الفكر القومي إلى وجود من خلال نشاط الجماهير وعمليات التغيير الاجتماعي، فتحُلُّ الثورة محلَّ الشخصية، وتذوب الشخصية المتجمدة في الثورة. فالحديث عن الشخصية حديث متسرع يودُّ الانتماء السريع، ويُعوِّض الإحساس بالفقد حتى ولو ضحَّى بالحركة والنشاط. ويغيب عن الأذهان، من أجل المحافظة على الذات، كل ما تحتويه الشخصية من عنصرية وتشخُّصية وأنانية وتوسُّع في المجال الحيوي وغياب مقياس للتوفيق بين الشخصيات القومية، فليس أحدهما بأولى بالبقاء من الآخر.

وعلى كل الأحوال، فكرنا القومي شيء موجود، من الصعب أن يغيب في عصر الأيديولوجيات والمذاهب الفكرية، حتى ولو كنَّا ما زلنا نعاني من غياب أيديولوجية واضحة المعالم متسقة المضمون. ولكنْ يصعُب التمييزُ بينه وبين التراث، فالتراث مخزونٌ نفسيٌّ لدينا، وهو الذي شكَّل فكرنا القومي وطبعه بطابعه لدرجة أنه يمكن القولُ بأنني لا أفكر تراثي، بل تراثي هو الذي يفكر لي وفيَّ. فالتراث هو الذي أمدَّ فكرنا القومي بقوالبه الأساسية، وحدَّد علاقاته بالسُّلطة وبالواقع وبالمنهج وبالمؤسسات وبالتاريخ. فكرنا القومي ما هو إلا ناتج عن التراث، أو هو التراث في تفاعله مع واقع جديد. الفكر القومي ما هو إلا تعبير خارجي عن شيء دفين هو الموروث، وهو السطح لعُمقٍ آخر هو التاريخ.

والتراث هنا لا يعني الدين وحده، بالرغم من أن الدين هو الطابع الغالب، ولكنه يضمُّ الشعبي أيضًا، فنحن نفكر من خلال الغزالي والأشعري، كما نسلك من خلال أبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن، ونطرب من ترتيل للقرآن، وننتشي من سماع شهرزاد وعلي بابا وجحا. نستشهد بالقرآن والحديث كما نلجأ إلى سُلطة الأمثال العامية والأقوال المأثورة، ونعتمد على تاريخ الصحابة والخلفاء كما نتأسى بالتجارب والأزمات التي تمر بها البلاد. فالتراث هو الديني والعلماني كما يبدو في الموالد التي يختلط فيها الإلهي والشعبي، الديني والدنيوي، والتي نمارس فيها الصلاة والفجور!

وكان يمكن بطبيعة الحال تحليل خصائص فكرنا القومي للتعرف على مكامن الخطر فيه بتحليل الأعمال الفكرية والأدبية والاستشهاد بالنصوص ورصد الوقائع وإعطاء البيانات والإحصائيات وتأييد هذه المخاطر بالأرقام، ولكنْ في الحقيقة لا يمكن الانتقالُ من الوقائع إلى الماهيات أو من الأشياء إلى المعاني، هذه الاستحالة هي إحدى حدود النزعة التاريخية. ولكنْ يمكن تحديدُ معالم فكرنا القومي بتحليل تجاربنا الفكرية ومحاولة التعرف على ماهيات مستقلة لها يدركها كل مَن يشارك فيها، ومن ثَم تتحول إلى حقائق موضوعية، فالموضوعية هنا لا تعني خروج الماهيات من الوقائع المادية، بل عموم الماهيات وتطابقها في التجارب المشتركة. وبالتالي فالمنهج الفينومينولوجي هو أقرب المناهج لتحقيق هذا الغرض، فهو الذي يساعد على تحليل التجارب الشعورية التي يعيشها مُفكر عربي في عصرنا الراهن محاولًا إدراك ماهياتها المستقلة. ويكون مقياس صدقها هو مدى اشتراك المُفكرين الآخرين في هذه التجارب المُعاشة وفي الماهيات المُدرَكة. يمكن الاختلافُ في درجة عيش التجربة بين الحِدَّة والبرودة، ولكن لا يمكن الاختلافُ على وصف الماهية. والاختلاف في تعليل الظاهرة ووجودها لا يضير الباحثين شيئًا، ولا يطعن في وجود الظاهرة نفسها؛ وذلك لأن المنهج الفينومينولوجي لا يُعنى بسؤال النشأة Genetic question ولكنه يضع سؤال الماهية، ولا يُهمُّه التفسيرُ Explanation بل يُهمُّه الفهمُ Understanding، فتعدد التعليلات لسبب وجود الظاهرة لا تمنع من وحدة إدراك الماهية المستقلة. إن معركة البناء التحتي والبناء الفوقي، وأيهما علة وأيهما معلول، ما زالت خاضعةً للتصور العلِّي بين الواقعة والدلالة. والحقيقة أن الجدل بين البنائين إنما يتمُّ في الشعور الذي له أبنيته الخاصة، فالذي يُحدِّد الظاهرة، والذي يفسِّر نشأتها، ليس هو البناء التحتي أو البناء الفوقي، بل هو البناء الشعوري الناتج عن تجربة مُعاشَة. هو ليس بناءً صوريًّا، ولو أنه يخضع لتحليل العقل الخالص، بقدْر ما هو اتجاه وباعث ومُحرِّك وسلوك، فالفكر القومي ظاهرة اجتماعية متشابكة؛ إذ ينشأ الفكر القومي نتيجةً لظروف تاريخية وحضارية واجتماعية، ثم يؤثِّر فيها بدَوره ويوجِّهها. علاقة الفكر بالواقع إذَن علاقة متبادلة، ينشأ الفكر من الواقع، ثم يُوجِّه الفكر الواقع ويُحدِّد مساره. ويتمُّ ذلك كله في الشعور من خلال التجارب الحيَّة التي يعيشها الفرد وتحياها الجماعة. وقد خلقت الثورات العربية المعاصرة هذه الظروف على مدى رُبع قرن، وطبعت فكرنا القومي بطابع مُعيَّن ما زال حتى الآن يؤثِّر في مسارها إلى الأمام أو إلى الخلف.٣

إن التعرف على فكرنا القومي وعلى مكامن الخطر فيه هو أحد جوانب التعرف على الذات قبل أيِّ شروع في عمل أو إعطاء أنفسنا مهمَّةً تاريخية. والقدرة على الحكم على الذات هي في نفس الوقت تعميق لها؛ إذ إنها تصبح ذاتًا وموضوعًا في آنٍ واحد. والإشارة إلى هذه المخاطر، والتنبيه عليها ليس إدانةً لأنفسنا بقدْر ما هو كشفٌ عن أبنيتنا الثقافية، وتحليلٌ نفسيٌّ لوجداننا الحضاري، وتشريحٌ لأذهاننا، وعمليةُ ممارسةٍ للنقد الذاتي الذي لا تقوم نهضةٌ بدونه. كما أنها ليست محاكمةً فكريةً لتجربتنا الثورية، فتلك محاكمة الجيل الحاضر والأجيال القادمة، لا محاكمة فرد لفرد آخر، أو محاكمة فرد لجيل بأكمله.

خلاصة القول أن هذه التجارب الذاتية التي سأصفها هي تجارب جيل بأكمله، تكشف عن روح العصر، فالذاتية هنا تكشف عن الموضوعية من خلال اشتراك الآخرين وعيشهم لها، لا يختلف عليها قُطر عربي عن قطر عربي آخر، وإن كانت السمة الغالبة على تجربتنا الثورية في مصر. وغايتنا هنا مستقبلية صِرفة، وهدفنا هو إحداث دَوِيٍّ في شعورنا القومي، وطرح مسائل، وإثارة إشكالات، وتأسيس فكر، ووضع قضايا، وتنشيط أذهان حتى نفكر جميعًا في المخاطر التي تُهدِّد فكرنا القومي، سواء كانت تلك التي نُعدِّدها أو أخرى غيرها. قد يرى البعض ألَّا مخاطر على الإطلاق فنطمئنَّ جميعًا، ونُبدِّد أوهامنا، ونقضيَ على شكوكنا ونصل إلى برِّ الأمان.

ويتحدَّد فكرنا القومي في خمس علاقات:
  • أولًا: علاقة الفكر بالسُّلطة لمعرفة مدى استقلالية الفكر.
  • ثانيًا: علاقة الفكر بالواقع لمعرفة مادة الفكر ومضمونه.
  • ثالثًا: علاقة الفكر بالمؤسَّسات لمعرفة مَواطن الفكر وقواعده.
  • رابعًا: علاقة الفكر بالمنهج لمعرفة صورة الفكر ومنهجيته.
  • خامسًا: علاقة الفكر بالتاريخ لمعرفة مسار الفكر وحركته.

أولًا: علاقة الفكر بالسُّلطة

إن علاقة الفكر بالسُّلطة القائمة هي أهم العلاقات التي يدخل فيها الفكر؛ نظرًا لأن الفكر هو تحليل الواقع، وأن المُفكر هو الشاهد عليه، وبالتالي كانت السُّلطة القائمة التي تفتقر إلى شرعية كافية تنظر إلى الفكر على أنه خصيمها الأول، وتجعل مهمَّتها الأولى القضاء على استقلال الفكر وشراء المثقفين. فالفكر هو المناهض للسُّلطة، الدافع لحركات الواقع، المُحرِّك للتاريخ. وطالما صرخ الأباطرة: لقد هزم القلمُ السيف. ولكننا في فكرنا القومي نلاحظ الآتي:
  • (١)
    التبعية لا الريادة: دون الذهاب إلى الماضي البعيد، وتبعية الشعب لفرعون وتأليهه للحكَّام واعتبارهم مصدرَ الإلهام والخير، ودون الرجوع إلى الطبيعة وجعل الشعب هبة النيل، يعيش عليه، ويتبعه في فيضانه وتحاريقه، يكفينا سَبرُ غَوْر واقعنا الحالي وأساسه النفسي الاجتماعي في اللحظة التاريخية الحاضرة، فنجد أن الفكر تابع للسُّلطة وليس رائدًا لها، فالسُّلطة تبدأ والفكر يتبع، وإن شئنا أن نكون أقلَّ تجريدًا قُلنا: الحاكم يبدأ والمُفكرون يتبَعون، السلطان يأمر والعلماء يباركون، الأمير يُقرِّر والفقهاء يُبرِّرون، الملك يصدر والقضاء يشرعون. واتُّهم كل فكر يبدأ ولا يُتَّبَع بأنه فكر خارجي، تحومه الشبهات، وتلصق عليه لافتات العمالة والخيانة أو الطفولة والتطرف، والمجتمع أصيل شريف، معتدل وناضج! ولا يقتصر الأمر على مظاهر التبعية الخارجية من فرض الرقابة على الصحف وعلى سائر وسائل الإعلام، وضعًا أو رفعًا، ولكنْ تعدَّى الأمرُ إلى شعورنا القومي حتى فقد القدرة على كسر النطاق، وأخْذ زمام المبادرة، وتحليل الواقع بصرف النظر عن مُوجِّهات السُّلطة. وقد ساعد الفقر على ذلك، واحتار المُفكر بين الحقِّ والرغيف، فآثر الرغيف وتغاضى عن الحق، فالناس يعيشون أولًا ويفكرون ثانيًا، إلا الأنبياء والقديسين والشهداء، وليس كل الناس كذلك. فإذا ما تحوَّل هذا الرغيف إلى أرغفة متنوعة المذاق، وصحبه الشواء والمكان المرموق ومركز الصدارة؛ يتوارى الحقُّ كليةً، فيتحول الفكر إلى تجارة، ويصبح الكلام كما يقول أحد شعرائنا المعاصرين «عهر المفردات»، ثم يفرض الشعور القومي على نفسه رقابةً داخليةً حتى فيما هو خارجٌ عن وسائل الإعلام، في الجامعات والجمعيات العلمية والندوات الثقافية، وأصبح شعورنا في حاجة إلى رائد كمِشجَب يُعلِّق نفسه عليه، ونشأ بيننا وظيفة «الموظف الأيديولوجي» أو «مُفكر السُّلطة» أو «داعية النظام» وهو المفكر الرسمي للنظام، والمُبشِّر بفلسفته، والمُبرِّر لأخطائه، مثل «المُبَلِّغ» في المسجد الذي يتبع الإمام بصوته حتى يسمعه باقي المصلين فيتَّبِعون! وشيئًا فشيئًا يتمُّ تأليهُ الحكَّام، ويصبح الحاكم هو المُعلِّم والقائد، والزعيم الخالد، الوحيد المُلهم، كما كان الحال في تراثنا القديم عندما أعطى فلاسفتنا هذه السمات لرئيس المدينة الفاضلة، الرئيس الملهم، المعصوم من الخطأ، والذي يأمر فيُطَاع! أصبح هناك فتق بين الفكر ومضمونه، بين العبارة والحقيقة حتى لم تعد هناك حقيقة. فالحقيقة ما تُقرِّره السُّلطة، والفكر هو صياغة لها. فإذا تغيَّرت السُّلطة تغيَّرت الحقيقة وتغيَّرت الصيغ والأحكام. ولمَّا كان المُفكرون يعيشون ويتعيَّشون فقد تكاثر عارضو الخدمات، واشتدَّ الزحام، فترفَّعَت السُّلطة، وأصبح اختيارها لأحدهم مِنَّةً عليه وشرفًا له يحسده عليه الآخرون، واصطفَّ الباقي في قوائم الانتظار. وتتوالى الأنظمة، ويتوارى الحكَّام، وكلٌّ منهم يُلغي مَن قبله، وتبدأ من جديد حتى ضاعت مع الاتصال في حياتنا القومية، وأصبح كل يوم لدينا ثورة، وفي كل شهر لنا عيد، وفي كل فترة لنا صحوة، وكنَّا قبلها غُفلًا نيامًا. ولكن الشيء الدائم هو التبعية للسُّلطة كسلوك دائم، وحتى لو أيَّد مُفكر قرارات السُّلطة عن صواب وبصدق، فإن الجماهير لن تُصدِّقه؛ نظرًا لتعوُّدها على تبعية المُفكرين، كما لو كذب الغريق مراتٍ على الجماهير ثم غرق مرةً بحقٍّ فإنه لن يُصدِّقه أحد. ولو نقد مُفكرٌ السُّلطةَ عن باطل وبادِّعاء فقد تُصدِّقه الجماهير؛ لأنها قد رأت فيه بطلًا رائدًا.

    ولمَّا كانت طبائع الأشياء هي الغالبة، فإنه لا بدَّ وأن يحدث صراع بين الفكر والسُّلطة، حتى ولو من مُفكر واحد، أو من أقلية لا تعدم الطبيعة وجودها، مثله: رجل مؤمن من آل فرعون، أهل الكهف، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. ولكنْ في حياتنا المعاصرة إذا اختلف الرأي مع السُّلطة ضاع الرأي وثبتَت السُّلطة، حتى ولو كان صاحب الرأي ذخيرةً وطنيةً يُشهَد له بالمهارة الفنية وببراعة التحليل. ولكنْ إذا خرج الفكر مرةً عن التبعية للسُّلطة فجزاؤه السيف.

    فإذا ما بدأ الفكر مناهضًا بقوة وعنف كردِّ فعل على التبعية السائدة، عاملَته السُّلطة بقوة وعنف السُّلطة. ومهما قاومَت السُّلطةُ الرأيَ بالسيف، فإنها لن تنجح في القضاء عليه، بل ربما تكون عاملًا على تقويته ونشره وتبنِّي أجيال جديدة له بلا تنظيم علني أو سري؛ لأنه فكرة، والفكرة تبقى، في حين أن معارضة الرأي بالرأي والحوار الفكري هو السبيل الوحيد للتعامل مع الأفكار من أجل إماتتها أو إحيائها. وتكون نهاية الفكر وحرية الرأي إذا ما أخذَت السُّلطة جانبًا من المنازعات الفكرية الدائرة، وانتصرَت لفريق ضدَّ فريق، وأيَّدت رأيًا ضدَّ الرأي الآخر. وبلُغة السياسة تكون الدولة خاضعةً للحزب، فالقوة الوحيدة هي قوة الرأي، لذلك تخشاه السُّلطة. وقد تكون قوة السُّلطة تعويضًا نفسيًّا عن الضعف؛ لأنها ليست قائمةً على الرأي، وتستُّرًا على عدم الشرعية. وقد قِيلَ في تاريخنا القومي المعاصر وأصبح شعارًا لإحدى ثوراتنا السياسية: «الحقُّ فوق القوة، والأمة فوق الحكومة.»

    هذه العلاقة الشاذة بين الفكر والسُّلطة جعلَت فكرنا القومي يأخذ أيضًا طريقَين متعارضَين، كلاهما أيضًا يخالف طبائع الأمور؛ الأول: طريق العمل السِّري، وصحافة تحت الأرض، والمنشورات والهمسات والإشاعات، أو القَصَص الرمزي الذي لا يؤثِّر إلا في حلقات ضيقة من المثقفين المشاركين في نفس هموم الكاتب، وبالتالي لا يخرج الفكر المناهض عن هذه الدوائر المنعزلة في حياتنا الثقافية عن بعض الشعراء، وفي حياتنا السياسية عند بعض الجماعات.٤ والثاني: تفجُّر الموقف فجأةً في ثورات الشباب أو الانتفاضات الشعبية أو محاولات الانقلاب المدنية أو العسكرية، فيخرج المكتوم فجأةً وعنوة، فتتوجَّه السُّلطة لها باسم القانون في صورة استفتاءات جديدة، وسُلطات استثنائية ومَحاكم شعبية، حتى تقضيَ عليها أو تنفُذ من خلالها بالقسمة والتفرقة فتمتصَّ البعض، وتُغري البعض الآخر، وتُهدِّد فريقًا، ويهرب فريق آخر، أو تفسير هذه الحركات كلها على أنها من فعل خارجي، ومن نسيج مؤامرة دولية، ومن تدبير الصهيونية العالمية، ومن مؤامرات القُوى الاستعمارية، وتلجأ إلى كل العلل الخارجية الممكنة دون العلة الداخلية، وتستدعي العلل البعيدة دون الاقتراب من العلل المباشرة.
  • (٢)
    التبرير لا النقد: فإذا ما حدث فكر، وعَبَّر المُفكرون عنه فإنه يكون تبريرًا لا نقدًا، ومباركةً للخطوات التي تمَّت لا إشارةً إلى خطوات لم تتم، وتأييدًا لما هو موجود وليس مطالبةً بما هو غير موجود، حتى أصبح فكرنا القومي تزيينًا وتجميلًا لفكر السُّلطة، في حين أن مهمَّة الفكر هو النقد لا التبرير، والتوجيه لا التنفيذ، وبيان أوجه النقص وليس مباركة صفات الكمال. فإذا ما تحقَّقَت الأشياء أنصافًا دعَا الفكرُ إلى تحقيق الأنصاف الأخرى؛ إذ إن الإعلان عمَّا تحقَّق تكرار وتحصيل حاصل. فالواقع شاهدٌ على نفسه، وليست مهمَّة الفكر أن يُصدر حُكمًا عليه. وإذا تحقَّقَت صورةٌ دعَا الفكرُ إلى تحقيق المضمون، وإذا ما نُودِي بالشعارات طالب الفكرُ بقياسها على الواقع وبتحقُّقها فيه. في التبرير تغيب الحقيقة وتصبح تابعةً لهوى السُّلطة ولقدرات المُفكر الذي يحشد أكبر قدرٍ ممكن منها، ويستعمل أحدث النظريات، وآخر الصيحات، وأدقَّ الألاعيب في التبرير، حتى يلبس الباطل ثوب الحق، ويلوك الحق فيبدو باطلًا.

    ينتظر فكرنا القومي قرار السُّلطة ثم يبدأ في الإفاضة والشرح وبيان أوجه الحكمة، وصواب النظر، ونفاذ البصيرة، ولكنْ لا يبدأ فكرنا القومي بوضع مشكلة لم تتخذ السُّلطة فيها قرارًا بعد. أصبحَت عواميد الرأي المستقل في صحافتنا تبريرًا بعديًّا لقرار السُّلطة، فإذا ما امتنعَت السُّلطة عن مدِّ فترة قُوَّات الطوارئ الدولية تابعها فكرنا القومي دون أن يسأل أحدٌ من قبلُ عمَّا سيكون مصير هذه القُوَّات، أو عن المطالبة بعدم تجديد مدَّتها ما لم يتمَّ إحرازُ السلام. وإذا عادت السُّلطة فمدَّت فترة قُوَّات الطوارئ ظهر فكرنا القومي مُبينًا الحكمة وراء التجديد، حتى سئم القراء لصحافتنا اليومية من قراءة عواميد الآراء الحرة. وإذا كان قرار السُّلطة في أن تحرير الأرض لا يتمُّ إلا بالتعاون مع الأنظمة في العالم، فإن فكرنا القومي المُعلَن يمعن في تبرير القرار. فإذا ما عدلت السُّلطة موقفها ورأت أن ٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد أمريكا، خرجَت صحافتنا لتبرير حكمة الموقف الشجاع والإعلان الجريء.

    وقد يبلغ التبريرُ درجةً يصل فيها إلى حدِّ المزايدة على السُّلطة، ويصبح المزايدون ملكيين أكثر من الملك. فإذا دعَت السُّلطة إلى إطلاق الحريات — عن إيمان أو كشعار — استثنى المُبرِّرون من الحريات فئاتٍ تغضب السُّلطة بنقدها، وطالبوا بمنعها من الحريات لأنها تثير قلق السُّلطة، والسُّلطة راضية. وإذا دعَت السُّلطة إلى إلغاء المعتقلات — المفضوح منها والمستور — طالب المُبرِّرون ببقائها للفئات الضالة! وإذا تواضعت السُّلطة، وآثرت عدم البقاء — عن اقتناع أو عن نفاق — حتى لا تحدث وصاية أبدية من فئة ثورية على الشعب، طالب المُزايدون باستمرار السُّلطة مدى الحياة لاوين أعناقَ النصوص الدينية التي تشير صراحةً إلى الشُّورى وإلى البَيعة. وماذا لو حدث أن أخطأت السُّلطة أو أُصيبَ السلطان بالجنون؟ وإذا طالبت السُّلطة البيعة من الشعب — طبقًا للحقِّ الطبيعي — نادى المُزايدون بالتعيين طبقًا لنظرية الحقِّ الإلهي. قد تسيء هذه المزايدات إلى السُّلطة، ولكن السُّلطة لا تنبذها بجدية، بل تستفيد منها وبرفضها التام لها حتى تزداد شعبيةً ورسوخًا. وإذا طالبت السُّلطة بالرقابة الشعبية فوَّض المُزايدون للسُّلطة حقَّ الشعب، والسُّلطة راضية بهذه الثقة المطلوبة التي يوليها إياها الشعب. لذلك أُصيبَ فكرنا القومي باللون الواحد، والخط الواحد، وهو الخط الرسمي للسُّلطة، في حين أن تراثنا الديني قد قام على اختلاف الآراء وتعدُّد وجهات النظر؛ لأن «اختلاف الأئمة رحمةٌ بينهم».

    ويقوم بالتبرير اليمين واليسار الحكومي على السواء؛ يكون اليمين متسقًا مع نفسه إذا قام بالتبرير، فهو أساسًا نظرية في تبرير الواقع والدفاع عن الوضع القائم، وإذا قام بالنداء والتوجيه فلمزيد من التثبيت والإرساء لما هو قائم. اليمين بطبعه تابع للسُّلطة ومُبرِّر لقراراتها، لأنه السُّلطة تتحدث عن نفسها. أمَّا اليسار، وهو الرقيب على السُّلطة والناقد للأوضاع، والمُوجِّه للواقع، إذا برَّر فإنه يتخلَّى عن وضعه كيسار ويلحق باليمين، ولا تبقى إلا صورة اليسار واليمين في العبارات والشعارات وعناوين الصحف والمجلات والتمثيل في المؤتمرات وإرسال الوفود والبعثات؛ اليسار إلى الشرق، واليمين إلى الغرب، وتقليد مُمثِّليه المناصب الوزارية ومراكز الصدارة الاجتماعية بنسب معقولة طبقًا للسياسة الخارجية ومناورات اللعبة الدولية.

    والحقيقة أن التبرير نقصٌ في الشجاعة الأدبية وليس نقصًا في الذكاء، ولكن إذا ما توافرت الشجاعة الأدبية لدى بعض الأفراد، فإن تلقائية الفطرة، وحماس الشباب، والغَيرة على الواقع، والأمل في المستقبل؛ كل ذلك يدفع بهؤلاء إلى التخلُّص من هذه السمة العامة الغالبة في فكرنا القومي، وهي التبرير. لذلك تحاول السُّلطة استيعاب الشباب بالمنظمات والأندية والمصالح والوزارات والأمانات العامة، أو احتواء الاتحادات الطلابية وتقييد حركتها، أو اتِّهام مَن تبقَّى بالعمالة الأجنبية وحياكة المؤامرات الدولية. ولكنْ يظلُّ الشباب هو السلاح الوحيد للقضاء على سمة التبرير. ولو رغب الشيوخ في المشاركة فإن نَفَسَهم يكون قصيرًا، ولا ينظرون إلا حُسن العاقبة والختام.

  • (٣)
    الازدواجية لا الصراحة: نظرًا لتبعية المُفكر للسُّلطة وتبريره لقراراتها، وفي نفس الوقت وجود الفطرة والبراءة الأصلية التي لا تزال تبقى في موات الفكر جزءًا من حياة، يعيش فكرنا القومي حياةً مزدوجة، فهو أحيانًا الفكر الرسمي المُعلَن عنه، المنشور والمقروء والمسموع الذي تُوزَّع طبقًا له المناصبُ والقيادات. ثم هناك الفكر الآخر، وهو ما يُكنُّه الإنسان في قرارة نفسه، والذي لا يُحدِّث به إلا نفسه أو إلى أصدقائه الخلَّص في الدائرة المغلقة، أو يعبِّر عنه بالنُّكتة الشعبية أو بالقَصَص الرمزي أو على حوائط دورات المياه! وبكثرة التكرار قد يؤمن البعض، قارئًا أو سامعًا، بالفكر الرسمي قاضيًا على فطرته غصبًا، فالمسألة حياة أو موت بالنسبة للطفيليات. وقد انعكس ذلك كله في سلوكنا اليومي الذي أخذ طابع المجاملات، والتي تبلغ أحيانًا حدَّ التملق، وأحيانًا أخرى حدَّ المداهنة والكذب الرخيص. ولطالما تساءلت السُّلطة عن سبب الضحالة في الفكر والأدب وركود الثقافة ونحول الحياة السياسية وسلبية الجماهير وعزوفهم عن المشاركة في الحياة الوطنية. والإجابة على ذلك واضحة؛ وهي أن عنصر الصدق في الفكر والأدب مفقود، ولأن الجماهير تعلم أن ما يُعرَض عليها أو يُقدَّم لها لا يطابق الحقَّ الذي تعلمه، ومن ثَم يفقد القدرة على التعبير عنها.
    وقد رسخت الازدواجية في فكرنا القومي بسهولة بعد أن هُيِّئَت لها الظروف السياسية؛ وذلك لأن تصوُّرنا للعالم ثنائي، إذ إننا نقسم العالم إلى سماء وأرض، أعلى وأدنى، روح ومادة، صورة وهيولي. ثم تمتدُّ هذه الثنائية الطبيعية إلى ثنائية أخروية، فنتحدث عن الآخرة والدنيا، المَلاك والشيطان، الجنة والنار. كما تتحول أيضًا إلى ثنائية أخلاقية، فنتحدث عن الحلال والحرام، الخير والشر، الحسن والقبيح، الفضيلة والرذيلة. كما تتحول أيضًا إلى ثنائية اجتماعية، فنتحدث عن الرجل والمرأة، الرئيس والمرءوس، الحاكم والمحكوم. ولكل طرف من هذه الثنائيات لغة، ولكننا نعيش مستوًى ونتحدث عن مستوًى آخر، فنعيش الشر ونستعمل لغة الخير، ونعيش الحرام ونستعمل لغة الحلال، ويتنصَّب الحاكم ثم يستعمل لغة المحكومين.٥ كما يُقوِّي ذلك فينا نزعاتِنا الباطنيةَ واتجاهاتِنا الصوفيةَ التي تدرك الحقيقة على مستويات، وترى أن لكل شيء ظاهرًا وباطنًا حتى عرفنا بالتأويل والتخريج. ولكنْ يظلُّ الكامن والمستور هو موطن الحقيقة وليس المُعلَن العلني.

    والازدواجية همٌّ على القلب وحياة الجحيم؛ إذ لا يعيش الإنسان المزدوج حياته، بل يحيا حياة الآخرين، ويفقد وجوده الخاص من أجل الزيف العام، وتكون هي النهاية عندما تتمُّ المواطأة، وتختفي الفطرة. لذلك جاء الأنبياء كلهم نقدًا لحياة النفاق ضدَّ مَن يريدون جعْل الدين حجابًا أو سواكًا، أذانًا أو شعائر، وكثير من المومسات فاضلات.

    ولكنْ إذا تحدث الإنسان عن فطرة، ورفض الأقنعة الزائفة، فإن حديثه يسري سريان النار في الهشيم، ويكون حادثة العصر، بل قد ينهض الشعب فجأةً ويهبُّ على غفلة من الحكَّام، ثائرًا على حياته الوطنية المزيفة، ويكشف عن المستور، ويخرج الكامن، ويرفض القشور، ويسقط الشعارات الجوفاء. والتاريخ لا يخلو من هذه اللحظات، والمجتمع لا يخلو من هؤلاء الأفراد. فلحظات الصدق، التاريخي أو الفردي، هي مواطن الحركة والتغير.

    وإذا كان للتوحيد معنًى لعصرٍ سادته الازدواجية، ولفكر قومي طبيعته الثنائية، فإن هذا المعنى هو في إعادة الوحدة إلى شخصيتنا الوطنية، فكرًا أو سلوكًا، فالتوحيد اسمُ فعلٍ يدلُّ على حركة وجهد وليس اسمًا ثابتًا يدلُّ على شيء ساكن مثل «واحد»، وبالتالي فإن مهمَّة الفرد هي عملية التوحيد بين الفكر والقول، وبين القول والعمل، وبين الفكر والوجدان، وبالتالي نقضي على الانفصام في شخصيتنا الوطنية. والتوحيد في المجتمع يعني تأسيس مجتمع بلا طبقات وبلا تمايز بين الأفراد، وهي الأمة الواحدة التي يتفاضل فيها الأفراد طبقًا للعمل، وليس تمايزًا بين الأفراد، وهي الأمة الواحدة التي يتفاضل فيها الأفراد طبقًا للعمل وليس طبقًا للجنس أو الطبقة أو النسب أو الدين. التوحيد والازدواجية إذَن نقيضان، ولا يمكن أن يكون الإنسان مُوحِّدًا ومزدوجًا في آنٍ واحد.

ثانيًا: علاقة الفكر بالواقع

وكما أن الفكر في مواجهة السُّلطة القائمة، فإنه أيضًا في مواجهة الواقع الذي ينشأ الفكر منه، كما ينشأ من العقل أيضًا، والذي يتقبل توجيه الفكر فيما بعد، فلا يوجَد فكر طائر حتى عند أعتى دُعاة المثالية الذين يعترفون بالواقع أولًا ثم يحكمون عليه بأنه فكر ثانيًا. فالفكر والواقع طرفان لشيء واحد؛ هو الواقع أو الوجود أو الحقيقة، إنما الاختلاف في نسبة كل طرف إلى الطرف الآخر أو في رتبة الشرف أو الأولوية التي نعطيها لأيٍّ منهما.

وفي علاقة الفكر بالواقع يتَّسم فكرنا القومي بالآتي:
  • (١)
    الإنشاء لا الإخبار: وكثيرًا ما يعمُّ الإنشاءُ فكرنا القومي. والإنشاء أساسًا هو التعبير عن انفعال نفسي بعديد من العبارات، يتوالى بعضها وراء البعض دون أن يضيف إحداها إلى الأخرى جديدًا. وهذا الانفعال قد يكون أوليًّا كتعبير عن انتصار أو هزيمة، وقد يكون ردَّ فعل، وفي هذه الحالة يكون تعويضًا عن واقع، وصورةً ذاتيةً له. الإنشاء ليس صياغةً لفكرة قائمة على تحليل الواقع، بل هو نقصٌ في رؤية الواقع، وتقوقُعٌ على الذات، وإكمالٌ بالعاطفة لنقص في العقل، وتعويضٌ بالذاتية عن الموضوعية. الإنشاء هو وسيلةٌ للتعبير عن الإيمان بالتمني، أو ما يُسمَّى بالفكر المرغوب فيه Wishful Thought عندما ينحسر اتحاد المُفكر بالواقع ويودُّ أن يهرب منه، أو يرغب في أداء وظيفة الفكر الرسمية وينتهي الأمر، أو لنقصٍ في العمق، أو لخوف، أو لطلب شهرة، أو لتسابق على الدفاع عن السُّلطة. عندما ينحسر الفكر عن الواقع تُعبِّر الرغبات عن نفسها، وتنفصل الذاتية عن الموضوعية، وتصبح ذاتيةً صوريةً خالصة، ولو أنها في ظاهرها انفعال ومضمون، وهو في الحقيقة مضمون فارغ وصورية جوفاء. الإنشاء نرجسيةٌ خالصة؛ لا يرى الإنسان فيه إلا ذاته في مرآة نفسه، وهو يظنُّ أنه يصف الواقع الخارجي. الإنشاء خطأ في الرؤية، فلا هي رؤية حسيَّة خارجية، ولا هي رؤية باطنية حدسيَّة، بل مجرَّد تعبير أهوج عن فرح أو ضيق لم يصل بعدُ إلى مستوى الفن. الإنشاء لا يتجاوز حدود الصراخ والعويل. الإنشاء هو الذي يؤدِّي إلى الضحالة الفكرية وإلى السطحية، فهو ليس أدبًا ولا فكرًا. وقد عُبِّر عن هذا الإنشاء باسم المراهقة الفكرية أو التخلف الثقافي أو السجع الفكري أو الانفعال في الفكر القومي، كما عبَّر عنه القدماء باسم التفكير الخطابي في مقابل الفكر البرهاني، وكما وصفه أحد شعرائنا المعاصرين هي «العنتريات التي ما قتلت ذبابة».

    وكانت النتيجة انحسار الفكر عن الواقع، وفقْد قدرته على التوجيه. وأصبحَت وظيفة الفكر هي التفريج عن الهموم، وتطهير النفس من الأزمات، فحلَّت النفس المهمومة محلَّ الواقع، وعمَّت الفرحة بعد الخطبة العصماء، والواقع لم يتغير. لذلك زادت أهمية الدعاية، وظهرت الحاجة إلى الاعتماد على أجهزة الإعلام لتوجيه النفوس والتخفيف عنها، بدلًا من توجيه الواقع وحلِّ أزماته. ومن هنا أيضًا أتت أهمية الشعارات التي كانت تطلق البيانات التي كانت تصدر، والمواثيق التي كانت تُصاغ من أجل تخفيف الآلام عن الناس.

    وقد قِيل: إن سبب ذلك هو أن اللغة العربية بطبيعتها لغة شعرية طبعت الفكر والثقافة بطابعها، وأن الفكر العربي بطبيعة تكوينه صاحب موقف جمالي شعري من العالم، يعيش في العالم شاعرًا لا عاقلًا أو عالمًا، وأن الإنسان العربي وريث الإنسان السامي القديم، يؤمن بالصورة الفنية ويدرك بالحدس ويتصور بالخيال، فهو يعيش في عالم ذاتي خالص، يُنشد وهو يظنُّ أنه يفكر، ويُغنِّي وهو يظنُّ أنه يُحلل، وينفعل وهو يظنُّ أنه يُخطط.٦ والحقيقة أن هذا حُكم جائر يتحدث عن طبيعة ثابتة للغة العربية وللعقل العربي، وهو حُكم تعارضه قرائنُ كثيرة، فاللغة العربية تعرف الحقيقة والمجاز، الظاهر والمُؤوَّل، المُحكم والمتشابه، المُجمل والمُبين. كما تحتوي كل اللغات على البيان والبديع والبلاغة. وقد استطاعت حضارتنا الإبداع الشعري والعلمي والمنطقي في آنٍ واحد، ولم يمنع الشعر العربي من تأسيس العلم العربي، والمنطق الإسلامي. كما استطاعت لغة العرب التعبير عن تحليل الواقع، وحصر علله وسيرها وتقسيمها، وتأسيس مناهج الاستدلال وطرق الاستقراء. ولكن الإنشاء يرجع في الحقيقة إلى ظروف راهنة وليس إلى طبيعة دائمة، وترجع هذه الظروف بدَورها إلى الأوضاع السياسية، وإلى المرحلة التاريخية التي تمرُّ بها مجتمعاتنا الحاليَّة.
  • (٢)
    التكرار لا الإبداع: ونظرًا لتبعية الفكر للسُّلطة، والسُّلطة واحدة، والتبرير قائم، فقد نشأت ظاهرة التكرار في فكرنا القومي فيما نقول ونكتب، وفيما نقرأ ونسمع، حتى ملَّت الجماهير، وفقدَت أجهزة الإعلام دَورها في الإيصال والتوعية. لم تعد العبارة توحي بشيء، بل تُكرِّر ما قبلها مرةً نفيًا ومرةً إثباتًا، ولم يعد المُفكر يكتب بشخصه بل يتابع مَن قبله. فالصحف تُكرِّر نفس الشيء، وينتقل رئيس تحرير صحيفة إلى صحيفة أخرى دون أن يحدث تغيير في الصحف، في حين أن الصحيفة هي الحاملة للرأي، ورئيس تحريرها هو المُدافع عن تيَّارها، حتى لقد خرجَت النِّكات الشعبية تسخر من أن الصحيفة واحدة وأسماؤها مختلفة. والتكرار هو امتداد للفكر في خطٍّ واحد، وعيشه على ذاته، وقضاء على الخلق والإبداع الذي هو جوهر الفكر. التكرار هو تغيير الصور والمضمون واحد، وتقليب العبارات والفكرة واحدة. وقد بدأت هذه السمة في فكرنا القومي منذ سيادة الأشعرية وقضائها على كل التيَّارات المُعارضة، ثم عصر الشروح والملخَّصات التي تتكرر فيها المادة ولا تتغير إلا في مادتها بالإضافة أو الحذف. وربما يكون هذا هو السبب في أن حركاتنا الإصلاحية الحديثة لم تذهب إلى أبعد ممَّا ذهبت إليه؛ لأنها ما زالت تُكرِّر أحدها الآخر، ولم يُطوِّر أحدها الآخر، ولم تخرج على نطاق القديم. التكرار يُذهِب مضمون الفكر، ويُفقِد الفكر قدرته على التعبير؛ لأنه لا يوجد ما يُعبِّر عنه. وقد يبدو التكرار في تحصيل الحاصل عندما حاول فكرنا القومي أن يقول شيئًا عن طريق خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف في عبارات يُثبت نصفها الأول ما ينفيه نصفها الثاني، مثل: «نحن لم ننتصر ولكننا لم ننهزم»، أو «لقد انهزمنا، ولكن إرادتنا لم تنهزم»، أو كما قال القدماء في الإلهيات: عين لا كالأعين، ويد لا كالأيادي، وعرش لا كالعروش … إلخ.
    فإذا ما كسر أحدٌ هذه الرتابة، وخرج على طريقة التكرار، اتُّهِم بالكفر والمُروق والعصيان، وبالعمالة الفكرية أو الشذوذ أو المرض النفسي. فبكثرة التكرار يألف الناس ما يتكرَّر، وتغيب البدائل الأخرى، فتعمُّ النمطية الباهتة. ولكن الطبيعة تحتوي في ذاتها على كل عناصر الجِدَّة والإبداع، لذلك كان فنُّنا الإسلامي القديم الذي يُطلَق عليه اسم «الأرابيسك» Arabesque، هو فن التكرار بالأصالة، تكرار الأشكال الهندسية إلى ما لا نهاية. لقد ضحَّينا بالإبداع والخلق غير المنظور في سبيل الشكل، وضحَّينا باللحن في سبيل الإيقاع. وقد امتدَّ التكرار من سمة في فكرنا القومي إلى سلوك عام لنا في الحياة. فمناهج تعليمنا تُخرج شخصياتٍ متكررةً باهتة، وتقضي على الفردية. ونُظمنا السياسية وحياتنا الأُسرية وقيمُنا السائدة؛ كلها تخضع لنفس الرقابة في الشكل، مهما خرجَت الجماعات المعارضة وجبهات الرفض، ومهما اندلعَت ثورات الشباب، ومهما كثُر الخروج على العُرف. فالتكرار في فكرنا القومي يوحي بأننا ما زلنا مجتمعًا لم يخرج من مرحلة التقليد إلى مرحلة الإبداع، ومن مرحلة التسليم إلى مرحلة الرفض.
  • (٣)
    التجميع لا التحليل: فإذا أراد الفكر أن يقول شيئًا أكثر وسامةً من التبرير والإنشاء والتكرار، دون أن يخاطر بنفسه بتغيير علاقته بالسُّلطة من التبعية إلى الريادة، وبتغيير علاقته مع الواقع من التكرار إلى قول شيء، فإن هذا الشيء يأتي من تجميع الأخبار، ونقل المذاهب، وتغطية الواقع بكَمٍّ غفيرٍ من المعلومات، إطباقًا فوق إطباق، دون تحليل هذا الواقع إحصائيًّا، أو حتى رؤيته حدسيًّا لمعرفة مُكوِّناته. فتجميع المعلومات أسلم للمُفكر، لأنه يعرض مذهبًا بناه غيره، في حين أن تحليل الواقع المباشر يُلزِم المُفكر ويجعله هو المسئول أولًا وآخرًا عن تحليله وكشفه، وفي نفس الوقت يكسب المُفكر شهرةً حضاريةً بأنه أول مَن تحدَّث في الوجودية، أو أول مَن كتب في البنائية، أو أول مَن نقل الوضعية، أو أول مَن عرض المثالية. ثم يُقبل الشباب على هذا العلم المُجمَّع، ويتشدَّق بالأسماء للمذاهب والأعلام، ويظهر ذلك في كمية المنشور والمعروض في الرسائل الجامعية وفي الكتب المُؤلَّفة. لذلك كثُر الكَمُّ وقلَّ الكيف، وزاد المنشور ونقَص المفهوم، واتَّسعَت مساحة الكلمات وضاقت رقعة المعاني. تتضخم المكتبات وتتألف الكتب من المَراجع بدعوى تجميع المادة، وكأن مجرَّد جمع المادة يعني أن تحليل الواقع قد تم، ثم يصرخ البعض: أروني كتابًا واحدًا خرج هذا العام فيه فكر أصيل أو قال شيئًا! ويجيب المسئول: مطابعنا مشغولة حتى نهاية العام ولأعوام تالية! وتكثُر الأقوال: قِيلَ وقالَ أو كما قال، ولا يجعلنا هذا أقرب إلى الواقع قيدَ أُنمُلة. ويكتب ابن العشرين مقالًا حاشدًا فيه أسماء الأعلام والمذاهب والتواريخ، فنتساءل: متى قرأ؟ ومتى فهم؟ ومتى استوعب؟ ومتى تمثَّل؟ ومتى عبَّر؟

    ذاع الخبر، وانعدم الرأي وزاد التجميع، وقلَّ التحليل، وغزا فكرنا القومي أسلوب دوائر المعارف قديمًا، وكأن العلم بالشيء هو جمع أكبر قدْر مُمكن من المعلومات عنه، كما حدث ذلك في التفاسير القديمة وفي كتب التاريخ التي يسود نصفها الوقائع والتواريخ للأحياء والأموات. فلا غرابة أن تكون الرواية منهجًا للتاريخ، فالرواية مصدر للمعلومات. ولا غرابة أيضًا أن يتمَّ التجميعُ دون إشارة للمصادر، فالغاية هي جمع أكبر قدْر مُمكن من الأخبار حول موضوعٍ ما. فإذا تمَّ ذلك حدث العلم! لم نفترق إذَن عن ماضينا كثيرًا عندما بدأت حركات التجميع بعد أن نضب الفكر وقفر عن الخلق كما كان في القرون الأولى، فظهرت دوائر المعارف وموسوعات التاريخ الكبرى. ولكننا الآن بعد نهضتنا الثانية، بدأنا عصر الترجمة الثاني عن الغرب هذه المرة وليس عن اليونان، وبدأنا حركات الإصلاح، ولكننا ما زلنا نقوم بالتجميع والعرض والنقل، وما زال دَورنا هو دَور النَّقَلة والرُّواة عن الآخرين من اليونان إلى الغرب مرة، ومن الغرب إلينا مرةً أخرى. ولم يتعب الحمَلَة بعدُ من حمْل بضاعة غيره!

    إن العلم ليس هو المعلومات، والمعرفة ليست هي المعارف، بل العلم هو كشف للمجهول أو تصوُّر للواقع. وقد يأتي بأقلِّ قدْر مُمكن من المعلومات، بل قد لا يحدث إلا بعد الشكِّ في الموروث، ورفض النظريات المسبقة حتى يتحرَّر الذهن، ويبدأ في ممارسة عمله في البحث والتنقيب، فلم ينشأ عِلم إلا بعد رفض سُلطة القدماء، ولم تتحرر عقول إلا بعد رفض منهج الرواية وبدْأ نهج البحث الحر والتنقيب المباشر. فماذا يُغنينا إذا كنَّا كالحمار يحمل أسفارًا!

ثالثًا: علاقة الفكر بالمنهج

إذا كانت علاقة الفكر بالسُّلطة، وعلاقته بالواقع، علاقةً خارجية، مرةً مع الأعلى، وهي السُّلطة، ومرةً أخرى مع الأدنى، وهو الواقع؛ فإن علاقة الفكر بالمنهج علاقة داخلية صِرفة يتحدَّد فيها توالُد الفكر ونشأته ومساره واتساقه، فالمنهج هو الذي يعطي الفكر طابعه، وفكر بلا منهج لا تتحدَّد معالمه، وأزمة الفكر القومي هي في حقيقتها أزمة منهج، ومخاطره إنما هي نتيجة لخلل في المنهج. وأهمُّ المخاطر في علاقة الفكر بالمنهج هي:
  • (١)
    الغيبيات لا الوقائع: يتعامل فكرنا القومي مع غيبيات يظنُّها وقائع، وهي في الحقيقة أوهام أو تخيُّلات، وبالتالي يصبح فكرنا القومي ضحية خداع في الإدراك، فيتوجَّه نحو ظلال الأشياء بدل أن يتوجَّه نحو الأشياء ذاتها. ولا يعني الفكر الغيبي الفكر الديني أو الأخرويات أو العقائد أو اللامرئيات، بل يعني كل اعتقاد مبني على حُكم مُسبق دون أن يُثبته البرهان، أو تفسير الوقائع بعلل مجهولة، أو بعلل بعيدة، وليس بالعلل القريبة المحسوسة التي يمكن قياسُها أو التعرفُ عليها، مثل ردِّ الانتصار أو الهزيمة إلى تدخُّل قُوًى غيبية مجهولة مُشخَّصة هي قُوى الخير أو الشر، وردِّ ما يحدث من بواطن الشعور إلى وسوسات الشيطان أو هتاف الملائكة. وتزخر أمثلتنا الشعبية بذلك، يستعملها القادة والشعوب على السواء، فنقول في تبرير الهزيمة: «لا يُغني حذرٌ من قدَر.» ويمدُّنا تراثنا الأشعري القديم بمثل ذلك، فالله هو الذي يُحدِّد الآجال والأرزاق والأسعار. والأخطر من ذلك أن الأمر لم يقتصر على كونه سمةً في فكرنا، بل أصبح سلوكًا يوميًّا، فتظهر العذراء في الزيتون ينتظرها آلاف المؤمنين، كلٌّ منهم يراها «حسب إيمانه»، كما تظهر جنية المعادي تأمر بالقتل، ويكون الأبرياء ضحية.
    وتنشأ الغيبيات من نقص في التعقُّل، وعدم معرفة كاملة بقوانين الطبيعة ومجريات الأمور، فكلما تقدَّم الشعب في المعرفة وفي العلم ضاعت الغيبيات من فكره. كما تنشأ من تعويض نفسي لما ضاع عن الإنسان ويودُّ انتظاره، أو للحصول عليه في المستقبل بعد أن ضاع منه في الماضي وفي الحاضر، فتتشخَّص الحاجة وتصبح غيبًا. أصبح الغيب هو المُوجِّه لحياتنا والمُسيِّر لها، وهو غيبٌ بالنسبة لنا ولكننا لسنا غيبًا بالنسبة له، فنحن لا نعلمه وهو يعلمنا، وكلُّ حركاتنا وسكناتنا مرصودةٌ علينا. وتُفسِّر السُّلطة النصوص الدينية مثل: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٢٠: ٧)، ويَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ (٦: ٣)، وغيرها التي تُثبت العلم الإلهي المحيط لصالحها الخاص. ويصبح هذا التفسير أساس الحكم بالأجهزة السريَّة الخفيَّة التي رمزَت لها تلك اللوحة الفنية على مدخل مبنى المخابرات العامة، والتي تضمُّ العين الفرعونية المشهورة ومكتوبٌ تحتها «عين الله الساهرة»!

    وطالما تسود الغيبيات في فكرنا القومي، سنظلُّ مسلوبي الإرادة، ناقصي العقول، عُمي الأبصار، يتلاعب بمقاديرنا مَن يشاء، ويتحكم في مصائرنا مَن يريد، يتوحَّد في شعورنا الله والقَدَر والدكتاتور، واتِّهام كل مَن يخرج على ذلك بالمادية والكفر والشيوعية والإلحاد، ونكون قد تخلَّفنا عصرَين؛ عصر العقل وعصر العلم.

  • (٢)
    المقدَّسات ليست موضوعاتٍ للبحث: في فكرنا القومي عِدَّة حلقات مُغلَقة؛ هي المقدَّسات التي لا يجوز الاقتراب منها أو الحديث عنها، بل هي التي تدفعنا إلى التأليه والتقديس، والتبتُّل والابتهال، والمناجاة والصلاة، وذرف الدموع وطأطأة الرءوس، وتمتمة الشفاه وتسبيل الأعين. والأخطر من ذلك أن هذه المقدَّسات تتحوَّل إلى محرَّمات، وتصبح مصدرًا للتشريع، ومُوجِّهاتٍ للسلوك، وتتحول أخيرًا إلى تابو Tabou على ما يقول الأنثروبولوجيون. ويظنُّ البعض أن هذه المقدَّسات أو المحرَّمات قد وُجدَت منذ البداية في عقولنا، وأنها مقولات منطقية أو لا منطقية، مثل الكمِّ والكيف والجهة والإضافة، أو الممكن والواجب والمستحيل، أو العام والخاص، أو الكلي والجزئي؛ لأنها في حقيقة الأمر تنشأ نشأةً تجريبيةً خالصةً نتيجةً لظروف اجتماعية مُعيَّنة، عندما يبدأ الإنسان خائفًا من عِدَّة أشياء، فيتحول الخوف إلى عجز وعدم مقدرة على المواجهة، ثم يتحول الخوف والعجز إلى تقديس؛ لدَرْء الخطر أو لجلب النفع، وفي النهاية يتحول المقدَّس إلى مُحرَّم.

    وفي فكرنا القومي مُحرَّمات ثلاث: الله، السُّلطة، والجنس. هي مناطق مُقدَّسة، تندُّ عن البحث، ولا سبيل للإنسان أمامها إلا الطاعة والولاء أو الكبت والحرمان. لذلك قال بعض علماء الأنثروبولوجيا إن الدين والسُّلطة سواء، والمعابد ومخافر الشرطة تؤدِّي نفس الغرض، والحجاب والأزياء يُؤدِّيان نفس الغاية، وهي الإعلان عن المرأة والدعاية لها. تعتمد الحكومة على المشايخ، ويعتمد المشايخ على الحكومة، ومن بينهما تظهر أفلام الجنس تعبيرًا عن الكبت والحرمان، وتصريفًا للطاقات المكبوتة من جرَّاء عدم المشاركة في الحياة السياسية. والعجيب أننا نُحرِّمها ونفكر فيها، ونمنعها ونتعاطاها، وأصبحَت في فكرنا القومي أشبه بالحشيش في حياتنا الخاصة، نتعلق بها، ونُفرِّج بها كربنا، ونسعد بها وننسى بها شقاءنا. والأعجب من ذلك أن هذه المقدَّسات لا تُؤدِّي وظيفة التقديس، بل على العكس تُؤدِّي وظائف التعمية والتغطية والتستُّر والنفاق، فالله في شعورنا لا يُوجِّه السلوك ولا يدافع عن الفقراء، ولا يقضي على الفروق بين الأفراد ولا يمحو التفاوت بين الطبقات. والسُّلطة في نفوسنا نسخر منها ونهابها، نرفضها ونتملقها، نحتقرها ونسعى إليها. والجنس في حياتنا نحرِّمه ونعشقه، ونكشفه ونحجبه، والصامت عن الحديث عن الجنس قولًا لا على الفضيلة، فقد يكون هو الموضوع الأوحد لحديث النفس الباطني. والمُتبرقع والمُتحجِّب قد يكون أقرب الناس إلى التبرُّج والتفضُّح، لأنه يعلن: أنا الجنس المخفي فلا تنظروا، مثل محطة المطار السِّري الذي يعلمه الجميع! إنه دعوة للنظرة تحت ستار تحريم النظرة. والشيخ الذي يتنحنح ويقول: «يا ساتر!» حتى ينفضَّ نساء المنزل، قد يكون أكثر إثارةً لهنَّ بصوته الرخيم وبدَقَّة عصاه. وقد يكُنَّ هنَّ أكثر إثارةً له بدبدبة أقدامهنَّ المُسرعة وبضحكاتهنَّ الخفيَّة وبنظراتهنَّ من وراء سِتر النوافذ وثقوب الأبواب!

    والحقيقة أن هذه المُحرَّمات تتولَّد نتيجة عصور التخلُّف، فالله ليس غيبًا أو سرًّا، بل إن أهمَّ ما يميز الوحي في آخر مراحله هو غياب الأسرار، وسيادة العقل، فالله إشارة إلى كل ما هو عام وشامل ومستقل في عالم الماهيات والمُثل، أو عالم الديمومة والثبات، وهي عوالم تؤيِّد التجارب الإنسانية وجودها. ولدينا من الله ظواهر محسوسة في أشخاص الأنبياء والكتب المقدَّسة، وحوادث التاريخ، ومن التجارب البشرية التي كثيرًا ما نجد دلالاتها في النصوص الدينية. كما أن السُّلطة ليست أمرًا قدسيًّا إلهيًّا لا يحِلُّ للجماهير القربُ منها أو إبداء الرأي فيها أو الرقابة عليها، بل السُّلطة من الشعب وللشعب، أو كما قِيل: الأمة مصدر السُّلطات، والسُّلطة تعبير عن الواقع الاجتماعي للأمة. قد تكون حُكمًا للأغلبية أو حُكمًا للأقلية، قد تكون شعبيةً دستوريةً أو فرديةً قهرية. السُّلطة إذَن ليس لها هذه الهالة من التقديس، بل هي موضوع للبحث في علوم السياسة والاقتصاد. وغريبٌ علينا نظريات الحقِّ الإلهي في الحكم. إنما الولاية في تراثنا وظيفة اجتماعية، بَيعة وشُورى. كما أن الجنس ليس سرًّا، بل هو أحد مُكوِّنات الطبيعة البشرية، وأحد دوافع السلوك، ومصدر للإبداع الفني، بل هو عند البعض أساس السلوك الأول ومُنشئ الحضارة والمدنية. وفي النهاية «لا حياء في الدين»!

  • (٣)
    المنهج النازل لا الصاعد: فإذا كسر الفكرُ الطوقَ، وخرج عن نطاق الغيبيات، واقترب من المقدَّسات، فإنه يستعمل المنهج النازل؛ وهو البداية بمصدر قبلي للمعرفة في نصٍّ أو تراث، في تقاليد أو في سُنن، ثم يستنبط منها أحكامًا يُصدرها على الواقع الذي عليه أن يتقبَّلها، رضيَ أم لم يرضَ. وهو منهج قال الله وقال الرسول، أو قال أرسطو، والذي يعتمد على سُلطة الكتاب أو سُلطة الموروث. يقوم هذا المنهج على افتراض أن جميع الحقائق والمعارف قد وُضعَت مسبقًا في مصدرها، أُعطي للبشر أو لم يُعطَ، في صورة علم إلهي أو لوح محفوظ أو قدر مكتوب، وعلى الإنسان أن ينتقيَ منه صورةً لواقعه. هو مصدر حوى كل شيء؛ ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث. ومهمَّة الإنسان هي العثور على صورته في هذا المصدر وتطبيقها، وغالبًا ما يحدث الاختيار طبقًا للرغبات والأهواء والمصالح الفردية أو الاجتماعية، فيقرأ الإنسان ذاته في المصدر المُسبق، ويختار ما يهوى، ويجد في نفسه الرضا والهناء في أن حُكمه شرعي، وأن سلوكه مرضيٌّ عنه في الحسنيين. وإرضاءً للظاهر، كثيرًا ما ينشأ سلوكان؛ سلوك مطابق للمصدر المُسبق في الظاهر، وسلوك حقيقي في الباطن نابع من الطبيعة التي لم تُفهم، ومن الواقع الذي لم يُحلَّل.٧

    وقد أخذ المنهج النازل شكلًا سياسيًّا؛ وذلك لأنه يتَّفق مع مركزية السُّلطة مصدر القرار، ومُفسِّرة الظواهر، ومُنظِّرة الأحداث. فالسُّلطة هي الموجَّهة للمؤسَّسات الدستورية والصحفية، وهي المُحدِّدة لبرامج التعليم، وتُصدر القوانين على نحو استنباطي من رغبات السُّلطة وتصوُّراتها. وقد حدث ذلك أيضًا في تراثنا القديم عندما تصوَّر الفلاسفةُ فيضَ العالم عن الله في نظرية الصدور المشهورة، وأن كل ما في هذا العالم إنما هو فائضٌ عن الله. كما ظهر أيضًا في علم أصول الدين الأشعري الذي جعل الله مركز الكون، له علم مفروض على عقول الناس وإرادة تدخل في مسار الطبيعة وفي ضمائر البشر. كما ظهر أيضًا في علم أصول الفقه، وذلك بترتيب مصادر الشرع الأربعة ترتيبًا تنازليًّا، من الكتاب إلى السنة إلى الإجماع إلى القياس، وإعطاء الأولوية للنصِّ على الواقعة. ولقد حاول التصوف وحده قلب المنهج من نازل إلى صاعد، ولكنه أصبح فرديًّا خالصًا، يقوم في بدايته على مجموعة من القيم السلبية مثل الصبر والرضا والتوكُّل، ثم يستمر كعلم لبواطن القلوب لا يستند إلى عقل، وينتهي إلى وحدة شاملة تتمُّ في الخيال وبالوجدان دون أن تكون هناك وحدة حقيقية في العالم الخارجي بين الواقع والمثال في صورة نظام سياسي.

    لقد قامت النهضة في الغرب بعد اكتشاف تعارض هذا المصدر المُسبق للمعرفة مع بداهة العقل وتجارب الحسِّ. ولمَّا كان مصدرها المُسبق تمَّ عرضُه على العقل فكان معقولًا، خاصةً عند الفلاسفة والمعتزلة، كما عُرض على التجربة، فكان علميًّا عند علمائنا القُدامى، ومن ثَم فلا خوف من استعمال المنهج الصاعد الذي يبدأ من العالم إلى الله، ومن الواقع إلى المثال، ومن التجربة إلى المعنى، فتكون الطبيعة عاقلةً في الفلسفة ومستقلَّةً في الكلام، وتبدأ مصادر الشرع بالقياس ثم الإجماع ثم السُّنة ثم الكتاب. نبدأ بعلم الإحصاء لمعرفة مُكوِّنات الواقع، وبالتجارب لمعرفة أُسُس الفكرة، وعلى هذا النحو نعيد بناء فكرنا القومي على النصِّ حتى لا يصدُق فينا قولُ الشاعر المعاصر: «واحتمى أبوك بالنصوص، فدخل اللصوص!»

رابعًا: علاقة الفكر بالمؤسَّسات

ولمَّا كان الفكر ليس مجرَّد مجموعة من الأفكار طائرة في الهواء، يطلقها مَن يشاء، ويتلقَّفها مَن يريد، بل ينطلق من الأرض في صورة أشخاص أو مؤسَّسات أو نُظم اجتماعية. الفكر لا ينبع إلا في مكانٍ ما، مدرسة فكرية أو مذهب عقائدي تتمثله مجموعة من الناس، أو حزب سياسي يُعبِّر عن تيَّار اجتماعي. الفكر إذَن أجهزة قائمة، وآليَّات تعمل، ومؤسَّسات تُنتج. وفي فكرنا القومي في علاقته بالمؤسَّسات نلاحظ الآتي:
  • (١)
    غياب المؤسَّسات لا قيامها: نلاحظ في حياتنا القومية عدم وجود مؤسَّسات ينبثق الفكرُ من خلالها في صورة مدارس أو جماعات أو أحزاب، أو مؤسَّسات يصدُر الفكر منها بالفعل. لذلك غاب في حياتنا القومية وجود مجمِّع أو مُبلوِر Cristalizer للفكر ينجذب المُفكرون نحوه، ويرتبطون فيما بينهم ارتباطًا عضويًّا، يتكاثرون من خلاله، ويلتفُّون حوله، ويُطوِّرون أنفسهم بفضل حوارهم المفتوح فيما بينهم.

    وكما نعلم من حياتنا السياسية المعاصرة، فإننا قد فشلنا حتى الآن في إقامة حزب سياسي ثوري يُنظم حركة الجماهير ويتخرَّج فيه القادة؛ لأن الحزب يحتاج إلى مضمون وهو الجماهير، وإلى صورة وهي الفكر الذي يقوم عليه الحزب، وإلى عصب وهم الكوادر المُنظِّمة. كما أن معاهدنا العلمية ومراكز أبحاثنا لا تتعدَّى مستوى الأكاديمية الصِّرفة، وبالتالي أصبحَت عاجزةً عن أن تؤثِّر في حياتنا. وإذا ما التزم أحدها مثل معهد للتخطيط أو مركز للدراسات، فإنه يتمُّ القضاءُ عليه لانحرافه عن الطريق وخروجه على النمطية السائدة. لا تعني المؤسَّسات سيادة البيروقراطية واللوائح والروتين، بل تعني التنظيم الكفيل بسريان الحياة، كالبدن بالنسبة للروح، وكالعصب بالنسبة للإحساس. وقد تكون هناك مؤسَّسات فكرية، ولكنها تهدف إلى الدعاية، أو إلى تبرير الوضع القائم، أو إلى الوعظ والإرشاد مثل أجهزة الإعلام أو دُور الصُّحُف أو المؤسَّسات الدينية أو وزارات الثقافة والإرشاد القومي. ولكن المؤسَّسات التي يظهر الفكرُ من خلالها هي المدارس الفكرية التي تتكون داخل المعاهد العلمية والجامعات ومراكز البحث والجمعيات الثقافية والاتحادات الأدبية ومراكز الثقافة والجامعات الشعبية الحرة، فالفكر القومي ليس هو البحث الأكاديمي الخالص، ولا هو الدعاية والإعلام.

    ويبدو أن غياب المؤسَّسات الفكرية في حياتنا القومية مرتبط أشدَّ الارتباط بأوضاعنا الاجتماعية وبنُظمها السياسية وليس لنقص في التيَّارات الفكرية والاتجاهات السياسية، فكثيرًا ما يجد جمعٌ من المثقفين أنفسهم في مواجهة بعضهم البعض في مؤتمرات خارج البلاد، يتناقشون فيما بينهم ومع غيرهم، ويُكوِّنون مدارسَ وتيَّاراتٍ فكرية، وقد يسمعون عن بعضهم البعض لأول مرة، وقد يرون بعضهم البعض لأول مرة كذلك، فإذا ما عادوا إلى البلاد انفرط الشمل، وانحلَّ العِقد، وانقضى الجمع، وتقوقع كلٌّ منهم في عزلته، يكتب لجمهوره، وكأن المؤتمرات الدولية الخارجية هي المؤسَّسة التي يجتمع فيها مُفكرونا. وإذا ما دعونا نحن إلى مؤتمرات دولية داخل البلاد اجتمعنا أيضًا معًا وفي وسطنا المُفكرون الأجانب وبحضورهم، وكأننا لا نجلس معًا إلا على موائد الغير، ولا نتقابل معًا إلا بحضور الضيوف الأجانب، يكونون هم محور النقاش. ولِمَ لا، وهم الضيوف ونحن أصحاب البيت، والضيوف دائمًا في أماكن الصدارة؟!٨ وبغياب المؤسَّسات الفكرية غابت التقاليد الفكرية وفي مضمونها الحوار المتبادل واحترام الرأي الآخر والحرص على الوحدة الوطنية وعدم التعامل مع الآراء الحرة بحدِّ السيف.

    وفي غياب المؤسَّسات، قد يظهر مُفكر قومي، وحيد بمفرده، يكون أوحد عصره، ينال ثقة السُّلطة الحاكمة، ويصبح مُفكر الدولة، يحاور ويناور، ويكون أول المُطَّلعين على بواطن الأمور، وأول العالمين بأخطر الأسرار، يعطي الجماهير منها قطرةً قطرة، فتتشوق لسماعه أسبوعيًّا، وتُحدِث لمقالاته الدَّويَّ والرنين، يصبح مُفكرنا الأوحد، ومَنفذنا على العالم الخارجي، والمُفسِّر للظواهر، والمُترجِم عن أفكار السُّلطة، وفي النهاية المُبرِّر لجميع السُّلطات. حتى لقد نشأ في فكرنا المعاصر ظاهرة «الموظف الأيديولوجي»، الكبير أو الصغير، ينظر الكبير ليكون أكبر، والصغير لكي يلحق بالكبار. وعلى هذا النحو غاب الحوار الحقيقي، وساد فكرنا القومي المونولوج لا الديالوج، وسمعنا نغمةً واحدةً نحب أن نسمعها، فإذا ما اكتشفنا عيوبنا نتيجةً لهزائم متلاحقة، كبيرة أو صغيرة، حوَّلنا النقد الذاتي إلى نوع من الفروسية العربية، فالاعتراف بالحقِّ فضيلة، والتائب من الذنب كمَن لا ذنب له؛ امتصاصًا لغضب الجماهير، وتخديرًا لهم. ونؤسِّس المجالس القومية المتخصِّصة دون أن تُحدِث أدنى أثر في حياتنا العملية.

  • (٢)
    تشخيص المؤسَّسات لا استقلالها: فإذا ما وجدت بعض المؤسَّسات فإنها ترتبط بأسماء الأشخاص الذين ترأسوا عليها حتى أصبحَت ظاهرةً مَرَضية. صحيحٌ أن لدينا جماعات؛ جماعة أبولو في الشعر … إلخ، ولكنها في الحقيقة مجموعة أشخاص ترتبط فيما بينها بتآلف جمالي أو اشتراك في الإحساس أو اتحاد في الغاية أو تماثُل في المنهج أو تشابُه في المنطلقات. وتظلُّ الجماعة معروفةً بأسماء أشخاصها المُكوِّنين لها دون أن تكون للجماعة صفة معنوية مستقلة. وصحيحٌ أن لدينا مدارسَ فكرية، ولكنها أقرب إلى الدوائر المنعزلة، الأشخاص في بؤرتها، حلقات متقطعة الاتصال، تُمثِّل رافدًا وطنيًّا أو تيَّارًا قوميًّا، لا تتمتع بالاتصال، بل سرعان ما تنقضي بموت مؤسِّسها، ولا تعيش لعِدَّة أجيال. وإن دولة المؤسَّسات ما هي إلا شعار نُخفي وراءه تشخيص نُظمنا السياسية، فيصبح رئيس الدولة هو الدولة، ورئيس مجلس الشعب هو الشعب، ورئيس الوزراء هو الحكومة، والوزير هو الوزارة، والمدير العام هو المصلحة، ورئيس تحرير الصحيفة هو الصحيفة، وربُّ الأُسرة هو الأُسرة. صحيحٌ أن لدينا أحزابًا لها فكرها الحزبي، ولكنها أيضًا تظلُّ مرتبطةً بأسماء مؤسِّسيها، فلا نذكر الناصرية بدون ناصر، أو الوفد دون سعد زغلول ومصطفى النحاس، أو الحزب الوطني دون مصطفى كامل ومحمد فريد. صحيحٌ أن لدينا مؤسسات، ولكنها تظلُّ مطبوعة بطابع رئيسها المُعَيَّن، وتتغير رؤية المؤسَّسة بحركة انتقال المديرين العموميين أو بتعيين الوزراء وإقالتهم، حتى لتُعرَف المؤسَّسات بأسماء رؤسائها، فنقول وزارة فلان، ومصلحة علان، وإدارة هذا الشخص أو ذاك. تضعُف هذه المؤسَّسة بضعف صاحبها، وتقوى بقوته. وغالبًا ما تنقضي المؤسَّسة بانقضاء صاحبها؛ فلا ناصرية بعد ناصر، ولا «الطليعة» بعد لطفي الخولي، ولا «روز اليوسف» بعد عبد الرحمن الشرقاوي. السياسة تتمُّ باجتماع الأشخاص، والقرارات تأتي بالعلاقة الفردية بين الوزراء، والسياسة العربية ترسمها مؤتمرات القمة العربية للملوك والرؤساء!
    وقد أتانا التشخيص من فكرنا الديني القديم عندما تصوَّرنا الله على أنه شخص، وجعلنا المسيحية مركزةً حول المسيح، وأعطينا الله صفات الإنسان، وجعلنا له سمعًا وبصرًا ويدًا وجنبًا وساقًا، ينزل ويصعد، ويغضب ويفرح. واستمرَّ هذا التشخيص في حياتنا الدينية حتى الآن في صورة التقرب إلى القدِّيسين، وتبجيل رجال الدين وطاعة أوامرهم، بل إننا شخَّصنا الإسلام ذاته في محمد، وتقرَّبنا إليه ودعوناه، وتشفَّعنا به وناجيناه، ومدحناه وأنشدنا له، وأقمنا له الموالد والأذكار، ثم سقطنا في غيبوبة الوجد، وجعلناه حقيقةً محمديةً، كما تقول الصوفية، قديمةً قِدَمَ الله، وباقيةً ببقائه، منها صدر الخلق، وإليها يرجع! في حين قد حذرنا القرآن من تشخيص الإسلام وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (٣: ١٤٤)، كما ورد في الحديث «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم»، وأيضًا «ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد»، كما نبَّهتنا الأقوال المأثورة في تراثنا، مثل «مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت» على أولوية المبدأ على الشخص. وقد بلغنا في حياتنا المعاصرة من عبادتنا للأشخاص أن ضاع استقلال المبادئ، وقِيل: «إن الاحتلال على يد سعد خيرٌ من الاستقلال على يد عدلي!» ونحن نعلم أن كل حركة ثورية تريد أن تُطهِّر نفسها وتُبقيَ على نقائها، وتحرص على مبادئها عليها أن تقضيَ على عبادة الشخص Culte de la personnalité كما حدث ذلك بعد موت ستالين مرةً وبعد موت خروشوف مرةً أخرى، وكما هو وارد في وصية الزعماء الوطنيين مثل هوشي منه الذي رفض أن تُقَام له مظاهر التكريم لشخصه بعد الممات، وكما حدث لعمر بن الخطاب عندما داخلَته الخُيَلاء، وهو داخل القدس، فصرخ واقعًا واستبدل بحصانه حمارًا، وعندما وجده ابنه حاملًا قِربةً على ظهره ذهابًا وإيابًا أمام منزله وسؤاله عن السبب وقوله: «أعجبَتني نفسي فأحببتُ أن أذلها!» وكما يحدث في الديانات الهندية عندما يُحرق الرُّفات ويُذرَى في الهواء أو يُلقَى في ماء النهر المقدَّس، حتى يعود الفرد إلى الطبيعة التي منها أتى. ولكننا أُصبنا بداء رُفات القدِّيسين، ومقابر الأولياء، وجعلنا الأشخاص واسطةً بيننا وبين الله، ودعوناهم وطلبنا بركتهم، واستنجدنا بشفاعتهم. وما زلنا نفعل في حياتنا السياسية طالبين شفاعةَ الأشخاص لحلِّ قضايانا المصيرية.
  • (٣)
    تجاوُر الأجيال لا تحاوُرها: فإذا ما قامت المؤسَّسات فإنها تضمُّ عِدَّة أجيال متجاورة، فيكتب الشيوخ والشبَّان، بل يزاحم الشيوخ الشبَّان في أجهزة الأعلام، وفي الصدارة للرأي حتى أصبح هناك احتكار شبه دائم للشيوخ. والأخطر من ذلك أن كلًّا من الفريقَين يكتب في عزلة عن الفريق الآخر، دون قيام حوار بينهما يُبين هوَّة الأجيال ومدى التطور الاجتماعي من جيل إلى جيل، بل وتتحكم الشيوخ في مصائر الشباب، فهم مراكز إصدار القرارات، يُشرِّعون القوانين، ويُصدِرون اللوائح مراعاةً لمصالحهم الخاصة خشية منافسة الشباب لهم. وبالرغم من التصريحات التي تُطلَق في حياتنا السياسية عن ضرورة العناية بالشباب وإقامة وزارة للشباب وتأسيس منظمة للشباب أو أمانة عامة للشباب يترأسها شابٌّ ويساعده شاب، والدعوة إلى مؤتمرات للأدباء الشبَّان، وإقامة معسكرات للشباب، إلا أن الحصيلة تكاد تكون معدومة، فقد كان الهدف هو إقامة احتفالات أو اشتراك في أندية أو تلقين معلومات أو تجنيد بعض الشباب لخدمة النظام السياسي.

    وإن الشيوخ يُكوِّنون دوائرَ منعزلةً في فكرنا القومي، يكتبون عن الثورة الفرنسية وعن بيتهوفن وموزار، أو عن الشاطئ الجنوبي الساحر لإنجلترا، أو عن مسارح لندن ونيويورك، ومنزلنا مُحطَّم، وجدرانه تتهاوى، ووجودنا مُهدَّد بالضياع! يعيشون على أمجاد الماضي أو على بعثة إلى باريس أو على نضال قديم. لا يتطورون طبقًا لأحداث العصر، ويسهُل التأثيرُ عليهم وتوجيهُ أقلامهم بما ينالون من صدارة اجتماعية ورغد العيش، يسالمون ويستسلمون، ولا مانع من اتِّهام الشباب بالمُروق وجحد النعمة، والضياع والضلال، والحيرة والبَلبَلة!

    فإذا ما استطاع بعضُ الشبَّان إبرازَ فكر أو إحداثَ تيَّار أو تأسيسَ مذهب، فإن عمرهم الإبداعي يكون قصيرًا، فسرعان ما تمنعهم المؤسَّسات، وتُحيلهم إلى موظفين في الدولة في مكاتب الثقافة، وإذا رفض بعضٌ منهم فإنه يُحارَب في كافة أجهزة الدولة، أو تُحاكُ حوله مؤامرات الصمت والنسيان.

    لذلك انعدم الحوار بين الشباب والشيوخ، وعاش كل جيل عصره، وتجاورَت الأجيال، وتزامنَت العصور حتى تشعَّبَت روح العصر، وتعدَّدَت أزمنته، وكأننا نعيش عِدَّة عصور في آنٍ واحد، وبالتالي ضاع منَّا مسار التاريخ وأفلتَت منَّا حركته.

    ولمَّا كان الشيوخ هم أصحاب السُّلطة، فقد ضاق الحصار حول الشباب وأصبحنا نعيش في مجتمع «أبوي» نموذجه «وبالوالدين إحسانًا»، وأدَنَّا كل خروج على التقاليد، وأشحنا بوجوهنا عن ثورات الشباب، حتى يرجع الجميع إلى حضن الأم وإلى كتف كبير العائلة وربِّ الأُسرة.

خامسًا: علاقة الفكر بالتاريخ

والفكر ليس قطاعًا ثابتًا أو مقطعًا طوليًّا أو عرضيًّا في حياتنا، بل هو لحظة من لحظات التطور في تاريخنا ووجودنا. وقد يكون الخطر الأساسي في فكرنا القومي هو ثباته وعدم ارتباطه بحركة التاريخ، الماضية أو الحاضرة أو المستقبلة، ارتباطًا عضويًّا صحيحًا. وإذا ما أدركنا حركة التاريخ فإننا نتعامل معها بعقلية الثبات، فننزع إلى الماضي ونركن إليه، أو نرنو نحو المستقبل ونعيش فيه، أو نحرص على الحاضر ونتشبَّث به. وليس حُكمًا قاسيًا أن نقول إن الشعور التاريخي قد غاب في فكرنا القومي. ويكون السؤال «لماذا غاب البُعد التاريخي في فكرنا القومي؟» سؤالًا مطروحًا على وجداننا، سواء في تراثنا القديم أو في حياتنا المعاصرة. ولمَّا كان فكرنا القومي مرتبطًا بالماضي وبالمستقبل وبالحاضر، فإن تحديد علاقة الفكر بالتاريخ تتأتى بتحديد علاقته بهذه الأبعاد الثلاثة.
  • (١)
    الرجوع إلى الماضي كهدف لا كوسيلة: في علاقة الفكر بالماضي يغلب علينا الإغراقُ فيه، والتشدُّقُ بمفاخره، والاعتزازُ بآثاره كنوع من التعويض عن النقص لمآسينا الحاضرة، وتخلُّفِنا الحالي، وانهيارِنا الذي بدأ منذ ألف عام تقريبًا بعد هجوم الغزالي على العلوم العقلية وسيادة الأشعرية على فكرنا القومي. وهي ظاهرة مَرَضية؛ لأننا في نفس الوقت نهمل الآثار، ولا نعتني بنشر التراث، وتطغى الحوانيت والمقاهي على المساجد، ونستعمل أسوار القاهرة كدورات للمياه لفكِّ أزمة المحسورين في الطريق!
    نتصور علاقتنا بالماضي على أننا عشنا عصرنا الذهبيَّ في عصر النبوة والخلافة، ثم بدأ الانهيار تدريجيًّا حتى انهيارنا التام الآن، الذي ما زال مستمرًّا كلما بعُدنا عن العصر الذهبي، وكلما أوغلنا في الزمان. فالتاريخ لا يحتوي إلا على الشرور والآثام، وقانون التاريخ هو قانون الانهيار. وكل جيل لاحق أسوأ من الجيل السابق فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ (١٩: ٥٩). وهو تصوُّر يقوم على احتقار الذات، وعلى يأس من الحاضر، وعلى جهل بقدرات الجماعة، وعلى العجز التام، وعلى اليأس المُطلَق. ويستمرُّ الانهيار حتى النهاية حتى يبلغ الانحطاطُ مداه، ولا يبقى مؤمن واحد على ظهر الأرض، فتكون نهاية التاريخ. ثم يحدث البعث الأكبر، والنشور الأعظم، وتقع الواقعة، وتقرع القارعة، وتحدث الطامَّة الكبرى، وكأن التقدم ظلَّ محبوسًا في الزمان حتى انطلق مرةً واحدة في الخلود. ويتمُّ الحسابُ في العالم الآخر على مَن تقدَّم أو تأخَّر في هذا العالم لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٧٤: ٣٧)، في عالَم لم يكُن فيه للتقدم مكان!

    وإذا كان حالنا أفضل، وكنا أميل إلى إحداث نوع من التقدم، ونحاول أن ننقل أنفسنا من مرحلة الانهيار إلى مرحلة الرفع؛ فإننا نتصور التاريخ على أنه تراجع إلى الوراء، فلا يُصلح هذه الأمة إلا ما صلُح به أولها، وبالتالي يصبح مستقبلنا في الماضي، ونتقدم إلى الوراء، ونعكس مسار الزمن، ونقلب حركة التاريخ، فنتقدم وظهورنا إلى الأمام، ونسير ووجوهنا إلى الخلف. وهي ظاهرة مَرَضية أيضًا؛ لأننا نسيء فهم الماضي ولا ندرك وظيفته. يستطيع الماضي أن يكون نموذجًا للتحديث، وليس هدفًا في ذاته، عن طريق اختيار أمثلة ونماذج لحلِّ إشكالات الحاضر، مثل الفقر والبؤس. فالبحث عن نموذج في الماضي ليس ارتكانًا إليه أو تعويضًا نفسيًّا عن مآسي العصر، بل هو بحث عن حلول مُثلى لمشاكل العصر تتفق وأفهامُ الجماهير، وتؤثِّر عليها كدوافع للسلوك، وتسير وراءها كنموذج حي للقيادة والمُثل.

    وفي أحسن الأحوال نتصوَّر التاريخ تصوُّرًا دائريًّا؛ فقد بدأ التاريخ بالتقدم، وقامت الحضارة الإسلامية، وبلغت ذروتها ثم بدأ التاريخ ثانيةً بالانهيار. وهو التصوُّر الحيوي للتاريخ الذي يعطي لكل حضارة دورة، ويكون التاريخ هو مجموع الدورات. وهو تصوُّر ابن خلدون، من البداوة إلى الحضارة، ثم من الحضارة إلى الانهيار. ولذلك قِيلَ في الخبر: «جاء الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء من أمَّتي.»

    وقد نتصوَّر التاريخ أخيرًا على أنه انتقال من الوحدة إلى التشتُّت، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الإيمان إلى الإلحاد، ومن الحقِّ إلى الباطل، وبالتالي نلغي حركة التاريخ، ونسقط الاجتهاد من الحساب طبقًا لحديث الفرقة الناجية المشهور «ستفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة»، ثم تتعيَّن هذه الواحدة في «هي ما عليه أنا وأصحابي». ولمَّا كانت كل فرقة تدَّعي أنها الناجية فقد حُسِم الأمرُ بأن تكون الفرقة الناجية هي التي في السُّلطة والتي يؤيدها الحكم ويعتمد عليها، أيْ بلُغة عصرنا: الحكومة على صواب! وأصبحَت كل حركات المُعارَضة هي الفِرَق الضالة التي في النار، وبالتالي أصبحَت الأشعرية فكر الدولة وأيديولوجيتها السائدة التي تعتمد عليها في تكفير الفِرَق المُعارِضة. وفي حياتنا المعاصرة استمرَّ التكفير حتى الآن، إمَّا من السُّلطة ضدَّ المُعارَضة، أو من المُعارَضة ضدَّ السُّلطة، أو من بعض المُعارَضة ضدَّ البعض الآخر، حتى غابت الوحدة الوطنية من حياتنا، وضاع الحوار، ولم نعد قادرين على سماع الرأي الآخر.

    لقد أدَّى هذا التصور للتاريخ — الرجوع إلى الماضي — إلى العزلة في الماضي والنرجسية الحضارية والانقطاع عن الحاضر وغياب المستقبل. وهو ما عُرِف في فكرنا باسم التصور السلفي للتاريخ. وهو في الحقيقة تصوُّر الجماهير الغافلة، وقادتها المناورة التي تهدف إلى تبرير السُّلطة القائمة التي يُهمُّها إرجاعُ هذه الجماهير إلى ماضيها؛ تعميةً لها عن حاضرها، وسدًّا لها عن مستقبلها.

  • (٢)
    السبق نحو المستقبل دون الإعداد له: ثم يحدث ردُّ فعل في فكرنا القومي على التصور السلفي للتاريخ، فنترك الماضي إلى نقيضه، وهو المستقبل، ونعيش فيه ونرنو إليه، ونستبق الأحداث، فالسابقون السابقون، ونقطع الصلة كليةً بيننا وبين الماضي حتى نطلق عقال أنفسنا، ونُحرِّر عقولنا من أغلاله. فأصبحنا طوباويين، نعيش في مُدن فاضلة، مُدن الاشتراكية والمجتمعات اللاطبقية التي يتحرَّر فيها الإنسان من كل مظاهر الاستغلال والعبودية. ولمَّا كان الأمل في المستقبل والثقة فيه دافعًا للحركة؛ فقد تنمَّرَت السُّلطات القائمة لكل محاولة للتحقيق الفعلي لهذا التصور للتاريخ، فاضطهدَت أنصاره أو حاولت استيعابهم وشراء ضمائرهم، مرةً بالترهيب وأخرى بالترغيب، خاصةً وأن هذا الحلَّ الطوباوي لم يكُن يتعدَّى دوائر المثقفين التي كان يسهُل إغراؤها ثم شراؤها أو ضربُها. فإذا كانت الجماهير في التصور السلفي للتاريخ ترجع بوجدانها إلى الماضي تعويضًا عن المآسي الحاضرة، فإن الصفوة، في التصور المستقبلي للتاريخ، ترنو بوجدانها إلى المستقبل؛ أملًا في تحريك الحاضر وتجاوز مآسيه. وما أسهل اتِّهام السُّلطة لأصحاب الحلم الطوباوي بالعمالة الفكرية للمذاهب السياسية الغربية أو الشرقية، أو بالعمالة الفعلية للدول الأجنبية التي تبنَّت هذه المذاهب السياسية كنُظم اجتماعية لها، بل وعمالة تصل إلى حدِّ الخيانة.

    فإذا ما حاول أحدٌ تحقيقَ هذا الحلم الطوباوي، فإنه يبدأ بنشره في أجهزة الإعلام لتقوية الوعي الاجتماعي بين الطبقات، ولإحداث تنوير على النمط الغربي، أيْ إحداث ثورة في الأذهان، أو الانتقال إلى العمل السِّري وتكوين خلايا حزبية تعمل على تغيير الوضع القائم، وهو التحديث على النمط الآسيوي، أيْ قيادة ثورة فعلية للفلاحين أو العمال؛ إذا ما حاول أحدٌ ذلك فإنه سرعان ما تضبطه السُّلطة القائمة وتزجُّ بأنصاره في السجن.

    يغفل هذا التصور، إذَن، التاريخ باعتباره مراحلَ انتقالية، ويعيش في مرحلة لاحقة، سابقًا الزمن، وهو يظنُّ أنه يعمل في مرحلة حاضرة، وهو في الحقيقة خارجها، كما يغفل دَور الأجيال، وتحديد طبيعة المرحلة التاريخية التي تعيشها المجتمعات النامية، وهو الانتقال من التخلف إلى التقدم، ومن الأسطورة إلى الواقع، ومن الخرافة إلى العلم، ومن الإشراق إلى العقل، ومن الغيب إلى الشهادة، ومن الله إلى الإنسان، ومن الجماعة إلى الفرد، ومن القَدَرية إلى الحرية، ومن الوصاية إلى المسئولية. ولا غرو أن يكون هذا التصور هو تصوُّر الصفوة المثقفة التي تنحو بوجدانها نحو عالَم أفضل، تصوُّر الأنبياء والقادة، تصوُّر المخلصين الدينيين ودُعاة التغيير الاجتماعي المشياني Messianic.
  • (٣)
    تثبيت الحاضر لا تحريكه: وقد ينشأ ردُّ فعل ثالث على التصور السلفي للتاريخ، وعلى التصور المستقبلي له؛ وذلك بالتوجه إلى الحاضر والانكباب عليه ومحاولة تنظيره تنظيرًا مباشرًا والتعبير عن مطالبه، والإحساس بمقتضياته، حتى ولو كان في صورة هوجاء عشوائية، انتقائية، جزئية، عملية، تجريبية. فإذا كانت مطالب العصر الرئيسية هي الحرية والاشتراكية والوحدة، فإن هذه المطالب تكون مقطوعةَ الصلة بالماضي إلا في الجوانب المماثلة لمتطلبات الحاضر كنوع من التقريظ والفخر، أو للتعمية على نقائص العصر، أو لعزل الاتجاهات الجذرية فيه. كما تكون مقطوعةَ الصلة بالمستقبل إلا بقدْر استعمال أنصاره على تحقيق مطالب العصر وتبرير قرارات السُّلطة. ولكنْ يظلُّ الحاضر مقطوعَ الصلة بالماضي والمستقبل، وكأن التاريخ كله هو الثورة العربية المعاصرة التي تجبُّ ما قبلها وما بعدها، وكأن الحاضر ليس تراكمًا للماضي ولحظةً من لحظات تطوُّر التاريخ نحو المستقبل، فالماضي هو مستقبل الحاضر، والحاضر هو ماضي المستقبل.

    إن الاقتصار على اللحظة الحاضرة إغفال لحركة التاريخ ولقوانين التطور، كما أنه مقطوع الصلة بالنظرة المستقبلية. ولا عجب أن يصبح هذا التصور للتاريخ تصوُّر الطبقة المتوسطة التي تريد الإبقاء على الوضع القائم، واعتبار الدنيا نهايةَ المطاف، والحاضر غايةَ المسعى، والمكسب الحالي الغِنى الدائم. يظلُّ هذا التصور هشًّا فارغًا أمام الحاضر الذي يُحرِّكه الماضي ويدفعه نحو المستقبل فيثور الحاضر مُطالبًا بتصوُّر آخر أكثر شمولًا وحسمًا، أو أمام نظرة تاريخية بعيدة المدى أعمق في التاريخ وأطول في العمر وأرسخ في الوجدان. ولمَّا كان الإنسان المعاصر فكرًا، فإن هذا التصور للحاضر مقطوع الصلة بالفكر؛ إذ إنه يتَّهم التصوُّرَين الآخرَين، السلفي والمستقبلي، بالأيديولوجية، أي المذهب المُسبق يمينًا أو يسارًا، وهو يتجاوز اليمين الرجعي واليسار المغامر، ولا تُغني الرغبة في التعمير عن التصورات وعن البُعد الأيديولوجي للإنسان.

    إن التعامل المباشر مع الحاضر لا يعني قِصَر النظر، فالتاريخ يُحرِّك الأحداث، والحاضر ليس نقطةً ثابتةً ساكنةً يمكن تغليفُها وتوهُّمُ اتِّقاء شرِّها. الحاضر ليس إلا السطح الخارجي لتيَّار الزمان الجارف، والشكل الظاهر لحركة التاريخ. وقد كانت الحركات السياسية الجذرية، أولًا وفي بداياتها، نظراتٍ شاملةً في التاريخ. وقد يرجع تعثُّر ثوراتنا العربية المعاصرة إلى غياب هذا التصور الشامل للتاريخ.

خاتمة: إن هذه المخاطر جزء من حركة التاريخ، وظواهر مصاحبة لمرحلة التحديث التي نمرُّ بها، ولا يُهمُّ إن كانت مخاطرَ حقيقيةً في صلب فكرنا القومي أو ظواهر وقتية في فكرنا الإعلامي، ولكن الذي يُهمُّ هو وجودها كظواهر مؤثِّرة في حياتنا يعيها رجل الشارع كما يعيها المُثقف الطاهر.

إن هذه المخاطر لا نقضي عليها بقرار، ولا ندرؤها في يوم وليلة، ولكن موقفنا الحضاري يكشف عنها، وتكون مواطن الحركة ومكمن التغيير ومناطق المعالجة، وتكون مهمَّة مُثقفينا الوطنيين الذين يهدفون إلى إقامة ثقافة وطنية، ومُفكرينا السياسيين الذين يبحثون عن أيديولوجية عربية؛ هي التركيز على هذه المخاطر، والتنقيب عن الظواهر التي تكمن وراءها، وتحويلها من ظواهر مَرَضية إلى ظواهر صحِّيَّة، فالتعرُّف على الداء، ثم تشخيصُه، هو المُقدِّمة الضرورية لسلامة فكرنا القومي.

١  كُتِبَ النصف الأول من هذا المقال في ١٩٧٤م، في غمرة الفرح والنشوة برجوع صديقنا د. أنور عبد الملك، بعد غربة دامت خمسة عشر عامًا في فرنسا، إلى أرض الوطن، وعودة مصر إلى نفسها بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م، ورغبته في تأسيس مجلة «النهضة» للحوار بين المدارس الفكرية المختلفة وتأصيل الروح القومية. ولكنْ سرعان ما هبط الحماس لديَّ بعد تردُّد صديقنا خشية «الوفاق»، فلم يكتمل المقال. وكُتب النصف الثاني بعد ثلاث سنوات تقريبًا في ١٩٧٧م، بعد القضاء على المجالات الثقافية في مصر؛ «الكاتب» و«الفكر المعاصر» و«الطليعة» و«روزا اليوسف»، وبزوغ أمل جديد في المجلات العربية وانتقال الثقافة إليها، وفي مُقدِّمتها «مواقف» و«دراسات عربية» و«آفاق عربية» و«قضايا عربية». فالنية ما زالت موجودة والأمل ما زال يراودنا. وقد أعطينا خلاصة هذا المقال في ندوة صديقنا د. عبد المنعم تليمة في الخريف الماضي. قضايا عربية، أبريل، ١٩٧٨م.
٢  نخص بالذكر: جمال حمدان، لويس عوض، حسين فوزي، نعمات أحمد فؤاد، أنور عبد الملك، وليم سليمان … وكثيرين غيرهم.
٣  وقد بدأ النقاش في حياتنا المعاصرة حول «اليسار المصري والتجربة الناصرية» بالقضية التي فجَّرها د. فؤاد زكريا عن تبرير اليسار المصري لكل التجربة الناصرية دون أن يأخذ موقفًا نقديًّا منها. وبالرغم من نفاذ الآراء ووضوحها وتعبيرها عمَّا يجيش في صدور قواعد اليسار العريضة فقد ضاع النقاش في متاهة الأسماء والأشخاص، في حين أن موضوع «تبرير السُّلطة» موضوع مستقل لا شأن له بالأشخاص، وأن تشخيص الفكر علامة دالة على موضوع أعظم وأخطر، وهي سمات فكرنا القومي الذي يندُّ عن كل مرحلة سياسية نمرُّ بها، والتي تعمل من خلال الأفراد عن وعي بها أو دون وعي، والتي أثَّرت في ماضينا وما زالت تعمل في حاضرنا، والتي تُخيِّم بشبحها على مستقبلنا. إن موضوع النقاش حالة خاصة لموضوع أعمَّ؛ هو سمات فكرنا القومي في لحظتنا التاريخية الراهنة وفي أحد جوانبه، وهو علاقة الفكر بالسُّلطة، فلا تتغير السمات بوفاة شخص وخلافة آخر، بل تمتدُّ خلال تجربة الثورة على مدى رُبع قرن، ولم تكُن موجودة قبلها، أو على الأقلِّ لم تكُن موجودةً بهذا الشكل الفاضح.
٤  مثلًا ديوان شعر «أحبُّ أن أقول لا»، وجبهة الرفض من المقاومة الفلسطينية.
٥  انظر مقالنا: التفكير الديني وازدواجية الشخصية، قضايا معاصرة، ص١١١–١٢٧.
٦  زكي نجيب محمود، تجديد العقل العربي، ص٢٥٧–٢٨٧.
٧  انظر رسالتنا: Les Méthodes d’Exégès, pp. CXCLL Vérité descendante et Réalité ascendante
وأيضًا: «أيهما أسبق: نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟» قضايا معاصرة، ج١، ص١٦٩–١٧٢. عَود إلى المنبع أم عَود إلى الطبيعة؟ نفس المصدر، ص١٧٣–١٧٦.
٨  انظر مقالنا: «جارودي في مصر»، قضايا معاصرة، ج١، ص١٤٧–١٦٤. وأيضًا: «الأيديولوجية والدين»، نفس المصدر، ص١٢٨–١٤٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤