أنطون يزبك والميلودراما الاجتماعية

قلنا فيما سبق إن المسرحية الغنائية، ثم المسرحية الغنائية ثم المسرحية التاريخية، وأخيرًا الكوميديا الاجتماعية كانت أسبق فنون المسرح إلى الظهور، والنجاح في أدبنا العربي المعاصر، وفسَّرنا العوامل النفسية والتاريخية التي ساعدت على ازدهار هذه الفنون، بينما ظل فن التراجيديا وفن الدراما عاجزيَن عن اجتذاب جمهور كانت تثقله الأحزان في واقع حياته، بحيث لا يمكن أن يسعى إلى مزيد من الأحزان في المسرح.

ومع ذلك فقد استطاع المسرح أن يجذب إليه هذا الجمهور المثقل بالأحزان بواسطة فن جديد؛ إذ ازدهر بنوع خاص في أعقاب الحرب العالمية الأولى جنبًا إلى جنب مع آخَر مسرف في الهزل، والفن الأول هو ما يُعرف باسم «الميلودراما» أي المسرحية العنيفة، بل الصارخة العنف، وإذا كان الأستاذ جورج أبيض يُعتبر من رواد هذا الفن العنيف، فإن الأستاذ يوسف وهبي صاحب فرقة ومسرح رمسيس، يُعتبر صاحب هذه المدرسة في مصر في تلك الفترة، بينما يُعتبر نجيب الريحاني وعلي الكسار، صاحبي مدرسة المسرح الهزلي في نفس الفترة، وهي مدرسة كان معظم ما قدمته للجمهور المصري من النوع المعروف باسم «الفارس» أي «المهزلة»، وهو نوع يستهدف أولًا وقبل كل شيء الإضحاك كغاية في ذاته؛ ولذلك يغلب عليه أن يكون الإضحاك وليد الحركة أو النكتة اللفظية بل، وأحيانًا كثيرة مجرد الخلط بين لغات ولهجات عربية متباينة، حتى رأينا الكثير من هذه المسرحيات «الفرانكو آراب» أي التي يمزج الحوار فيها بين ألفاظ عامية مصرية وأخرى شامية، ثم عدد من الألفاظ والعبارات الفرنسية التي كانت منتشرة عندئذٍ بين جمهور القاهرة الخليط، ثم بين أفراد الطبقة الأرستقراطية في المجتمع المصري، وهي الطبقة التي كانت تُحس بشيء من الامتياز لتشدقها ببعض الجمل الفرنسية الدارجة المقحَمة في غير مبرر، وذلك كنتيجة لذلك الامتياز الدولي الذي كانت تتمتع به اللغة الفرنسية بين طبقات الأرستقراطية والديبلوماسية في كثير من بلاد العالم منذ العصر الزاهر لفرنسا.

ولما كانت الظروف التاريخية التي دفعت إلى اتجاه الأدب نحو النقد الاجتماعي لا تزال قائمة، بل لعلها قد اشتدت بعد الحرب العالمية الأولى نتيجة للاصطدام السياسي الذي اشتعل على نحو عنيف بين الوطنية المصرية والاستعمار الإنجليزي، فضلًا عن الصراع الذي كان لا يزال مستمرًّا بين الحضارة الغربية الوافدة والحضارة الشرقية المتوارثة، فقد كان من الطبيعي إذا تغيرت الصورة الأدبية ألا يتغير المضمون الاجتماعي، بل وأن يزداد هذا المضمون إصرارًا؛ فبدلًا من استخدام الكوميديا في النقد الاجتماعي، نرى المسرح يستخدم الميلودراما؛ أي الدراما العنيفة لنفس الغرض، وربما كان أنطون يزبك المحامي أقوى كُتَّاب هذا الفن في تلك الفترة، وقد أخذ اسمه يلمع منذ سنة ١٩٢٤ عندما قدَّمت له فرقة جورج أبيض بدار الأوبرا المصرية مسرحية «عاصفة من بيت»، ثم ازداد اسمه لمعانًا عندما قدَّمت له فرقة رمسيس في يوم الإثنين ١٩ أكتوبر سنة ١٩٢٥ مسرحيته القوية الناجحة «الذبائح» التي يكاد يُجمع نقاد العصر، على أن الأستاذ يوسف وهبي وفرقته قد بلغوا بها ذروة النجاح؛ حيث خرج الجمهور من مشاهدتها مقرح الجفون على حد قول الأديب الناقد محمد عبد المجيد في جريدة «كوكب الشرق»:

في مساء الإثنين ١٩ أكتوبر سنة ١٩٢٥ الساعة التاسعة تمامًا رُفع الستار … وبعد ثلاث ساعات أُسدل بين دموع منهمرة، وأنات متصدعة، وتأوهات متوجعة، ونفوس تكاد تشتعل أسًى وقلوب توشك أن تحترق ألمًا، ثم فجأة انهمر سيل التصفيق دقائق عدة، وخرج الناس وهم سكوت يمسحون دموعهم حتى حين.

وأما عن مضمون مسرحية «عاصفة في بيت» وتفسيره التاريخي والملابسات التي أحاطت بالمسرحية، فنستطيع أن نتبين كل ذلك من مقال نشره عندئذٍ الأستاذ محمود كامل المحامي بجريدة السياسة حيث قال: «عندما خطرت لنفر من كتابنا فكرة التأليف المسرحي منذ أعوام عمدوا إلى بحث بعض أمراضنا الاجتماعية، وحاولوا علاجها بوضع كوميديات قصرت من تحقيق ذلك الغرض، ومع أن جهادهم كان جليلًا جديرًا بالتشجيع إلا أن القصة المصرية ذات الفكرة لم تجد من العامة ما تستحقه؛ إذ إن ذلك النوع الهادئ ليس محبوبًا إلا في مصر فقط، بل في كل بلد تتفاوت مدارك الناس فيه، والميلودراما العنيفة هي القصة المثلى في نظر العامة. فطن أنطون يزبك إلى هذه الحقيقة وعرف أن التأليف المسرحي في مصر لا يمكن أن يصادف نجاحًا إلا إذا تقبله الشعب، فوضع قصته «عاصفة في بيت» ومزج فيها كل ما عرفه العنف المسرحي، ثم أخرجها جورج أبيض على مسرح الأوبرا الملكية في العام الماضي، فتحقق غرض مؤلفها وصادفت نجاحًا، لا أغالي إذا كنت قلت إنه كان باهرًا، ولكن «عاصفة من بيت» كانت خالية من أية فكرة أو مبدأ تدافع عنه أو تدعو إليه، فتطرق إلى ضمير مؤلفنا شيء من التأنيب والتبكيت، ونظرة واحدة إلى تطورنا الاجتماعي تكفي لتحريك أشد الضمائر جبروتًا وقسوة، ففكر في أن يسمو قليلًا ليقترب من الغرض الذي وُجد المسرح من أجله، واعتزم أن يتخذ الزواج بالأجنبيات — إلى حدٍ ما — موضوعًا لقصته الثانية، فكانت «الذبائح» هي تلك القصة.»

ونحن اليوم نشكر لأديب مثقف مثل الأستاذ محمود كامل تسجيله للحقائق، التي عاصرها عندما ينبئنا أن الجمهور كان يُعرض عن المسرحيات الهادئة، أو أن الحالة الاجتماعية المتدهورة كانت تستثير ضمائر الكُتَّاب، لكي يجعلوا لأدبهم هدفًا بدلًا من أن يقتصروا على الفن للفن، ولكننا قد نخالفه في تفسير هذه الظواهر؛ فهناك شك كبير في أن جمهور البلاد الأوروبية الأسعد منا حالًا وأكثر اطمئنانًا كان يفضل الميلودراما على الدراما العادية الهادئة، وأكبر الظن أن هذه الحالة كانت قاصرة عندئذٍ على جمهورنا الحزين المثقل بالهموم، وذلك بدليل ازدهار فن المهازل أو «الفارس» في نفس الفترة بين نفس الجمهور الحزين الذي كان يتقاطر على المسارح التي تضحكه فحسب، دون أن تثير في نفسه عِبرة أو تأملًا في عيب أخلاقي عام أو خاص أو انحراف عن أصول وأوضاع حيوية لازمة لاستقامة الحياة.

ومسرحية «الذبائح» التي نقف عندها قليلًا كأنموذج ناجح لهذا الفن المسرحي العنيف، تعالج المشاكل الاجتماعية المثيرة التي تنجم عن الزواج بالأجنبيات؛ فاللواء همام باشا يتزوج بفتاة مصرية كريمة من إحدى الأسر الطيبة بالمنصورة وهي أمينة بنت التاجر مصطفى الصياد، ولكنه لا يكاد يمضي على زواجه بها عامان، حتى يتعرف إلى فتاة أجنبية اسمها «نورسكا» فيتزوجها ويطلِّق أمينة، التي تعود حزينة مكسورة النفس إلى بيت أهلها بالمنصورة، ويخسر أبوها تجارة القطن على نحوٍ ما حدث لكثير من التجار عندئذٍ، وتتدهور حالة الأسرة تدهورًا شديدًا، مما يضطر أمينة إلى أن تعمل ممرضة لكي تكسب قوتها.

ولم يجدْ همام باشا عند نورسكا السعادة التي كان يحلم بها؛ إذ لم يلبث الشقاق العنيف أن نجم بينهما لكثرة الاصطدام بينه وبين نورسكا، التي لا تريد أن تتنازل عن شيء من حريتها، بل وتسعى دائمًا إلى أن تفرض إرادتها على الباشا؛ لأنها لا تستطيع أن تستسيغ تقاليدنا الشرقية، فضلًا عما تستشعره من كبرياء كأوروبية إزاء زوجها الشرقي، وبالرغم من أنها أنجبت من همام باشا غلامًا أصبح شابًّا في الثامنة عشرة من عمره، إلا أن الشقاق بينهما لم يزد إلا حدة.

من هذه النقطة تبتدئ المسرحية، وهي في ذلك تكاد تكون مسرحية كلاسيكية خالصة، بل من النوع الممتاز الذي نعرفه عند كبار الكلاسيكيين من أمثال: راسين وكورني الفرنسيين. فالمسرحية الكلاسيكية يُرفع عنها الستار وقد تجمعت جميع عناصر المأساة، ثم نكتشف شيئًا فشيئًا كيف تجمعت تلك المأساة، ومن خلال العرض وفي نفس الوقت تأخذ تلك العناصر في التفاعل والتفاقم، حتى تنتهي إلى نتائجها المرسومة في تسلسل محكم، بحيث يرتبط كل ما حدث بما سبقه ويتولد عنه، في غير تطرُّق إلى أحداث دخيلة، تُخل بوحدة الموضوع أو تُخل بوحدَتي الزمان المكان، فمأساة همام باشا التي بلغت — كما سنرى — حد الفاجعة؛ أي «الميلودرام» ترجع أصولها إلى عشرين عامًا مضت، ومع ذلك لا ترتفع الستار عن مسرحية أنطون يزبك، إلا وقد أصاب النكد المتلاحق همام باشا بالمرض، فقبع في بيته، وزوجته الإفرنجية «نورسكا» لاهية عنه مهملة لأمره، غير معنية إلا بكلبها «فيدور» وأما الذي يقوم على رعاية الباشا المريض، فهي ممرضة منتقبة تُسمى «حفيظة» لا يلبث الباشا أن يكتشف في حوار سريع حركي مؤثر، أنها زوجته الأولى «أمينة» التي غدر بها، فلقي من «الخوجاية» التي أغوته أسوأ الجزاء، وعندئذٍ يُسرع إلى الزواج منها من جديد ويُعد لها منزلًا خاصًّا، ولما كان ابنه عثمان قد أصبح شابًّا كبيرًا، فقد رأى الباشا وأخوه محمد بك أن ينقلا مع أمينة ابنة أختهما اليتيمة «ليلى» التي كانت تقيم مع الباشا وابنه وزوجته الإفرنجية، ثم أصبحت اليوم فتاة كبيرة، رأيَا أنه من الواجب ألا تستمر في الإقامة مع الشاب عثمان في منزل واحد. وبذلك فقد عثمان في «ليلى» واحة عاطفية كان يجد في ظلها شيئًا من الترويح عن الجحيم المستمر بين أبيه وأمه.

وانقطع الباشا عن نورسكا أربعة أشهر، استجم خلالها من مرضه وعذابه معها، ولكنها لم تلبث أن لاحقته في منزل أمينة؛ حيث كان بينها وبينه حوار درامي غزير الحركة والمعاني، انتهى بطلاقه لها طلاقًا بائنًا، واسترد الباشا ابنه المعذب إلى جواره في بيت أمينة، التي لم يلقَ منها إلا كل عطف ورعاية نسبية، بينما لقي كل العطف، بل والحب من ليلى، مما هيأ له جو الجد في الدراسة حتى نجح في امتحان البكالوريا، واكتسب عطفنا الحار، نحن قراء المسرحية أو مشاهديها، ولكن الباشا وأخاه محمد بك عادا إلى الخوف من حياة «عثمان» إلى جواز «ليلى» في نفس المنزل فقررا إرسالها إلى أختهما «عائشة» التي تُقيم في طنطا، وكان ذلك بعد أن توثقت عُرى الحب بين الشاب والفتاة، بعد أن كان الشاب في أول الأمر يجهل عاطفتها نحوه، وكان هذا القرار بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقولون؛ فعثمان كانت كاسه قد امتلأت بالهموم والأحزان من حياته الشقية بين والدين عاشا طوال زواجهما؛ أي طوال عمره في خلاف حاد مستمر نغَّص عليه حياته، بحيث عندما اتخذ هذا القرار الذي حرمه من آخر واحة عاطفية، وهي «ليلى» لم يرَ أمامه مخرجًا غير الانتحار الذي أحزننا؛ لأن عثمان قد استحوذ على مشاعرنا، وكان انتحاره أول الفواجع التي أخذت تتتابع في سرعة خاطفة في المشاهد الأخيرة من المسرحية؛ فالباشا وأخوه يكتشفان أن نورسكا الغادرة قد سرقت من مكتب الباشا وثائق هامة، وخاصة بتشكيلٍ سرىٍّ في الجيش، ودفعت بهذه الوثائق إلى أخيها الذي يصدر صحيفة بلغة أجنبية في الإسكندرية، مما نغَّص ضمير الباشا وأخاه أعنف تنغيص، وأحرجهما أمام زملائهما الضحايا أكبر الحرج، كما أصيبت «ليلى» بسبب انتحار عثمان حبيبها بانهيارٍ عصبيٍّ شديد يلوح أنه سينال من قواها العقلية مما يُحزننا أيضًا، وأخيرًا تعود نورسكا إلى الظهور على المسرح ظهورًا خاطفًا، تُقتل فيه بطلقة رصاص همام باشا، بعد أن كان هو نفسه قد قرر الانتحار أيضًا وهمَّ بتنفيذه وكتب وصيته الأخيرة. وعلى جثة همام باشا تُسدل الستار.

هذه هي فاجعة «الذبائح» التي تنتقد عيبًا اجتماعيًّا في صورة درامية عنيفة، قوية البناء، محكمة التأليف، بدلًا من كوميديا العرض المهملة التي عرضنا لها في مسرحية «مصر الجديدة ومصر القديمة» لفرح أنطون.

وتناسق مسرحية «الذباح» وحبكة وحدتها لا تقتصر على إحكام بنائها الفني فحسب، بل تمتد أيضًا إلى وحدة التعبير اللغوي؛ فأنطون يزبك لم يقع فيما وقع فيه فرح أنطون من خطأ في التعبير اللغوي عندما ظن أن طبيعة التعبير اللغوي تقتضي اختلاف هذا التعبير في المسرحية الواحدة باختلاف الشخصيات، على نحوٍ ما فعل في «مصر الجديدة ومصر القديمة»؛ حيث صاغ الحوار فيها بثلاث لغات هي: الفصحى حينًا والعامية حينًا آخر، ولغة وسطًا سمَّاها «الفصحى المخففة» أو العامية «المشرفة» حينًا ثالثًا. وبالرغم من أن مسرحية «الذبائح» فيها هي الأخرى شخصية أجنبية هي «نورسكا» مثل شخصية «خريستو» في مسرحية «مصر الجديدة ومصر القديمة»، فإن أنطون يزبك لم يرَ بحق ضيرًا في أن ينطقها بنفس اللغة التي اختارها لكتابة مسرحيته كلها؛ لأن العبرة في التعبير المسرحي ليست بلسان المقال بل بلسان الحال.

واللغة التي كتب بها أنطون يزبك لغة يمكن أن نسميها باللغة العامية «الجزلة»، فلأول مرة نطالع مسرحية تُكتب بلغة عامية رفيعة، تستطيع أن تعبِّر عن أعمق المشاعر، وأدق المعاني، التي يغلب أن تضيق بها العامية الدارجة، بحكم أنها لا تزال مقصورة على حياة الأُميين، الذين لا يستعملونها إلا في التعبير عن حاجات حياتهم الضيقة في تنوع المشاعر ودقة التمييز بينها، فضلًا عن عمق الخاطر أو أصالته.

وإنك لتطالع حوار أنطون يزبك في هذه المسرحية فتجده حوارًا دقيقًا عميقًا مركزًا، غنيًّا بالحركة الدرامية، فضلًا عن استخدامه لكافة إمكانيات اللغة في التصوير البياني، بل إن الصور والتشبيهات لتتسلسل وتتوالد في بعض مواضع الحوار على نحوٍ ما كنا نحسب أن اللغة العامية تستطيعه؛ فهو مثلًا يعبر عن استحالة التمازج بين الروح الشرقية والروح الغربية الإفرنجية، بقوله على لسان همام باشا لأخيه محمد بك ص١٦ عن نورسكا «لكن لو جبتها المره دي هي وجدودها وجبتنا إحنا وجدودنا، وجردت لحمنا ولحمهم، وعجنت اللحم دا في بعضه، ودقيته، دقيته، دقيته لغاية أما تنعَّمه وتخليه زي المرهم وحطيته في حلة وحدة، وعملت منه مرقة، تطلع مرقتهم لوحديها، ومرقتنا لوحديها» مما يذكرنا بقول الشاعر العربي القديم في هجاء أحد أعدائه:

أحارثُ إنا لو تُساط دماؤنا
تَزايلن حتى ما يمس دمٌ دما

أو قول همام في التعبير عن الآثار المدمرة لكلمة السوء ص٦٨: «دي الكلمة الظالمة دي ما هيَّاش كلمة، دي شرارة، لما الفك دا يطبق على الفك دا، تخرج الكلمة الظالمة من بين الأسنان، زي ما الشرارة تخرج من بين حجرين، وتخش في بيت اللي قالها وتكِن، وتلْبَد فيه وتكِن، وتأكل فيه على مهل وتكِن، وتحرق فيه شوية وتكِن، لغاية أما ييجي يوم يخوَّخ، يسجد لوحده، ولهاليبه تحصَّل الجو.»

بل لقد يبلغ الحوار ذروة القوة عند أنطون يزبك، رغم تعبيره بالعامية في مثل هذه الفقرة التي يُجري فيها الحوار بين «أمينة» الشرقية «ونورسكا» الإفرنجية ص٣٩.

أمينة : لا، بس إحنا بنقول كل شيء قِسَم، وبنصبر، حانعمل إيه؟ قسمتنا كده.
نورسكا : أهي الكلمة اللي طمَّعت الرجالة فينا. قِسمتنا! ولما نقول قدامهم دي قِسمتنا يقوموا يظنوا إن ظلمهم فينا عدل ما دام الظلم دا مكتوب علينا، لا يا هانم مش قِسمتنا، الظلم ما هواش مكتوب على حد أبدًا، الظالم لما بيظلم، ما بيطعش أمر حد في ظلمه، ما حدش قال له اظلم، لا ربنا ولا الناس، لما همام ظلمني كان حر، ولما ظلمك كان حر، والراجل الحر مسئول عن عمله، الراجل من دول لما بيدوس كلب في الشارع، بيقوموا عليه أصحابه ويدفَّعوه ثمنه، ولا حدش بيقول الكلب دا قِسمته يموت منداس. ولما الراجل دا اللي داس الكلب ودفع ديته، يدوس مراته اللي ادته شبابها وجسمها، لما يرميها الأرض ويتكي برجليه على صدرها لغاية لما يتفِّفها قلبها من بقها، حضرتك عاوزة إن الست دي لما ترجع تقف على رجليها تبص له وتقوله، قسمتي؟ دوس كمان؟ أبدًا يا هانم، إحنا ما نقبلش كده أبدًا.

وبفضل هذه القوة والجزالة في العامية استطاع أنطون يزبك أن يُضمِّن حواره العامي عددًا من المعاني، التي جرت بها أقلام الشعراء والمفكرين العالميين؛ فقول «ليلى» ص٣٥: «مفيش حاجة تربِّي الإنسان زي الحزن يا عثمان» يذكِّرنا فورًا بقول الشاعر الرومانسي الكبير «ألفريد دي موسيه» في إحدى «لياليه»: «المرء صبي والألم معلمه.» وقول نورسكا ص٤٤ لهمام: السكوت شيء والرضا شيء يا همام، إنت لقيت وحدة ساكتة ظنيت إنك استعبدت عقلها مع جسمها، لكن لأ، الحقيقة إن عقلها بيتنمرد عليك كل ساعة» يذكرنا هو الآخر بقول فقهاء الشريعة: «لا يُعتبر لساكت قول.»، بل إن هذه الجزالة قد مكَّنت أنطون يزبك من أن يُضمِّن حواره العامي أحيانًا بعض الآيات القرآنية، دون أن يبدو هذا التضمين نابيًا في السياق أو مفتعلًا مقحمًا، مثل قول همام في الوصية التي تركها لأخيه محمد بك أمين، لكي يعطي نصف ثروته لأمينة والنصف الآخر لليلى ص٧٤: «أوصيك خيرًا بليلى، ليلى حبيبة عثمان فقد أصابها اليتم ثلاثًا، لها نصف مالي، وأنا راحل في يوم هي أحوج الناس فيه إلى والد، فكنه لها يا محمد، أجز وصيتي فيهما، وأكرم مثواهما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.» وكل ذلك فضلًا عن أنه قد استطاع أن يعبر بالعامية عن أدق المعاني الحضرية، مثل وصفه لانهيار الروح المعنوية بقوله ص٦٦ على لسان الدكتور الذي استُدعي لعلاج «ليلى» موجهًا الحديث إلى همام باشا: «لكن أنت كمان يا باشا ما ينفعش الحزن اللي انت فيه، لازم تشد حيلك وتقاوم الانحطاط الأدبي اللي انت فيه، مش عوايدك تبقى كده ما تنساش أنك عيان.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤