مهام الدولة

ننتقل اليوم من مرحلة تاريخية إلى أخرى، من القرون الوسطى إلى الحضارة الحديثة، ويجري انتقالنا بسرعة متزايدة، وتزداد بها الصعوبة في إيجاد الكلمات التي تُعبِّر تعبيرًا صادقًا عن مناحي حياتنا المتجدِّدة. وكلمة مواطن من الكلمات التي اصطُلح عليها من أجل التعبير عن كلمة Citoyen رغم ما بين الكلمتَين العربية والفرنجية من اختلاف في المعنى.
وأمَّا الكلمة الفرنجية فهي مشتقة من cité بمعنى المدينة المنتظمة تنظيمًا سياسيًّا. وعلى هذا فإن كلمة مواطن تعني بالأصل العضو في الهيئة الاجتماعية التي كانت هي الدولة في العهد القديم، وأمَّا الكلمة العربية «المواطن» فتعني معنى الإقامة بالمكان وحسب، وهي مع ذلك تتضمَّن معنى التعاون مع الجوار، واطنه على الأمر: أضمر أن يفعل معه، «المواطن من وطن وهذه من مواطئ الأقدام».
ولمَّا كانت كلمة Cité ترجع بالوضع إلى اللغة اليونانية، فإننا نستهل حديثنا عن المواطن بموجز آراء واضعي الكلمة الذين هم اليونان. في صدد موضوع حديثنا يقول أحد أعلام أتينة «فريقيس»:

«نحن وحدنا لا نُعد الرجل الذي لا يهتم بالصالح العام غير ضار فقط، بل نُعدُّه أيضًا عُضوًا غير نافع. وإذا كان نفر قليل مِنَّا هو المبدع والمنتج، فإننا جميعًا قضاة عقلاء في الأمور السياسية …»

«إن المواطن الأتيني لا تشغله أمور منزله عن الاهتمام بأمور الدولة، حتى أولئك الذين لا يقومون بالأعمال التجارية لديهم قسط لا بأس به من معنى السياسة. إننا قوم سياسيون، لا نُعد الرجل الذي لا يُشارك في ميدان السياسة شخصًا خطرًا على المجتمع فحسب، بل نُعدُّه أيضًا إنسانًا تافهًا في ذلك المجتمع. وكلنا مندمجون في تياراته السياسية. وحتى أولئك الذين تصرفهم مصالحهم عن الاشتغال بها لديهم فكرة واضحة عن سياسة الدولة وإلمام بالأمور السياسية. إن العقبة الكئود التي تعترض سبيلنا ليست هي عدم فهم المشروعات التي نكتسبها من جرَّاء المناقشة، والتي هي عنصر أساسي للعمل. ولدينا قدرة عظيمة على التفكير قبل العمل، ومقدرة هائلة على العمل أيضًا.»

وصف عَلَم آخر من أعلام اليونان «أرسطو» المواطن بما يلي:

«إن المواطن الطيب يجب أن يعرف على السواء أن يُطيع وأن يأمر.»

وإليك ملخَّص رأي «بلوتارك» أحد حكماء اليونان لموضوع بحثنا:

«أن نجعل من المواطنين أحرارًا في تفكيرهم معتمدين على أنفسهم كابحين لجماحها.»

وللعرب الجاهليين رأيهم في العلاقة بين الفرد والجماعة، إلَّا أنهم آثروا رابطة النسب على رابطة الجوار، وذلك ما جعل العلاقة تحمل معنًى أخلاقيًّا (المروءة)، بدلًا ممَّا تحمل معنًى سياسيًّا كما كانت الحالة عند اليونان. وإليك بعضًا ممَّا ورد في هذا الصدد في مُعلَّقة أحد شعراء العهد، طرفة بن العبد:

إذا القوم قالوا: من فتًى؟ خِلت أنني
عُنيت فلم أكسل ولم أتبلَّد

هاكَ وصفًا للصفات التي آثرها الشاعر طرفة:

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه
خَشاش كرأس الحية المتوقد
ولست بحلَّال التلاع مخافةً
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
وإن يلتقِ الحي الجميع تُلاقِني
إلى ذروة البيت الرفيع المصمَّد
والمجد نَنميه ونُتلده
والحمد في الأكفاء ندَّخره
نعفو كما تعفو الجياد على الـ
ـعلَّات، والمخذول لا نذره

وتميُّزًا له عن المتقاعسين عن واجب المروءة يقول لبنت أخيه:

ولا تجعليني كامرئٍ ليس همُّه
كهمي، ولا يغني غنائي ومشهدي
بطيءٍ عن الجُلَّى، سريع إلى الخنى
ذلولٍ بأجماع الرجال مُلهَّد

وهل بقيَ الجاهليون عند حد الإعداد بالتربية للفتوَّة والسيادة؟ أم أنهم تعدَّوا التربية إلى الاصطفاء بالوراثة أيضًا؟ هاكَ قولًا مأثورًا لشاعر آخر من شعراء الجاهليين، السموءل الغسَّاني:

ونحن كماء المزن ما في نصابنا
كهامٌ، ولا فينا يُعد بخيل
إذا سيِّد مِنَّا خلا قام سيِّد
قئول لما قال الكرام فعول
صفونا فلم نكدر وأخلص سرَّنا
إناث أطابت حملنا وفحول

هكذا كان العربي في الجاهلية، يحرص على جعل مقوِّمات الحياة الأخلاقية السياسية سليقةً بالوراثة، فيُوفِّر لأبنائه الجهود المبذولة في اكتساب الفضائل.

وهل اختلف الجاهليون عن اليونان في إعداد الأجيال للذود عن حقيقة الجماعة؟ ألم تكن هنا وهناك الحرية أمنية الناس أجمعين؟ هاكَ أبلغ ما وُصفت به أمنية الإنسان على لسان طرفة:

لعمرك ما أمري عليَّ بغمَّة
نهاري ولا ليلي عليَّ بسرمدِ

يتساءل المرء كيف تحوَّل العرب عمَّا كانوا عليه من سؤدُد إلى ما هم عليه من خضوع للأغيار، تتقاذفهم تيارات السياسة الدولية. هناك بعض من الأمثلة الشائعة عندنا تدل على مدى انحدار مجتمعنا:

«العين لا تُلاطم مخرز»، «الأرض الواطئة تشرب ماءها وماء غيرها»، «من لا تقدر عليه، قبِّل يده وادعُ لها بالكسر»، «من أخذ أمي أدعوه عمي» … إلخ. إليك بعضًا ممَّا سبَّب الانحطاط:

«فماذا ترون في من ليس مُتَّصِفًا بشروط القضاء، أيجب خلعه ومخالفته أم يجب طاعته؟ قلنا الذي نراه ونقطع به أنه يجب خلعه إن قُدر على أن يُستبدل عنه من هو موصوف بجميع الشروط من غير إثارة فتنة وتهيُّج قتال، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحُكم بإمامته» (ابن جماعة الدمشقي، ١٣٣٣).

«وأمَّا الطريق الثالث الذي تنعقد به البيعة القهرية، فهو قهر صاحب الشوكة؛ فإذا خلا الوقت من إمام، فتصدَّى لها من هو من أهلها وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف؛ انعقدت بيعته ولزمت طاعته، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلًا أو فاسقًا. وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة أو الغلبة لواحد، ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده وانعزل الأول وصار الثاني إمامًا، فنحن مع من غلب.»

هكذا تحوَّل العربي من سيِّد إلى متفرِّج على مصيره.

وأمَّا الأسباب العميقة للتحوُّل فهي أن لكل أمة وجهتها في الحياة، الوجهة التي تستوحي منها سُلَّم قيمها. وعلى قدر ما يقوم الزواج على اصطفاء الاستعدادات وفق جدول القيم، وتدعم التربية هذا الاصطفاء، يتم التفاهم والتعاون بين الإخوان، وتشتد عزيمة كلٍّ منهم على العمل. فلمَّا نشر العرب الإسلام حدثت ثلمة في جدول قيمهم، تحوَّلوا عن أسس التربية الجاهلية التي كانت تقوم على مبدأ المروءة، وأهملوا قاعدة اصطفاء الخصال الكريمة وتثبيتها بطريق الزواج. هذا وإن انتشارهم خارج الجزيرة سبب عودة إخوانهم وبني عمومتهم الملقبين بالشعوب السامية إلى حظيرة العروبة، ناقلين معهم إلى مصدر الفيض الانحرافات التي حصلت لهم من جرَّاء خضوعهم لحكم الأغيار. وكان التحوُّل في أداة بياننا الفصحى إلى لهجات عامية خير دليل على ما اعترى مقوِّمات حياتنا من انحراف. وعلاوة على ذلك فقد وقعت المصاهرة بطريق الأخوة في الدين بيننا وبين الأغيار، فدبَّ الخلل في صميم كِياننا. وما إن شاعت الهجانة وكثر الدخلاء حتى أصبح الجو غريبًا عن الطبع العربي، إذ ذاك أوى العرب إلى الريف منزوين عن مجرى التاريخ.

أمَّا اليوم وقد استيقظنا بعد سبات مديد، يقظة أهل الكهف، فكيف نُعد العدة لمجابهة العالم؟ كلنا نُدرك حدسًا وجوب إقامة دولة عربية تُعيد إلينا المجد الغابر، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ كان الناس في عهد الانحطاط يُمَنَّون أنفسهم على غرار الأجداد لتحقيق دولة الإسلام في العالم، وظل الجهاد خلال تلك الفترة شعارهم، ولكن إهمالهم مقوِّمات الحياة جعلت ديار المسلمين مرتعًا لنفوذ الأجانب. وبماذا نختلف اليوم عن عهد الانحطاط؟ نُمَنِّي النفس بالإمبراطورية العربية، ونُهمل الوسائل المؤدية إلى تحقيقها. نسمع الحديث عن الأماني ونُعاني العثرات في سبيلها. ولكي يكون الناس على مقياس الغاية نُقدِّم موجز رأينا في كيفية إعدادهم كمواطنين.

تقوم فضيلة المواطن على أمرين معًا؛ بصيرة نيِّرة وعزيمة صادقة، والبصيرة تعني رؤية المفهومات في الذهن رؤيةً واضحة، كما يعني البصر وهو صورة البصيرة الحسية، رؤية الأشياء واضحةً في الطبيعة. وها نحن نعود مرةً أخرى إلى تمييز المفهومات المتعلِّقة بالشئون الاجتماعية السياسية، كالعدالة والرحمة مثلًا من المفهومات المتعلِّقة بالأشياء، كالسرير والموقد والبيت. فالمفهومات التي تتعلَّق بالشئون الإنسانية ككل الأحياء تنزع إلى استكمالها شروط ماهيتها، وتبدو نزعتها هذه واجبًا منبعثًا من صميم الوجدان. وفضلًا عن ذلك فإن الحقيقة الإنسانية تُزكِّي الإرادة بهالة رفعتها، فتُقوِّي بزكوتها العزم على التغلُّب على عنف الميول والأهواء. وإذن فوضوح البصيرة وبزوغ الحقائق الإنسانية من علٍ يقيان الذهن من التردُّد بين الحق والمصلحة الشخصية، ويشدَّان أزر الإرادة في تبنيها الخير والثبات عليه.

وكيف تتحوَّل الحقيقة الإنسانية من حدس مبهم إلى بصيرة نيِّرة؟ إن الحياة نفسها تُقدِّم لنا أمثولةً حسيةً عن العلاقة بين نمو جسدها وبين ازدهارها. وتشمل هذه العلاقة البذرة في موسمها والحيوانات في بيئتها والإلهام في التحفة الفنية. وعلى صدق الصورة، أي وضوح بيانها يتوقَّف ازدهار المعنى، زكوته وتلوُّناته، ومن هنا يبدو لزوم التعاون بين المرء والجماعة على إنشاء الشخصية ذات معالم بيِّنة، ذات بصيرة نيِّرة، وذات شكيمة قوية.

فإذا كان شأن الدولة أن تُنظِّم البيئة بما يُساعد على استجلاء المعاني في النفس وعلى وقاية الإرادة من الغواية. فإن عقد النية على الاختيار والإنشاء منوط بمهمَّة المواطن. فإن كانت النواة (البذرة) صورةً حيةً للنية، فإن النية تحتمل كل الدرجات في العمق، ويستلزم تحقيقها موقف الإرادة موقفًا حُرًّا بين الحق والحاجات، وذلك منوط بالهمة، بما تتضمَّن الهمة من جهد وتضحية. والناس إمَّا يتفاوتون فيما بينهم بالهمة التي انعقدت عليها النفوس من أجل النفوذ إلى الحقيقة الإنسانية، ومن أجل العمل على هداية الحقيقة المستجلية. ونحن نعتقد خير ما ورد من أجل حفز الناس بهمَّة متزايدة على تعيين موقفها من إنشاء كِيانها شخصيةً ذات معالم بينة، هي هذه الآيات:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ، والأمانة هي أن يكون الإنسان خليفةً الله في الأرض، فيحتمل المسئولية التي تنجم عن الولاية.

وأمَّا ما يترتب على الدولة من إعداد أعضائها مواطنين مؤهَّلين للاشتراك في وضع القوانين وفي مراقبة الحكام في تنفيذها، فهو أوَّلًا: تنظيم البيئة بما يصلح لنمو الحياة نموًّا سليمًا، وثانيًا: إزكاء الميل إلى المثَل الأعلى، إلى إبلاغ كل شيء حد كماله. يترتَّب على الدولة أن تمدَّ يد المساعدة لأعضائها في إيجاد العمل الذي يكفل لهم أمر المعيشة على مستوًى يقيهم شر الفاقة، على مستوى يبقَون فيه محتفظين بالكرامة. ويترتَّب عليها أن تُساعدهم على الكشف عن استعداداتهم ومواهبهم وإبلاغ كلٍّ من الاستعدادات والمواهب حد كمالها في خدمة المصلحة العامة. ولمَّا كانت الأمة في علاقتها مع المرحلة التاريخية على مثال البذرة في علاقتها مع الموسم، فقد وجب على الدولة أن تُنظِّم الشئون العامة بما يتفق مع مقوِّمات الحضارة المعاصرة.

وصفوة القول إن مهمَّة الدولة في إعداد أعضائها مواطنين مؤهَّلين للقيام بالأعباء العامة هي أن تُعدهم بما يُساعدهم على استجلاء المثُل العليا واضحةً بينة. ومتى اتضحت الغاية دأب المرء على تحقيقها؛ وعندئذٍ تنمو الحياة وتزدهر، فتنبعث من ثنايا الحالات الزاهية مشاعر المسرَّة والغِبطة.

(١) مُهمَّة الدولة في حماية حقيقة الأُمَّة

الدولة هي شخص الأمة في طور التحقُّق وظل حقيقتها المثلى. الأمة قائمة في نفوس أبنائها، يتلمَّسها العوام ويُفصح عنها النوابغ، بحيث يُصبح هؤلاء من أولئك بمثابة الحواس من الجسد. وبناءً على وجهة النظر المتقدمة، فإن مهمَّة الدولة وإن بدت كحامية لحقيقة الأمة، لمجالها الحيوي ونظام قيمها، فهي في الأصل إعداد الوسائل التي تُؤدِّي إلى تحقيق هُويتها، إلى الكشف عن عبقريتها وتأدية رسالتها. مَثَلُ الدولة بذلك كمثَل الأحياء، هؤلاء يبدأ كلٌّ منهم بالمحافظة على قاعدة كِيانه الجسد، ويُحاول في نفس الوقت أن يكشف عمَّا انعقدت عليه حياته من إمكانيات.

وثمة مهمَّة أخرى للدولة هي أن تدعم أعضاءها في موقفهم بين الحق والغريزة، في تأمين حاجاتهم، وفي تثبيتهم على الحرية، حرية إيثار الحق على المصلحة.

ومع أن مهام الدولة الأساسية هي تنظيم قوى الأمة بما يُساعدها على تعيين مجرى تاريخ العالم وتوجيه المواطنين واستعداداتهم بما يُساعدهم على الاشتراك في تعيين المصير العام، نبدأ مقالنا بالحديث عن السيادة.

لقد اشتق الذهن العربي كلمتَي «سؤدد» و«سيادة» من «ساد»، فمن «سد» التي هي الأرومة. وحرف «س» يُفيد بحسب حدوثه الحركة، وحرف «دال» يوحي بالصد بالوقفة. فكأني بالذهن العربي يدل باشتقاقها على معنى دفع الهجوم، دفع الاعتداء، وبتعبير آخر حماية المجال الحيوي للجماعة.

وتقوم الدولة بمهمَّة السيادة إذا أعدَّت للطوارئ عُدَّتها، إذا درَّبت أعضاءها للقتال، وأمدَّتهم بالعتاد للحفاظ على النظام من العابثين بالعدالة. كان أجدادنا يتدربون على القتال، لا لحماية الحقيقة وحسب، بل لتحقيق أنبل المشاعر الإنسانية، حتى لقد بدت لهم الحياة نفسها مدرسةً للبطولة. وإليك ما قاله بصدد القتال شاعرنا الفارس عنترة:

يُخبركِ من شهِد الوقيعة أنني
أغشى الوغى وأعف عند المغنم

وهاك قولًا آخر في هذا الصدد لأحد شعرائنا حسان بن ثابت:

تأخرتُ أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدَّما

ويقول في ذلك أحد أبطالنا عامر بن الطفيل:

لقد علمت عني هوازن أنني
أنا الفارس الحامي حقيقة جعفر

وقد ظلَّ أجدادنا أوفياء للتراث، حتى إن نظام الفروسية في العالم نظام اقتبسه الأغيار عنَّا، وهاك ملخَّص وجهة نظرهم على لسان شاعرنا المتنبي:

عِش عزيزًا أو مت وأنت كريم
بين طعن القنا وخفق البنود

وما دامت دولة الإسلام في أيدي أهلها العرب، كان جمهور المسلمين معسكرًا لحماية الحق، وبقيت وظيفة قائد الموقع وإمام المصلين في الجامع مجتمعَين في شخص واحد. وهل من عجب إن سلك أجدادنا هذا المسلك وقد اتخذوا لهم من الرسول قدوة؟ أفلم يتخذ بطلنا القومي ورسول العالم العقاب شعارًا والحسام وسيلةً في نشر العدل بين الأنام؟ إن قدوة المجاهدين الأبطال هو من قال: «أنا نبي الرحمة، أنا نبي الملحمة، أنا الضحوك القتال. الخيل معقود بنواصيها الخير. رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه.»

والشهادة وهي الموت في سبيل الحق تُضفي على البطولة وهي صفة مشاهدة عالم الغيب، ولم يزل الشهيد على قيد الحياة.

ونحن نرى صواب وجهة نظر أجدادنا، ونعتقد معهم بأن الحرب في سبيل الحق مشروعة، وأن المظلوم إذا تقاعس عن الدفاع عن حقِّه يكون قد اشترك مع الظالم في الإثم، إذ إنه بتقاعسه يجعل المعتدي يتمادى في غيِّه.

ولا خير في حِلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يُكدَّرا

وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ (قرآن كريم).

وهل من وسيلة للحد من طغيان الطغاة غير القتال:

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا.

ولئلا يلتبس القتال بدافع «مع» القتال من أجل إحقاق الحق، فتتوه الإرادة بهذا الالتباس، نرى من الواجب على الأمم ذات الرسالة أن تتعاون على جعل أجور العمَّال متعادلةً في جميع أنحاء العالم، ومتى تساوت الأمم في مستوى المعيشة خفَّ تكالبها على التجارة، وتضاءل التنافس بينها في مضمار الاستعمار.

إن الحروب التي وقعت منذ فجر التاريخ حتى اليوم من أجل الحصول على ثمرة أتعاب الآخرين هي لصوصية، بل جريمة نحو الإنسانية، ودعاة لزيغَان التاريخ في سيره نحو مستوًى أعلى من الحرية.

وكيف زالت دولة العرب عن مسرح التاريخ بعد أن امتدَّ سلطانها من بحر الصين إلى بحر الظلمات؟ زالت بزوال شعارها الملخَّص بقول أحد شعرائها:

إن الشجاعة في الفتى
والجود من خير «العزائم»

زالت بزوال التربية التي كانت تجعل المروءة قوامها، فقد فات العرب المسلمون أن العمل بالإيمان تتناسب قوته مع مقوِّمات الإرادة، فإذا لم يتمتَّع على ما يُؤهِّله للجهاد في سبيل الحق، فكيف يبقى على مقياس رسالة أمته؟

هذا وإن للجندية فوائد جمة، منها تحقيق ميلَي الإمرة والطاعة معًا، الميلين اللذين يقوم على انسجامهما كِيان الإنسان كعضو في الهيئة الاجتماعية، ومنها ضبط النزوات والتدريب على النظام، بحيث يُصبح المرء سيِّد نفسه ذا استعداد على التعاون مع الإخوان، ومنها الإقدام على جليل الأعمال والجلَد أمام الشدائد.

وفضلًا عن أن الجندية تصقل الطبع وتساعد على تكوين الشخصية، فهي تُمهِّد السبيل إلى التجانس بين المواطنين، فإذا ما خفقت قلوب الجنود أمام الأحداث وفاضت المشاعر من الأعماق؛ انجرفت بالفيض الحواجز بين الإخوان. وكيف يقوى التعصُّب الطائفي وغير الطائفي على الصمود أمام المشاعر الفائضة من أعماق النفوس؟

وهل من وسيلة أبعد أثرًا من الجندية في نقل الجنود إلى مستوى المرحلة التاريخية الراهنة؟ إن الجندي إذا تدرَّب على القتال وعلى العتاد الحديث؛ أصبح ذا خبرة في استعمال الآلة، وأصبح ذا نزعة إلى تفهُّم المعارف العلمية التي شُيِّدت عليها الصناعة. ومتى استيقظ الجمهور على روح العصر اشترك في موكب الإنسانية، منتقلين نحو أهدافهم على موجة الحضارة.

وكيف نُحقِّق نحن أبناءَ الجمهورية العربية السورية أمنيتنا بتحرير ديار العرب من الأغيار، وجمع شمل إخواننا في الأقطار الأخرى تحت راية العروبة، إذا لم نجعل خدمة العلم شرفًا يتشرَّف به كل مواطن؟ وهل من ضمانة ضد العابثين بالنظام وضد من تُسوِّل لهم نفسهم الاعتداء على حدود دولتنا من جعل كل مواطن مدرَّبًا على الجندية مستعدًّا لدرء الخطر؟ وهل كانت بلاد العرب شهدت ما تشهد اليوم من مآسٍ لو لم تبقَ قوى الأمن فيها بأيدي رعاع مرتزقة جلهم من الشعوبيين الدخلاء؟

(٢) الأسرة

وظيفة الأسرة الأولى هي إعداد أعضائها لمستوى الحرية، المستوى الذي يُصبح فيه كلٌّ منهم مؤهَّلًا لتعيين مصيره بإرادته، وللاشتراك مع الآخرين في تعيين مصير الدولة. إن الأسرة هي البيئة الاجتماعية الأساسية، التي تمد أعضاءها بمقوِّمات الإنسانية، وهي منهم بمثابة الطبيعة من الأحياء، تمدُّهم بالمشاعر التي على موجها يرتقي الوجدان إلى الحق حكمة وجود العدل والنظام، كما تمد الطبيعة الجسد بالقوت والغذاء.

وهل من بيئة أخرى تتعاطف فيها النفوس تعاطفها في الأسرة؟ إن المماثلة في التكوين لهي السبيل الأوحد للتعاطف. وأي وسيلة أنجع من العاطفة لتثبيت المرء على حدود الواجب؟ المرء يُحقِّق في جو الأسرة المهمَّة الملقاة على عاتقه، وهي أن يكون لأبنائه مرشدًا وقدوة. والمرأة تُصبح في جو الأسرة مركزًا لإشعاع مشاعر الحنان والمحبة. وإن كلمة أُخوة لتدل بنشأتها من عبارة التوجُّع «أخ» على أنها السبب في التعاون على رفع الحَيف عن الإخوان، وأنها السبب أيضًا في التعاون على تحقيق الأماني المشتركة. وهل من وسيلة للتفاهم والتعاون أقرب من الإخاء قاعدة البنيان الرحماني المشترك؟

ذلك ما دعا العناية أن تتخذ الزواج وما يُرافقه من متعة وسيلةً لتحقيق أغراض عليا. إن أولياءنا إنما يرمزون إلى ما نصبو إليه من مثَل أعلى. إنهم لرمز قاعدته في القلب ومنتهى صبوته في إنسانية متعالية.

وبعد ذلك فليس من عجب أن يكون شيوع المرأة مدعاةً لهدر الغاية في سبيل الوسيلة.

إن الأسرة تُتمِّم عمل الطبيعة؛ فهي وإن قامت على غريزة بقاء الحياة واستمرارها، تُلزم أعضاءها إعالة بعضهم بعضًا أُسوةً بالأنواع الحيوانية الأخرى، إلَّا أنها تتعدَّى بمراميها حدود الميول وحاجاتها المغلقة هذه إلى جو من الأُنس يتدرَّب فيه الجميع على المكارم والفضائل. فإذا مثَّل الأولاد أكباد أبوَيهم تمشي على الأرض، فإن الأولياء يُمثِّلون لأولادهم المثَل الأعلى.

وإذا أقام العرب في الجاهلية الأسرة على مبدأ الاصطفاء، وإذا جعلوا مكارم الأخلاق قوام هذا الاصطفاء، فإنهم كانوا يُؤمنون بأن الحياة قيمتها بأغراضها لا بذاتها. أفما كان أجدادنا أولاء يُلقِّبون ثمرة الزواج المتدني بالهجين والمقرف؟ أمَا كانوا يَصِمون من تخلَّف عن حماية حقيقته بالأسود؟ كان الأسود (العبد) والهجين إذ ذاك موقوفَين وقفًا لخدمة الأحرار، الذين هم حماة الحقيقة (المجال الحيوي وتراث الجماعة).

والأسرة تُؤدِّي مهمَّتها إذا استكملت شروط ماهيَّتها التي أشارت إليها صيغة الضمير المثنى (ثنائية الزوج)، وأكَّدها المثَل المأثور: النساء شقائق الأقوام، وأيَّدتها الآية: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا. إن كلًّا من المتحابين للآخر صورة روحه متجسِّدة، مثَل كلٍّ منهما للآخر كمثَل القصيدة من إلهامها.

وإذا اشتق الذهن العربي صيغة ضمير المثنى أنتما وهما من جمع المذكر أنتم وهم. وإذا أيَّد القرآن حدس العربي هذا بالآية: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، فإن شأن الرجل هو السيادة، بالمعنى الأصلي للكلمة، وهو سد حِماه أو حِمى حقيقة الأسرة. مثَل الرجل بذلك كمثَل الأسد المشتق اسمه من نفس المصدر؛ الأول يقوم بحماية الحقيقة، والآخر يمنع الآخرين عن انتهاك حرمة الغابة.

وأمَّا شأن المرأة فهو حفظ التراث، هذه المهمة تتم بالاستقرار. إنها لحقيقة تُشير إليها علامات التأنيث: ة، ا، ي، التي هي تحوُّلات لحركة الفتح التي تحصل من ركون اللسان عند خروج الصوت من الفم.

وهكذا شاءت العناية أن تخصَّ المرأة بالمحافظة على الحياة والتراث، فتجعلها أقرب من الينبوع بقربها من الغريزة، وأن تمدَّ الرجال بخيال يُنشئ به الحضارة. وما دامت المرأة على حدود فطرتها يبقى شطط الخيال عند الرجل دون الأذى. ولو كانت المحبة والمرحمة هما غرضَي العناية من الحياة والمجتمع؛ لكانت المرأة طبعت بطابعها سَير حوادث العالم.

وحينما كانت الأسرة تستكمل شروط ماهيَّتها في فجر تاريخنا، كانت تأخذ بيد كلٍّ من أعضائها إلى العبقرية كبصيرة وبطولة، وحينذاك كانت النفوس تنطوي على مقوِّماتها انطواء الجسد على الهيكل العظمي. ولكن إذا أخلَّت الأسرة بواجبها استعانت على الصمود في وجه عاديات الزمن بمقوِّمات برَّانية كروابط الجوار والمصلحة، كما تستعين الحياة المتردِّية العاجز هيكلها العظمي عن تثبيت قوامها، بقوقعةٍ تُنشئها من إفرازاتها.

إن الأسرة على مثال عمادها الإنسان، فإذا ما أشرق في أفقها المثَل الأعلى؛ انحسرت أمام بهائه عصبية القرابة، كما تلتبس قطرات الندى بالأشعة المشرقة فتزيد من بهاء ألوانها!

(٣) مهمَّة الدولة في التعليم والتربية

تختلف الحضارة الحديثة عن الحضارة القديمة في وجهة النظر إلى الأشياء، اختلافًا تترتَّب عليه أمور هامة، منها ما يتعلَّق بالتربية والإصلاح بصورة خاصة. كانت الحضارة القديمة تُقيم كل الوزن للعبقرية في تفسيرها للشئون الإنسانية. فإذا اعتقد الأقدمون بأن الإنسان هو الغاية التي من أجلها خُلقت الكائنات؛ فإنهم قد فطنوا للشبَه في القدرة على الإبداع بين البشر وبين باريهم الإله. هذا الرأي تُفصح عنه الحكمة المأثورة: «الإنسان تاج الخليقة»، الإنسان خليفة الله في الأرض، الإنسان مقياس كل شيء. ويدل عليه الحدس العربي المتضمَّن في كلمة عبقري المنحوتة من «قبق» و«قر»، فكان الزهرة الذي تنثر العطرة أبدًا رمز العبقرية. وتُؤيِّد الآية التي تُعرِّف الإله كمثال العبقرية: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. إن الحياة نفسها توحي بنظرة الأقدمين، أفلا تسبق الغاية في التجلِّي الوسائل التي تُؤدِّي إليها؟ حتى لكأن الغاية هي حكمة وجود الوسائل. وكلمة «إله» تُشير باشتقاقها من أله يألهون إلى نفس المعنى، توحي بمصدرها أن الإله هو الغاية التي تتمثَّل بها أمانينا تمثيلًا يُصبح هو فيه لنا مثلًا أعلى. إلى هذا الحدس وذلك الرأي ترجع العبارتان: مشيئة الرب وسنة النبي، الأولى كدليل على الإحياء والإقوام في صعودها من الأشكال الابتدائية الخاضعة لأراجيف البيئة إلى العبقرية ذات التصرُّف في مصيرها، وفي أحوال البيئة. والثانية كرائد في تنظيم سلوك الناس تنظيمًا يُصبح فيه الفرد على مثال رائده عبقريةً مبدعة.

وما دام الناس يعتقدون بأن العبقرية هبة من العناية يبقى أمر تحقيقها أمنية، ويبقى الرجاء في إصلاح الأحوال العامة معقودًا على قدوم المخلِّص (الرسول) من مقام أعلى.

أمَّا الحضارة الحديثة فقد انتقلت فيها نبرة الإيقاع في التفسير من العبقرية إلى ظروف البيئة، بحيث قامت الوسائل مقام الغاية، بحيث قام الميكانيك مقام العناية. والحالة هذه، فليس للدولة إلَّا أن تقوم بتنظيم الشئون العامة حتى تستجيب على الحوافز المنتظمة استجابةً معيَّنة. وهكذا ساد الاعتقاد بأن الإصلاح الاجتماعي على مثال الصناعة، يقوم على معرفة الأسباب والعمل بمقتضاها. بل هكذا تحقَّقت أمنية لم يفتأ الناس يحلمون بها، وهي السحر، بمعنى استدراج المعنى من الملأ الأعلى، وذلك بإعداد الوسائل التي تُؤدِّي إلى تجلِّيه. كما كان الاعتقاد بأن المارد يظهر من عالم الخفاء عندما تُهيَّأ البيئة الملائمة لهذا الظهور. وهل في الأمر غرابة؟ ما دامت الحياة إمكانيات تتحقَّق باستجابتها لظروف البيئة، وما دام التأثير على ظروف البيئة في متناول الإنسان.

ولكن إذا كانت الحياة تُجيب على حوافز البيئة إجابةً مباشرة، فإن الإنسانية تُجيب على رموز البيئة تبعًا لوعيها إياها ولتعيين موقفها منها بملء الحرية. هذا ولمَّا كانت الدولة شخصية الأمة الواعية، وكانت العلاقة بين الأمم على مثال العلاقة بين الأوعية المستطرقة، يملأ الأعلى مستوى منها فراغ الأدنى. فقد أصبح من بيدهم زمام الأمور مسئولين عن كل تقصير في إعداد الأفراد أعضاء المجتمع عن الاشتراك في إنشاء المصير العام وعن وقايته.

ولكي نُزكِّي وعي القارئ لمقوِّمات المرحلة التاريخية الراهنة نُقيم المقارنة بين هذه الرحلة وبين سابقتها القرون الوسطى. كان مفهوم الدنيا ذا طابع فني (أخلاقي)، كانت الدنيا تبدو للإنسان صورةً حسيةً هو محورها؛ الأرض موطئ قدمَيه والنجوم تدور في قُبَّة السماء فتُنير له السبيل. وكانت التجرِبة في مظهرَيها الكوني (الفيزيائي) والوجداني تُثبِّت الإنسان على نظرته. أفلا تعظم الأشياء باقترابه منها وتتضاءل بابتعاده عنها؟ ألا تظهر الشمس والنجوم تدور حول موطئ قدمَيه (الأرض)؟ هكذا كان يعتقد الإنسان بأن الكائنات لوحة فنية هو منها بمثابة الغرَض والغاية. كان الاعتقاد بأن الكائنات على مثال القصيدة، تتساند مظاهرها لتحقيق حكمة وجودها، وتنسجم هذه المظاهر للتعبير عن مبدعها. تجلَّت له العناية في الانسجام بين وظائفه (الجسد)، وفي تعاون هذه الوظائف على تحقيق أغراض الحياة. وتجلَّت له أيضًا في تكوين الرجل والمرأة تكوينًا يجعل أحدهما مُتمِّمًا للآخر في إقامة صرح الأسرة. وتجلَّت في الاتفاق بين وجهة نظر الحياة في كلٍّ من الأحياء وبين مجمل العلاقة بين الكائنات. هذا، وما إن استمع الإنسان للوجدان حتى همس في أذنَيه معلنًا له نشأته من فوق المكان والزمان.

هكذا كانت ثقافة القرون الوسطى، نظرة مبدؤها الوجدان وقوامها الفن والأخلاق.

وأمَّا الحضارة الحديثة فقد بدأت بالتحوُّل عن الصورة الحسية للدنيا إلى مفهوم عقلي لها، بحيث أصبحت الأشياء قائمةً بذاتها خاضعةً للعقل في تقصِّيه للأسباب إلى ما ليس له نهاية. وما إن اتُّخذ المعقول مبدأً للتأمُّل بدلًا من سحر العلاقة بين الصورة والمعنى حتى بدا الإنسان كائنًا بين الكائنات، وبدت له الأرض التي تحمله جرمًا بين الأجرام؛ وعندئذٍ تحوَّل الذهن عن تفسير للحوادث شعاره الآية: «في البدء كان الكلمة»، يعني العبقري البطل، إلى تفسير قوامه مبدأ البيئة، وبتعبير آخر مستحدث ألا وهو مبدأ تأثير البيئة في تطوير الأحياء والمجتمعات، بحيث يقوم الميكانيك مقام العناية. وعندئذٍ أصبح ديدن العقل الكشف عن المناسبات الثابتة بين الحوادث، ثم استخدام هذه المعرفة بالأسباب بُغية جعل البيئة طوع مشيئة الإنسان، بدلًا من تقصِّي حكمة وجود الإنسان.

ومع أن كلًّا من الحضارتين؛ القرون الوسطى والحديثة، قد اختلفت الأخرى في موقفها من الحقيقة، اتخذت الأولى التجرِبة الوجدانية مبدأ، واستندت في صبوتها إلى الفن والأخلاق، وقامت الثانية على التجرِبة الكونية (الفيزيائية)، متخذةً العلم والصناعة دعامةً في تقدُّمها. تبقى الحقيقة واحدةً في مبدأ ظهورها وفي غاية مرتقاها، في كل من حدا تطوُّرها؛ الأحياء الابتدائية والعبقرية، وإن افترق قطبا انكشافها؛ الحس والمحسوس، الوجدان والطبيعة. ويرمز إلى وحدة الحقيقة التوليد الذاتي في الأحياء الابتدائية وفي العبقرية، حيث تتجلَّى الحياة إبداعًا وحرية. وإن نمط النمو بين البداية والنهاية يتم بتجاوب بين الحياة وبين منبِّهات البيئة، ممَّا يوحي بأن الإنسان إذا تقدَّم في أسباب الحضارة تمكَّن من إخضاع الظروف لمشيئته، وجعلها صالحةً لنمو شخصيتها وازدهارها، وذلك ما يدعو الدولة وهي شخصية المجتمع الواعية إلى تنظيم معالم البيئة، بحيث يتيسَّر لكلٍّ من أعضائها أن يُحقِّق استعداداته ويُمارس مواهبه في حدود إمكانياتها. وأمَّا تحقيق ذلك فيستلزم أمرين معًا:

  • (١)

    تكافؤ الفرص بين المواطنين.

  • (٢)

    وإيجاد الانسجام بين الجمهور وبين المرحلة التاريخية الراهنة.

وأمَّا مبدأ تكافئ الفرص فله مظهران؛ مظهر فردي وآخر سياسي. فالمظهر الأول تُمليه حكمة وجود المجتمع، التي هي تجهيز الفرد بأسباب نمو شخصيته حتى حد كمالها. إن مبدأ الأخوة القومية يدعو إلى التعاون من أجل ممارسة كلٍّ منهم ما أهَّلته به العناية من استعدادات ومواهب. ولقد قدَّمت العناية نفسها الأسرة مثالًا ينسج على منواله رجل الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية.

وأمَّا المظهر السياسي فتُلزمه طبيعة الدولة. إن الوظائف العامة تقوم على نظام ذي رتب، كلٌّ من مراتبه تطلب ممن يُمارسها مؤهِّلات متناسبة مع رفعة مقامها، وذلك يوجب اصطفاء الأكثر أهليةً من بين المواطنين للقيام بالمهام العامة. وكيف يتحقَّق هذا الغرض في مجتمع لم يُمنح فيه جميع أبناء الأمة شروطًا مماثلة؟ بل كيف يُؤدِّي المواطن وظيفته بتمامها إذا اقتصرت تربيته عن الغرض؟ وهل تكون المؤسَّسات العامة على مقياس الجماعة إذا لم يشترك كلٌّ حسب استعداداته في وضع الدولة؟

وبعد أن أوجزنا رأينا في العدالة الاجتماعية التي يقوم كِيانها على مبدأ تكافئ الفرص بين المواطنين، ننتقل إلى مبدأ آخر هو إيجاد الانسجام بين الجمهور والمرحلة التاريخية الراهنة. كنت لخَّصت رأيي في الأمور بصورة مجازية، فقلت: إن الأمة من المرحلة التاريخية كالبذرة من موسمها؛ فكما أن البذرة تنمو بملاءمتها للموسم، فكذلك الأمة يزهو أبناؤها بانسجامهم مع الحضارة القائمة، ونحن نعني بالانسجام فقه رموز البيئة واستقطاب تيَّارات الفكر فيها. ولمَّا كانت المرحلة التاريخية التي نحن بصددها تتلخَّص في العلوم والآداب، وتتبلور في الصناعة والاقتصاد، فقد أصبح انسجام الوجدان معها يقوم على التأمُّل في مقوِّماتها وإدراك كنهها.

وما هي إذن مقوِّمات الحضارة التي تكتنفنا بسياستها وتغمرنا بمنتوجها؟

تقوم الحضارة الحديثة على فرضية، هي أن المعقول والوجود مظهران لنفس الحقيقة؛ فما يبنيه العقل تُحقِّقه التجرِبة، والتجرِبة معيار لصدق المحاكمة. فرضية افترضها الإنسان فتكشَّف له الوجود عن بنيان رياضي-ميكانيكي، يدأب فيه الذهن على تقريب الشُّقة بين العلة الطبيعية Cause وبين الحجة الرياضية raison، بحيث إذا ظهر الواقع متخطيًا حدود المعقول دعا الذهنَ إلى إيجاد صيغة رياضية معادلة له. وإذا ما أخذت الصناعة تفتق القريحة عن معرفة جديدة، ألقت المعرفة المتجلِّية ضوءًا على المستقبل. وهكذا تُصبح المعرفة والعمل يتبادلان التأثير في نمو الحضارة على مثال التأثير المتبادل بين الحياة وبين رمزها الجسد.

ولمَّا ظهر صلاح الفرضية المتقدِّمة؛ أصبح العقل رائد الثقافة الحديثة، وأصبح كل ما عداه يخضع لسلطانه، لتمحيصه ونقده. ولمَّا كانت خاصة العقل الأساسية هي الشعور المميز للحقيقية من الخطأ، وكان هذا الشعور ملازمًا للطبع البشري، كما يظهر في ملازمته للمبادئ الرياضية عند النوابغ والعوام سواءً بسواء، فقد نجم الاعتقاد بأن العقل موزَّع بصورة متساوية بين البشر. يا له من اعتقاد أعاد إلى الإنسان كرامته بعد أن سلبه إياها الإقطاعيون والرجعيون بحجة واهية، بتأثير نظرة قاصرة في الطبيعة الإنسانية! يا له من اعتقاد ثبت به صلاح بني آدم للحرية في تعيين كلٍّ منهم مصيرَه حسب مشيئته، ولمساواتهم في حق تعيين المصير العام!

وما إن تحرَّر الإنسان من الاستبداد حتى تفتَّحت فيه الحياة من كوامنها، فبدت رابطة الأخوة تشمل جميع أبناء الأمة الواحدة، بداية دعا إيضاحها إلحاقَ الزمان بالمكان التطوُّرُ بالميكانيك.

تلك هي الحضارة الحديثة، نظرة أصيلة في الوجود، قاعدتها مناسبة ثابتة بين الأشياء، وشعارها حرية خلَّاقة تتجلَّى في تطوُّر الأنواع والأقوام.

(٤) شأن الدولة الحديثة في التعليم والتربية

اللسان العربي

لقد بيَّنَّا فيما سبق أن المرحلة التاريخية من الأمة بمثابة الموسم من البذرة، وأن التراب القومي هو المظهر الذي تتجلَّى فيه عبقرية الأمة. ولمَّا كان تراثنا يتلخَّص في لساننا، وكانت حياتنا الأدبية-الاجتماعية استجلاءً للمعاني المتضمنة في كلماتنا. فقد آثرنا العمل بأن نبدأ بالتنبيه إلى طابع هذا اللسان الخاص ومزاياه. وأولى مزايا اللسان العربي أنه بدائي، ونحن نعني بالبدائي أن الكلمات العربية ترجع بنشأتها إلى أصوات طبيعية، فإلى صوت «الأخ» مثلًا ترجع الكلمات: أخ وإخوة وإخاء … إلخ. لا يُستثنى من هذه القاعدة كلمة واحدة في لساننا. وإذا قورنت كلماتنا مع كلمات لغة أخرى كالفرنسية — مثلًا — تبيَّن الاختلاف بيننا وبين الآخرين؛ فالكلمات الفرنسية قد حصلت من تحوير كلمات لاتينية، والكلمات اللاتينية كانت قد حصلت بدورها من تحوير كلمات لغة أخرى هي الهندو-أوروبية. وهكذا تبقى اللغات المذكورة طافيةً في التاريخ ليس لها جذور في الطبيعة.

إن الميزة المتقدِّم ذكرها تقوم عليها النتيجة التالية: للأمة العربية تكوين خاص بها وهو الأصالة؛ أي إن ظهور الأمة العربية على مسرح التاريخ بدأ مع ظهور الإنسانية. والأمة العربية تدلُّ بظهورها هذا على نقطة التحوُّل عن الحيوانية، عن عهدٍ كانت الألفاظ فيه تُعبِّر عن الهيَجان عبارةً طبيعية، إلى عهد أصبحت هذه الألفاظ فيه كلمات تُفصح عمَّا يجيش من معانٍ في النفس.

وميزة أخرى للسان العربي؛ هي أنه بدئي، نسيج وحده من بين اللغات. والطابع البدئي لهذا اللسان يقوم على الخصائص التالية: (١) الصلة الاشتقاقية بين الكلمات، ورجوع هذه الكلمات إلى مصدر مشترك بينها يجعلان الكلمات المعبِّرة عن المحسوس منها تعريفًا بالإشارة لما يُعبِّر عن المجرَّد المعقول منها. فكلمة «ذكاء-الشمس» مثلًا تعريف بالمجاز للذكاء في النفس. والعلاقة الاشتقاقية في اللغة العربية لم تكن قد وُضعت من قِبل أحد الناس، فتحمل طابع اجتهاده الخاص من الإصابة والخطأ، بل إنها حدس أجابت الحياة به على انكشافها: المعنى والصورة، إجابةً عضويةً مباشرة. وكل ما في الأمر أن الأوضح حدسًا وأبلغ بيانًا كان رائدًا لجمهور العوام. وكلمتا «نابغ» و«عامي» تُشيران باشتقاقهما إلى أن العلاقة بين مدلولهما على مثال العلاقة بين الحواس وبين أنسجة الجسد الأخرى، اختلاف في وضوح الاستجابة وحسب.

نتج عن الميزة المتقدِّمة أمر إنشاء ثقافة إنسانية دلَّت على الحياة ذاتها. وشأن الخيال هنا في استجلاء المعنى كشأن البيئة الطبيعية في استجلائها كوامن الحياة في بذور النبات.

والميزة الثانية للسان العربي هي أن المعقول والمحسوس، وهما قطبا انكشاف النفس، يتبادلان التأثير فيما بينهما، فينمو الذهن من تبادلهما. وكأن الآية: السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا صورة تدل بالمجاز على نمط انكشاف الوجدان بتجاوبه بين قطبيه؛ الحس والمحسوس، الملأ الأعلى (السماوات)، والطبيعة (الأرض). فكلمة «حرية» مثلًا وجَّهت الذهن إلى الحرارة في الطبيعة، بطريق الشعور بحرارة الغيرة.

هكذا ظل اللسان العربي محتفظًا بنمط نموِّه نحو أداة بيانية متكاملة، فضلًا عن احتفاظ كلماته بجذورها في الطبيعة. بل هكذا ظل محتفظًا بوجهة الحياة الأصيلة وبنهج تكوين الإنسانية.

وميزة ثالثة يتميَّز بها لساننا عن غيره من اللغات؛ هي أن كلًّا من كلماته تتألَّف من صوت وخيال مرئي ومعنى قوام تألُّفهما. والصوت من المعنى بمثابة الجسد من الروح. والعلاقة بين الصوت والمعنى تظهر في الحركات، وفي الحروف، وفي نظام الحروف، وفي القواعد العامة للغة؛ ففي الإعراب تُعبِّر حركة الفتح عن المعنى الذي هو صدى حدوثها في الفم، أي عن معنى الركون، إذ إنها تحدث من ركون اللسان عند خروج الصوت، معنًى يُظهر الفعل الماضي تعبيرًا عن انقطاعه عن الفعَّالية فاندراجه في عالم الإمكان، ويظهر في المفعول تعبيرًا عن ركونه لكيما يحتمل وقوع الفعل عليه. والعلاقة بين الصوت والمعنى تشمل الحروف أيضًا؛ فحرف «غ» مثلًا يُعبِّر عن معنى حدوثه في الفم، وهو معنى الغيبوبة: غاب، غاص، غار، غرب … إلخ. ونظام الحروف في الكلمة هو أيضًا يوحي بالمعنى؛ فكلمة «نب» مثلًا توحي بمعنى الظهور، بمعنى الانتقال من الداخل نحو الخارج تبعًا لحدوث كلٍّ من حرفَيها «ن» و«باء»، الأول يُعبِّر عن الصميم، والآخر عن الخارج، كلٌّ بحسب حدوثه في الفم. هذا المعنى يسري على الكلمات المشتقة من «نب»: نبت، نبق، نبك، نبع، نبغ، نبأ، … إلخ. والقواعد النحْوية ذاتها تخضع لنفس المبدأ؛ فقاعدة التصغير مثلًا ضُمَّ فيها الحرف الأول إيذانًا بالفعَّالية، وجُزم الحرف الثاني على الفتحة مع الياء تعبيرًا عن التقلُّص، عن التراجع؛ ذلك لأن حركة الضم تحدث من تدافع الصوت، كما تُعبِّر الفتحة مع الياء على الجزم عن معنى التقلُّص.

وكذلك الفعل المجهول تُفيد الضمة على الحرف معنى الفعَّالية، والكسرة على الحرف الثاني معنى تحمُّل الفاعلِ الفعلَ في الماضي، ومعنى حالة احتماله فعل الفاعل. فليس من عجب إن قيل «إن من البيان لسحرًا»، سحر تأثير الكلمة في إيحاء المعنى وبعثه حيًّا.

وأمَّا الخيال المرئي فهو خيال الشيء الذي سبَّب حدوث الصوت. هذه الميزة تُضفي على الكلمة حُلَّةً من الشعر، فضلًا عن أنها تُنمِّي من قوتنا الإيحائية، وذلك لِما للون من وضوح ودقة. مثَل الخيال المرئي هنا كمثَل الصور بالمجاز في الشعر. فلمَّا قرع صوت خرير الماء الإذن، تمثَّل الذهن تأثير الماء في مجراه خربًا وخرقًا وخروجًا … إلخ، تمثيلًا نتج عنه أفعال خرب وخرق وخرج، نتج عن الميزة المتقدِّمة أمر هام في تكوين ثقافتنا وهو فقدان المترادفات، أي بروز المعاني واضحةً متميِّزة، وإليك مثالَين عن ذلك: أسد، سبع، غضنفر، كلٌّ من هذه الكلمات تُفيد حالةً متميِّزةً عن الأخرى؛ فالأسد أسد يحمي غابته (أسد من ساد فمن سد)، وهو سبع عندما يفترس فريسته، وهو غضنفر عندما يهجم فتنفر غضون وجهه. وكلمتا «ذكاء» و«عقل» تُفيد الأولى معنى اللمعة بحسب خيال نشأتها المتجلِّي في صورتها الحسية، ذكاء «الشمس». وتُفيد الثانية الربط بحسب خيال نشأتها المتجلِّي في صورتها الحسية (العقال).

هناك مزايا أخرى للسان العربي لا تقل أهميةً عن مصير ثقافتنا عن المزايا التي تقدَّم ذكرها؛ منها أن العلاقة الاشتقاقية بين الكلمات العربية على مثال العلاقة بين الأنغام في الأنشودة، فكما أن الأنغام تحمل على موجها الذهن نحو الإلهام الذي هو معنى تجرِبة الفنان مبدع القصيدة، فكذلك الكلمات العربية تُوجِّه ذهن من يعيها في علاقتها المشتركة، نحو الحدس مصدر وجودها. ومنها أيضًا نزوع كلٍّ من الكلمات العربية إلى صيغة تستكمل بها شروط سلامتها. هذه النزعة المثالية تظهر في العلاقة الاشتقاقية بين كلمة «حَق» و«حِق» التي هي صورتها الحسية. فكان الذهن العربي يُدرك واقع الأمر في علاقته من المثل الأعلى الذي هو كماله «الحق» على مثال علاقة العظم من حقه، من جرنه. وكما أن العظم إذا زاغ بعث في نفس صاحبه الألم، فكذلك المجتمع يبعث القلق في نفوس أعضائه إذا زاغ الواقع فيه عن حقيقته. وإذا كانت كلمة «رحمان» تدل بصورتها الحسية «الرحم» على العلاقة بين الحقيقة وتجلياتها، فإن كلمة «شيطان» تدل باشتقاقها من «شط» على بلوغ التضاد أشدَّه في نفس العربي، بين الواقع المزوَّر وبين كمال المثل الأعلى.

وبعد ذلك فهل من عجب أن أنجبت الأمة العربية الآلاف من الأنبياء؟ بل هل من عجب أن سبَر أبناؤها أغوار الوجدان، وأن نظَّموا الإنسانية على ضوء الحقائق المتجلية؟ وهل لسبب آخر يرجع خلود هذه الأمة؟ بقاؤها على مسرح التاريخ منذ أن استيقظ معنى الحياة، فتحوَّلت الأصوات الطبيعية إلى رموز ينتصر الإنسان على قيود المكان والزمان في إنشاء إنسانية جذورها في الطبيعة ورائدها المثل الأعلى.

«بينما كانت الأمم تظهر على مسرح التاريخ ثم تتوارى عنه. بينما كان فريق من العرب يشترك في موكب الحضارة، كان فريق آخر يقبع في تراثه محتفظًا بمقوِّمات أمته، متربِّصًا لدوره في أداء رسالة العروبة نحو الإنسانية» (من رسالتنا في الحضارة).

ونحن إذ نسوق الملاحظات على مقوِّمات الحضارة في وجهتَيها الطبيعية والإنسانية، نقصد من ذلك تنبيه المسئولين عن توجيه الناشئة إلى أهمية وعي المبادئ المنطوية عليها في تكوين شخصية المواطنين. إن وضوح المفاهيم من نمو الشخصية في انسجامها وعمقها بمثابة القوت في نمو الجسد. ووسيلة الوضوح هي أن يرتقي الذهن بالتأمُّل، من المعارف إلى المبادئ، ارتقاءً يتم به الانسجام والعمق معًا. ألا يحول الغموض في الآراء دون نمو الشخصية، ويجعل الصلة بين النظر والعمل منفصمة؟ أليس ذلك ما تشكو منه الناس جميعًا؟ إن المعاني المبثوثة في الرموز وإن كانت توحي بتضافرها بوجهة المرحلة التاريخية، إلَّا أن الإيحاء يبقى مبهمًا على حالة عرف ما لم يرتقِ الذهن إلى المبادئ. وإنما شأن الدولة في التعليم هو أن تُظهر مقوِّمات العصر في تنظيم البرامج وفي وضع الكتب، بحيث إنها تُمهِّد للناشئة سبيل الارتقاء من العرف (عهد الناموس) إلى مستوى رفعة المعاني متلألئةً (عهد روح القدس).

العلم

الطبيعة هي موضوع العلم، والمعرفة العلمية هي قوام الحضارة الراهنة. وللمعرفة العلمية مزايا عديدة، أهمها أنها تجعل العقل مرجعًا في إقرار الحقيقة. ومتى تدرَّب العقل على العلم أصبح نزَّاعًا إلى اتخاذ نفسه حكمًا في الشئون الإنسانية، في قبولها أو في إنكارها. عن مزايا العلم هذه نتجت المفاهيم التي هي مقوِّمات الإنسانية الحديثة، كالكرامة الإنسانية، وقيمة الإنسان المطلقة، والحرية. مزية أخرى للمعرفة العلمية هي أنها ذات شمول مطلق، تتخطَّى الحدود المغلقة للأوطان والأديان، مؤكِّدة بتخطِّيها وحدة نوع بني الإنسان. إلى المزية هذه يرجع مفهوم المساواة، بمعنى تساوي الإنسان في قيمة الإنسان المطلقة. مزية نتج عنها تحريم استخدام الإنسان للإنسان كأداة.

هكذا يُنمِّي العلم ميلَي الإنسان المتباينَين؛ ميله إلى التفرُّد والاستقلال، وميله إلى الانسجام مع الآخرين بني الإنسان.

وفضلًا عن ذلك فإن لكل زمرة من العلوم شأنها في تنمية الشخصية الإنسانية. فأمَّا شأن العلوم الرياضية فهو نقل الذهن من المحسوس إلى المعقول، من صفة يشترك فيها مع الأحياء الأخرى، إلى صفة ينفرد بها بين المخلوقات، بحيث يُصبح تاج الخليقة. ولهذه الزمرة من العلوم تأثير آخر هو إظهار الفرق واضحًا بين الواقع المحسوس وبين المثل المعقول، بين دائرة مرسومة على اللوح، وبين تعريف الدائرة مثلًا.

وأمَّا شأن العلوم الطبيعية فهو وضع حد بين الواقع والوهم؛ فنقل الذهن من أضغاث أحلام إلى البيئة مصدر قوت الإنسان. ولهذه الزمرة تأثير بالغ الأهمية في تكوين الثقافة، فلو فُهم مبدأ عدم التنافذ الذي هو أساس العلوم الطبيعية؛ لكان خير وقاية للإنسان من ضلالات الذهن في فهم الطبيعة على غرار الوجدان في فهمه إياها منطويةً على أرواح خفية انطواء الوجدان على إرادة حرة وميول نزَّاعة إلى التشخيص بالخيال. فإذا كان لكل حادثة طبيعية حيِّزها، فكيف تظهر الأرواح الخفية على مسرح الطبيعة، ما لم تُزِح الحادثة عن حيِّزها فتشغله هي؟ ومتى أشغلت الروح حيِّزًا؛ أصبحت هي والأشياء تخضع سواء بسواء لقوانين المادة. أوَليس مناقضًا لمبدأ آخر من مبادئ الطبيعة لمبدأ المساواة بين الفعل وردته، أن يُزيح الموزون (ذو الوزن) بما ليس له وزن؟ ولكن إذا بدا لك ذلك مناقضًا لمبدأ الحياة، فإن هذه تستعين بأعضاء أنشأت أدوات عناصرها مقتبسة، بطريق الغذاء من الطبيعة.

وأمَّا شأن التاريخ فهو أن يكشف عن تضامن الأقوام في مصير الحضارة. ليس العلم والفن لوحدهما يُؤلِّفان التراث المشترك لبني الإنسان. إن المفاهيم التي هي قوام الحقيقة الإنسانية أيضًا تتجلَّى بتبادل الخبرة بين أمة وأمة، ولولا هذا التبادل لتعثَّرت الأقوام في صعودها نحو المثل الأعلى.

وللتاريخ مهام أخرى لا تقل شأنًا عن الأولى؛ منها أنه يمدُّ الناشئة بأمثلة عن الأعلام كأبطال والعباقرة، فيُنير لهم سبيل إنشاء الشخصية. إن الناشئ إذ يتخذ أحد الأعلام مثالًا يُحذى حذوه يستجلي استعداداته ويكشف عنها، بحيث إذا بلغت شخصيته من النمو أشده استغنى عن القدوة. مثَل إنشاء الشخصية كمثَل إنشاء العمارة؛ يبدأ بإقامة الصقالة من الخشب، ولكنه سرعان ما يستغني عنها عندما تقوم أركان البناء من الحجارة.

وعلى الدولة أن تهتم بأمرَين عندما يشترك المسئولون من رجالها في وضع الكتب التاريخية للناشئة؛ أوَّلًا: إظهار معالم شخصية أمتهم، بحيث يتيسَّر لكلٍّ منهم أن يستجلي كوامن حياته على ضوء المعالم المتجلية، فيحصل ممَّا تجلَّى من الصميم الانسجام بين الإخوان، ويظل الجميع منطويةً نفوسهم على مقوِّمات أمتهم كمثل أعلى. ثانيًا: تنظيم الحوادث التاريخية بحيث يُؤدِّي تقاربها بعضًا من بعض إلى جعل الأمة من العالم على مثال الأحياء من الأشياء، مركزًا تتفتَّح على إشراقه الأمور الإنسانية.

وأمَّا الجغرافيا، وهي نقطة التقاء الإنسانية مع الطبيعة، فتتلخَّص فيها مقوِّمات الحضارة الحديثة. (١) تظهر الوجهة الميكانيكية في إيضاح سمة الأرض كنتيجة لعوامل طبيعية. (٢) تظهر الوجهة الديناميكية بإظهار التطوُّر ناشئًا عن تأثير متبادل بين الحياة والبيئة. (٣) تتشخَّص عبقرية الأمة في معالم البيئة، بحيث تُصبح هذه وطنًا هي منه بمثابة الروح من الجسد. (٤) يرتفع نجم الإنسان في الأفق بنمو التبادل المنتوج بين الأقوام.

ولإشراك التاريخ والجغرافيا في التدريس أبلغ الأثر في نقل الناشئة من حدود بيئتهم الخاصة إلى أفق أمتهم، ومنه إلى آفاق الإنسانية المترامية في المكان والزمان. يا له من انتقال يُنمِّي الخيال ويُثبِّت معالم الشخصية!

نُقدِّم فيما يلي بعضًا من تأمُّلاتنا في الأسباب التي تجعل أعضاء المجتمع مستكملين شروط مؤهِّلاتهم للقيام بواجبات الدولة:

  • (١)

    مهمة التربية أن ترفع بما نسجته الحياة سليقةً إلى مستوى الوعي، بحيث يتم للمرء أن يشترك مع العناية في تعيين مصيره. إن مثَل الشعور بالحقائق من نمو النفس كمثَل الغذاء من نمو الجسد. والمرء ينمو ذاتًا بنسبة تقدُّمه في إنشائه عادات يزداد بها موائمةً مع البيئة، وبنسبة تقدُّمه في تحديد المفهومات التي تجعل الحقيقة الإنسانية واضحةً بيِّنة، وكلا النهجَين يُؤدِّي إلى رسوخ الحياة قدمًا في الطبيعة، وإلى تماسك مقوِّمات الشخصية.

    وهكذا يقوم نمو المرء شخصيةً ذات معالم معيَّنة على تنسيق إمكانيات الحياة قيام القصيدة على الكلمة المسجلة في المعجم.

  • (٢)

    تبدو الطبيعة للعقل المعاصر قائمةً بذاتها، مستقلةً عمَّا كان يُضفي الإنسان عليها من تصوُّراته واعتباراته الخاصة. تبدو له معقولةً في أجزائها وفي جملتها، خاضعةً لنزعته في تقصِّي الموجودات في اتجاهَي تطوُّرها نحو الحد الأصغر الممكن (الذرة، الجوهر، الشحنة الكهربائية)، والحد الأكبر الممكن، الأرض في المنظومة الشمسية، والمنظومة الشمسية في أفلاك هي بمثابة الجوهر من الذرة، هكذا كان العقل في نزعته إلى ما ليس له نهاية، يجد مقتضيات ماهيَّته محققةً في المادة. وكلمة «مادة» نفسها تدل باشتقاقها من «مدَّ» على الاتفاق في الرأي بين الحدس العربي وبين نظرة الحضارة الحديثة في الطبيعة، ولكن إذا كانت الحوادث الطبيعية تنزع بحكم مادتها إلى الانتشار في المكان، حتى يلتبس واقعها بالإمكان، فإن ظواهر أخرى تنزع إلى استكمال شروط ماهيَّتها كالأحياء والآيات. فلمَّا قام أرسطو يُوضِّح صورة الأفق المستديرة (الطبيعة) كما تبدو للناظر إليها، افترض مبدءَين معاكسَين تحصل الاستدارة من تعاكسهما: (١) مركز انجذاب (اليد المثبتة في أحد طرفَي الخيط)، (٢) الانطلاق (انطلاق الجسم المرتبط بالطرف الآخر من الخيط). وإذا حرَّر العلم الحديث مفهوم الطبيعة من الصورة، فإن استدارة الأفق تدل على بنية الإنسان نفسه في نزعتها إلى الاستقطاب، إلى جعل ذاتها محورًا للظواهر.

    إن التباس المنهجين؛ المنهج الرحماني في فهم الإنسان وشئونه، والمنهج الطبيعي في فهم الأشياء والحوادث، هو السبب الأول في تردِّي الأقوام. فإلى هذا الالتباس يرجع اعتقاد الأقوام الابتدائية بأن الحوادث الطبيعية منطوية على قوًى خفية تُحدثها كما نُحدث نحن بإرادتنا مظاهر حياتنا الإنسانية. وهل للسحر سبب آخر غير هذا الالتباس؟ وإلى الالتباس نفسه يرجع أمر تفسير الإبداع الفني والأخلاقي بالسلوك وبتوارد الخواطر.

    بيد أن سبيل المعرفة الرحمانية: المحبة، أي عقد النية على فهم الحقيقة والعطف عليها. إن المحبة تدعو إلى الاستسلام، لا إلى التمرُّد والعصيان. وأسطورة هبوط آدم تكشف عن الوجهة الإنسانية للمعرفة. وأمَّا الحوادث الطبيعية مهمَّتها اتخاذ موقف المستنطق منها، أي الاستقلال عنها والتمرُّد عليها، ولا سيَّما إذا كان الغرض من هذا الفهم الجانب العملي في المشكلة، كما تظهر الحالة في العلاقة بين العلم والصناعة. وهل من ضلالة أوغل في التردِّي من التباس الواجب بالمصلحة من إيثار الأنانية؟

    نضرب مثلًا على التباس الأشياء بالأمور الإنسانية: «حي بن يقظان» بطل رواية ابن طفيل، حين كان يرفع الصخور من مجرى النهر المتعثِّر بها الماء ظنًّا منه أن الزبَد يُعبِّر عن حالة الغضب، كما تُعبِّر بوادر الغضب على الوجه الذي يُعيق المرء عن تحقيق أغراضه.

    ونضرب مثلًا آخر على التباس الأمور الإنسانية بالأشياء: الطفل الروماني الذي كان ينقر بالقَدُوم على ساق عبده سينيك الفيلسوف اليوناني، وكأنه كان يلهو بالضرب على عود من الحطب. ولمَّا انكسرت الساق قال سينيك لابن سيِّده: أمَا نهيتك وقلت لك إنك ستكسرها؟

  • (٣)

    ذات يوم سألني أحد تلاميذي عن رأيي في تلاميذ الصف الذي كنت ألقي الدرس فيه، فأجبت على السؤال بالقول: إنِّي أرى من الأفضل أن ننقل السؤال إلى صعيد نُظهر لكم سريرتكم على ما هي، وأن أترك لكم أمر الإفصاح عن رأيكم في أنفسكم ذاتها. مثَل النفس الكريمة من معتقداتها وأفكارها كمثَل الأم التي تجد هناءها في هناء أولادها، فتُوقف جهودها لتنشئهم النشأة التي يبلغون بها حد كمالهم. وأمَّا النفس العقيمة من الأفكار تُشبه القطة التي تعيش على أفراخها، تتقنَّع بالأمور الإنسانية من أجل الوصول إلى أغراضها. فمن أي الزمرتَين أنتم؟ أمن النفوس التي تجود بما لديها من أجل تحقيق المُثُل العليا الإنسانية، أم من زمرة النفوس الدنيئة الخسيسة التي تتقنَّع بمظاهر الإنسانية بُغية الوصول إلى أغراضها الخاصة؟

    هناك منهجان تنهجهما الحياة في علاقتها بالأنام: الفن والمساومة؛ فهي في الحالة الأولى تُدرك الأشياء لذاتها، وفي الحالة الثانية تُدركها كأداة لمآرب أخرى. إن الفنان من بنات نفسه الآيات، كالأم من ثمرة فؤادها الولد، يدأب على إنشاء العبارة المحققة لها على أحسن وجه. إن النفس إذا عقدت النية على التعاطف مع الأنام، انبعثت منها المعاني المنطوية في صميم الآخرين، والمعاني المتضمنة في رموز البيئة، فالتزمت بما انبعث منها التزام الأم ببنيها.

    تلك هي التربية الفنية، مهمَّتها إعداد الأسباب التي تُؤدِّي إلى نمو الحياة كاملة. وكلمة كمال تُشير باشتقاقها من «كُم الزهر» إلى معنى الازدهار. وأمَّا التاجر فيؤثر مسلك المساومة، المسلك المؤدي إلى بلوغ المآرب بقطع النظر عن الوسائل المؤدية إليه، بدلًا من انكشاف الحياة لذاتها ببهائها في الفن والأخلاق.

  • (٤)
    الآية: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، تُجمل وجهة نظر العرب الفنية في الكائنات؛ فكل من أبلغ عمله حد كماله هو بحق خليفة الله. ومن مِنَّا لم يُلاحظ تقصير العبارة البيانية عن الإلهام المنبثق من تحت سلسلة الصور الذهنية والعادات؟ أوَلا تدل كلمة «نبغ» بصورتها الحسية «نبع» على أن الإلهام في انبثاقه من أعماق الوجدان كالينبوع في تفجُّره من تحت الصخرة. وإنما العادات المألوفة والصور الجاهزة منه بمثابة المجرى، التربة التي تُعكِّر صفاء الماء. الإنشاء الكامل هو طريق الحياة، لا الترقيع. ومتى ما انجلت الآية واضحةً بيِّنَةً ثبتت عزيمة النفس على العمل بمقتضى طبيعتها، إيجاد التحفة في الفن وتحقيق الإصلاح في المجتمع، ممَّا يجعل الآداب والفنون خير وسيلة يُستعان بها لإذكاء الميل إلى المثل الأعلى. أفلا يُنشئ العقل الأشكال الهندسية كاملة، يُقصِّر واقع الأحوال عنها؟ أوَلا يكتسب المرء من هذا المِران ذوق الحرية، حرية انطلاق العقل في إنشائه الأشكال والقيم، مستقلةً عمَّا ينقصها من شوائب طارئة عرضية؟

    هكذا تتضافر الآداب والرياضيات على إزكاء الميل إلى الكمال، إلى حد بلوغه بالبصيرة وتقويم اعوجاج الحالة الراهنة على ضوء الآيات المشرقة.

  • (٥)

    الجسد يستجلي بنموه كوامن الحياة، والبوادر (العبارات) تُزكي بانطلاقها المشاعر، وكذلك الاجتماع يجعل النفوس تفيض بالنشوة. وتمييزًا لحالة الاجتماع من حالة العزلة إنشاء الذهن العربي صيغة جمع السالم على صورة تفخيم المفرد في حالتَي المذكر والمؤنث، «مؤمن-مؤمنون»، «مؤمنة-مؤمنات». ومن هنا كان تفنُّن الأقوام في إيجاد المناسبات التي تتكرَّر فيها الأعياد، إذ ليس العيد إلَّا عودة الذكرى العظيمة الأثر في تاريخ الأمة، بل وإنها أيضًا مناسبة لاجتماع الإخوان. ومتى اجتمع الإخوان وفاضت قلوبهم بالنشوة؛ ارتقت النفوس إلى ينبوع الفيض، متخطيةً حدود الحواجز بين الأفراد، متحرِّرةً من شطَط الانفراد، كالضمور والجمود وما يُرافقهما من أثرة وزعر. فإن يأخذ القلق من النفس، فقد جفَّ النسغ. إن الحياة تجهل الموت، والاجتماعات العامة من الفكرة المنوي إيحائها للجمهور أشبه ما تكون بالأرض المعدَّة لزرع البذور.

  • (٦)

    مثَل الخيال من المعاني كمثَل الجسد من الميول، فكما أن الجسد يكشف بنموِّه الميول الضامرة، فكذلك الخيال يستجلي المعاني، بأصالته وبفسحته. إن الخيال محل التقاء الصور المحقِّقة للمعاني ومحل انسجامها. وهو وسيلة الاتصال الرحماني بالآخرين، ووسيلة فقه رموز البيئة. فعلى فسحة الخيال تُقاس مراتب الناس كما تُقاس على مدى نمو الجسد، خِلوًا من التكرار، مراتب الأنواع الحيوانية. ألم يُشِر الذهن العربي إلى العلاقة بين اللؤم وضيق الخيال؟ كلمة «لئيم» من أرومة «لم». أولم يُكمل هذا الذهن حدسه في اللؤم باشتقاقه نقيض اللؤم الذي هو الحلم من أرومة «حل»، فكان الحليم هو الذي يتقمَّص بالخيال حالة الآخرين، فتنبعث من نفسه حاجاتهم كواجبات.

    ولمَّا كان المجتمع رموزًا تبدر معانيها في نفس من يعيها، وكانت النفس تلتزم بما يبدر عنها التزام الأم بمهجة فؤادها، فقد أصبح ارتباط الفرد بمصير الجماعة متناسبًا مع فُسحة الخيال، مع انتظام الرموز ذاتها. مثَل الخيال في جمع شتات مظاهر الحياة العامة، كمثَله في جمع أنغام الأنشودة الواحدة، وبنسبة ما تبدر المعاني المتمثِّلة الأوضاع العامة فيها، يُصبح الفرد في المجتمع بمثابة نبرة الإيقاع في الأنشودة.

(٥) مهمَّة الدولة في تنظيم الثروة العامة

وجهة النظر التي نتبنَّاها تستند إلى المسلَّمات الآتية: (١) الأرض هي المجال الحيوي للأمة. (٢) تقوم الأمة بأبنائها، هؤلاء منها بمثابة الإخوة من الأسرة، يكفل بعضهم بعضًا في السؤدد والمحنة. (٣) الملكية الخاصة وظيفة اجتماعية، تُعيِّن حدودها بما يُساعد على درء الخطر عن الوطن، وعلى أداء رسالة الجماعة بالإفصاح عن شخصية الأمة.

هذا وإن الإنسان ذو طبيعة متباينة البنيان، فهو متطفِّل كسول، ينزع إلى استثمار جهود الآخرين، وإلى اتخاذهم أداةً في بلوغ مآربه الخاصة. وهو في ذات الوقت غيور، تتجاوب نفسه مع الجماعة فتنبعث فيها — بهذا التجاوب — مشاعر اختلجت بها نفوس الآخرين، فيُجيب على ما تقتضيه طبيعة هذا الشعور من دعوة لرفع الحيف عنهم أو تقويم اعوجاج الأوضاع العامة. ولو لم يشترك الناس في هذا التكوين الرحماني ذي الصبوة المثالية، لما كان للكرم والجود من معنًى. وكلمتا «كرم» و«جود» تُشيران بنشأتهما اللغوية إلى أن الإنسان يتخطَّى حدود أنانيته المغلقة نحو إنسانية ذات آفاق متعالية.

فكلمة «كرم» تُشير إلى الامتناع عن الكر، إلى امتناع الفارس عن الإجهاز على خصمه عندما يكر عليه. وحرف «م» الملحق ﺑ «كر» هو الذي يُعبِّر هنا عن معنى الامتناع، الإغلاق بحسب مخرجه، تلك حالة يرمز إليها المثل المأثور: «العفو عند المقدرة».

وكلمة «جود» تُشير باشتقاقها من «جد» إلى معنى الجهد المبذول من أجل الآخرين: «والجود من الموجود». وإذا كان العربي يحرص على حيازة الأشياء، فإنه يتخذ منها وسيلةً يكشف بها عن مكارم الأخلاق، ومن هنا العلاقة بين الفيض والفضيلة.

كذلك هو الإنسان، فإذا أغلق عن الآخرين باب الرحمة في نفسه، وقف منهم موقفه من الأشياء، وإذا تعاطف معهم مال إلى حمل أثقالهم. دعوة الأخوة هذه أعمق في نفسه من ميله إلى الحاجات، ولولا هذه الدعوة لما شاهد التاريخ إصلاحًا أو مصلحين.

ومبدأ الأخوة يجعل الأسبق من الإخوان إلى إشغال الأرض أحق من سواه بحيازتها، غير أنه إذا تخلَّف عن استثمار حقه يكون قد أساء إلى الجماعة، باحتكاره مصدرًا من مصادر الخيرات العامة. والحالة هذه يحق للجماعة أن تستردَّ الأرض ممن قصَّر في واجبه نحو الثروة العامة: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، الذين هم أكثر صلاحًا لاستثمارها.

إن العمل والملكية صنوان، بصرف النظر عن كل تشبُّث قام به علماء الاقتصاد من أجل تمييز القوى العضلية عن الذكاء. وهل يجوز فصل الذكاء عن القوى المبذولة في سبيل إنجاز العمل؟ إن الذهن العربي عرف العمل بالفعَّالية المقصودة، أي المستنيرة بالذكاء. وقد ذهب هذا الذهن في تعريف الملك والعملة نفس المذهب؛ إنه اشتق كلمة «ملك» من «ملة»: مل، ملا الثوب: خاطه خياطةً أولى إعدادية. والمليل من الطريق: المسلوك. وإنه اشتق كلمة «عملة» (النقد) من العمل.

هكذا دلَّ الذهن العربي على وجهة نظره في مصدر الثروة. ونحن نستنتج ممَّا تقدَّم أن الأجير والمحتكر هما عالة على الجماعة؛ الأول بتقصيره عن حماية حقه، والآخر بتطاوله على حقوق الآخرين، وهما إذ يُخِلَّان بالاعتدال يُثيران الشعور بالقرف والنفرة؛ أولهما بضموره والآخر بانتفاخه.

هذا وإن للملكية جذورًا عميقةً في الحياة، وهي والاستقلال عن أراجيف البيئة يتلازمان، ويدل على تلازمهما تطوُّر الأحياء عبر الزمان. أليست الأنواع الحيوانية الراقية أقل خضوعًا لأراجيف البيئة من الأحياء الابتدائية كالبراغش مثلًا؟ أيرجع اختلاف الأحياء في مراتب التطوُّر لسبب غير اختلافهما في قاعدة ارتكازها في الطبيعة، أي في الجسد الذي هو محل انكشاف الحياة؟

وإذا لُقِّب الإنسان بخليفة الله في الأرض، وبتاج الخليقة؛ فذلك لأنه ألحق الأرض بالجسد فجعلها امتدادًا له؟ أوَلا تُقاس الحضارة بمدى اتصال المجتمع بالطبيعة؟ وكما يستجلي الجسد بنموِّه الميول، تدعو الأرض أيضًا بنقاط اتصال المجتمع بها إلى تفتُّح الحياة العامة. وإذا كان للإنسانية تاريخ غير انكشاف ثقافة كلٍّ من الأقوام، فإنه تقدُّم الإنسان بمجاله في الطبيعة. وهكذا نتج عن الملكية الشروط اللازمة لظهور الإنسانية: الاستقرار، الاستقلال بالمصير عن البيئة، وانطلاق من القوى الكامنة في الحياة، وظهور الشخصية منفردةً في نموِّها عن أرومة الجماعة … إلخ.

ولكن هل يبقى الإنسان على حدود الاعتدال؟ ألا تقتنصه بحكم طبيعته آفتان تجعلان من الملكية وبالًا عليه وعلى الجماعة، آفة الاستيلاء على الأرض وآفة ادِّخار الثروة؟ مستقِلًّا عمَّا تقتضيه حكمة وجود، في خلق الانسجام بين قطبَي كِيانه العمق والفسحة. وقد ترمز إلى شطط الحياة هذه الحيوانات المندثرة في الأدوار الجيولوجية، الحيوانات التي لم يتناسب في بنيتها الرأس مع كبر الجثة. وثمة آفة أخرى يهبط بها الطبع البشري إلى ما دون البهيمة، ألا وهي استخدام الإنسان لأخيه الإنسان كأداة.

إن الأسرة تقي أعضاءها من الآفات التي تقدَّم ذكرها، بما يفيض في جوها من مشاعر، بتفوُّق رابطة الأخوة فيها على رابطة المصلحة، حتى إذا ذرت قرن المصلحة الخاصة في مجتمع يقوم كِيانه على مبدأ النسب؛ لجأ الوجدان العام للحدِّ من طغيان الأنانية إلى التهذيب والاصطفاء عن طريق الوراثة.

نضيف ونعرف حق القرى
ونتخذ الحمد ذخرًا وكنزًا

وذُكر البيت التالي للأعشى كأهجى ما قيل في الجاهلية:

تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

ولكن الأسرة مع ذلك تجعل الفروق بين الإخوان في المزايا طامسة، بجعلها مبدأ شيوع الأشياء سائدًا بين الأقارب. مثَلها بذلك كمثَل خلية الحياة الأولى؛ حيث تطمس الفوارق بين الأعضاء والوظائف.

غير أنه عندما يتحوَّل المجتمع عن رابطته النسب، إلى رابطة الجوار؛ تُصبح الملكية الخاصة فيه وسيلةً من وسائل ظهور الفردية فذَّة، ولكن إذا اختلط في مجتمع كهذا الدخيل بالأصيل، وكثر الهجناء؛ عندئذٍ تنحسر العاطفة الرحمانية، وتقتصر على حدود العائلة، وعندئذٍ يتحوَّل المواطنون إلى ذئاب يفترس بعضهم بعضًا، كما آل إليه عهد الإقطاع.

وأمَّا المستبد المحتكر، فهو من المجتمع بمثابة السرطان في الجسد، يُقوِّض كِيان المجتمع بلؤمه وخيانته.

وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا. كذلك هو الملك، إذا تحوَّل عن وظيفته الأساسية، التي هي صقل الشخصية وإظهار الفضائل الأخلاقية، إلى إفساد كِيان الأمة وجعلها قائمةً على تنازع الطبقات.

استبداد وخنوع، كلاهما يُعمي البصيرة ويُضعف الهمة، وما انتهت إليه بلادنا من بؤس وخراب إنما يدل على مساوئ توزيع الملكية، فإذا كان الفساد في نظام التملُّك يبعث الشراهة عند المحتكرين، ويُسبِّب الزهد في الحياة عند المعوزين، فإن اعتدال هذا النظام يُحوِّل المملكة من صحراء تعبث بها التيارات، إلى غابة تثلم أشجارها حدة العواصف.

وبعد أن أوضحنا وجهة نظرنا في الملكية، نتساءل بأي الأمرين نبدأ بالإصلاح؟ أبتحسين حالة الفلَّاح وبإعداده كمواطن، ورفعه إلى المستوى من الاستقلال في موارد حياته، بحيث يُصبح مؤهَّلًا للاشتراك في وضع القانون وفي الإشراف على تنفيذه، أم بتحسين أسلوب العمل في الزراعة؟ فما دُمنا نستوحي مشروع الإصلاح من مبدأ الأخوة القومية، ومن مبدأ إيجاد دولة عربية ذات سؤدد ومنَعة، نرى الوجهة السياسية الأخلاقية أكثر أهميةً من إنماء الثروة العامة.

ولمَّا كان خمسة وثمانون في المائة من سُكَّان البلاد فلَّاحين، فإننا نرى أن يبدأ الإصلاح بتحديد الملكية الزراعية، بحيث يُصبح كلٌّ من الفلَّاحين مُلَّاكًا، يملك بيته الذي يأوى إليه، ومزرعته التي يستمد منها قوته. ونرتئي أن يتحقَّق هذا الغرض على الوجه التالي:

أن تستصدر الحكومة قانونًا تمنع به دوائر التسجيل من تسجيل الملك باسم أي كان، إلَّا في حدود مقدرته على استثمار الأرض استثمارًا مباشرًا دون الاستعانة بآخرين كإجراء. وحدود المقدرة على الاستثمار يُعيِّنها مجلس المحافظة، آخذًا بنظر الاعتبار أمرَين معًا؛ قابلية الأرض للزراعة، وإعالة المزارع ذويه الذين يلتزم بهم بحكم الطبيعة. وللمزارع الحق في أن ينقل ملكيته لآخر على أن يُراعي المبدأ العام، وهو الاستثمار المباشر لا بواسطة الأجراء. الوساطة التي تُحوِّل المواطنين إلى رعاع، وبهذا التبدير يبقى الريف يمد المدينة بعناصر نشيطة قوية، فيقيها من التدنِّي والانتكاس.

وأمَّا تطوُّر الزراعة وما يلزم لهذا التطوُّر من نفقات، فتقوم بها الجمعيات التعاونية مقام رأس المال الفردي. وللتعاونيات وجهة إنسانية يجب ألَّا نغفل عنها، ألا وهي تدريب الفلَّاحين على ممارسة الحياة السياسية، وعلى إنماء روح التعاون بين المواطنين. وما أحوجنا نحن العربَ إلى هذه الروح للحدِّ من نزعتنا الفردية، ومن أجل القيام مع الإخوان بالمشاريع الكبرى متعاونين!

وهكذا تنتج عن تحديد الملكية الزراعية نتائج مباشرة سياسية وأخلاقية واقتصادية، وينتج عنها نتائج غير مباشرة، منها استثمار الأموال المجمَّدة في الملك، في الصناعة والعمران.

وأمَّا أسلوب العمل في الزراعة، فأمر التقدُّم به منوط بتقدُّم الفلَّاحين بالخبرة العلمية، وفي مدى استخدامهم للآلة الحديثة.

في الحقيقة إن المصلحة وإن كانت من دواعي المنافسة بين المواطنين، إلَّا أنها تُصبح إذا اتسقت وانتظمت، عامِلًا في شد أزر كِيان الجماعة، إلى جانب عامل القرابة. أفلا تبعث المصلحة اللذة وتُثير الاهتمام؟ أليس لها جاذبيتها كما للحق سحره؟

إنه لفي اتفاق المصالح بين المواطنين أخوة جديدة إلى جانب الأخوة التي تقوم على العلاقة الرحمانية، فإذا كُنَّا نُقيم — نحن العرب — في جاهليتنا العلاقات بيننا على مبدأ القرابة وعلى درجاتها، فإن بعضًا من الدول الحديثة تُقيم علاقاتها على مبدأ المصالح وانسجامها.

حتى إن رابطة المصالح تتميَّز بميزتين؛ بتقدُّمها الدائم، وهي بذلك على خلاف رابطة النسب التي تتضاءل بصورة تتناسب مع اتساع دائرة القرابة، وبتحريرها العقل ممَّا يعوقه عن انطلاقه صرفًا من العواطف.

ولكن إذا كان مبدأ المصلحة الخاصة وسيلةً من وسائل ظهور الفردية فذةً ذات معالم معيَّنة، وظهور مجتمعات تقدُّمية، فإن أمر الحد من شراهة وشراسة المتنافسين في ميدان العمل، وأمر الانسجام بين المصالح، يدعو إلى هيئة تتميَّز بوضوح البصيرة وبقوة الشكيمة، مهمَّتها الأولى بما تدرأ به الخطر عن حرية الفرد وعن استقلال الجماعة.

هذا وإن مبدأ الأخوة القومية يضمن مساواة المواطنين في حق الاشتراك في تعيين المصير العام، فكيف يُمارس الإخوة هذا الحق إذا كانت مرافقة حياة بعضهم في حيازة الآخرين؟ إن البطولة نعمة تمد بها السماء المصطفَين من البشر، وأمَّا قانون الحياة فهو مسايرة الظروف من أجل البقاء. وهل يتفرَّغ للأمور العامة فيرتفع إلى مستوى معالجتها من لم يكن متملِّكًا بأسباب المعيشة؟ وكيف تستطيع الدولة أن تدرأ عنها الخطر إذا كان معظم أعضائها مشلولي الإرادة؟ بل كيف يتسنَّى للأمة أن تُفصح عن حقيقتها إذا لم يكن أبناؤها على مستوى الحرية، المستوى الذي يسمح لكل فرد أن يُعبِّر عن عبقريته من وجهة نظره الخاصة؟ إن الدولة تقوى بأعضائها، والأعضاء يقوَون إذا استكمل كلٌّ منهم شروط طبيعته الخاصة. ألم يُقدِّم لنا التاريخ عِبَرًا عن زوال الأمم عن مسرح العالم؟ فهل تقوى دولة أبناؤها مُوزَّعون بين ملك ورعية على الصمود بوجه دولة أبناؤها ملوك أحرار؟ ألم تدلَّنا عبقرية أجدادنا باشتقاقها كلمتَي مِلْك ومَلِك على أن الأمة التي تتألَّف من ملاكين، يُدافع كلٌّ منهم عن حياض الوطن دفاع الملك عن المملكة؟

ونتائج أخرى تنتج عن الخلل في نظام الملكية، منها خروج المواطنين عن حدود الفطرة الإنسانية، فإذا اغتصب أحد حق غيره بعث في نفسه شعور الحقد، وإذا قصَّر المظلوم عن حماية حقه ذلَّ وخنع.

وهكذا يُصبح الوطن مسرحًا للتنازع بين طبقة من المستبدِّين وأخرى من الرعاع. ومتى انحدر الفلَّاح بدأ اختلاس ثمرة أتعابه خلسة، بحيث إنه يظهر في مظهر اللص السابق. وإذا هو قصَّر عن القيام بأود حياته لجأ إلى الكذب والنفاق وغيرها من الموبقات.

الصناعة

كان سطيح الكاهن عرافةً من عرَّافات العرب في الجاهلية. كان مرهف الحس راجح العقل، يُفسِّر الرؤيا ويتنبأ بالمستقبل، ومع ذلك كان لا يتمكَّن من التأثير في سَيْر الحوادث، فيُبدِّل مجراها حسب مشيئته؛ وذلك لأن هيكله لم يستكمل شروط نموِّه فيتحوَّل من غضروف إلى جهاز عظمي ينفذ به في ظروف البيئة.

تلك هي الأسطورة الجاهلية. ويا لها من أسطورة تصدق بالتعبير عن حالة كل أمة معاصرة لم تستوفِ شروط صناعتها! نحن أيضًا أخذنا نتجاوب مع المرحلة التاريخية الراهنة، نقتبس منها الآراء، ونستقطب تياراتها، ولكننا مع ذلك نشعر بالعجز عن تعيين مصيرنا وفق مشيئتنا، وعن الاشتراك مع الأمم الأخرى في مصير الإنسانية؛ وما ذلك إلَّا لأن صناعتنا لم تستكمل بعدُ شروط كِيانها.

قيل إن الآلة من الأمم بمثابة الريش من الطير؛ تمدُّها بأسباب السير في موكب الحضارة. ومتى استكملت الأمة شروط صناعتها؛ ظهرت على مسرح العالم بمقياس عدد أبنائها.

وللصناعة مزايا أخرى؛ منها تحويل الناس من الاتِّكال إلى السيطرة، سيطرة السائق (الشفور) على الآلة. وإليك ما قاله أحد مفكِّري العصر بخصوص الاختلاف بين الصناعة والزراعة من حيث تأثيرهما على من يمارسهما كمهنة.

«ما دام الفلَّاح عاجزًا عن جلب الغيم واستدراره غيثًا يستنبت به الزرع، يبقى تحت رحمة القدر، متَّكِلًا على العناية، في حين أن السائق يتأكَّد بلوغ الغاية عندما تستوفي سيارته شروط وظيفتها؛ وهكذا تتحوَّل عقلية الجمهور من الاتِّكال إلى السيطرة بتحوُّلها عن الزراعة إلى الصناعة.»

وللصناعة تأثير آخر في مصير الشعوب المعاصرة، وهو أنها ترفع من مستوى المعيشة، وهاك جدولًا ببعض الأرقام عن تطوُّر الإنتاج في العصر الأخير:

«فقد قُدِّر إنتاج الفحم الحجري بعشرة ملايين طن في مطلع القرن التاسع عشر، وأصبح بعد مائة عام «١٢٠١٦»، وأنتج العالم أربعة ملايين طن من البترول والمحروقات لغاية عام ١٨٨٠م، و٢٨٠ مليون طن عام ١٩٢٧م. ولم يتجاوز الإنتاج للحديد والصلب والفولاذ ١٣٧٥ ألف طن عام ١٨٣٠م. وقد تصاعد عشر مرات تقريبًا خلال ٥٠ عامًا. ولم يُستعمل المطَّاط في الصناعة إلَّا منذ بداية القرن العشرين، ولا الألمنيوم إلَّا منذ عام ١٩٠٩م. ويُقدَّر إنتاج هذه المواد الأولية الرئيسية بملايين الأطنان. نفس التقدُّم في وسائل النقل، كان يوجد ٢٦٧٩ كم من الخطوط الحديدية عام ١٨٤٠م، فأصبح عام ١٩٢٠م مليونًا وثلاثمائة ألف كم. كانت الحمولة البحرية في العالم تسعة ملايين وأربعمائة ألف طن عام ١٨٤٠م، وأصبحت ٦٨ مليون طن. وكانت طوابع البريد المباعة في الولايات المتحدة عام ١٨٥٠م تُقدَّر بمليون ونصف، فارتفعت عام ١٩١٣م إلى ١١٢٣٦ مليون».

وكان توزيع العمل أثرًا بلغ في قدرة العامل على الإنتاج ممَّا كان للصناعة الحديثة في تقدُّم إنتاج العالم. هاك جدولًا آخر يكشف لنا عن نمو ذلك:

«بفضل توزيع العمل واستعمال الآلات الضخمة زادت قدرة العامل على الإنتاج زيادةً هائلة، غير متناسبة مع طاقته المحدودة الأولى؛ فعامل الآجُر مثلًا كان يصنع بواسطة الأدوات القديمة ٤٥٠ قرميدةً في اليوم، أمَّا الآن فقد بلغ إنتاجه بواسطة الآلة الحديثة ٢٢ ألف قرميدة يوميًّا. والعامل في صناعة الزجاج اليوم يقوم بعمل ٥٤٠ رجل في العصر القديم في ما يخص صناعة القوارير، وعمل ٥٣٣ رجلًا في صناعة الأوعية الغذائية. والآلات الحديثة تصنع ٢٥٠٠ لفافة من التبغ في الدقيقة، أمَّا الأدوات القديمة فما كان بوسعها أن تصنع من ٥٠٠، فإلى هذا التقدُّم في الإنتاج يرجع أمر تدنِّي أسعار الحاجيَّات وتحسين مستوى المعيشة في العالم».

ولكي نُدرك تمام الإدراك التطوُّر الذي طرأ على حياة العمَّال، والتقدُّم في الإنتاج، نُقيم مقارنةً بين الحالة التي كانت عليها هذه الطبقة في مطلع القرن التاسع عشر حين ظهرت الصناعة الحديثة، وبين حالتها في هذا اليوم. يقول الدكتور غريان في هذا الصدد ما يلي:

«لم يكن يُعوَّض على العامل شيء من ثمار جهوده؛ فالحياة عنده معناها أن لا يموت من الجوع، فأجره غير كاف، وغذاؤه الخبز والبطاطا، ومستوى معيشته أدنى من مستوى سائر طبقات الناس، معدَّل ساعات عمله اليومي ١٥ ساعة.»

وأمَّا اليوم فقد تعيَّن الحد الأدنى للأجور، الحد الذي يحفظ به العامل كرامته الإنسانية، وقد أخذت ساعات العمل تتناقص حتى انتهت بأقل من نصف ما كان يعمل بها العامل قديمًا. والجهود تبذل عند جميع الأمم لإنزالها إلى الحد الذي يسمح للعامل كمواطن أن يتفرَّغ للشئون العامة ويعالجها. وعلاوة على ذلك نال العمَّال بفضل الصناعة الحديثة حقوقًا متعلِّقةً باستقرارهم، كالعقود الجماعية، وحقوقًا أخرى متعلِّقةً برفاهيتهم، لم يكونوا يحلمون بها من قبل. كان ذلك كله بفضل الصناعة الحديثة وما دعت إليه هذه الصناعة من تنظيمات يسَّرت به للعمَّال التعاون من أجل الحصول على مستقبل أحسن. وإذا اندلعت فعَّالية بعض الأمم واشتدَّت نزعتها إلى الانطلاق، حتى ظهرت بمظهر مختلف عن الأخرى؛ فليس ذلك إلَّا نتيجةً حتميةً للتقدُّم في الإنتاج، وليس القول: الغرب غرب والشرق شرق، إلَّا رمز الاختلاف في المعاش، أي في مستوى الإنتاج، وإلَّا فقد سبَق للعرب أيضًا أن تساءلوا على لسان أحد مفكريهم في القرون الوسطى عن أسباب الاختلاف بين نشاطهم وخمول الألمان.

وكان التغيُّر للاختلاف بين الشرق والغرب، يُشبه ببساطته لتفسير المعاصرين، وهو إرجاع الأسباب إلى طبيعة البلاد، إلى برود الطقس في ألمانيا مثلًا.

ولكن الشعب الألماني الذي عُرف بالبلادة من قِبَل أجدادنا، أصبح اليوم أكثر شعوب العالم فعَّالية. وكان التبدُّل الذي طرأ على مصير هذا الشعب بتأثير الصناعة في نمط معيشته، لا في بيئته الطبيعية، وهاك ما قاله «كزرلنك» أحد مفكري الألمان بصدد فعَّالية مواطنيه:

«لقد بلغ الذهن الألماني النشاط بحيث أصبح كل فلَّاح يُؤلِّف في السنة روايتين على الأقل، يُفصح بهما عمَّا تختلج نفسه من نزعات. ولو رُصفت جنبًا إلى جنب صحائف ما يُؤلِّفه الألمان في كل سنة لكانت مُغلَّفًا حول الأرض.»

هكذا كان تأثير الصناعة الحديثة على تحرير القوى الكامنة في الحياة. وأمَّا تأثير الصناعة على تحرير الجمهور ممَّا كان يُرهقه من قيود، فليس بأقل وزنًا من تأثيره على نمو الرفاهية. لقد مهَّدت الصناعة السبيل لتنظيم العمَّال وتنسيق جهودهم من أجل مستقبل أفضل، ولولا هذا التمهيد لظلت الديمقراطية حلمًا يُداعب النفوس الكريمة فحسب. فإذا انتقلت الشعوب الحديثة من نظام الطبقات إلى المساواة، ومن استبدال الملوك والأمراء إلى الحرية، فإن الانتقال قد تمَّ بفضل الصناعة الحديثة. إن الصناعة والعلم اللذين هما مقوِّما وجهة نظر الحضارة الراهنة في الكائنات، أخذا يُزيلان بمبدأ شيوعهما أو بإجماع الرأي على مسلَّماتهما. ما كانت تتعثَّر به حتى الآن الإنسانية، فتجعلان ما كانت تُبشِّر به الأديان حقيقةً راهنة، وهي أن الإنسان تاج الخليقة، وهو خليفة الله في الأرض.

وهكذا كان نضال العمَّال من أجل المصلحة سببًا في تثبيت الإنسانية الجديدة على مبدأ الأخوة، وفي خلق مجتمعات ذات تكوين تام على مثال الأحياء نفسها. وما وجه الغرابة في الأمر؟ أفلم ترفق العناية اللذة بغريزة الأمومة؟ وإنها هي أيضًا تجعل تقدُّم الحضارة مقترنًا بالمصلحة الشخصية. وهل كانت الحياة تغلَّبت على الصعوبات التي تعتري سبيلها لو لم تكافئ الفرد باللذة على جهوده المبذولة في سبيل إدامة الحياة ونشر الحضارة؟

ولمَّا انتصر العمَّال في نضالهم فتثبت الأخوة على دعائم المصلحة، أصبح شعار المجتمعات الحديثة مبدأ تكافئ الفرص، المبدأ الذي يتضمَّن تلازم الإخوان بالمصير، بتعاونهم جميعًا على تحقيق رسالة أمتهم بالإفصاح عن حقيقتها وبالاشتراك مع الأمم الأخرى على إيجاد عالم هي فيه بمثابة النغمة في الأنشودة. تحقيقًا لهذه الأمنية تشترك الدولة مع العمَّال وأرباب العمل في تعيين مستوى معيشة المواطنين، المستوى الذي يكفل لكلٍّ منهم المحافظة على كرامته وعلى خدمة المصلحة العامة في حدود مواهبه واستعداداته الخاصة. وتحقيقًا لهذه الأمنية تعيَّنت حدود أجرة العامل وتأمَّنت له شروط الضمانة: المرض والبطالة. وتحقيقًا لهذه الأمنية وجَّهت العناية للحد من توزيع العمل المساوئ التي تُضيِّق على الإنسان مرافق حياته، فتجعل منه أداةً ملحقةً بالآلة. وإذا أصبح التعليم إلزاميًّا ومجَّانًا من الحضانة إلى العالي، فالفضل يرجع إلى ما أحدثته الصناعة من انقلاب في شروط الحياة العامة.

أمِنَ المستغرب أن يكون الأمر كذلك؟ فقد طلعت الحضارة الحديثة نفسها مطلعًا ميكانيكيًّا أسفرت فيه الأفلاك والذرة في الخضوع لقوانين حتمية. أوَلم تظهر في هذه الحضارة العلاقة بين العقل والطبيعة ثابتة؟ فما يبني العقل تُحقِّقه التجرِبة، والتجرِبة معيار لصدق المعرفة. وما مفهوم القانون في هذه الحضارة إذا لم يكن رابطةً نسبيةً بين العلة والمعلول، علاقةً يُصبح كل تحوير في الأول تحويرًا معادلًا في الآخر؟ أفليس يمكن في هذا المطلع سر الصناعة؟ سر التدخُّل في الحوادث الطبيعية وتحويل مجراها بحسب مشيئة الإنسان.

حتى إن أمر التسليم بمبدأ شيوع الذوق السليم بين البشر، أي مبدأ شيوع العقل، يرجع إلى ذلك التلازم بين المعرفة والعمل. حتى إن رسوخ قواعد الأخلاق كالإخلاص وأداء الواجب والتعاون على تحقيق الأهداف المشتركة … كل ذلك يرجع إلى تدرُّب الناس على العلم والصناعة.

وهكذا أصبحت الصناعة من الأمم بمثابة «الإكسير» من الحياة.

ملاحظة: سيقتصر حديثي هنا على موقف الدولة إزاء الصناعة أوَّلًا، والعامل ثانيًا. وإذا جعلت في حديثي موقع الصدارة للصناعة؛ فذلك لأننا نحن العربَ متخلِّفون في المرحلة التاريخية الراهنة عن موكب الحضارة. وهل يخفى على أحد ما لهذا التخلُّف من نتائج؟ فكيف نصون وطننا من عبث العابثين إذا كُنَّا مفتقرين إلى الأغيار في عتاد جيشنا؟ وكيف نستثمر خيرات بلادنا إذا كانت وسائل الاستثمار في أيدي غيرنا؟ وهل تتمكَّن الأمة من مصيرها إذا بقيت اقتصادياتها في حوزة غيرها؟ أليست الأمة المتخلِّفة في الصناعة من الاستعمار، كالسجين الذي يبقى استقلاله في المصير على حدود الحلم فقط؟

ولمَّا كان استقلالنا قد حصل مجاراةً لظروف تاريخيةٍ معيَّنة، فقد أصبح من الواجب علينا أن نُبقي والحالة هذه تدخُّل الدولة مقتصرًا على حدود حماية الصناعة، أي على حدود تنظيم الضرائب بما يُشجِّع على نموِّها وازدهارها. أفلم نكن بالأمس نخضع للأجنبي تحت ستار الوصاية؟ ولم يزل نفوذ الاستعمار معشعشًا في قلوب بعض السياسيين عندنا؟ فإذا تُرك للحكومة — وهو متروك لها بالفعل — حق التدخُّل في شئوننا الصناعية، استخدمه هؤلاء لمصلحة الأجنبي، أي لعرقلة تطوُّرنا؟

وأمَّا العامل فهو ككل مواطن يتطلَّب اشتراكه في المصير العام أمرين:

  • (١)

    مستوًى من الرفاهية تُعيِّنه ظروف المرحلة التاريخية، مع مراعاة المصلحة والكرامة.

  • (٢)

    فراغًا من الوقت يتصرَّف فيه للتأمُّل في القضايا العامة وللعمل من أجلها. وريثما تتكشَّف بلادنا عن إمكانياتها الصناعية، وريثما يتم تدريب أبنائها على التعاون بعضًا مع بعض في شركات تقوم بالمشاريع العظيمة، يقع على عاتق الدولة أمر تنظيم شروط الحياة للعمَّال، الشروط التي تكفل لهم الحرية والكرامة؛ وبذلك تكون الدولة قد خفَّفت من وطأة الانقلاب في العلاقة بين العامل والإنتاج، من علاقته مباشرةً إلى غير مباشرة يسود في جوِّها التخصُّص والتبادل بالمنتوج بين المتخصِّصين، وتكون أيضًا قد درأت عن العامل مساوئ الصناعة الحديثة، تلك المساوئ التي تُعرقل عليه نمو فرديته نموًّا طبيعيًّا. إن ما يكفل الانسجام بين مصلحة الفرد الخاصة وبين مصالح الآخرين، أو بينها وبين مصلحة الجماعة، هو نمو الشعور الاجتماعي ورسوخ الواجب، وكلٌّ من الأمرَين يفتقر إلى تربية ترعاه، وإلى اصطفاء في الزواج يثبته بطريق الوراثة. ومع ذلك فإن التعاون على تحقيق الأهداف المشتركة والإخلاص للمصلحة المشتركة، يتناسبان مع مثول مفهومَي الحق والواجب، واضحَين في أذهان الشركاء. وإن الغرض من الثروة ليس سد الحاجات فحسب، بل إزكاء الحس البديع بإتقان العمل وتأكيد الشعور الأخلاقي بحمل أثقال المجتمع أيضًا.

وهكذا يتحوَّل الإنسان بالعمل من شبح مسترسل لأحلامه، إلى شخصية ذات معالم بيِّنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤