السمَّان والخريف

حين كتب نجيب محفوظ روايته «السمَّان والخريف» عام ١٩٦٢م، كانت هي المرَّة الأولى التي يخرج فيها بأبطاله من حواري القاهرة القديمة ودروبها، ويذهب بهم إلى مدينة الإسكندرية، وبدا الذهاب إلى الثَّغر أشبه برحلة خلاص أو هروب يقوم بها عيسى الدباغ، بعد الظروف الحياتية القاسية التي تعرَّض لها موظَّف مرموق عقب قيام الثورة.

وقد كان هذا الرحيل هو فاتحة الباب لظهور روايات عديدة كتبها محفوظ، دارت أحداثها عند كورنيش المدينة، وكان أغلب أبطال هذه الروايات «أجانب» بالنسبة للإسكندرية، جاءوا أيضًا من خارجها، ويقيمون في فنادقها، ولا يعرفون عنها سوى طريق الكورنيش المحدود بين منطقة سيدي جابر ومحطة الرمل.

كما أن رواية «السمَّان والخريف» هي العمل الثاني الذي يعتمد على شخصية واحدة فقط، يتتبَّع الكاتب مسيرتها منذ الصفحة الأولى حتى نهاية الرواية، وكأنه محور الكون أو محور الرواية، وذلك باستثناء رواية «السراب» العمل الوحيد في كتب محفوظ التي تدور على لسان الراوية.
والغريب أن «السمَّان والخريف» هي إحدى الروايات التي لم تلقَ الاهتمام نفسه الذي حظيتا به روايتا «اللِّص والكلاب»، ثُم «الطريق»، خاصةً هذه الأخيرة، بما لها من معانٍ فانتازيَّة عن البحث الإنساني للجذور.
وإذا كان صابر الرحيمي قد رحل من الإسكندرية، حاملًا هاجس البحث عن الأب، فإن الصفحة الأولى من الرواية تبدأ بعيسى الدباغ، وهو في القطار الذي وقف به في المحطَّة دون أن يجد مَن ينتظره، لقد اختار الكاتب أن تبدأ الرواية يوم حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢م، فالكاتب يضيف أحوال القاهرة في يوم مهول من خلال عودة عيسى إلى القاهرة، ونعرف أنه عائد لتوِّه من الإسماعيلية، حيث التقى بالفدائيِّين هناك.

القاهرة كما يجدها عيسى تنفجر كالبركان؛ صراخ جنوني كالعواء، انقضاض على أيِّ قائم على الجانبين، بترول يُراق وحرائق تشتعل، أبواب تُحطَّم، بضائع تنتثر، تيارات تندفع كالأمواج المتلاطمة الجنون نفسه بلا رقيب.

في مساء اليوم نفسه يذهب الدباغ إلى سراي شكري باشا، على مسيرة رُبع ساعة من مسكنه بحيِّ الدقي، الذي يردِّد له أنه: «يا له من يومٍ أسود!» ويعبِّر الباشا أن خطورة هذا اليوم تبدو بما سيرِد بعده، ثُم يردِّد: قد نسقط، ولكننا نعود أقوى مما كنا.

يعترض عيسى قبل قيام الثورة حين يصدر قرار بنقله من وظيفة مدير مكتب الوزير إلى المحفوظات، ونعلم أنها ليست المرَّة الأولى، هو يردِّد أن هذه فرصة ليعتني بشئونه الخاصَّة؛ أيْ إنه في حاجة ماسَّة إلى التطهُّر والالتفات إلى نفسه، باعتبار أن الرحلة الطويلة التي سيقوم بها بعد ذلك ستكون حصارًا للمرحلة.

يصف محفوظ بطله باعتباره من سلالة غنية يتكلم عن الوظائف، إنه الأحقُّ؛ لذا فإن المركز مُهمٌّ بالنسبة له، وهو مقبل على زواج، ثُم يُدار حديث بينه وبين ابن عمِّه الغريم حسن الذي يقول له: «حريق القاهرة أثبت أن الخونة أقوى من الحكومة والشعب معًا.»
نحن أمام عمل سياسيٍّ في المقام الأول، بطله عيسى الدباغ لم يشارك في صناعة القرار، لكنه أصاغه، والرواية تبدأ أحداثها ذات يومٍ أسود، وما تلاه، فعيسى يخطب سلوى في حفلٍ محدود حضره أكابر من رجال السراي؛ أيْ إن نجيب محفوظ قد انتقل ببطله من عالم الحارات الضيِّقة، الغريب كمال، شاهده كمال في الثلاثية كي يصف لنا الحياة في القصور، وفي الحفل لم يتوقَّف الحديث في السياسة، يُقال إن الملك سيستأجر جنودًا مرتزقة؛ لأنه لم يعد يثق بأحد، وكل هذه الحوارات لم نرَها في الفيلم، حيث نعرف أن العروس تحلم بأن تعيش في الخارج، فهي متخرِّجة في المدرسة الألمانية.
ويكشف محفوظ عن جزء من ماضي بطله، لم نعرفه، فهو الآن عام ١٩٥٢م في الثلاثين من العمر، وسلوى في العشرين، لم يكشف الفيلم عن سنِّ البطل، وقد كان محمود مرسي آنذاك بجسمه الضخم، وهو يبوح لها أنه أحبها قبل عشر سنوات، كانت هي في العاشرة وهو في العشرين، وأنه كان يتلذَّذ بمراقبتها وهي الطفلة، كما يكشف عن ماضٍ وطني لابن الذوات، مدير مكتب الوزير، فهو «صديق عتيد لهراوات البوليس وزنزانات الأقسام والرفت والمطاردة.»

رمز التمرُّد السياسيِّ هذا، ما إن يستمع إلى بيان الجيش في صباح ٢٣ يوليو، حتى يتوجه إلى الإسكندرية لمقابلة الباشا، ويلتقي هناك بأكثر من شخصية مرموقة تُجمِع أن الملك قد انتهى: «انتهى فاروق، ولكننا نريد أن نطمئنَّ على أنفسنا.» فهذا الحديث مُهمٌّ في حياة عيسى؛ لأنه سوف يؤجِّل زواجه من سلوى، ويعلم أن حسن قد ترقَّى لمنصبٍ حسَّاس، وتتراكم الشكاوى في لجنة التطهير ضدَّ عيسى، وفي لجنة التطهير رأى عيسى شخصًا كان زميلًا معه في المظاهرات، لكن هذا لم يظهر في الفيلم، حيث تُتاح الفرصة لعيسى أن يردَّ على الاتهامات، أمَّا الفيلم فقد تلا الاتهامات وإصدار الأحكام بسرعة «الثورة صادقة العزم على تطهير الجهاز الحكوميِّ من كافَّة أنواع الفساد.»

هذه المرَّة تمَّ إيداعه إلى المعاش وليس للعمل في المحفوظات، سيقبض مرتَّبه لمدَّة عامين، وسيكون معاشه اثني عشر جنيهًا، وعليه فإنه سوف يخسر سلوى حتمًا؛ فالأب يعلن له أسفه، باعتبار أن الاتهامات والقرائن ضدَّه كانت حقيرة لدرجة أنه لا يمكن أن يهضمها إلا عقل حقير، هذه القرائن التي فصلها الفيلم في مشهد التحقيق مع عيسى دون أن تفعل الرواية ذلك بالتفاصيل نفسها، وفي المقهى يدور حوار بين مَن استبعدتهم الثورة، فيردِّد عيسى جملة غير موجودة في الفيلم: «يعزِّيني أحيانًا أن أرى نفسي كالمسيح أحمل خطايا أمَّة من الخاطئين.» أمَّا سمير عبد الباقي فيردِّد: «كنا طليعة ثورة فأصبحنا حطام ثورة.»

جاءت الثورة لتهدم المعبد على موظف فاسد، كان أيضًا ثوريًّا متوقِّدًا، شارك في المظاهرات، صار عليه أن يرى ابن عمِّه في وضعٍ أفضل، وها هي سلوى تتركه، وأمام كل هذه الأبواب المغلقة يردد في الفصل «١١» من الرواية: إني أفكر حقًّا في هجر القاهرة.

الإسكندرية هنا هي مهجر، وذهابه إليها ليس للتصييف، بل للإقامة، فقد أصبح عالم عيسى محدودًا للغاية، والعالم كله من خلاله، كأنه يروي علينا روايته على طريقة، لكن محفوظ هو الذي يحكي، فهو لم يُقبل على الهجرة إلا بعد أشهرٍ من التردُّد.

في الرواية نعرف أن عيسى الدباغ له ثلاث أخوات متزوجات يُجمِعن على المعارضة في سفره، وهي إشارة لم يجد الفيلم أيَّ سبب لإظهارها، واكتفى فقط بالأمِّ، فعيسى يرى أن السفر علاج ضروريٌّ، بينما سوف تذهب الأمُّ إلى البيت القديم بالوايلية، حتى وإن كان غير صالح للسكن.

وفي الفصل «١٣» يعود الكاتب إلى سابق عهده ليصف الأشياء بدقة، وهو أمر تحاشاه بشكلٍ ملحوظ طوال الفصول السابقة، فيصف الشقَّة الصغيرة المفروشة والبحر المترامي في الأفق، إنه «غريب في موطن غرباء»، لقد وصل في الخريف، حيث أسراب السمَّان تتهاوى إلى مصيرٍ محتوم عقب رحلة شاقَّة مليئة بالبطولة الخيالية لعلها مثله، وهذا المعنى غير موجود تمامًا في الفيلم، ويساعد هذا في أن يميل إلى التصوُّف مردِّدًا أنه لا فارق بين أن نتصوَّف حيال أزمة سياسية وبين أن نتصوَّف لوجه الله والدنيا مُقبلة علينا.

وتبدو كافَّة أفكار، ولا نقول مشاعر، عيسى الدباغ في هذا الفصل من خلال لقاءٍ تمَّ مع صديقه سمير حيث يردِّد عيسى: «ما أشبهنا بساحل الإسكندرية في الخريف.» ويصف الكاتب حال بطله الوحيد الذي يرتاد البارات، ويتلذَّذ بالتسكُّع في شارع سعد زغلول، وينام إذا حلَّ سلطان النوم، إلى أن يلتقي بفتاة الليل، أتعس بنات الهوى «مائلة للبياض مستديرة الوجه، ممتلئة الوجنتين، ذات جسمٍ صغيرٍ ممتلئ، مقصوصة الشعر كغلام» يخالها في الخامسة عشرة، يتذكر سلوى حين يصحبها معه إلى مسكنه المفروش.

عاهرة الرواية، كما وصفها الكاتب مختلفة تمامًا عن نادية لطفي، مثلما عيسى الدباغ يختلف عن محمود مرسي، فهي صغيرة السنِّ، شفتاها ممتلئتان ومنفرجتان عن أسنانٍ دقيقة مرسومة بعناية، خشنة الشَّعر، ذات أهداب مسترسلة فاتنة، وكعبين متشققين كضفدعتين، ولها عينان ثقيلتان جميلتان، يحاول أن يتخلَّص منها في صبيحة اليوم التالي لأول اتصال جنسي بها، يعرف أن أصل أهلها من طنطا، وقال لنفسه إن ثمة أوجه شبه تجمع بينه وبين هذه البنت، فكلاهما ملوث وطريد.
الفتاة تنتظره في مقهى قريب عند عودته في المساء من تسكُّعه الضائع، اسمها في المهنة ريري، يسمح لها بالإقامة في شقَّته، بعد أن أفهمها أنه رجل حُر، فقالت سمعًا وطاعة، وعلى مرِّ الأيام صارت جزءًا من حياته، تعلِّمه لعب الورق، وتقامره، وتربح منه، لا تأخذ منه مالًا مقابل الجنس، تحدِّثه عن أمٍّ لها وخالة وأخوات، وأنها لا تتوقَّع الذبح.

وفي الرواية فإن الكاتب يمنح لبطلته جذورًا يحرمها منها الفيلم، فقد مات أبوها وهي في العاشرة، فعجزت أمُّها عن تأديبها وتهذيبها، ولم تستطع صدَّها عن الصبيان، وعشقت شابًّا وهي دون البلوغ حتى ضربت القرية مثلًا بها، ثُم هربت مع شابٍّ آخر إلى الإسكندرية، سرعان ما تخلص منها، فبدأت حياة الليل.

وأهمية هذه المعلومات، أن السينما لا تهتمُّ كثيرًا بأن تضع جذورًا لمثل هذه الشخصيات، وإن كانت ريري قد حكت بعضًا من سيرتها مع الرجل في الفيلم.

ومع مرور الوقت يزداد إيمان عيسى بأوجه الشبه التي جمعته بريري، ويحسُّ بأنه لا غنًى عنها، خاصةً مع محاكمة رجال ما قبل الثورة، يحسُّ كلاهما أن العلاقة ستنفصل يومًا، وبالفعل فإن اليوم يأتي حين تخبره أنها حامل، وقد أسهب الفيلم في وصف هذا المشهد الذي تعترف له بأمرها، فيضربها ويدفع بها إلى السُّلم باكية، وهي تتوسَّل بلا توقُّف أن يعيدها إلى عرينه.

ما إن دخلت ريري حياته حتى خفَّت حدة السياسة والحياة العامة في الرواية على الأقل، فهو يبحث عن نساء أخريات، وليست هناك إشارة إلى زوجة مثلما رأينا في الفيلم، وصارت ريري تتبعه، حتى إنه يفكر في مغادرة الإسكندرية، وينكر أنه يعرفها مردِّدًا: «يخلق من الشبه أربعين.» ثُم يعود إلى القاهرة.

في القاهرة تبدو المدينة وقد غيَّرت أبناءها بعد الثورة، خاصةً حسن الذي يركب المرسيدس، والذي سيقترن بسلوى التي تناسبه وظيفيًّا على الأقل.

الفصل «١٩» تدور أحداثه في شهر يونيو عام ١٩٥٣م، ماتت الأم، وعيسى يعرض بيت أمه للبيع كي يتمكن أن يعيش كالأعيان أطول مدَّة ممكنة، والذي يردِّد: «عقلي يقتنع أحيانًا بالثورة، لكن قلبي دائمًا مع الماضي.» وهو يتأهَّب أن يظلَّ طيلة حياته بلا عمل، وتنخرط الرواية في تفاصيل حياتية لم يأبه بها الفيلم الذي لم يشأ أن يعود ببطله طويلًا إلى القاهرة بأن يتعرَّف على امرأة سبق أن تزوَّجَت ثلاث مرات، ثُم يذهب الاثنان إلى رأس البرِّ لقضاء شهر العسل في عشة عنايات هانم، وهنا نرى رجلًا مختلفًا، يرفض أن يقيم في مسكن حماته، ويصرُّ على السكن مع زوجته بعيدًا في الدقي، حي الذكريات التي لا تُنسى. وفي الفصل «٢٢» يعود الكاتب إلى الحديث عن علاقة بطله بحياته الجديدة بتفاصيل مختصرة، ويمرُّ أكثر من خريف إلى أن يأتي خريف ١٩٥٦م، حين هجم اليهود على سيناء، فتأرجح مصير الثورة في الميزان، وتفجَّر شعوره الوطني فطغى على كل شيء، الوطنيُّ القديم الذي تعذَّب بالرغم من تلوُّثه من أجل مصر.
هنا يتوقَّف الكاتب عند الحياة في القاهرة من خلال ما دار في خريف ١٩٥٦م، فهو يتردَّد على مقهى البودين ليحاور سمير عبد الباقي في مستجدَّات الأحداث، وتدور الحوارات في المقهى، تلك التي رأيناها تدور في قصر أحد الباشوات، إنه حوار مشابه، لكن المكان مختلف، حيث يبدو إبراهيم خيرت شامتًا.

وسط هذه الأحداث وصفَّارات الإنذار انقلبت القاهرة إلى معسكر، واخترقت شوارعها قوافل من العربات المصفَّحة واللوريات، ويغالي إبراهيم خيرت في شماتته، ثُم يشعر بخيبة أمل، حتى إذا انتهت الحرب عاد ليفكر في حياته الخاصَّة، فهو إنسان بلا عمل أو ذريَّة، كثير الشرود، كما تلاحظ عليه امرأته، يذعن للكسل والكبرياء، ينتقل بين رأس البرِّ والإسكندرية، يزداد وزنه مع مرور الأيام، يكثر من الطعام والحلوى، ويتردَّد أحيانًا على المقهى بُغية التحاور مع سمير.

وفي صيف ١٩٥٧م، بعد الغزو الروسي للفضاء، يجد نفسه في الإسكندرية — ملحوظة: محفوظ لا يؤرخ مثلما نفعل، فلا تتغير الحياة كثيرًا — ينزلق عيسى إلى البوكر، وكان سيئ الحظ على المائدة، يردِّد له أحد رفاقه: «أنت لا تتفلسف إلا عندما تتدهور روحك إلى الحضيض.»

يتعرَّض عيسى الدباغ للطرد من امرأتين تباعًا؛ الأولى زوجته عنايات، وهو أمر غير موجود في الفيلم، فهي لا تفتح له الباب في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، فيضرب الأرض بقدمه، ثُم يذهب ليبيت عند إبراهيم.

وفي الفيلم ظهرت ريري أثناء وجوده مع زوجته قدرية، حين وقعت كرة ابنتها إلى جوار الشمسية، وقد اختفى مثل هذا المشهد تمامًا في الرواية، فقد سافر عيسى إلى الإسكندرية مع قدرية، وعاش في ملل ووتيرة واحدة، لدرجة أنه قال لنفسه إن عصره قد انتهى، وأنه لن يندمج في الحياة مرةً أخرى، بنفس الحال التي كان عليها من قبل لدرجة أنه يلجأ إلى قارئ كفٍّ، وفي كامب شيزار يرى وجه ريري وقد جلست على كرسيِّ المديرة أو المالكة وراء صندوق الماركات بمحلٍّ صغيرٍ لبيع الدندرمة، وشطائر الفول والطعمية.

أيْ إن المصادفة هنا اختلفت عن الفيلم، فعندما يراها يتأكد أنها لم تعُد البنت الصغيرة، بل هي امرأة بكل معنى الكلمة، امرأة جادَّة ومديرة حقًّا، ثُم يكتشف أن لها بنتًا صغيرة وخادمة، فيأخذ في تتبُّعها قبل أن يقترب منها، وتنكره، وهو يخبرها أن الصغيرة ابنته، فتصيح به: «ابعد عن وجهي، أنت أعمى ومجنون، ويجب أن تختفي.» ووسط ملل مع زوجته يكرِّر الحوم حول ريري، ويعرف أنها أمُّ ابنته، وأنها نسبتها إلى زوجها صاحب المقهى، تتعامل ريري معه بحدَّة وتهدِّده بالشُّرطة، ويردِّد بنبرة باكية أنها ابنته، فتصرخ وهي تندفع في سبيلها: لست أبًا، أنت جبان، ولا يمكن أن تكون أبًا.

ويكرِّر المحاولة، وفي الفصل الأخير يلتقي في مطعم «على كيفك» برجل، بعد منتصف الليل، يخبره أنه لم ينسه، فقد سبق لعيسى أن اعتقله وحقَّق معه، يبدو بينهما حديث عبثيٌّ يخلو من المعنى، ثُم يمضي إلى حال سبيله حتى يختفي متجهًا إلى شارع صفية زغلول بخطًى واسعة تاركًا وراء ظهره مجلسه الغارق في الوحدة والظلام.

الفيلم الذي كتبه أحمد عباس صالح بدا كأنه يلتزم كثيرًا بالنَّص، وإن مال إلى مراضاة الجماهير من خلال النهاية المألوفة التي يلتمُّ فيها شمل ريري على والد ابنتها، وذلك بعد خُطبة عصماء سمعها عيسى من أحد رفاق النضال السابقين، بما يعني أن الدباغ قد توحَّد مع الثورة بعد أن كان أحد الذين دفعوا كثيرًا بقيامها، وقد أشار المُخرج في حديثٍ له مع نادر عدلي في «نشرة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام ١٩٨٧م» أنه حدث أثناء كتابة السيناريو أن الفيلم خرج عن الخطِّ الأساسيِّ الذي فهمه المُخرج، فقد أراد كاتب السيناريو — والكلام لحسام الدين مصطفى — أن يعبِّر الفيلم عن «الثورة والثورة المضادة»، فقلت له: أنا لا أفهم هذا الكلام؛ لأني غير مقتنع أن هناك ثورة مضادة، وأنا أقدِّم فيلمًا عن الثورة الفاتحة، وأزمة الذين عاشوا في ظل سياسة مختلفة عنها، واستطعت تصحيح مسار الفيلم، وكنت أرمز بشخصية الفدائيِّ في الفيلم لعبد الناصر.

لذا، والكلام أيضًا للمخرج، «تجد الفيلم فيه صراع ثريٌّ وحقيقيٌّ، ومشكلتي أني لا أجد كاتب السيناريو الذي يكتب لي بنفس الإبداع والجودة.»

أولًا: تمَّ تخفيض الوجود السينمائي للشخصيات التي دارت في فلك عيسى الدباغ، على حساب ريري التي تنامى دورها بشكل واضح، هذه الشخصيات هي إبراهيم خيرت، الرافض دائمًا للثورة، وعباس صديق الذي يمثِّل الانتهازية، ثُم سمير عبد الباقي الذي يمرُّ بأزمة بسبب التحوُّل الاجتماعي الحادِّ إثر قيام الثورة، وهذا الشخص لن يلبث أن يلجأ إلى التصوُّف كحالة من الهروب للتكيُّف مع واقع آخر، وقد كان عيسى الدباغ يلجأ إليهم دائمًا في المقاهي، يجالسهم فيُردَّد بينهم حوار مطوَّل اختصره الفيلم، وجعلهم مجرَّد أشباح يظهرون من وقتٍ لآخر للتعرُّف على وجهة نظر الشخصية.

فعيسى كان واقعًا دومًا بين أطراف لا يجيد التخاطب معها، ابتداءً من خطيبته سلوى إلى زوجته وأمِّه التي ماتت وتركت له ميراثًا، وبالطبع ريري التي لم يلبث الفيلم أن أكسبها دورًا إنسانيًّا أكثر مما في الرواية، فتخلَّت عن ماكياج العاهرة الفاقع، خاصَّةً بعد أن عاودت الظهور في حياة عيسى، فهي عاهرة عزفت عن الرجال وعاشت لابنتها الصغيرة، كما أن عيسى يواجه التحوُّل الوظيفي والاجتماعي لابن عمِّه ببرود سطحيٍّ وغليان داخلي، فحسن هو الذي سوف ينال سلوى، كأن الفتاة تنال الوظيفة وصاحبها الرجل، وليس العكس، وعيسى يذهب ليلة الخِطبة للتهنئة مُخفيًا إهانته.

كانت بداية الفيلم أشبه بما جاء في الرواية، فهناك قطار يدخل محطة القاهرة يوم أن اندلع حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢م، وهي البداية نفسها في العملين معًا، ثُم مرحلة القلق الاجتماعيِّ الذي أصاب الناس إلى أن تحاصر الدبابات قصر عابدين ليلة قيام الثورة، أمَّا النهاية فقد اختلفت؛ حيث التقى عيسى بشابٍّ كان شاهدًا ما دار أثناء التحقيق معه قبل فصله من عمله، وبعد حوارٍ طويلٍ بينهما حول الملل والأحلام تردَّد بين الاثنين وقد شربا بعض الكئوس القليلة، وبعد أن ينصرف الشابُّ يتساءل عيسى: لماذا ينظر إلى الأمام بوجهٍ مبتسم، ثُم يقرِّر أن يمضي خلفه: «على شرط ألَّا أضيع ثانيةً في التردُّد.»

وإذا كانت ريري قد رفضت العودة إلى عيسى ردًّا لكرامتها، كما يبدو في الفيلم، وهو الذي أبكاها، فإنها في الرواية تفعل ذلك بقوة، فهي لا تزال متزوجة من العجوز الذي دخل السجن، وهي امرأة عمليَّة تغيَّرت حياتها، ولم تعُد العاهرة التي هربت من أهلها، وتبحث عن غرفة تنام فيها، وهو أساس عودتها الدائمة إليه، أمَّا في الفيلم فإن ريري تبوح لمعلمتها في العُهر: باحبه يا أبلتي. وهي التي صارت خليلة له وحده، وهي شخصية العاهرة الكبيرة غير موجودة في الرواية.

وقد أضاف السيناريو بعض الحوارات، في رواية امتلأت بالحوار، منها جلسة الشماتة التي ضمَّت بعض الذين أضرَّهم قيام الثورة، وهم يتحدثون عن أزمة السويس، فهناك باشوات من العهد البائد، بينما هذا المشهد في الرواية كان ضمن أحداث دارت في المقهى الذي يتردَّد عليه.

كما أن الفيلم لم يتوقَّف بالمرَّة عند وفاة أمه وجنازتها التي قابل فيها رموز حياته القديمة، لقائه بحسن ابن عمه، ففي هذه الجنازة جاءت أفواج من الناس لا حصر لهم لتعزية حسن، وليس عيسى، فاكتظَّ بهم السُّرادق على سعته، وكانت لحظةً حرجةً حين هبط علي سليمان من سيارته، وقد استقبله حسن، وهو الذي كان نسيبًا سابقًا للدباغ، وقد استغرقت هذه الحوارات، بما فيها ليلة العزاء وقائع الفصل «١٨» من الرواية.

الشخصية الرئيسة الثانية هي ريري، تظهر وتختفي من خلال وجوده، هي مجرَّد جسد، سواءٌ للفِراش أو الإنجاب.

نحن إذَن أمام رواية مكتوب أغلبها بجُمل تلغرافية، وهي أشبه بالمونتاج السريع الإيقاع، حتى وإن طال الحوار، إلا أن هذا الحوار يبدو قصيرًا، وكان نجيب محفوظ حين كتب هذه الرواية قد اكتسب خبرة دامت خمسة عشر عامًا في كتابة السيناريو والحوار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤