دنيا الله «١٩٦٨م»

نشرت المجموعة القصصيَّة «دنيا الله» لأول مرَّة عام ١٩٦٢م؛ أيْ إن الأقصوصة التي تحمل هذا الاسم قد كُتبت قبل هذا التاريخ بفترة، باعتبار أن نجيب محفوظ كان يجمع القصص القصيرة بعد أن تكتمل مجموعة قصص نشرها في الصحف والمجلات، خاصةً «جريدة الأهرام»، وبذلك تكون هذه هي المجموعة الثانية، حيث إن المسافة الزمنية بين «همس الجنون» عام ١٩٣٨م، و«دنيا الله» تصل إلى أربعة وعشرين عامًا.
يعني هذا أننا أمام مجموعة قصص كلاسيكية، كتبها قبل أن يكتب رواية «اللصُّ والكلاب» التي شهدت تحولًا جذريًّا في اتجاهه إلى الكتابة، وقبل الوصول إلى مرحلة الكتابة المعروفة في «خمَّارة القطِّ الأسود».
هذا النوع من القصص المتباين في طوله احتار النقاد في تصنيفه، فهل هي قصص قصيرة طويلة من النوع الذي كان يكتبه تشيكوف، أم هي أقاصيص أقرب إلى مدرسة موباسان؟ لكن لسنا هنا بصدد دراسة هذا النوع بقدر ما تقوم دراستنا على المقارنة بين النصِّ الأدبيِّ والفيلم، حيث إن هذه القصة تحوَّلت إلى فيلمين؛ الأول بعنوان «٣ قصص» عام ١٩٦٧م، والقصة الأولى فيها إخراج إبراهيم الصحن الذي اتجه بعد ذلك إلى التليفزيون، وهذه الأفلام كانت في الغالب تضمُّ التجارب السينمائية الأولى لمخرجين مثل إبراهيم الصحن ومحمد نبيه، وقد تعدَّدت هذه التجارب ثُم ما لبثت أن توقَّفت.
هذه القصص السينمائية كان أصلح لها أن تُؤخذ من قصص قصيرة فعلًا، ولذا فإن الفيلم الثاني «دنيا الله» لحسن الإمام عام ١٩٨٥م قد بدا مختلفًا تمامًا، وسنتوقف عنده في فصلٍ آخر.
في «دنيا الله» النصِّ الأدبيِّ، نرى قصة محدَّدة المعالم، حول عم إبراهيم الفرَّاش الذي سوف يسرق رواتب الموظفين ويذهب بها لقضاء أيام جميلة، قبل أن يحلَّ الصيف في أبي قير، مع بائعة يناصيب شابَّة، فقضى معها ثلاثة أشهر من المتعة قبل أن يتمَّ القبض عليه.

إبراهيم الفرَّاش هذا قلقلت منابت الشعر الأبيض في ذقنه وعارضَيه، أمَّا صلعته فلم تكُن بها شعرة واحدة، متزوج من امرأةٍ عجوز عوراء، يمكنه أن يحتفظ بقطعة حشيش صغيرة بين ملابسه تمَّ العثور عليها حين فتَّشت الشُّرطة بيته.

هذا الرجل العجوز، وظيفته تنظيف إدارة السكرتارية، ليس له سوى أربع أسنان؛ واحدة فوق وثلاث تحت، كان زوجًا طيبًا لهذه العوراء، أنجبت له أبناءً، منهم عامل يعمل في منطقة القناة منقطع الصلة بهم منذ سنوات، وآخر قُتل في حادثة ترام وهو في العاشرة، وابنته تزوجت من عامل بناء ذهب بها إلى أقصى الصعيد، وفي الأشهر الأخيرة تغيَّر هذا الساعي حيث تعلَّق ببائعة يانصيب عند قهوة فؤاد، وإن هذه الأخبار سببت أكثر من عراك بينه وبين امرأته على مرأى من حارة الحلة كلها.

في بداية القصة القصيرة بدأ الموظفون الذين سيتمُّ الاستيلاء على رواتبهم في الدخول إلى الإدارة، أولهم أحمد كاتب المحفوظات، تجاوز الخمسين، ثُم مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة، وسمير الرجل الغامض، كما يُدعى في الإدارة، ثُم الجندي الذي لم يخرج من نعمة الطفولة، ومصطفى الأنيق بخواتمه وساعته، ثُم حمام، وأخيرًا الأستاذ كامل مدير الإدارة بما له من وقار، ومن الواضح أن مثل هذه الإدارات لم تكُن بها نساءٌ في هذه الفترة.
هؤلاء الموظفون يمارسون حياتهم ووظائفهم، يقرءون الصُّحف ويعبِّرون عن متاعب؛ فأحمد يعاني أن الدواء الخاصَّ بزوجته غير موجود، أمَّا الجندي فينظر إلى العمارة المجاورة يترقب ممرضةً في النافذة، أمَّا لطفي فيطالع الجريدة، والمدير يطلب أحد الملفَّات.

يقوم عم إبراهيم بإعداد الفطور فوق الصينية إلى أن يطلب منه أحمد أن يأخذ كشف المرتبات. ويصوِّر المؤلِّف وقائع الحياة في هذه الإدارة، فهناك باعة يأتون إلى المكان للبيع والشراء مثل بائع كرافتات أو سمن، ويذهب إبراهيم لإحضار المرتبات، والحياة مستمرَّة في الإدارة إلى أن يبدءوا في الشعور أن إبراهيم قد تأخر عن الحضور، فيسود القلق، ويذهب إبراهيم بنفسه إلى الخزينة، ويُكتشف أن إبراهيم غادر المكان قبل ساعة، وهنا يبدأ القلق والوساوس؛ ماذا حدث لإبراهيم؟ وليس ماذا فعله! فهذه مشكلة غريبة لم تدُر في بال أحد. يعود بائع السمن للسؤال عن نقوده، ويؤكد بواب الوزارة أن إبراهيم غادر في التاسعة صباحًا.

تختلف الصدمة على الموظفين، فهناك مَن يحتاج راتبه لشراء الدواء، ولطفي متزوج من امرأة غنية لكنها بخيلة، وعندما تأكد لهم أن إبراهيم لن يعود قاموا بإبلاغ الشُّرطة، وفي القسم أفضى المدير إلى الضابط بالحكاية من أولها، وأن عم إبراهيم ٥١ سنة يعمل في الوزارة منذ خمسة وأربعين عامًا، وأن أجره الآن ستَّة جنيهات، قال عنه الموظفون إنه كان طيبًا لكنه يتدخَّل أحيانًا فيما لا يعنيه، لم يسبق له أن سرق، أو أتى ما يستوجب الشكَّ في ذمَّته، وصف الكاتب ما فعله الموظفون بعد السرقة؛ مما يؤكد أننا أمام رواية مختصرة التفاصيل في عملٍ قصير، فالجندي الشابُّ الأعزب يطلب من أبيه أن يعامله هذا الشهر كطالب، أمَّا مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة فيذهب إلى محلِّ رهونات بباب الشعرية اعتاد أن يقترض منه في الأزمات، بينما يردِّد سمير: لولا الرشوة لوجدت نفسي في مأزق، ويفاجأ أحمد أن إبراهيم ترك له مرتَّبه في أول النهار.

وبتحريات الشُّرطة اكتشفوا إعجابه ببائعة اليانصيب التي كم لاحقها؛ مما سبَّب له السخرية من روَّاد المقهى، وقد وعدها بحياةٍ سعيدة خالية من هموم العناء والتشرُّد.

يقول الكاتب إن الشُّرطة اطمأنت إلى أنها قبضت على طرف الخيط، وباعتبار المؤلف فقد أبلغنا كقرَّاء بالطرف الثاني، فإبراهيم الآن موجود في أبي قير يجلس على الشاطئ «يراوح النظر بين البحر وبين ياسمينة التي تطايرت خصلاتها الذهبية في مهبِّ النسائم.» بدا حليق الذقن، مستور الصلعة تحت طافية بيضاء، أمَّا ياسمينة فقد ارتدت فستانًا أنيقًا، وتجلَّت نضارتها كالماء المقطَّر. في هذه الفترة لم يكن المُصطافون قد جاءوا. إبراهيم بسرقته هذه انتقل إلى عالمٍ آخر، فهو لم يرَ البحر من قبل، ولم يغادر القاهرة أبدًا، وها هو قد أنفق في أسبوع، ما لم ينفقه من قبلُ في عام، ولم تكُن المحبوبة تكفُّ عن الطلب، إنها تطلب كل شيء حتى الأمر.
أفهمهما إبراهيم حين سألته عن المال أنه من الأعيان، كان مصمِّمًا على السعادة قبل أن يتمَّ الإمساك به، رفض أن تنزل من أبي قير إلى الإسكندرية، وأراد لها أن تسعد كما يسعد، لكن الزمن لم يلبث أن تغيَّر، فقد حلَّ شهر يونيو، وها هو المصيف يحلُّ، وذات يوم رأى لطفي الموظف بالسكرتارية بصُحبة سمسارِ مساكن، فهو يقيم هنا عادةً كل صيف. بدأت النقود في التناقص، وفكر أن يمنحها المال ويهرب، لكنه قرر الاستمتاع بها حتى آخر قرش، إلى أن أحسَّ أنها تسرقه، هوت على يده فعضَّتها بوحشية، «صغيرة وبك هذا الشرُّ كله»، وفي الصباح أعطاها أكثر ما تبقَّى لديه من مال وحزم متاعها، وأوصلها إلى المحطة. وقرر أن يقيم بالإسكندرية، وقرر ذات يوم أن يصلي بمسجد أبي العباس، وهناك راح يناجي ربه بما يوحى وعنوان النصِّ الأدبيِّ «دنيا الله»: «أشعر وأنا بين الملايين بوحدة قاتلة.» وعندما ابتعد عن الجامع جاء شرطيٌّ يمسك به: «أتعبتنا في البحث عنك، الله يتعبك.»
تعمدنا إيجاز النصِّ الأدبيِّ، الذي حوَّله عبد الرحمن شوقي إلى نصٍّ سينمائي قصير عام ١٩٦٧م، وقد وجد كاتب السيناريو أمامه نصًّا أدبيًّا نموذجيًّا لعمل فيلم، وكان أول شيء موفق في هذا الفيلم هو كاتب السيناريو، فهو أديب متميز وكاتب وقارئ، وهو الذي فاز بالجائزة الأولى عن رواية «في سبيل الحرية» في المسابقة التي أقيمت في بداية الستينيات لتكملة رواية كتبها الرئيس جمال عبد الناصر، أمَّا اختيار صلاح منصور فهو بمثابة التوفيق الثاني، حيث إنه الأقرب إلى عم إبراهيم من ناحية الوصف والأداء؛ ذلك العجوز البدين المكروش، المحروم من أشياء عديدة، هو يعمل «فرَّاشًا» في مصلحة حكومية صغيرة، وفي هذه الإدارة لا توجد موظفات، والرجل يسعى إلى تجربته الأخيرة، يندفع إليها قُدمًا كي يحيا أيامه الأخيرة، والفيلم موضوعه الشخص الواحد الذي يدبِّر كل شيء كي يعيش بضعة أيام ولو على حساب الآخرين، مع بائعة يناصيب تصغره بقرابة خمسة وثلاثين عامًا، وقد وجد كاتب السيناريو قصة متكاملة جاهزة، تصلح لأن تكون فيلمًا قصيرًا مدَّته خمسون دقيقة تقريبًا، فهي ليست قصة قصيرة بالمعنى التقليدي، إن الأحداث تستغرق قرابة الأربعة أشهر، منذ بداية اختلاس المرتَّبات، ثُم سفر العجوز مع الشابَّة إلى أبي قير، والحياة على قدر النقود التي سرقها، هي مرتبات سبعة موظفين ومديرهم، يعني يمكن لهذا المبلغ أن يجعله يعيش حياة أفضل لمدَّة ستة أشهر، باعتبار أن الأقصوصة مكتوبة في الثمانينيات.
ليس المبلغ كبيرًا، لكنه بمثابة حلم قصير لوقت يقضيه عم إبراهيم مع بائعة اليانصيب، وقد بدأت أحداث الفيلم والرجل يقوم بمهامِّ عمله على أحسن تقدير؛ إحضار السندوتشات والمشروبات، ثُم الذهاب في ساعة مبكرة إلى الخزينة الرئيسة لإحضار المرتَّبات، لكن هناك في «الفلاش باك» انبهاره بالشابَّة التي تمرُّ على المقهى تعرض أوراق اليانصيب. لقد أبلغها أنه رجل وارث ميسور، وتواعد معها أن يأخذها معه إلى الإسكندرية، والفتاة أقرب إلى العاهرة في الفيلم (جسَّدتها ناهد شريف) وهي تذهب معه من أجل نقوده، وفي أبي قير يؤجِّر بيتًا على البحر، ويتغيَّر شكله فيصبح حليق الذقن، ويشتري الملابس الجديدة له ولعشيقته، ولم تكشف الرواية والفيلم عن قدرة الرجل الجنسية في هذا السن، وهو المتزوج من عجوز ضامرة عوراء، لكن من الواضح أن المرأة الصغيرة وهبته جسدًا نضرًا دبَّت فيه الحياة، وانتقلت هذه الحياة إلى الرجل العجوز البدين في الفيلم، فازداد بها تعلقًا واشترى لها المزيد من الملابس والمشروبات، وأحسَّت المرأة بثروته، فتكالبت على الشهوات معه في مكان مفتوح شبه مغلق.

وقد صوَّر الفيلم، مثل النصِّ الأدبيِّ، الجانب الآخر من حياة الموظفين، فالسيد أحمد حين يعود ليلًا، حزينًا إلى بيته، يفاجأ أن زوجته تبلغه أن عم إبراهيم ترك المرتَّب الخاصَّ به، فهو موظف عجوز ينتظر المرتَّب لشراء الأدوية غير الموجودة في الصيدليات، كما أن الفيلم يصوِّر السيد لطفي وحياته الثرية، وهو الذي يذهب للاصطياف في أبي قير.

لعلَّ هذه الأقصوصة هي من أوائل الأعمال الأدبية التي انتقل فيها محفوظ إلى الإسكندرية، لكنه جعل بطلَيه يعيشان في مكانٍ ضيق، واسع، أمام البحر، وفي الفيلم والنصِّ الأدبيِّ، توجه عم إبراهيم إلى مسجد أبي العباس المرسي، حيث تمَّ القبض عليه، وبذلك فإن نجيب محفوظ يكون قد خرج عن مألوف القاهرة إلى آفاق الإسكندرية، البحر.

في الفيلم عرفت العلاقة بين عم إبراهيم وياسمينة الصعود والهبوط، فهي التي قامت بعضِّه بعد أن نجحت في إغرائه، وهناك إشارة أنها هي التي قامت بالإبلاغ عنه بعد أن أخذت نقوده. وقد بدا القسم الأول من الفيلم محبوسًا في أروقة إدارة السكرتارية، بينما انتقل القسم الثاني إلى جوار البحر وخريره، واختار منطقة أبي قير للتدليل على البحر والاتساع والاستمتاع. وقد بدت أحداث الفيلم أقرب إلى أجواء وحوادث قصة محفوظ، وذلك خلافًا للفيلم الثاني المأخوذ عن القصة نفسها، والذي سوف نتناوله في مكانٍ آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤