الشحات

كان حسام الدين مصطفى في أحسن حالاته، ليس مع نجيب محفوظ فقط بقدر ما كان مع كاتب السيناريو أحمد عباس صالح الذي توحَّد معه في واحدٍ من أهمِّ إنجازاتهما في «قاع المدينة» عن يوسف إدريس، والغريب أن الاثنين قد عادا للتعاون معًا في «الشحات» عن نجيب محفوظ عام ١٩٧٣م، وهي التي صدرت قبل ثماني سنوات، رغم أنهما كانا قد التقطا رواية «السمان والخريف» التي تحولت إلى فيلم بعد ظهورها بفترةٍ قصيرة.
ولعلَّ تأخُّر ظهور رواية «الشحاذ» في السينما راجع إلى صعوبة النصِّ، وأيضًا عدم جاذبية شخصية عمر الحمزاوي بالدرجة نفسها التي نعرفها لعيسى الدباغ، وصابر الرحيمي، ولذا جاءت التجربة السينمائية مختلفة تمامًا، رغم أن حسام الدين مصطفى استعان بنجم فيلمه السابق مع محفوظ، محمود مرسي، ليؤدِّي شخصية الحمزاوي.

الحمزاوي هو مُحامٍ، رجل مجتمع، أصابته حالة نفسية خاصة، فيتردَّد في بداية الرواية على طبيب نفسي، إنه يسميه الطبيب الخطير، لقد صار صديقًا له، وها هو يأتيه بعد ربع قرن، ومن الوصف الأوليِّ نكتشف أن محمود مرسي هو الأنسب لأداء هذه الشخصية، «كنت طويلًا جدًّا، وبالامتلاء صرت عملاقًا»، إذَن فنحن أمام شخصية واحدة منذ بداية الرواية وحتى الصفحة الأخيرة، في حياته العديد من الشخصيات، يمرُّ بأزمة منتصف العمر، الخامسة والأربعين، يبلغ عمر طبيبه أن مرضه هو «الخمود» غير راغب في العمل، إنه مرض برجوازيٌّ ليس في حاجةٍ إلى دواء، نعم، ليس لديه وقت ليتساءل عن معنى لحياته.

والفصل الأول بمثابة حوار طويل، قصير الكلمات، بين الطبيب وعمر، فهو يقول بعد الكشف باعتبار أن الطبيب أمامه وقت للثرثرة، تحقَّق حلم كبير، أعني الدولة الاشتراكية، كما أن عمر شاعر قديم هجر الشعر إلى الحياة يعرف من الحوار أن زميله القديم عثمان خليل في السجن لسببٍ سياسيٍّ، ويتذكر صديقه مصطفى المنياوي الذي نراه في الفصل الثاني بصُحبة زوجته، بعد أن دعاه عمر إلى منزله، لنتعرَّف على أُسرة الرجل الصغيرة؛ الزوجة زينب، والابنة بثينة، ومثلما دار حوار طويل حول الماضي بين عمر وطبيبه يتكرَّر الأمر نفسه مع مصطفى أن «العلم لم يُبقِ شيئًا للفنِّ، ستجد في العلم لذَّة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة.»
وفي الفصل الثالث، يعود الكاتب إلى المونولوج الداخليِّ الذي اشتُهر به في رواياته القديمة أنت حُر، والفعل الصادر عن الحرية نوع من الخلق، يتذكر عثمان المسجون، ويردِّد: «اقترحنا جاذبية جديدة غير جاذبية نيوتن يدور حولها الأحياء والأموات في توازن خيالي.» ثُم يدور حوار متعدِّد الأطراف، نعرف منه جوانب أخرى عن ماضي عمر الاشتراكي، فالأب يرقب أُسرته وهي عند الشاطئ، ويبدو الفصل مخصَّصًا للحديث عن الابنة بثينة، فالأب يردِّد: «ما ألطفك يا بثينة، براعم صدرك تشهد للدنيا بحسن ذوقك، من المحزن أنك لم تعرفي من الدنيا شيئًا، وإن جنتك كالنار، فلم تتجاوزي سيارة المدرسة.»

أمَّا الأمُّ فهي تردِّد في نهاية الفصل لزوجها أنها اكتشفت أن ابنتها شاعرة مثل أبيها.

لذا فإن الفصل التالي مخصَّص كله للحوار بين الأب وابنته حول موهبتها كشاعرة، يحسُّ الأب أن ابنته عائشة، «هذا شِعرٌ حقًّا»، يحاول أن يكون الصديق الأب الذي عليه أن يعرف مَن تحبُّ «أنتِ تعشقين سرَّ الوجود، يطلب منها أن تتصرَّف كما تشاء، وتسأله أن يعود إلى الشعر.»

سرعان ما يصحو الشخص المتأمِّل في أعماق عمر؛ فهو يتأمل ابنتَيه بثينة وجميلة، وتبدو زينب هنا أكثر قدرةً على محاورته؛ حيث تبدو هنا صاحبة رأي، غير منكسرة، لكنه يردِّد في أعماقه إن إجابات امرأته العاقلة تخنقه وتستفزه. تكتشف زينب أن تغيُّرًا أصاب زوجها، فتواجهه «ما أحوج الرطوبة اللزجة إلى عاصفةٍ هوجاء.»

زينب هنا امرأة مختلفة، محاورة، ذات هوية وقوة شخصية، وزوجها يحكي لها أن سبب تغيُّره ما قاله له أحد موكِّليه: «ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟» لذا فإن الفصل الخامس هو بمثابة حوار دار بين الزوجين وهما يتمشَّيان. أمَّا القسم الثاني من الفصل فهو حوار قديم بين مصطفى وعمر، يذكرنا بالمحاورات بين عيسى الدباغ وأصحاب تربطه بهم علاقات مشابهة، ثُم يتذكر امرأته، بشكلٍ رائع «تزوجت قلبًا نابضًا لا حدود لحيويته، وشخصية فاتنة حقًّا.» ثُم يقول: إن الداء الذي زهده في العمل هو الذي يزهده في زينب.

دارت هذه الفصول في الإسكندرية، على الشاطئ، وعادت الأُسرة إلى القاهرة، يعود عمر إلى ملفَّات القضايا، ويلتقي بصديقه مصطفى الأديب يخبره أن البيت لم يعد بالمأوى المحبوب، وتبدو الحيرة ماثلةً لدى عمر، أن عملي وزينب ونفسي، كل أولئك شيء واحد، هو ما أودُّ التخلُّص منه.

في الفصل السابع تدخل مارجريت حياة عمر، هي مطربة الملهى الليلي، إنجليزية التكوين، اشتُهرت بأغنية:
كلما رأيتك كثيرًا ازددت شهوة.
وكلما ازدادت شهوتي زاد لهيبي.
وعندما يعود إلى بيته يبدأ في الشعور بالفارق بين المطربة وبين زوجته التي انتظرت عودته لليلة الثالثة على التوالي حتى ساعة متأخرة، ويبدأ في البحث عن المُغنِّية، مع شعور بتأنيب الضمير تجاه زوجته «كلما رأيت ابنتي خُيِّل إليَّ أنني أرى الحياة على قدمين.» وتدخل وردة حياته بعد عودة المُطربة إلى بلادها، ويمرُّ عمر بحالة من التبرُّم بكل ما حوله، ابتداءً بالمكتب، تبدأ بعد عشاق للعشق كلَّفه الكثير، وعاش أيامًا سعيدة مع وردة، يتحدث إلى ابنته، يحدِّثها عن الشعر، ويتلافى أن يتذكر شيئًا عن أمِّها، «قتل الضجر كل شيء، وانهارت قوائم الوجود بفعل بضعة أسئلة.» يزوره في المكتب السيد يزبك، صاحب الملهى الليلي، الذي كانت تعمل فيه وردة، متمنيًا أن تنتهي العلاقة كي تعود وردة إلى الملهى.

تتغيَّر نبرات الحوار بين زينب وزوجها بعد أن هجرها إلى امرأةٍ أخرى، لكن دون انكسار، تذكِّره بأن ابنته في سنِّ الزواج.

تبدو مارجريت كذبةً عابرة في حياة عمر مثلما سنرى ذلك في الفيلم؛ مما يسمح بظهور الراقصة المصرية التي ستدخل حياته بقوة، وسوف يظل متنقلًا بين بيته والبيت الذي أعدَّه لها، وفي الرواية فإن هناك ابنتَين لعمر اقتصرتا على بثينة فقط في الفيلم. ومن الواضح أن بثينة في الرواية الأقرب إليه، فبينما العلاقة تبدو شديدة البرود مع زوجته، فإنه يلجأ إلى ابنته للتفاهم والتحاور من وقتٍ لآخر.

يبدو عمر محبًّا للحياة من خلال علاقته بالراقصة وردة؛ فهو يسعى إلى أن يبهرها بالشقَّة التي أعدَّها لها وصرف عليها الكثير، ويصف الكاتب الحرارة التي دبَّت في جسده وهو يدخل تحت الدش مع المرأة، إنه الآن رجل ماجن، يدرك أنه لا معنى للحياة بدون الحُب «دعيني أكوِّن جملة لم يسبق ذكرها على لسان.»

وعن بثينة فهي شاعرة، حادة أكثر مما ينبغي لشاعرة في نظر أبيها، وهي تحاول التقريب بين أبيها وأمها في محنة البرود بينهما.

الرواية كلها تدور من خلال شخصية واحدة أساسية، يتمحور حولها آخرون، مثل بقية أشخاص محفوظ في تلك السنوات، صابر وسعيد مهران وعيسى الدباغ، ونحن ننتقل معه عبر الفصول، فأمام إصرار بثينة فإن الأب يعترف أن هناك امرأة أخرى في حياته، وفي الفصل العاشر يتضح التفسير الأدبيُّ لعنوان الرواية الذي لن نحسَّه أبدًا في الفيلم «التسوُّل!» في الليل والنهار، في القراءة المجدبة والشعر العقيم، في الصلوات الوثنية، في باحات الملاهي، في تحريك القلب الأصمِّ بأشواك المغامرات الجهنميَّة.

وفي الفصل نفسه تبدو المعاني الفلسفية واضحة «انهارت قوائم الوجود بفعل بضعة أسئلة.» بل إن عمر يبدو متمسكًا بعشيقته التي تشكل علاقتها به، حين يأتيه صاحب الكباريه، ويبلغه أن اعتزال وردة الرقص قد أثر على إيراد المحل، ونفهم من الحوار أن العلاقة مع وردة لن تكون «إنها تضحية كبيرة أن تهجري عملك.»

هنا تتغيَّر مشاعر الرجل، فتنفتح نفسه إلى العمل وإن ظلَّ على تحفُّظه في قبول القضايا، ثُم يدخل الرجل في حالة التصوُّف، وتمتلئ الرواية بآراء وأفكار الحمزاوي «إن العقيدة كانت تعطينا معنًى متكاملًا، وإننا نحاول أن نملأ الفراغ تحقيقًا لقانون طبيعي.» أو «ما دامت الدولة تحضن المبادئ التقدمية وتطبِّقها، أليس من الحكمة أن نهتمَّ بأعمالنا الخاصة؟» مما يعني أن الرواية تدور أحداثها في الستينيات، وليس في زمن الطرابيش كما في الفيلم.

وفي الفصل الثاني عشر تدرك أنه ليس كمثل وردة في حبِّها أحد، هي مغرمة برجلها إلى حدِّ الجنون، مغرمة بعشقها لحدِّ العبادة، وهي متفرِّغة لحبها، تقوم بجميع واجباتها بلا مُعين، أمَّا هو فبدأ يكتب الشعر، حتى وإن لم يقتنع به مصطفى، مردِّدًا أن السعادة أهمُّ من الشعر، وفي الفصل التالي يعترف الكاتب أن نشوة الحبِّ لا تدوم، ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر، وأن الاستقرار مات ولا سبيل إلى بعثه، فتعود مارجريت للظهور، ويصبح زير نساء مع الإبقاء على وردة في حياته، وهو يمارس الجنس مع النساء في سيارته في الصحراء، بينما تلد امرأته فيعود مرةً أخرى إلى البيت، لا كراهيةً لزوجته ولا حبًّا لها، «اختفاء الكراهية دليل على اختفاء زينب نفسها، ودليل انتصار نهائي على دنياها، وانتصار الغربة الزاحفة.»

إذن فعمر له ثلاثة أبناء في الرواية: بثينة الرشيقة، وجميلة البدينة، ثُم الوليد سمير، إلى أن يظهر عثمان خليل في الفصل الخامس عشر، رجل خرج من السجن، إنه يلقاه أبعد ما يكون عن الاستعداد النفسيِّ لذلك، رجل خارج إلى الدنيا، هائمًا في الدنيا من جديد، وفي منتصف الحلقة الخامسة.

وهنا نفهم أن عثمان دخل السجن لسببٍ سياسيٍّ، الآن صارت الحياة بالنسبة له خدعة سمجة.

ويدور حوار بين الأصدقاء الثلاثة القُدامى: مصطفى، عثمان، عمر، يجلبون الماضي إلى الحاضر، وتتمُّ دعوة عثمان إلى البيت، فيلتقي بالزوجة زينب «عثمان صديق قديم، وهو زميلي في المكتب الآن، إنه من المسجونين السياسيين.»

تسأله بثينة: أسجنه الملك؟

فيردُّ: بل المجتمع كله.

وفي الحوار، يردِّد عثمان: «تبوأ العلم العرش، فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة، وكم ودَّ أن يقتحم الحقائق الكبرى، ولكن أعياه العجز والجهل، وحزَّ في نفسه فقدان عرشه، فانقلب غاضبًا أو عدوًّا للرواية. ولمَّا استحوذ العلماء على الإعجاب بمحاولاتهم غير المفهومة، نزع الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب باستحداث آثار شاذة مبهجة غريبة.»

تبدأ النساء في الاختفاء من حياة عمر الحمزاوي، فيعيش وحده في الخلاء، وفي الفصلين الأخيرين من الرواية، يبدو كأن عمر هو الذي يتحدث، بعد أن يروي الكاتب الأحداث بأسلوب المحايد، إنه يكتب شعرًا مجنونًا في وحدته «سهرت الليل كله في الحديقة، ولم يكن معي في الظلام شيء، والنجوم تومض في القبَّة، وساءلتها عن أشواقي، وساءلتها متى يتحقَّق الحلم المنشود، وصرخت حتى اضطربت لصراخي خلايا السرو، ولما ثبت كل شيء ولا شيء، ورنوت إلى نجم متألق بين النجوم.»

ويبدو الفصل الثامن عشر بمثابة تأمُّل صوفيٌّ داخل عمر الذي يتكلم إلى نفسه، فيرى بقلبه ما لا تشهده عيناه، إنه سمير يثب إلى الأرض متخذًا من رأس عثمان رأسًا له، ثُم يحبو نحوه، يفزع، فيعود والكائن المرتب من سمير وعثمان يتبعانه، وتتراكم الأشياء حوله، إنه حلم كان يفكر فيه طوال اليقظة.

أمَّا الفصل الأخير فيبدو مختصرًا بشدة، لقد وقع المحظور، وها هو عثمان مطارد، يبلغه أنه تزوج من ابنته بثينة، رغم فارق السن، «هو الحبُّ كما تعلم، وفي بطنها الآن ينبض جنين هو ابني وحفيدك.» إنه الحلم يتجسَّد إذن، ونحن لا نفهم لماذا عثمان مطارد الآن، وتمتزج الرؤيا بالواقع، بالهذيان، يحذِّره عثمان أن أُسرته في خطر، يقول لعمر: «الوداع يا أخا الجهاد القديم!» ويبلغه أنه محاصر، وهنا يأتي رجال الشُّرطة، فيما يشبه خاتمة رواية «اللص والكلاب»، فالأضواء الكاشفة تجتاح البيت من جميع الجهات، فتحمله شعلة من نور، ويتمُّ القبض على عثمان، وينطلق عيار ناريٌّ يصيب عمر، فيشعر بألمٍ حادٍّ، كأنه ألم حقيقيٌّ لا عبث شيطان بحلم. لقد اخترقت الرصاصة التَّرقُوة بما يوحي أنه باقٍ على قيد الحياة.
هذه هي رؤية للفعل الأدبيِّ الذي تحوَّل إلى فيلم، بدا كأنه لم يستطع أن يخرج عن إطار الرواية، سواءً من حيث انسياب الأحداث أو الأشخاص؛ أعدادهم، ومصائرهم، والأزمنة التي ينتمون إليها، وأيضًا الأماكن، فكأنما نجيب محفوظ قد كتب سيناريو متكاملًا في صورة رواية، تجعل أيَّ كاتب سيناريو، مهما كانت مهارته، لا يستطيع الخروج عن حدود الرواية، ولعلَّ هذا هو السبب في أن محفوظ لم يشأ الاقتراب من الأفلام المأخوذة عن رواياته، ومنها هذه الرواية.
تبدأ أحداث فيلم «الشحات» كما اختار المُخرج، وكاتب السيناريو له، من خلال الماضي غير الموجود في بداية الرواية، هناك خليَّة سياسيَّة وطنيَّة، تتكوَّن من بعض الشباب، لتثور على النظام الفاسد في مصر قبل الثورة، كما يرى الفيلم، هذه الخليَّة يرأسها عثمان أحمد مظهر، وتضمُّ كلًّا من عمر الحمزاوي محمود مرسي، وحامد حسين شفيق، ومصطفى بدر الدين جمجوم، وتدور مناقشة سياسية قبل القيام بعملية اغتيال لأحد الساسة الكبار، ويعترض حامد على الأسلوب الإرهابيِّ، مؤمنًا أنه بالعلم وحده، وليس بالسياسة يمكن لكلِّ شيء أن يتغيَّر، إلا أن عثمان يتصدَّى لهذا الاعتراض مؤكدًا أن السياسة هي «علم تغيير المجتمع».
ثُم تبدأ العمليَّة. تمرُّ السنوات، ويتخرَّج عثمان مع زميليه، ويصبح محاميًا شهيرًا، فبينما تبدأ الرواية وعمر يتردَّد على عيادة صديقه الطبيب، فإن الفيلم يبدأ بالعمليَّة الفدائيَّة؛ أيْ إننا أمام ثلاثة نجوم في الفيلم، لم يلبث أن ينفرد ببطله عمر ومن حوله كوكبة الشخصيات التي مرَّت به، فقد صار عمر محاميًا مشهورًا ناجحًا، وقد تزوج وأنجب فتاة رائعة، إنه في أزمة منتصف العمر، أمَّا حامد فقد أصبح طبيبًا، وصار مصطفى صحفيًّا فنيًّا، العلاقة لم تنقطع؛ أيْ إن الفيلم بدأ قبل زمن الرواية بكثير، ففي عيادة الدكتور حامد يبدو عمر مريضًا ذا حالة خاصة، فهو فاقد لمذاق الأشياء، منها الرغبة في العمل، ينصحه صديقه الطبيب أن يأخذ راحة، فيذهب مع زوجته مريم فخر الدين وابنته نيللي إلى الإسكندرية للاستجمام، وهناك يسترجع أيام شبابه مع رفاقه.
لا يتخلَّى الفيلم عمَّا جاء بالرواية من رؤى فلسفية، فعمر يبدأ في البحث عن سرِّ الكون والحياة، ويبدأ في الانفصال عن منزل زوجته، ويبدأ في الشعور بالبرود الشديد تجاه امرأته، خاصةً في علاقته الجنسية؛ مما يفتح له باب التعرُّف على البريطانية مارجريت حبيبته التي تعمل مطربة في أحد الملاهي الليلية، إنها امرأة حسناء، تصغره بكثير، وسرعان ما تبدأ العلاقة في الإصابة بالضمور، فيتعرَّف على وردة شويكار الراقصة التي تُدخله إلى حرارة جسدها، فيؤجر لها شقَّة، ويعيش معها خليلًا، ويبدأ في استعادة نفسه، ويعترف لها أن أنقذته من التِّيه والضياع، وأنه أحبَّها، ومن خلالها أحسَّ أن الحبَّ هو الحياة، وأنه الحقيقة المؤكَّدة في الوجود.
عمر الحمزاوي سوف يتكرر في عالم نجيب محفوظ، في روايةٍ أخرى بعد سنوات، هو «قلب الليل» حيث يمرُّ بأزمة فكرية وضياع نفسيٍّ، يحسُّ بالتقارب مع ابنته، فيحدثها في كل ما يعتمل بفكره، ويبدأ في دراسة كتب التصوُّف.
ومثلما في الرواية، ففي منتصف الأحداث يتمُّ الإفراج عن زميله القديم عثمان أحمد مظهر الذي اغتال إحدى القيادات السياسية في العملية السابق الإشارة إليها، ويتردَّد عثمان على مكتب عمر ومنزله، دون أن يعرف أن قصة حُبٍّ تمَّت بين صديقه الخارج من السجن وبين ابنته الوحيدة بثينة، في الوقت الذي تزيد عزلة عمر باحثًا في عالم التصوُّف ومتأملًا في وجود الله، لكنه يكتشف أنه مرتبط أكثر بالدنيا.

وفي منفاه الاختياريِّ تأتي المتاعب إلى عمر، فبينما هو يقرأ القرآن وكتب التصوُّف، يأتيه عثمان كي يأوي في مسكنه نفسه، ويخبره أنه تزوَّج من ابنته، وأن الشُّرطة تطارده، لكن عمر لا يعيره اهتمامًا، ووسط مطاردة فإن عمر يُصاب برصاص الشُّرطة عن طريق الخطأ، ثُم يتمُّ القبض على عثمان.

مثلما كتب عبد المنعم سعد في كتابه «السينما المصرية في موسم» فإن السيناريو الذي كتبه أحمد عباس صالح قد أبرز أزمة الفكر والضياع لعمر الحمزاوي الشخصية المحورية للقصة، وبذلك فإن الفيلم لم يقُم بتفريغ الرواية من معانيها.

وهناك إشارة إلى أن الفيلم تدور أحداثه كلها قبل الثورة، باعتبار أن الشُّرطة التي قبضت على عثمان كانت تضع الطرابيش على رءوسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤