الشيطان يعظ

الرواية القصيرة تحمل عنوان «الرجل الثاني»، وهي منشورة في المجموعة القصصية «الشيطان يعظ».
وربما لهذا السبب، فإن كاتب السيناريو أحمد صالح قرَّر أن يمنح الفيلم اسم المجموعة، وهو أيضًا اسم مسرحية قصيرة في نهاية الكتاب؛ لذا فلا يكاد المتفرِّج يحسُّ بالمرَّة أن هناك ما يدلُّ في الفيلم على أن الشيطان يعظ، لكن في حوار الرواية يردِّد أحد الرجال: «للشيطان دور في رحاب الفتوَنة.»
والرواية، أو النصُّ الأدبيُّ، هو عن الفتوَّات، لكنه ليس عن الحرافيش، وقد بدأه نجيب محفوظ بالحديث عن نفسه، وهو أمر نادر في أعماله، حيث قال: جذبني مقهى النجف في سنِّ المراهقة، لم يجذبني المقهى نفسه، ولكن شدَّني بقوة سحرية صاحبه موجود الديناري الأسطورة الباقية، إنه آخر الفتوَّات، غير أنه بالقياس إلى أول الفتوَّات وآخرهم سوف يلبث الكاتب أن يروي الحكاية باعتبار «يُحكى أن».
الديناري هو الفتوَّة، يُحاط برجاله، والرجل الثاني له هو طباع الديك، يردِّد الديناري أن الفتونة الحقَّة لا تستند إلى القوة والشجاعة وحدهما، فيتملَّقه «طباع» منكم تعلَّمنا مكارم الأخلاق، وفي حديثه إلى رجاله، يعلن الديناري عن مهمَّة سريَّة، إذا وفق صاحبها فاز بالمكانة اللائقة — الرجل الثاني — وإن هلك تعهَّد أهله بالعناية، ومن وسط الرجال يبرز شطا الحجري الشابُّ، وقد قبِل المهمَّة؛ مما يوغر الحقد في صدور الآخرين.
المهمَّة يتمُّ الإعلان عنها لتوِّها، بل على شطا أن ينتظر، هي أن يعثر على أجمل بنت في الحارة، وأن يذكر باسمه على الديناري، إنها ليست مهمَّة الرجال، وعلى الشابِّ أن ينفِّذ، عليه أن يصير خاطبةً، أو ديوثًا، وسرعان ما بدأ في المهمَّة كلما لمح حسناء سجَّلها في ذاكرته، إلى أن رآها، فراح يتقصَّى عنها، إنها صغيرة بالنسبة للمعلم، اسمها وداد، يتصوَّر شطا أن المهمَّة انتهت، لكن المعلم يطلب منه أن يغازلها.

يجد نفسه بين الرغبة في الهروب أو الصمود، لكن ليس وراء الهرب إلا السخرية والضياع، فيبدأ في تتبُّعها، وفي أحد الأفراح يغمز لها، فتبتسم، ثُم يستكمل متابعتها ويحدُث التقارب بينهما، ويتواعدان من أجل اللقاء.

وفي اللقاء الأول يقرِّران الهرب، فقد وهبته قلبها النابض، ووضعت مصيرها بين يديه، ويحسُّ أن ما يحدُث امتحان له من طرف المعلم، أمَّا هو فقد اكتشف أنه يحبُّها كما تحبُّه أكثر، ويهربان إلى مكانٍ أمين، إلى الدَّرب الأحمر، ومضيا في الطريق مصمِّمَين سعيدَين، يحدثان ويولدان من جديد.

وفي دار المعلم الشبلي، يطلب شطا الحماية، ويحكي له السبب «لك الحماية والإقامة.» لكن الشبلي يرفض أن يطلب من جماعته، «نحن نفضِّل الوغد المُطيع على الشهم المتمرِّد.»

تبدأ حياته الجديدة كنجار، غريب عن المكان والناس، وسط تحرُّش ملحوظ؛ فاللعنات تصبُّ على وداد وجمالها الذي يهدِّد الحارة والدَّرب، والأخبار تصل أن أُسرتَي العروسين قد تعرضتا لغضب الديناري، ويشعران أنهما اندفعا مع عاطفة طاغية دون تفكيرٍ في العواقب، «ما يعانيه أهلك وأهل زوجك فوق ما يحتمل البشر.»

إذَن فالثمن غالٍ، المكان الذي وفدوا إليه لا يقبلهم، والأخبار تأتي سيئةً عن الأهل، ويتنهَّد قائلًا: «الحياة لا تُطاق.» وتبدأ الاتهامات تُلقى من أحدهما على الآخر، إنه السبب «نحن نهرب من الغضب في مواجهة أنفسنا.» يرسل شطا إلى معلمه الديناري أن يسامحه، لكن المعلم يرفض، تقول: «ثمة مهمَّة عاجلة؛ وهي أن نرفع العذاب عن أهلنا، وأن نبعد عن هذا الجو المعادي لنا.» وترى أن الطلاق هو أول الحلول.

عندما يتحدث شطا إلى الشلبي برغبته في العودة، يأمره الشبلي أن يطلِّق زوجته قبل العودة؛ مما يجعله يحسُّ أنه يريدها لنفسه، وعند التنفيذ جبرًا يرفض شطا الطلاق، فيضربه رجال المعلم حتى نزف الدم من بين أسنانه وأنفه، ويتمُّ اغتصاب وداد أمام زوجها بشكل موجَز «فلترَ بعينيك عاقبة عنادك.» وهو الأمر الذي تمَّ في الفيلم بالمزيد من التفاصيل.

تكوَّمت وداد ممزَّقة الملابس، وطُرح شطا على الأرض ملوثًا بالدم، وأمام إصرار الزوج أن يقتل الشبلي يقرِّر ألا يطلِّق امرأته، ويعودان إلى الحارة القديمة فيما يشبه الزفَّة، لم يقضيا هنا سوى خمسة أيام، وعند رأس الحارة يستقبله طباع الديك: «لن يخدعني كلامك المعسول، لقد علمتني المصائب في أيام ما لم أتعلَّمه في عشرين عامًا، وهيأتني لمواجهة المصير أيًّا يكُن.»

وسط زفَّة من السخرية يدخلان إلى الديناري الذي يقول: «إني فتوَّة الحارة وحاميها، وليس من مذهبي أن آخذ البريء بالمذنب.»

وبعد اللقاء يردِّد شطا: «لم يتركني حرًّا، أمرني أن أستمر، ثبَّتني في أعمال الحيرة، لم يطردني من العصابة ولم يرجعني إليها، لم يعاقبني، ولم يعفُ عني، لم تصدُر عنه كلمة واحدة تدلُّ على الرضا ولا على الرفض.»

ويجد شطا نفسه وسط احتقار أقرانه، يضطرُّ أن يبحث عن رزقه بعيدًا عن الحارة ويعيش مع زوجته ومع أمِّه، وتنظر إليه بفتور.

وتمرُّ الأيام، وتأتي الأقاويل أن الشبلي راح يتباهى بأنه اغتصب وداد خطيبة الديناري على مرأى من شطا الحجري، رجله الثاني، وما إن وصلت الأخبار حتى تسلَّح الرجال بالنبابيت والخناجر، وشُحنت عربات بالزلط والقوارير وخردة الحديد، وانضمَّ شطا إلى الرجال دون أن يُدعى إلى ذلك، «جاء اليوم الذي أحلم به.» وكانت الواقعة؛ حيث طعن شطا الشبلي طعنةً قاتلة متلقِّيًا في الوقت ذاته عشرات الضربات القاتلة، وكان من جرَّاء ذلك أن غضب المُحافظ، فاتخذ قراره الحاسم.

يبدو الكاتب كأنه يختصر الأحداث، وفي الفصل الأخير من النصِّ الأدبيِّ يعود للتحدُّث بلسانه كراوية، فشطا قد مات، والديناري خرج من السجن، وفُرضت عليه رقابة، وقِيل إن الديناري هو الذي تكفَّل بدفن شطا، الذي اعتبر الرجل الثاني «وقد رأيت بعيني وداد، وهي امرأة تجاوزت الأربعين، وكانت تبيع الخوص والريحان في مواسم زيارة المقابر.»

«هكذا جذبني مقهى النجف قبل أن أبلغ سنَّ الشباب.»

من الواضح أن النصَّ بشكله الأدبيِّ وأسلوب الحكْي، وموضوعه يصلح أن يكون واحدًا من حكايات الحرافيش، ولعلها الحكاية الحادية عشرة والأخيرة، باعتبار أن الديناري هو آخر الفتوَّات، فقد صار مجرَّد صاحب مقهى في النصِّ وفي الحياة.

أمَّا الفيلم الذي أخرجه أشرف فهمي، حمل اسمًا تجاريًّا هو «الشيطان يعظ»، كما حمل اسمًا عربيًّا هو «الجبابرة»، وقد جسَّد فريد شوقي فيه شخصية الديناري، إنه ملكٌ غير متوَّج، لكنه مهاب، مجرد دبَّة عصاه على أرض الحارة الحجرية كافية لأنْ يختفي أهل الحارة جميعًا من الطريق، مثلما كتب الناقد مجدي فهمي في مجلة «الشبكة»، وهكذا يبدأ الفيلم، بما يعلن عن المهابة؛ فالديناري يغادر عربته وينزل إلى الحارة الخالية، ويمشي ببطءٍ وخطًى وتيرة إلى ساحة صغيرة، حيث ينتظره ثلاثة شبَّان أشدَّاء، يحاولون اعتراض طريقه، لكن الديناري ينهال عليهم الواحد بعد الآخر، حتى يسقط مَن سقط، ويهرب الثالث.

وعلى الفور تنطلق زغاريد نساء الحارة؛ فها هو الفتوَّة قد انتصر من جديد، يجلس الديناري في المقهى، وإلى جانبه طباع، الفتوة السابق الذي فقد مخالبه، فصار ظلًّا للديناري، يأتي شطا إلى طباع، يطلب من طباع أن يقرِّبه من الديناري، وهو كوَّاء يرى أن الفتوَنة هي المستقبل، ومنها يصبح المرء مميزًا.

ومثلما في الرواية فإن الديناري يطلب تطوُّع أحد رجاله للقيام بمهمَّة وصفها بأنها خطيرة، ووسط تردُّد الجميع، يتقدَّم شطا «نور الشريف» عارضًا نفسه، ورغم أن الفتوة ينظر إليه شذرًا، لكن الإصرار في عينَي شطا يدفع المعلم على الموافقة.
وسرعان ما يعرف شطا بالأمر، مثلما حدث في الرواية، ويحسُّ أن المهمَّة لا تناسبه، وعندما يحكي أمر المهمَّة لأمِّه «كريمة مختار» فإنها تعاتبه، لكن شطا كان قد أخذ على عاتقه تنفيذ المهمَّة؛ فهو يعرف بالفعل مَن هي الفتاة الأجمل، هو لم يبحث عنها مثلما في النصِّ الأدبيِّ؛ فهي وداد ابنة بائع الفول «لم يظهر لها أب في الرواية»، وهنا تقوم الأمُّ بخِطبتها إلى الديناري، باعتبارها خاطبة، وهذه فروق ملحوظة في النَّص.
وبدلًا من أن ينفِّذ شطا المهمَّة لمعلمه ينفِّذها لنفسه، ولم يكُن أمامه سوى الهروب، وعلى الجانب الآخر، فإن الشبلي «عادل أدهم» يوافق على إيواء الزوجين؛ لأنه يكره الديناري، وكما في الرواية فإنه يعيده إلى مهنته ككوَّاء.

الشبلي يقيم الفرح ويرقص أمام الموكب بخنجره، بينما في الرواية كان أكثر حرصًا وكبرياء، وتبدأ وداد في الإحساس بالأمومة في أحشائها، وحسب النصِّ الأدبيِّ، فإن الزوجين لم يقيما في حارة الشبلي سوى خمسة أيام، أمَّا الفيلم فقد أطال المدَّة إلى شهور، بالطبع من أجل أن تتعاظم شدَّة حادث الاغتصاب.

ولم يحدُث في الفيلم أن قام الديناري بتعذيب أُسرتَي الزوجين الهاربين، ولم يبدأ الصراع بين الزوجين؛ حيث رمى كلٌّ منهما باللوم على الآخر؛ فالشبلي تحلو وداد في عينيه، بعد عدَّة أشهر؛ لذا يطلب من شطا أن يطلِّقها كي يتزوجها؛ أيْ إن المنطق اختلف في مسألة الاغتصاب، فما إن يرفض شطا، حتى يأتي رجال الفتوة وينهال فريقٌ من الرجال ضربًا على الزوج، وينطلق فريق بصلب الزوجة على الفراش كي يغتصبها الشبلي أمام زوجها.

يعود الزوجان إلى ملاذهما الوحيد، حارة الديناري، تعيش وداد في بيت أبيها، وشطا يرجع إلى أمِّه، يزور الديناري شطا ويطرده من الحارة، يردِّد: «شبلي لم يغتصب وداد زوجتي، إنما هو هتك عِرض خطيبتك.»

في النصِّ لم يستقرَّ الديناري إلا بعد أن جاءته الأقاويل بأن الشبلي يفخر بذلك، أمَّا الفيلم فقد نبهت هذه العبارة الفتوة أن ينتقم، وتبدأ بعض التعقيدات في الحدوث، فطباع يدبِّر عملية خطف ثلاثة من أعوان الشبلي، وهذا يردُّ على العملية بخطف الطباع نفسه، الذي راح يسلِّطه في مهاجمة الديناري.

لقد غيَّر كاتب السيناريو أحمد صالح من الأحداث الأخيرة، التي كتبها نجيب محفوظ على عجالة، كأنه يحاول التخلُّص من النَّص، أمَّا الفيلم فقد أعطى المزيد من التفصيلات، فشبلي هو الذي يشنُّ هجومًا على الحارة التي يتزعمها الديناري، وتكون الفرصة للمواجهة الحاسمة بين شطا والشبلي؛ حيث يغرس الشابُّ سكينةً في جسد خصمه، ويُخرج الكبد، ويرفعه وسط الجماهير المتلاحمة وهو يصيح: «شبلي مات، شبلي مات.»
ويموت شطا عندما يقطع أحد أعوان الشبلي رأسه، وفي اللحظة نفسها تلد وداد ابنها، من الواضح أن هناك تشابهًا بين قصة الفيلم، وبين فيلم «فتوَّات بولاق»، وقد عقد مجدي فهمي مقارنةً في المقال المُشار إليه عن الفيلم سنعود إليها في مكان آخر، وقال: إن نجيب محفوظ باع للسينما قصتين من قصص الحارة، إحدى قصص أولاد حارتنا، وهي قصص بلا عناوين مستقلة للمنتج جمال التابعي، ثُم قصة «الرجل الثاني». وأوضح أن وحيد حامد تأثر بقصة الرجل الثاني وهو يكتب السيناريو «من هنا جاء التشابه، من هنا جاءت نقط التَّماس.» ولكن النتيجة في نظري مختلفة تمامًا، ففيلم يحيى العلمي خاطب الجماهير بمفاهيم غير تلك الذي ذهب إليها أشرف العلمي. قدَّم فيلم مغامرات، أشرف قدَّم فيلم أبعاد وإسقاطات. فالفتوة في «الشيطان يعظ» ليس مجرد فتوَّة. «هو قد يكون حاكمًا، قد يكون سلطة، قد يكون دولة مستعمرة، شخصيات الفيلم تراها وفقًا للعين التي تنظر بها إليه، وهي في جميع الحالات شخصيات تكاد تبرز معالمها من الشاشة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤