وكالة البلح

من الواضح أن كاتب السيناريو مصطفى محرم عندما قرأ الرواية القصيرة، أو الأقصوصة الطويلة، «أهل الهوى» قد وضعها جانبًا، وقرَّر أن يكتب عملًا مختلفًا بنسبة ٥٠٪؛ أيْ إنه التزم في فيلمه بأحداثٍ من الرواية القصيرة، ووضع من عندياته الكثير بما يتناسب مع الأدوار الجديدة التي تجسِّدها نادية الجندي في هذه المرحلة التي اتجهت فيها للتعامل مع الأدب، خاصةً بعض أعمال نجيب محفوظ، ومنها «الخادمة».
مصطفى محرم الذي التزم بنصوص المؤلِّف الأخرى، خاصةً «أهل القمَّة»، و«الحب فوق هضبة الهرم»، قام بكتابة فيلم تفصيليٍّ من أجل نادية الجندي في المقام الأول، فيلم فيه يلتفُّ الرجال حول امرأة قوية الحسِّ، شهوانية، قوية، تغلب الرجال وتهزمهم، وتسعى إلى امتلاكهم من خلال أموالها. والرواية التي نشرتها جريدة «مايو» في صفحتين كاملتين صدرتا في شهر مارس عام ١٩٨١م، صدرت فيما بعد في سلسلة روايات الهلال في نوفمبر عام ١٩٨٨م؛ أيْ عقب فوز محفوظ بجائزة نوبل بشهر واحد، وقام المؤلِّف بنفسه باختيار مجموعة من القصص القصيرة من أعماله السابقة لمصطفى نبيل رئيس تحرير السلسلة بناءً على طلب هذا الأخير، وعنوان الكتاب الصادر في ١٥ نوفمبر باسم «أهل الهوى»، وكانت هي العمل الوحيد من بين القصص المختارة، الذي تمَّ تحويله إلى فيلم قبل نشر المجموعة بستِّ سنوات، ولا شكَّ أن كاتب السيناريو كان يختار النصوص الأدبية المنشورة في الصحف ليحوِّلها إلى أفلام قبل أن تصدُر في كتب.
و«أهل الهوى» نصٌّ صعب القراءة، غير مباشر، قياسًا إلى «أهل القمة»، و«الحب فوق هضبة الهرم»، فالكاتب يخفي أسماء أبطاله، خاصةً عبد الله الذي فقد الذاكرة، فكان هذا هو الاسم الذي أطلقته عليه نعمة الله. والسطور الأولى تبدو غامضةً عندما يقول الكاتب: «من فوهة القبو دائمة الظلمة زحف على أربع، زحف في بطء وتخاذل المريض المتهالك، مدَّ ذراعه إلى جدار بيت.» هذا الرجل، فاقد الذاكرة، دخل القبو عاريًا بعد أن هاجمه البعض، وفي الفقرة نفسها يقدِّم لنا الكاتب الشخصية المحورية، إنها نعمة الله الفنجري، تاجرة الخردة.
كاتب السيناريو استفاد من تاجرة الخردة هذه، وجعل فيلمه يدور في منطقة الخردة بوسط القاهرة، و«وكالة البلح» الذي دارت فيه أحداث فيلم «الأسطى حسن» عام ١٩٥٢م، وهناك نقاط تقارب بين المرأة في كلٍّ من الرواية والفيلم، بصرف النظر عن ثقافة كلٍّ منهما، ففي الفيلم هناك امرأة تلتقط الرجال المليئين بالخصوبة، حتى إذا امتصت عافية أيٍّ منهم لفظته لتأتي برجلٍ آخر، تكرر هذا أيضًا في «شباب امرأة»، وهكذا كانت نعمة الله، التي التقطت عبد الله فاقد الذاكرة، وضمته إلى عشيرتها، واستبدلت به عبدون الذي كان يومًا في فراشها، وقد بدا هذا واضحًا في الفيلم أكثر من النصِّ الأدبي.

في الفيلم هناك دائرة تلفُّ حول نفسها، مثل كل الدوائر التي دارت في حياة نعمة الله؛ أيْ إن ظهور عبد الله واختفاءه هو دائرة من دوائر أخرى من الرجال في حياتها، تمتصُّهم بعد أن تتزوجهم، ثُم ترمي بهم خارج جنتها الجنسية كي يدخل رجل جديد، مثل الشابِّ الذي غار منه عبد الله في نهاية النصِّ، وصعد إلى حياة نعمة الله.

أمَّا في الفيلم فإن الأمر اختلف، فقد وقعت نعمة الله في حبِّ زوجها الذي تخلَّى عن الجلباب، وصار من الأفندية، وأحبَّ فتاةً أخرى؛ ابنة أمجد بيه، وتزوَّجها، ويترك زوجته في دوَّامة نفسية رهيبة كي تطارده، وتحوَّلت الحدوتة إلى قصص قتل وجرائم، سوف نتوقف عندها.

النصُّ الأدبيُّ هو نصُّ عشقٍ مليء بالشبق، لرجل فحل وامرأة شرهة، وهناك قصة إشباع يعقبها ملل وهجران، وهناك شخصيات في الرواية تم استبدالها تمامًا؛ هما رياض الدبش القواد، وحلومة الجحش بائع الفول. حيث رأينا بديلًا عنهما رجلين يسعيان للتقرُّب من نعمة الله، ويحاولان الزواج منها، فتنتقي أحدهما للتخلُّص من عبد الله بعد أن صار من كبار التجار.
أمَّا الشخصيات الأساسية في الرواية، والتي تم إلغاؤها في الفيلم، فهناك مخلوف زينهم المريض في عيادة الطبيب النفسي محسن زيان، الذي يتردَّد عليه عبد الله، والذي أوصته نعمة الله أن يعلِّمه الخوف، وهو الرجل الذي فقد كل الصفات عدا القوة الجنسية، وذلك باعتبار أنه إذا تعلَّم الخوف فسوف تروضه وتسيطر عليه، كما ألغى الفيلم تمامًا شخصية الشيخ جابر، الذي طلبت منه المرأة أن يعلِّمه الدين ليتعلَّم أصول الصدق، فهي «ترغب امتلاك الشابِّ وتخاف تمرده، وعلَّمتها حياتها أن القليل من الدين مفيد، أمَّا الكثير منه فينذر بالخطورة والغمِّ، وهي مرتاحة إلى نموِّ رغبته فيها، وعذابه الدفين بالتردُّد والحياء والخوف بعد أن وسع قلبه الرغبة والعبادة.»
هذه المعاني العظيمة ألغاها الفيلم من حساباته تمامًا، لقد وضع الكاتب رؤيته في امرأة شبقة، إذَن فالرجل الذي تمَّ العثور عليه عاريًا، وقد فقد ذاكرته، وصارت ذاكرته الجديدة هي نعمة الله، بأموالها وجسدها وبيتها الذي في داخل الورشة، قد تغيَّر معناه في الفيلم، فبعد أن انتبذت المرأة زوجها القديم وجعلته عاملًا لديها، وقد فقد الكثير من ذكائه وعقله، ظهر عبد الله، ولم يركز الفيلم طويلًا عند فقدان الذاكرة، وقد رأته المرأة فحلًا، فسعت إلى توظيفه عندها وسط شعور بالغيرة الشديدة، ومكائد من عبدون الذي كان مجرَّد متواجدٍ في النصِّ الأدبيِّ، أمَّا في الفيلم فقد كان تواجده واضحًا، وهو الذي قام بقتل نعمة الله بالخطأ في الفيلم حين أراد أن يطعن عبد الله بالبلطة.
في الرواية قامت المرأة بوضع خطَّتها لجذب الرجل إليها، سلَّمته لطبيبٍ نفسي، وشيخ، وبدا أشبه بالشخصية الأسطورية الألمانية كاسبار هاوزر الذي ظهر فجأةً، ثُم اختفى، وفي الرواية فإن مسألة الدين تصبح بالغة الأهمية عند الكاتب، ونعرف أن نعمة الله قد شاركت في بناء الزاوية (المسجد الصغير)، يقول للفتى: «سوف تستردُّ ماضيك يومًا ما، فطُهرك يدل على أنك منحدِرٌ من أصلٍ طيِّب.» وفي الفيلم تمَّ استبعاد كل هذا الجانب؛ فالشيخ يسأله أن يهجر الحارة في الحال، خوفًا على مصيره الذي آلَ إليه فعلًا.

وقد استغرق الأمر وقتًا غير قصير في النصِّ الأدبيِّ، إلى أن تمَّ تشكيل عبد الله، إلى أن تطلبه للإقامة معها في مسكنها، وهناك وصف للمكان مشابهٌ بين الفيلم والرواية، إنه «ثمة باب في الوكالة يُفتح على سُلَّم للمسكن تسلَّل منه ليلًا»، وهناك وصف ملء عبد الله عليها في مسكنها، فتهيِّئه لها، وتغيِّر له من سماته، «جاءه صوتها الليليُّ الرخيم فدخل، لم يرَ من الحجرة سواها وهي مستوية على كنبة».

في هذا الجزء من النصِّ الأدبيِّ تقول له: «منذ الساعة فأنت شريكي في البيت ووكيلي في الوكالة.»

في الرواية صار عبد الله «المعلم الشابَّ بجلبابه الأبيض ولاثته المزركشة»، وفي الفيلم ظلَّ عبد الله بالبنطال والقميص، وبعدما تحوَّل إلى الثراء صار يرتدي البدلة، ويكوي شعره، ويجيد الكلام، ويعرف كيف يعشق، وكيف يدير أعمال امرأته التي تزوَّجها، وتحوَّل إلى رجل أكثر قوةً منها، ويدخل المزادات، وتمكن من الإفلات من براثنها، كي يتعرَّف على امرأةٍ أخرى بكرٍ بريئة، وأيضًا طمعًا في مكانة والدها أمجد بيه.

أشرنا أن الفيلم أعطى لشخصية عبدون «محمود عبد العزيز» مساحة أوسع؛ فهو حزين على ما فاته، ولكنه لم يحاول استعادته، فهو رثُّ الملابس، يتطلع لصورة نعمة الله التي يحتفظ بها، وهو يتجرَّع الخمر.

قبل نزول العناوين في الفيلم، نرى ممرًّا مظلمًا، وفخًّا ينصب لشابٍّ يمرُّ في الممر، ويتمُّ تجريد الشابِّ من كل ما يمتلكه حتى الثياب من قِبل بعض الشباب، ويُترك في الممرِّ المظلم شِبه عارٍ، وهو ينزف، ثُم تنزل العناوين، لا يتقدَّم أحد لمساعدته سوى الشيخ حسن الذي يحمله لعيادة الطبيب، ويقوم الشيخ بالدعاء إلى الله للانتقام من سبب الأمر، إنها نعمة الله.

في الفيلم هناك مشاهد تعبِّر عن جبروت نعمة الله، التي تتسبَّب في إفلاس أحد تجار الخردة، كما أنها تحسم المنافسة الشديدة بين المعلم حلومة الجحش، والمعلم رياض، وتفوز بالمزاد. وفي الرواية يخبرنا الكاتب على لسانها «أنا سليلة فتوَّات، كما كان أول زوج لي فتوَّة، فنشأت قوية، ولكني كنت يومًا وما زلت ذكية، فسلَّمت بانتهاء عصر الفتونة، غير أنه لا غنى عن القوة والذكاء.» وهذه الجملة لم ترِد في الفيلم، إلا أنها تردِّد عقب كل فوزٍ تحقِّقه: «أنا نعمة الله والأجر على الله.»
نعمة الله هي نوع من «شهد الملكة» كما سنرى، يحاول كل رجل امتلاكها، فيتساقطون إلا رجلًا واحدًا يمتلكها، ويرقد فوق فراشها، فهي تلعب بعواطف الرجال، تملك الثروة والجمال، وفي الفيلم زادت مساحة تواجد حلومة الجحش، الذي يهدِّدها بكشف سرِّ علاقتها بأمجد بك، وفي الحفل الذي تذهب به مع عبد الله، تحذِّره ألا يخبر أحدًا أنه زوجها، كي يمكنها عقد الصفقات، لقد علَّمته أسرار الصفقات، وعندما يحاول رياض أن يبتزَّها تدفع عبدون كي يقتله.

يخلو النصُّ الأدبيُّ تمامًا من القتل وأجواء المنافسة، ويبقى نصًّا لقصة حبٍّ عابرة، مليئة بالفلسفة، فقد خرج عبد الله في الرواية من البيت في مشهد رومانسي، على مرأى أهل الوكالة، «تتابعه الأعين من النوافذ والدكاكين والطريق، شيَّعته نظرات متضاربة من الحياد والشماتة والكراهية والسرور والحزن، واصل المسير حتى غيبة المنعطف الأخير عن الحارة إلى الأبد.»

أمَّا خروج عبد الله في الفيلم فقد كان نوعًا من التمرُّد على زوجته، ونكران الجميل لها تمامًا، ومحاولة الصعود الاجتماعي، حيث يتعرَّف بابنة سيد السوق، أمجد، ويتزوجها ويتمكن من أن يكون تاجرًا مستقلًّا بالفعل.

الصفات التي وصف بها محفوظ بطله وهو يخرج من الوكالة، انطبقت على نعمة الله وهي تبكي فراق حبيبها، تذهب إلى المشايخ، وتذهب إليه في عمله، تأكلها اللوعة وتعتصرها تمامًا، لكنها لن تتمكن من استعادته إلا إذا دبَّرت خطَّة لقتل حميه. وبفقدان أمجد بيه تنهار الجدران الموثوق فيها من حوله، ويكون عبد الله لقمةً سائغة؛ أن يفقد ثروته في إحدى الصفقات، فيعود إليها بملابسه القديمة الرثَّة التي جاء بها إلى الوكالة، وتتلذذ بتعذيبه، وفي فراشها وهو يغازلها ينجح في أن يجعلها تعترف بمقتل أمجد بك، لنكتشف أننا أمام عملية بوليسية؛ حيث ستدخل الشُّرطة ويتمُّ القبض عليها، ويحدُث ما سبقت الإشارة إليه.

كتب حليم ذكري مليكة في نشرة نادي سينما القاهرة «١٣ / ١٢ / ١٩٨٢م» أن النهاية التقليدية تؤكد أن النشر لا فائدة منه، والخير له النصر النهائي، والبطلة ليست الوحيدة التي تموت في آخر الفيلم، بل سبقها حلومة الجحش بعد أن انفجرت فيه قنبلة زمنية، قام بوضعها رياض الدبش ضمن مخلَّفات الحديد الخردة، وأيضًا رياض الدبش نفسه الذي ألقاه عبدون من فوق جبل المقطم، وكذلك أمجد بيه الذي وُجد مقتولًا في مكتبه، وإمام الجامع الذي وُجد مقتولًا في القبو، وكل حوادث القتل هذه كانت بإيعازٍ من المعلمة نعمة الله.

كل حوادث القتل هذه ابتدعها كاتب السيناريو، أمَّا القصة الرومانسية في الرواية، فإن نعمة الله ظلت امرأة شبقة، لا تعشق، ولكنها تتزوج. هي «امرأة تثير عواطف شتَّى متناقضة؛ تلهم الحبَّ والطُّمأنينة والخوف والشك، يراها في الوكالة شخصًا آخر، يرى رجلًا قويًّا ومثالًا للحزم والعنف أيضًا، لا تقارب بينه وبين الأنثى التي تبهر الليالي في المسكن الناعم.»

وكعادة كل علاقة؛ فالعلاقة تتغير عندما تتلقَّى منه أول إهانة، عندما يبلغها أنه بدأ يشعر نحوها بالاغتراب، وتبدأ تحدِّثه في حدَّة، وتقول: «ستعرف مجهول حياتك ذات يوم، وسوف تندم.»

هو الذي تغيَّر، «التغيُّر ينبثق منه، من أعماقه، ففتر حماسه لمجلس الليل»، وتمنَّى لو كان له أصحاب يسامرهم في المقهى، وبدا الفتور شغله الشاغل، فنسي كل مأساة إلا مأساة الحُب، وقد انتقل هذا الإحساس إليها، وهو يستشير الطبيب والشيخ في أمره، وأحسَّ كلٌّ منهما بالاغتراب، وصارت تبتعد عنه، «كاد ينكر تواجدهما معًا تحت سقفه»، ومثلما بدأت علاقتهما ببطء، انتهت أيضًا بنفس البطء، لم يتشاجرا، ولم تدخل امرأة حياته، وصار الطبيب محسن الذي قال له: «الجميع مصمِّمون على تكرار الأخطاء حتى ولو لم يداخلهم أدنى شكٍّ في النهاية، يستوي في ذلكم مَن فقد ذاكرته ومَن لم يفقدها.»

وكما أشرنا فإن تواجد الشيخ كافور والطبيب محسن في الفيلم كان هامشيًّا، وهو أقرب إلى عدم الوجود، وفي الرواية جالست نعمة الله شابًّا كي تبدأ تجربتها الجديدة، الشابُّ في عزِّ أبَّهة الشباب، وهو غير موجود في الفيلم، ويسبِّب ذلك فرحةً وشماتةً في عيون عبدون ورياض الدبش، وحلومة «فطالع السخرية مجسَّدة»، وهو يخبر نعمة الله أن حديثها مع الشابِّ قتله، وذلك رغم الفتور الذي اعتراه، فتردِّد عليه بكل ثقة «الحقُّ إنك انتهيت.»
لكن عندما حزم حقيبته ورحل لم تعرف أن الشابَّ الذي جالسته قد جاء ليحلَّ محلَّه، لكن لا شكَّ أن نعمة الله سوف تبحث عن رجل جديد تعيش معه نفس القصة، كي يرحل بعد وقتٍ طال أم قصر. ومن هنا تأتي المعاني في الرواية التي كادت أن تتلاشى في فيلم اعتمد على الحركة والمؤامرات، وانتهى بامرأة منهزمة في الحُبِّ، يمكنها أن تفعل أيَّ شيء من أجل استعادة رجلها الذي تمرَّد عليها وخرج عن دائرتها في «وكالة البلح».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤