أيوب

تميل السينما دائمًا أن تبدأ الحكايات من أولها، خاصةً السينما التي جاءت في الثمانينيَّات، حيث إن العودة إلى الماضي من خلال اعترافات أو ذكريات صارت مسألة قديمة في المقام الأول. وبالنسبة للرواية القصيرة «أيوب» فإن رجل الأعمال عبد الحميد السكري مُصاب بالشلل، منذ السطر الأول، أمَّا الفيلم فقد روى كيف عاد هذا الرجل من الخارج إلى مقرِّ شركته الرئيسة بالجيزة، وقد امتلأ بنشوة الكسب والربح وتحقيق الثروات الطيبة، فصار ينهر هذا ويوبخ ذاك، وبدا في قمَّته كطاغية، ولذا فهو يندهش ويُصدم عندما يناقشه أحد الموظفين الذي يعملون معه في أمر، كان عليه أن يطيع ولا يراجع، فأرغى المليونير وأزبد، ونهر الموظف، وزادت درجة انفعاله حتى إذا ركب المصعد أصابته حالة من الشلل، فإذا تمَّ فتح المصعد مرَّةً أخرى، كي يخرج منه، كان عبد الحميد السكري قد أُصيب بالشلل، وسرعان ما تسود حالة الطوارئ في الشركة، وفي منزله، ويأتي الناس للزيارة، وتبدأ هنا مرحلة النصِّ الأدبيِّ.
فيما بعد ذلك يتقارب النصُّ الأدبيُّ والفيلم الذي كتبه محسن زايد بشكلٍ واضح؛ حيث تبدأ الرواية بالمليونير يتحدث بلسانه في نصٍّ من النصوص النادرة التي تدور عادةً على لسان الراوي، الذي يحكي ما يراه هو، أيْ إن هذا النوع من الحكْي ضيِّق الأفق؛ فالراوي يتكلم فقط عما يراه أو يسمعه، وليس ما يدور وراء الجدران أو في مكانٍ آخر، وذلك خلافًا للنصوص المكتوبة على لسان المؤلِّف الذي يبدو كأنه القدر، يعرف المصائر، ويرى كل شيء من كافَّة الزوايا.
عبد الحميد السكري يرى الدنيا من زاوية واحدة، رجل مشلول، عرف الحيوية والحركة، ولفَّ بلدان العالم، وكوَّن الثروات، والتقى بالمشاهير والكبار، يقول: إنه الآن موجود في سجن بلا قضبان، وبلا ذنبٍ أيضًا، وعلى هذا الرجل المشلول أن يحمل جسده بعد أن حمله خمسين عامًا؛ أيْ إن السكري في سنِّ الخمسين، ويروي الرجل ما ردَّده طبيب الأُسرة صبري حسونة: «لا مجال للخداع، سيطول بك الرُّقاد، الكورتيزون فعَّال، ولكنه لا يخلق المعجزات.»
والصفحة الأولى من الرواية تصوِّر العالم الضيِّق الذي صار الرجل يراه، حتى وإن ازدحم كثيرًا بالزوار: «لست أسير حجرة فحسب، الحقيقة أنني أسير الفِراش، حتى الحمام أُحمل إليه كطفل!» وفي الفيلم فإن المُشاهد رأى هذا الرجل في الحالتين؛ في عنفوانه وقمَّة شهوته مع السلطة والمال، ثُم قمَّة انهياره وهو واقع فوق أرضية المصعد، لكن الفيلم لم يصوِّر السكري الذي قال: «حتى الحمام أُحمل إليه كطفل!» وفي السطور الأولى فسَّر نجيب محفوظ اسم النصِّ الأدبيِّ، وهو أمر لم يفسره الفيلم قطُّ، وقد قرأت مقالاتٍ مضحكة فسَّرت الاسم بقصديات غير حقيقية؛ حيث قال السكري: «عليك أن تتزوج من الصبر.» أيْ إن هذا التحوُّل من الصحَّة إلى بلاء المرض هو من سمات «أيوب»، رغم أن أيوب النصِّ التوراتيِّ فقد زوجته وصحته وماله، فإن السكري ظلَّ في الفيلم والرواية على قوَّته، لا تتركه زوجته أفكار قط، وكذلك ابنته نبيلة، أمَّا ابنه رفيق، الذي يكاد يشبهه في مسيرته الاقتصادية، فقد انشغل عن أبيه بمهامِّ وظيفته الجديدة، بل إن هذا الأيوب العصري قد امتلأ بيته دومًا بالزوار، فهو محاطٌ، كما يروى، بالأطباء من الداخل والخارج، أمَّا أيوب التوراة فلم يجد طبيبًا واحدًا يعوده.
ولعلَّه من الخروج عن الموضوع، وهو المقارنة بين النصِّ الأدبيِّ والسينمائيِّ، أن أحد النقاد كتب أن المقصود بأيوب هو الطبيب الصديق جلال أبو السعود «فؤاد المهندس»، الذي صبر على صديقه المريض حتى نجح في إشفائه.

الصفحة الأولى من الرواية وصف فيها المريض حالته بصدقٍ شديد، وعباراتٍ موجزة، وهو يردِّد أن الصدمة شديدة تدهم النفس بعنفها وقسوتها ولا مبالاتها، ثُم يتساءل عدَّة تساؤلات تبدأ بأين! دون أن يحصل على الإجابة.

ليست هناك عودة طويلة إلى الوراء، مثلما حدث في الفيلم، رغم أنه بدأ قبل إصابة السكري بالصدمة والشلل، فهو في أثناء جلسته الطويلة يتذكر كيف بدأ فقيرًا، وكيف كانت زوجته أفكار امرأةً بدائية، شعبية، وقد صعد عبد الحميد اقتصاديًّا عن طريق رجل يسمونه الباشا، وفي هذا الرجوع إلى الماضي، نعرف أن عبد الحميد بدأ موظفًا وطنيًّا شريفًا، دفع ثمن وطنيته وشرفه؛ حيث فصلوه عن العمل، ولفَّقوا له تهمة الرشوة، ومن هنا انطلق بسرعة نحو الهاوية، فتعامل مع فاضل وغيره من تجار الصفقات المريبة، تخلَّى عن كرامته، ودخل عالم رجال الأعمال، وصار مليونيرًا.

حسب الفيلم فإن عبد الحميد السكري حقَّق ثروة تُقدَّر بثلاثين مليونًا من الجنيهات خلال عشر سنوات.

لكن مع سقوط الرجل مريضًا، تساوت الحكاية بين النصِّ الأدبيِّ والسينمائي؛ لذا أحسن نجيب محفوظ أن يجعله يروي الرواية بلسانه، فليس هناك شخص يعبِّر عن مثل هذه المحنة سوى صاحبها، وهو يقول عن نفسه: «الكلمة اللطيفة ممَّن تحبُّ مثل الكورتيزون، وأنجع.» وفي النصِّ الأدبيِّ تتردَّد كلمة الصبر، والمحنة التي يمرُّ بها المرضى وتستلزم الصبر.

المكان في الفيلم محدود، لم يخرج غالبًا عن الشركة، وأيضًا بيت عبد الحميد السكري، أمَّا الرواية فإن المكان هو غالبًا القصر الواسع الذي يعيش فيه عبد الحميد في جاردن سيتي، وهو يصف كيف جاء إليه المقاولون وتجار الجملة والموزِّعون، وأصحاب مكاتب الاستيراد والتصدير، وبعض المسئولين، «كنت محورًا دائرًا لكونٍ هائل، فأمسيت مركزه الجامد ولو إلى حين»، وقد وصف المؤلِّف حالة شخص مشلول يزوره الأصحَّاء، يكذبون عليه أو يواسونه، ويقارن نفسه بما حدث لأشخاص آخرين طال بهم الرُّقاد، ربما حتى النهاية. إنها الوحدة بلا صديق.

وقد استفاض السكري في وصف حالته المرضية، وقد امتلأ الفصل «٣» برؤًى عميقةٍ تصيب البشر عادةً في مثل هذه الحالات «وحدي أكثر ساعات النهار والليل، أسمع، أشاهد، أقرأ، أتصبَّر، متى تشملني العادة بسحرها العطوف؟»

أمَّا الفيلم فإنه اختار أن يخرج إلى أماكن وقصص جانبية، خاصةً قصة الحُبِّ التي تربط بين الابنة نبيلة وزميلها «سامح الصريطي» الذي تقدَّم لخِطبتها فرفضته الأمُّ بشكلٍ جذري، وفي هذا الرفض بدا مدى التحوُّل الذي حدث؛ فالزوجة أفكار صارت أقوى شخصية، لكن قيام الزوج بشخطة وحيدة تعيدها إلى حظيرتها القديمة.

وفي الرواية كان الأب يرقب ابنه في منصبه الجديد، كمسئول ثانٍ عن الشركات، إلا أنه كان ينصحه ويرقبه، ويقول له أحيانًا: «تمتَّع بحياتك، ولكن أكره أن يبدِّد السَّفه ما يجمعه العرق والمغامرة.» ومثل هذه النصائح لم يقُلها الأب لرفيق في الفيلم، إلا أن الفيلم توقَّف طويلًا عند رفض الابنة نبيلة أيَّ عريس يتقدم لها، إنها في العشرين من العمر. وفي الفصل «٥» حكى عبد الحميد أنه تزوج امرأته، وهي في المرحلة الثانوية، وقد اهتم الفيلم بهذه المرحلة من خلال مشاهد فلاش باك كما أشرنا، مخلصة مدبِّرة ممَّن خُلقن ليسندن الرجال. المرأة الجديدة من صنع يدي، العصرية المولعة بالأضواء والاقتناء والقمار، أردت أن أجعل منها امرأةً ثانية، فأفلتت من يدي، وخلقت من نفسها امرأة ثالثة.

وقد وجد السيناريو والنصُّ الأدبيُّ في شخصية الدكتور جلال أبو السعود معادلًا رائعًا للحالة البائسة، اليائسة، التي وجد فيها السكري نفسه، فالرجل المحبوس داخل جسده الثقيل، يأتي إليه زائر من الماضي في مثل سنه (٥٠ عامًا)، مليء بالحيوية ويفيض بالأمل، وقد أجاد الفيلم وهو يختار فؤاد المهندس لتجسيد هذه الشخصية. كانا زميلي الشباب كنا زميلين في الأوليَّة، والإعدادية، والثانوية. دخل الطب ودخلت التجارة. كنا نذاكر معًا رغم اختلاف دراستنا، جمعتنا صداقة وأفكار، وقد ظهر الدكتور جلال في حياة صديقه عندما علم بمرضه من طبيبه المُعالج صبري حسونة، لكن في الفيلم جاء عندما قرأ في الصحف.

وفي الفيلم يبدو الدكتور جلال متدفقًا بالحيوية والرغبة، أمَّا في الرواية فهو أكثر حنكة. هو رجل متزوج وله ثلاث بنات، وفي النصِّ الأدبيِّ فإن مشاعر باردةً تتولدُ بين أفكار وزوجة الدكتور جلال، أمَّا في الفيلم فهذه الزوجة أُلغي دورها.

ودكتور جلال رجل آمَن أن الثقافة يجب أن تستمرَّ كمُعينٍ دائمٍ للإنسانية الحقَّة، وهو رجل ثراؤه في قناعاته، يرى أن العمل ضروري، لكنه ليس الهدف، والحديث الذي يدور بين الصديقين في الفصل «٦» ليس له مثيل في الفيلم، خاصةً الحوار الذي يدور بين جلال، والابن رفيق، ففي فقرة حوارية طويلة يقول أن تاريخ الحضارة هو تاريخ العمل، لكنه أيضًا تاريخ التحرُّر من العمل درجةً بعد درجة.

وهذه الفقرة طويلة، مليئة بالرؤية الخاصة للدكتور، وتتبعها فقرات أخرى تكمل المعاني نفسها «هدف آلاف الملايين يجب أن يكون واحدًا.» ويبدو من هذا الحديث الفجوة الواضحة بين جيل الأب وجيل الابن، أو على الأحرى بين مَن اتجه إلى المال، ومَن اعتنق الفكر.

هذه الزيارة تركت وراءها رجَّة، ولم تشعر أفكار بالارتياح لهذا الزائر المفاجئ، بينما شعرت الابنة أنه شخص جديد ومثير، أمَّا رفيق فيراه «شيوعيًّا وحاقدًا»؛ أيْ إن الدكتور جلال المُفعم بالحركة والحيوية، لم يكن موجودًا بالشكل نفسه في الرواية، ويقول السكري أنه استعاد أقوال صديقه، وأدام التفكير فيها حين خلت حجرته إلا منه «متى أنسى الكدر لأكتشف المتعة المتاحة؟ متى أسمع الأغنية فلا أسهو عن شيءٍ من إيقاعاتها؟»

وقد صار جلال هو البطل الثاني في القسم الأخير من الفيلم والرواية، وعندما جاء مرةً أخرى دار حوارٌ فكريٌّ بين الرجلين، حيث يقول جلال: «الحرية وهمٌ يتراءى لخيال الإنسان العاديِّ، وهو إنسانٌ ميكانيكيٌّ في أغلب الأحوال.» وقد وضع نجيب محفوظ فلسفته في الفصل «٧»، وهذا النوع من الحوار لا تتقبَّله السينما المصرية عادةً، وهذا الفصل مليء بالفقرات الطويلة المزخمة بأفكارٍ مثل: «الدواء تحرير من المرض، العلم تحرير من الجهل، الطيارة تحرير من الجاذبية، السرعة تحرير من الزمن، كذلك المذاهب؛ فالدين تحرير للروح، الإقطاع كان تحريرًا من الفوضى، الرأسماليَّة كانت تحريرًا من الإقطاع، الاشتراكيَّة تحرير من الليبراليَّة، معركة مستمرة بلا نهاية.» لقد صار جلال سببًا لشفاء وسعادة المريض اليائس، وهذا الرجل يتكلم في الرواية عن الموت، وهو مفعمٌ بالحياة في الفيلم، وقد دفعه في الفيلم والرواية إلى أن يكتب يومياته، ووجد جلال عنديات صديقه أنه كتب بعض الانطباعات، وبدأ يدرِّبه على تربية الإرادة.

وكما أشرنا فالنصُّ الأدبيُّ أكثر سكونًا، مليء بالتأمُّل والتحوُّل، أمَّا في الفيلم فهو يموج بتحولات الأشخاص، بدءًا من السكري، ثُم زوجته، لقد كتب عبد الحميد السكري يومياته، وفي الفصل «١١» يحكي السكري عن ماضيه، كأن الرجل صار مدونة يسمع رحلة زميله، وذلك من خلال الحوار الذي برع فيه المؤلِّف في تلك المرحلة، حيث تحولت اليوميات إلى مذكِّرات «وأثنى جلال على منهجي، ووصفه بأنه منهجٌ تسلُّليٌّ ذو أثر فعَّال من التكرار والصبر والإصرار حيال ضجر الآخرين.»

اعترف السكري أنه كان متزوجًا من امرأة طُلِّقت وغادرت البلاد، أمَّا اعترافات السكري في الفيلم فقد طالت رجال سياسة واقتصاد، وقد ابتدع السيناريو شخصية صاحب المطبعة، قريب الزوجة، الذي يتحمس لنشر هذه المذكِّرات، لما فيها من أحداثٍ مثيرة، وقد أعطى هذا الأمر حيوية للنصِّ السينمائيِّ، فقد حاول بعض ممَّن سوف تفضحهم المذكِّرات أن يوقفوا ظهورها إلى النور، فأنذروا صاحب المطبعة، ثُم أحرقوا له المطبعة، وأرسلوا مَن يسرق المذكِّرات من بيت السكري، وفي الفيلم حاول الرجل أن يدافع عن نفسه، وجرى وراء مَن هاجموا بيته، فوجد نفسه يتحرك بشكلٍ طبيعيٍّ، ويرمي شلله وعجزه، وعندما جاءت الزوجة والابن كانت الدهشة، لقد آمن السكري في الفيلم أن الإنسان إرادة، ومَن يجد إرادته يجد نفسه.

إذَن فالفيلم له بُعده السياسي والعدائي، هناك خصوم كثيرون سترِد أسماؤهم في المذكِّرات، ويجب التخلص منها، وفي النصِّ الأدبيِّ فإن القوة دبَّت في جسد المريض، حين صحا من النوم وهو شديد القلق، ورأى شبحًا وسط الظلمة الكثيفة، إنه مريض خائف، يحاول أن يضغط على الجرس، وقد ضاعف العجز من خوفه، ولما طال الانتظار تسلَّلت يده الأخرى نحو زرِّ الأباجورة، ويبدو له أن هناك شبحًا، بل أكثر، إنهم أربعة وسط الظلام، ثُم هاجموه بقوة، لكنه استمدَّ من اليأس قوة، راح يتلقى اللكمات، فازداد العنف، وبلغت رغبته في الحياة ذروتها، فازدادت حدَّة القتال. وقد وصف الكاتب هذه المعرفة بتفاصيل واضحة، يكاد يُخيَّل للقارئ أنه كابوس، لكنها كانت كابوسًا في النصِّ الأدبيِّ، واقعًا في النصِّ السينمائيِّ، لقد شُفي الرجل.

في الفصل «١٥» شُفي الرجل تمامًا، ويدور حوار بين السكري وجلال والطبيب صبري حسونة، يقول السكري: «طالما قنع إيماني بالقشور، وأريد أن أعيد النظر في موقفي.» أمَّا في الفيلم فإن الصحَّة التي استردَّها الرجل جعلته أكثر نقاءً وتطهرًا، يزداد إصرارًا على نشر مذكِّراته كنوع حقيقي من التطهُّر والتوبة، فيزداد العداء من حوله، فيطاردونه إلى أن ينتهي الفيلم بطلقات الرَّصاص تنطلق من مكانٍ غير بعيد، من أعلى على أكثر تقدير، وتتطاير المذكِّرات في نهايةٍ مفتوحةٍ فهمها البعض على أن السكري قد مات، والبعض الآخر رأى أنه لم يمُت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤