الخادمة

لم تصلح القصص القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ في صفحات قليلة أن تتحول إلى أفلام، ورغم ذلك فإن كتَّاب السيناريو الذين كتبوا أفلامًا مأخوذة عن هذه القصص قد اقتبسوا فقط من هذه الأعمال اسم الكاتب، ليكون على قمَّة طاقم الفيلم، دون أن تكون هناك أيُّ علاقة بالمرَّة بين هذه الأفلام والقصص المأخوذة عنها.
لذا ففي الكثير من هذه الحالات فإنه تمَّت كتابة قصص أفلام مختلفة تمامًا، ليست لها أيُّ علاقة بالنصِّ الأدبيِّ، وقد بدا نجيب محفوظ دومًا سلبيًّا في هذا الشأن، ولم يحاول مراجعة كتَّاب السيناريو، وفي الروايات المأخوذة عنها أفلام فإن التغيُّرات كانت قليلة، أمَّا القصص القصيرة فلم تكن بين أيٍّ منها علاقة، وبين الأفلام المأخوذة عنها، مثل رواية «المرايا» التي قِيل إنه أُخذت شخصية منها، ليتمَّ نقلها لفيلم «أميرة حبي أنا»، وفي الحقيقة فلا توجد علاقة قطُّ، بين النصِّ الأدبيِّ والروائيِّ، لكن السيناريست ممدوح الليثي فعل ذلك، وقد كرَّر الأمر نفسه في فيلمه «المذنبون» عام ١٩٧٧م، أمَّا أحمد صالح فقد اقتبس فقط اسم أقصوصة قصيرة باسم «الشريدة» من مجموعة «همس الجنون»، ولم تكُن هناك أيُّ علاقة بين الأقصوصة وموضوع الفيلم، وتجلَّت الظاهرة في فيلم «الخادمة» لأشرف فهمي عام ١٩٨٤م، المأخوذ عن أقصوصة باسم «زيارة» ضمن مجموعة «خمارة القط الأسود»، وحدث الشيء نفسه عام ١٩٩١م من خلال فيلم «نور العيون»، إخراج حسين كمال. وسوف نتوقف عند هذه الأفلام، رغم أنه لا توجد علاقة مقارنة بين الطرفين، وإن كنا سنتخذ نموذجًا لا يمكن أن يحتذى به، وهو فيلم «الخادمة».
تدور الأقصوصة حول سيدة عجوز تُدعى عيون، راقدة على الفِراش بلا حول، عاجزة تمامًا عن أيِّ حركة جدَّية عدا حركة الجفنين والعينين، أو رفع اليد إلى مستوى الصدر من حينٍ لآخر، هذه المرأة متوسطة الحال، مات زوجها وابنها قبل عامين، على فترتين متقاربتين، وهي مريضة، لا أحد يعولها سوى الخادمة عدلية التي صارت هي سيدة البيت الحقيقية بما لها من القدرة على الحركة، وهذه الخادمة ليست صغيرة السنِّ أو شابَّة، وهي تعمل في البيت منذ سنواتٍ طويلة، ولا يمكن الاستغناء عنها، كما أنها قوية الشخصية في سلوكها، هي تؤدي عملها، لكنها لا تتصرَّف كخادمة، طعامها لذيذ، لها ابنة متزوجة وشقيَّة مع زوجها، ولهذه المرأة بعض الأقارب الذين ليس لديهم متسع من الوقت للاعتناء بها أو زيارتها، وهذه العلاقة تولِّد الوسوسة لدى عيون، فمن وقتٍ وآخر، تأتي الخادمة لتبلغها أن شخصًا ما جاء للزيارة، السباك جاء لإصلاح الصنبور أو الماسورة، ثُم انصرف بالطبع دون أن تراه السيدة، وفي بعض الأحيان يأتي أبناء الأخت، لكن الزيارة المُهمَّة جاءت من الشيخ طه، الرجل العجوز الضرير الذي لم ترَه منذ سنوات، والذي كان حاضرًا على زفافها، تحدِّثه عن وحدتها، وتتمنَّى أن يزورها بقدر ما يستطيع، تحدِّثه عن مشاعر القلق التي تنتابها في هذه الفترة، يحدِّثها أن المؤمن لا يعرف الخوف ولا القلق ولا اليأس قلبه، فتردُّ: «إني مؤمنة، ولكني طريحة الفراش، وتحت رحمة عدلية.»
ويطول الحوار بين المرأة والرجل حول أن عدلية تسيطر على البيت؛ مما يذكِّرنا باستلاب السيد من خلال خادمة في فيلم «الخادم»، إخراج جوزيف لوزي عام ١٩٦٣م، تطالبه أن يدبِّر لها خادمة بديلة، فيعدها أن يرسل لها ابنته المطلَّقة، وبعد أن يغادر تطلب السيدة من الخادمة أن تستقبل الشيخ طه بلطفٍ وإنسانية إذا عاد، في البداية تُبدي عدلية تأففًا من قذارة الرجل، والقمل الذي على جُبَّته، ثُم إذا بالخادمة تغيِّر طريقة الحديث في المرَّة التالية، تسألها مَن يكون الشيخ طه، ويدور الحوار ساخنًا؛ فالسيدة متأكدة أن الشيخ طه كان موجودًا اليوم في البيت، والخادمة مُصرَّة أنه لم يأتِ أحد اليوم، وتقسم برأس ابنتها «اسم الله على عقلك يا ستي.» مما يزيد من حدَّة غضب السيدة، وتصرُّ كلٌّ منهما على موقفها إلى أن تقول عدلية بضراعة: «سأنفِّذ مشيئتك على العين والرأس.»

وتتزايد سخونة الحوار لدرجة أن السيدة تطرد خادمتها، في ألف مليون داهية «تراجعت عدلية خطوات، ركبها الذعر حتى زعزع جذور عقلها، استدارت وهي تتلفَّت، ثُم اندفعت كريح هوجاء وهي تصرخ بأعلى صوتها.»

هذا هو ملخص القصة القصيرة، وهذا النوع من القصص المحيِّر للقارئ بمصائر أبطاله، كتبه في النصف الثاني من ستينيَّات القرن العشرين، مثل أقصوصة «سائق القطار» التي أصاب فيها الجنون سائق قطار، فأغلق على نفسه المقصورة، وانطلق إلى مجهول، وهذه الأقصوصة تحولت إلى فيلم «القطار»، وقد نشرت الأخبار أثناء عمل الفيلم أنه عن قصة محفوظ، لكن لأسبابٍ خاصة بتسويق الفيلم فقد تمَّ حذف اسم الكاتب تمامًا، وفي إحدى الندوات أنكر المُخرج أحمد فؤاد تمامًا أيَّ علاقة بين فيلمه والقصة القصيرة، ولم يكن لمحفوظ أيُّ ردِّ فعل إزاء هذا الحدث، رغم أن الفكرة الرئيسة في الفيلم أن سائق القطار قد تشاجر مع زميله بسبب خيانة زوجته، وبعد موتها انطلق القطار إلى مجهول.
ليست هناك بين السيناريو الذي كتبه مصطفى محرم وبين فيلم «الخادمة» أيُّ علاقة؛ فالخادمة عند محفوظ تسكن داخل صاحبة البيت، تسطير عليها، ولا يمكن الاستغناء عنها، والمرأة هنا بلا أطفال؛ أيْ إن الخادمة صارت أقرب إلى السيدة، وأصاب السيدة الجنون، أو لعلَّ الخادمة تحاول أن توحي للمرأة أن الشيخ طه هو من بنات خيالها.
يدع الكاتب لقارئه أن يتخيل النهاية أو الموقف، وأن يتساءل دومًا عن الحقيقة على طريقة أبطال مسرحيات بيرانديللو، خاصة «حسب تقديرك»، لكن السيناريو المأخوذ عن الأقصوصة يبدو عملًا آخر مختلفًا، عدا فكرة أن الخادمة فردوس تسيطر على المنزل بشرورها وجرائمها، وكما نرى هنا فإن كل الأسماء قد تغيَّرت، وأيضًا الحوادث، ابتداءً بالخادمة وأيضًا السيدة حكمت هانم.
نحن هنا لسنا أمام مقارنة بين النصِّ الأدبيِّ وبين الفيلم السينمائي، لنعرف لماذا تمَّ حذفه من أماكن وشخصيات وحوارات، وماذا أضافه الفيلم، ولا حتى الفارق في الفكر والأطروحات السياسية بين ما كتبه نجيب محفوظ، وكاتب السيناريو. وكل ما علينا أن نقوم بحكْي أو اختصار باسم النصِّ الأدبيِّ، وجاء مصطفى محرم وغيَّر الاسم، مثلما سيفعل مع «الجوع»، و«وصمة عار»، ثُم توقَّف عند سيدة عجوز مريضة، وخادمة تسيطر على البيت، ولأنه يكتب سيناريو خاصًّا بنادية الجندي، فإنه يصوغ النصَّ من أجل أن يتسق والأفلام التي تقوم ببطولتها حول المرأة الفقيرة الشريرة التي تعرف الصعود الاجتماعي السهل، فتزداد شرورها، وتحاول امتصاص المزيد من الأموال، لتظلَّ في المكانة الاجتماعية نفسها، وهو الشيء نفسه الذي وجد فيه مصطفى محرم ضالَّته في فيلمه «شهد الملكة».

الفيلم باختصار أن فردوس امرأة بلا قلب، تخون زوجها العجوز الذي يدخل عليها وهي في الفِراش مع عشيقها أبو سريع، فهي لا تتوانى أن تخنق زوجها عن طريق الوسادة، ثُم تسرب عشيقها، وما تلبث أن تصرخ أن زوجها قد مات، وقد أفلتت من العقاب.

بعد نزول العناوين نتعرف على حكمت هانم التي تعيش مع ابنها المدلَّل الوحيد علاء، لقد مات زوجها، ونجحت في تربية ابنها وإدارة أملاكها وشركاتها، وتطلب من الحاج فاضل، مساعدها الأمين، البحث عن خادمة بعد أن تزوجت الشغالة السابقة فتحية.

وعندما يذهب فاضل للمساومة مع فردوس ترفض في البداية أن تعمل كخادمة، ثُم توافق، وطوال الفيلم فإن عشيقها أبو سريع يرسم لها سيناريو حياتها، أن عليها أن توافق على العمل كخادمة، حتى تصير سيدة البيت، ومنذ اللحظات الأولى وهي ترمي بأنوثتها على ابن السيدة الساذج علاء، فترقد في فِراشه، ويتغيَّر علاء فيقرر البقاء في المنزل لأطول فترةٍ ممكنة من أجل أن ينهل من جسد الخادمة التي تتملَّك المنزل بمَن عليه، وتكون المرأة كريمة معها، فتمنحها سلسلة من الذهب لا تلبث أن تصير من ممتلكات أبي سريع، وتُصدم الأمُّ عندما تسمع صوت غُنج الخادمة، وتضبطها مع ابنها فتطردها، لكن سطوة الابن عليها، يدفع الأمَّ أن توافق على عودة فردوس، خاصة بعد إصابتها بالشلل، عقب ما فعله ابنها، وتعود فردوس إلى البيت زوجةً للابن، وتغيِّر من مكانتها، وتصبح هي السيدة، تتعلم اللغات، وتشتري الملابس الفخمة، وتصبح هي سيدة البيت، وما إن يحدُث ذلك حتى تمنع دخول أيِّ امرأة أخرى، خاصةً الممرضات، وتلتفت إلى الشركة، وتصادق المدير العامَّ للشركة، وتنجح معه في ابتزاز أموال الشركة، وتغدو عشيقته، بينما تنهار علاقتها بأبي سريع الذي يحاول أن يبتزَّ من أموالها، فتشي به إلى الشُّرطة، ويتمُّ القبض عليه.

تخلو الأمور كلها لفردوس، وتصعد اجتماعيًّا، وتمتلك كل الزمامات بنفسها، وبعد أن تفلس الشركة فإنها تتحول إلى صندوق مجوهرات تملكه حكمت هانم، يعادل ثمنه النصف مليون جنيه، وما إن يُقنع علاء أمَّه لأخذ الصندوق، حتى يفاجأ بعدم وجوده، وتتَّهم فردوس الحاج فاضل بسرقته، خاصَّةً أن زوجها طرده من العمل، وعندما يذهب علاء لبيت فاضل في بنها، يُفاجأ أنه يبيع أثاث منزله القديم لتدبير علاج زوجته، ويعرف أن أمَّه قد قدَّمت له الصندوق ليحتفظ به خوفًا من فردوس، وعندما يعود علاء إلى بيته يكتشف أن زوجته وعشيقها فتحي يسعيان لقتل الأم بعد أن اكتشفَت وجودهما في الفِراش، وهي المشلولة التي زحفت من غرفتها إلى غرفة ابنها، وتدور معركة بين علاء وفتحي، ويتمُّ طرد الزوجة وطلاقها وهي تصرخ: «أنا بقيت في دمك، مش ح تقدر تطلقني.» أمَّا هو فيقول صارخًا: «زي ما لميتك من الشوارع، ح ارجعك للشوارع تاني.» وينطلق صراخٌ أشبه بالذي صرخته الخادمة في نهاية الأقصوصة.
أمَّا المشهد الأخير في الفيلم، ففيه يدخل أبو سريع على عشيقته السابقة وهي بملابس النوم، لقد خرج من السجن، وجاء كي ينتقم منها لوشايتها به، وتبدو فردوس بملابسها القديمة، ويعود هو إلى سابق حاله، ثُم يرمي بها فوق السرير، ويضع الوسادة على وجهها ليقتلها بنفس الطريقة التي قتلت بها زوجها العجوز إبراهيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤