شهد الملكة

ظلمت السينما كاتبها المبدع في فترة منتصف الثمانينيات، حين خلت الأفلام المأخوذة عن النصوص الأدبية لنجيب محفوظ من اسمه، وكانت هذه الحالة في أشدِّها في فيلمي «دنيا الله» لحسن الإمام عام ١٩٨٥م، ثُم في فيلم «شهد الملكة»، حيث لم يُذكر اسم المؤلِّف في أيِّ زمنٍ من الأزمان، وحتى الآن لم يُضف الاسم، أسوةً بما حدث لمصطفى أمين في فيلم «معبودة الجماهير»، حيث تمَّ الاكتفاء بذكر أن فيلم «شهد الملكة» هو «رائعة الأدب العربي»، وذلك تحسبًا لمنع الفيلم من العرض العربيِّ لوجود اسم الكاتب في قائمة الممنوعات عقب معاهدة كامب دافيد.
«شهد الملكة» هي الحكاية السادسة من ملحمة الحرافيش، التي تبدأ بالحديث عن سماحة بطل قصة «المطارد»، و«قرة عيني» الذي تدهورت صحَّته عقب رجوعه من المنفى، ومات وهو يتوهَّم أنه إنما يهجر فردوسًا إلى فردوس.
ومن أبرز الشخصيات في القصة السابقة هو عزيز ابن قُرَّة عيني الذي فتح محلًّا للغلال، ونجح نجاحًا عظيمًا، وصار أكبر سنًّا، فتزوج من ألفت الدهشوري، ابنة صاحب وكالة الحديد، وزُفَّت إليه بعد مرور عامٍ على وفاة جدِّه سماحة، وأقام مع زوجته في دار اشتراها وجدَّدها، وكانت عروسه فارعةً بدينة، مثقفةً في فنون البيت.
الفصول الأولى من النصِّ الأدبيِّ تدور حول عزيز الذي سيصير ذكَرَ النحل القوي، في شارع النحل في فيلم «شهد الملكة»، حيث إن عنوان النصِّ يوحي بأن ملكة النحل يطير وراءها الذكور، الواحد تلو الآخر، ويتساقط مَن يتعب منهم في الرحلة، إلا الذَّكَر القويُّ الذي يلحق بها وينجح في تخصيبها، ثُم يموت بعد عملية اللقاح.
لذا فإن الفيلم يتعامل مع زهيرة باعتبارها ملكة النحل، لكنها ملكة بشرية، انتقلت من قاع المجتمع إلى قمَّته، وتهافت الرجال وراءها، فصارت امرأةً قدرية، أصاب الموت أو البلاء كلَّ مَن ارتبط بها، خاصةً الفتوة نوح الغراب الذي مات ليلة عُرسه عليها، وهو الذي أمره عبده الفران، ثُم محمد رضوان بطلاقها، ونافس المأمور فؤاد عبد التواب على الزواج منها، فقتله المأمور ليلة العرس، ثُم قام عزيز بالإبلاغ عنه، وتمَّ نقله إلى الصعيد، لتموت زهيرة على يدَي زوجها السابق محمد أنور، الذي تسلَّل إلى الحمَّام التركي، وهي تستعدُّ للزفاف على ذكَرها الأخير، عزيز.
النصُّ السينمائيُّ يصلح تمامًا لنادية الجندي التي كانت في أغلب أفلامها، بمثابة ملكة النحل التي تنتقل من رجلٍ إلى آخر، وهي في رحلة صعود اقتصاديٍّ واجتماعي، كأنما النصُّ الأدبيُّ يناسبها تمامًا، لذا فإن الفيلم بدأ بها، وهي مجرد خادمة تقوم بعمل العجين، وهي في أسفل السُّلَّم الاجتماعي، تعمل في بيت عزيز، وتقوم سيدة الدار بطلب أكثر من طلبٍ عليها أن تؤدِّيه وتذهب إلى الفرن لشراء العيش من عبده الفران الذي يمنحها العيش مجانًا، يغازلها فتصدُّه، ثُم يحدُث قطعٌ على المشهد التالي.
زهيرة هذه ستعرف أنها من عائلة الناجي، وأن أغلب الرجال الذين اقترنوا بها كانوا من نفس العائلة، لكنهم صاروا في درجات متباينة في السلَّم الاجتماعي، ابتداءً بعبده الفران الذي سنراه والد جلال في «أصدقاء الشيطان»، وأيضًا محمد أنور التاجر، وعزيز التاجر الميسور.
تبدأ أحداث الفيلم أيضًا باعتلاء نوح الغراب منصب الفتوَّة بعد مبارزته بالنبوت مع زلطة الأسد، وهو لا ينتمي إلى عائلة الناجي. وفي بداية أحداث الفيلم يذهب محمد أنور التاجر لتهنئة الفتوَّة نوح الذي فقد عينه اليمنى، ويُبدي سعادته بهذا الفوز، ثُم تنتقل الأحداث لنرى زهيرة، تدلك قدمَي عزيز، في طست صغيرة، وسرعان ما تظهر ألفت كي تنهرها وتطردها، وتقوم ألفت بتدليك قدمَي زوجها.

تعمل ألفت على تزويج زهيرة من عبده الفران الذي يقول لمن يحمِّمه ليلة فرحه أنه مهما تمَّ حمومه فلن يفقد قذارته، وفي هذه الأمسية تحدُث أحداث متعدِّدة؛ فزهيرة حزينة على مصيرها، وهي التي تتطلَّع إلى رجل مثل عزيز، وتذهب زهيرة إلى عزيز قبل أن تذهب إلى منزل الزوجية، ويمنحها هدية، ويشعر عزيز بالضيق لما يحدُث، وينتبه عبده الفرَّان إلى فتنة زوجته عندما يراها لأول مرَّة في قميص النوم، إلا أنها تتأفَّف منه قبل أن يطفئ النور.

الفصول الأولى من الرواية بدأت من حيث نهاية الحكاية الخامسة من «قرَّة عيني»، وفي الفصل «٧» نعرف أن نوح الغراب صار فتوَّة، إنه فظٌّ غليظ، نهِم، وصار من كبار الأثرياء في عامٍ واحد، وظهرت زهيرة كطفلة صغيرة في الفصل «٩» وهي ابنة عامل من عمَّاله نسب نفسه إلى عائلة الناجي، فصارت تعمل في دار عزيز، لتخدم أمَّه عزيزة هانم، وقد خصَّتها المرأة بعناية ملحوظة. وبعد عشر سنوات من رحيل زوجها تأتي الأمُّ إلى عزيز، وتخبره أن عبده الفران يرغب في الزواج من زهيرة، «شاب كامل، رزقه كافٍ»، فيوافق.

أمُّ زهيرة غير موجودة في الفيلم، وفي النصِّ الأدبيِّ فإن ألفت تصف عبده الفرَّان أنه «بغل» وقد تحدَّث النصُّ الأدبيُّ عن اهتمام عزيزة هانم بتزويد زهيرة باللوازم الأساسية للزواج، والأمُّ عزيزة هي التي جاءت بزهيرة، كي تقبل يدَ ابنها عزيز قبل أن تذهب إلى بيت الزوجية، وفي هذا اللقاء يراها أنثى لأول مرَّة «كيف دُفن هذا الكنز في جناح أمِّه؟» إنها قوام رشيق لا يتأتى لراقصة، وقد أفرد المؤلِّف لهذا الموقف فصلًا كاملًا من روايته؛ حيث أحسَّ عزيز أن إلهامًا دهمه بأنه سيرى ذات يومٍ معجزة.

النصُّ الأدبيُّ، الكثير منه عن عزيز، أمَّا الفيلم فكله عن زهيرة، ففي الفيلم لم تحسَّ بعواطف عزيز المشبوبة إلا بعد أن مات الفتوَّة، أمَّا في الرواية فإن عزيز يفكر دومًا في زهيرة، ويقضي حياته بشكلٍ طبيعيٍّ، يتساءل كيف غاب السِّحر عن أمِّه وزوجته، وهو يشعر بالأسف أن أمَّه اختارت الفرَّان ليكون زوجًا لزهيرة، وهو يعلن لعنته على أمِّ زهيرة؛ لأنها زوَّجت ابنتها للفرَّان منذ كانت في السادسة من عمرها، وقد صوَّر الكاتب عبده طويلًا مفتول العضلات، ذا سحنة شعبية صميمة، خشنًا. لذا أُعجبت زهيرة برجولته، واستنامت إلى حرارته، وسلَّمت به مثل قدر، وآمنت أن هذا البدروم هويتها ومصيرها، فيه حقَّقت حلمًا، واطمأنَّ القلب.

أمَّا زهيرة الفيلم فقد تزوجت رغمًا عن إرادتها، تأفَّفت دومًا من زوجها الذي رأيناه هنا مثيرًا للاشمئزاز، قذرًا، مليئًا بالسناج، ولم تعطِه جسدها بسهولة، وفي الفيلم هي التي طلبت منه أن تخرج للعمل، فتبيع الحليَّ المقلَّدة. وفي الفصل «١٥» من الرواية يغالي عبده في إظهار الرجولة التي فقدها عبده في الفيلم، وقبل أن ينتهي الشهر طلب منها أن تعمل، فتسرح بالملبن وبراغيث الست، وارتدت جلباب العمل يغطِّيها من العنق حتى الكاحل. وبانطلاقها إلى الطريق اكتشفت ذاتها، وتنبهت إلى سحرها وقوتها، الأعين تلتهمها، والألسنة تتغنى بالثناء عليها.

عندما خرجت للعمل، في الفيلم، سرعان ما صُدمت برجال الفتوَّة الذين طلبوا منها التعريفة، ولما رفضت يقلبون لها بضاعتها، فتذهب إلى المعلم نوح، وتتوسل إليه حمايتها من رجاله، فيخبرها أنها حلوة وكلامنجية، وعندما يعرف أنها زوجة عبده الفرَّان يردِّد: «الجربان ابن الكلب!» وعندما تفشل في صدِّه، تقرِّر الذهاب إلى الحكومة، وفي مكتب المأمور تتوسل إليه، وقد صوَّر الفيلم أبطاله شخصياتٍ كاريكاتورية، تملأهم المبالغات، سواء العين المفقوءة للفتوة، أو الشعر الأشعث الطويل، والوجه المليء بالهباب للفرَّان، أو الشارب المبالغ فيه إلى درجة البلاهة عند المأمور.

هذا المأمور ذو الشارب المثير للسخرية يرسل رجاله إلى فتوَّة حارة النحل في الفيلم كي يأتي إليه، فيسخر الفتوَّة من المُخبر الذي جاءه، وقال: «طظ!» وإنه لن يترك الشيشة من أجل الذهاب إلى المأمور، وإذا كان هذا يريد الفتوَّة فليحضر إليه، لكن هذا الموقف غير موجود في الرواية، كما أنه ليست هناك أيُّ إشارة إلى أن زهيرة أنجبت جلال، فسرى رحيق الأمومة في أعماقها، وتلقَّت سعادة جديدة. تشابه الحدث في الفيلم والرواية، حين أبلغت رئيفة هانم الزوج أنها في حاجة إلى زوجته لتكون وصيفتها، فيردُّ في سعادة: «الأمُّ والأب والابن في خدمتك يا ست هانم.» أمَّا الفيلم فقد ألغى تمامًا أيَّ ذكر أن زهيرة أنجبت طفلًا، فإن عزيزة هانم تغضب عندما تعمل زهيرة في بيت رئيفة زوجة محمد أنور باعتبار الخصومة بين الطرفين.

في الرواية فإن محمد أنور هو ابن زوج رئيفة، وهو فسخاني، يأتي إلى أرملة أبيه بين وقتٍ وآخر، وهو يرنو بنظره الذَّكر إلى زهيرة حين يراها في بيت زوجة أبيه، أمَّا في الفيلم فقد تحوَّل محمد أنور إلى زوج لرئيفة، يطلِّقها فيما بعد بناءً على أوامر زهيرة حين قرر أن يتزوجها. وفي النصِّ الأدبيِّ صارت رئيفة تؤمن أنها أجمل من جميع هوانم الحارة، وتشعر بعدم الرضاء لحياتها، تحاكم في الخيال أمَّها وزوجها ومسكنها وحظَّها، ومن خلال حوار مع محمد أنور تدهمها فكرة أن علاقتها بالرجل يجب أن تتجدَّد بعيدًا عن الغريزة والقلب.

يبدأ محمد أنور في إلقاء الشِّباك حولها، ويزور البيت في غياب رئيفة، ويخبرها أنه يحبُّها، فتعيش في دوامة من التمرُّد والتحفُّز، وفي الرواية تتلمس زهيرة أن تبات في بيت سيدتها، وتزعم أنها مريضة؛ مما يُغضب الزوج، فيصفعها، وتستفحل الأمور، فتترك ابنها وتعود إلى بيت رئيفة هانم، وفي الفيلم تدور مشاحنة بعد أن رقدت إلى جوار زوجها الذي أعلن عن رغبته فيها، فما يلبثان أن يتشاحنا، وتعود إلى منزل رئيفة تبكي، وتكشف لمحمد أنور الزوج عن كتفها المضروبة؛ مما يزيد من رغبته فيها، وهذا غير موجود في النصِّ الأدبي.

في الفيلم ذهب عبده لاحتساء البوظة، ثُم ذهب وهو في حالة سُكْر إلى بيت رئيفة، لكنه فشل في استعادة زوجته، فأخذ يصرخ وسط المكان، وأيقظ الجيران، وقد حدث أن ذهب إلى الخمارة بعد فشله، وليس قبل ذلك. وفي الرواية فإن زهيرة هربت ومعها ابنها، وفي الحانة يشير عليه الرجال أن يطلِّقها، ويردُّ عبده أن الزواج نصف الكفر، ثُم يعود عبده في الرواية، وهو ثمل، إلى بيت رئيفة، وينادي على زوجته أن تنزل، وراح يضرب الباب حتى لحق به جبريل الفص، شيخ الحارة، وسحبه معه.
وفي الرواية تتحول المعركة بين رئيفة والفرَّان، بعد أن كانت بين زهيرة وبينه، ثُم يتدخل الفتوة لإحداث الطلاق، ليس رغبةً في المرأة كما رأينا في الفيلم، ولكن لإثبات مكانته كفتوَّة. وفي الرواية أيضًا تحسُّ زهيرة بأن ابنها يعوضها عن الحبِّ الذي ضاع منها، وهذا غير موجود في الفيلم الذي أخرجه حسام الدين مصطفى.

في الرواية فإن محمد أنور لم يكُن متزوجًا من رئيفة أو غيرها، أمَّا في الفيلم فإن زهيرة في صعودها الاجتماعيِّ قد خطفت رجلها الجديد من زوجته، واشترطت طلاقها، أمَّا في الرواية فإن محمد أنور يبدو كأنه ينتظر هذا الطلاق، «على سنة الله ورسوله»، وهنا أيضًا عاد عبد ربه يحمل الأرغفة إلى دار رئيفة هانم بعد أن تشفَّع له أكثر من رجلٍ طيب. أمَّا في الفيلم فإن زواج زهيرة قد أضرَّ برئيفة، وجعلها إحدى المخاصمات لزهيرة، وفي الرواية فإن رئيفة لا تريد هذا الزواج للفارق الاجتماعي، رغم أنها من أهل الناجي، لذا فإن الزوجين هربا من رئيفة، والسبب مختلف في الحالتين، وفي كلتا المرتين فإن رئيفة اتهمتها بالخيانة والخبث، وفي الرواية أخذت معها ابنها، وأحسَّت أنها ست بيت لأول مرَّة، لكنها في الفيلم هربت إلى الصعيد، وعادت في موكب جعلها أشبه بالملكات؛ مما رفع مقدار زوجها عندها، لكن هذا لم يحدُث في الرواية.

تحسنت أحوال زهيرة، وبدأت تخرج لزيارة أمِّها، أو جارة، أو زيارة الحسين. وغيرت زيَّها، وأحسَّ الزوج بسعادة تفوق الخيال، وشعر نحوها بالغيرة، وطلب منها عدم الخروج، لكنه لم يشأ إغضابها. وقامت بزيارة لعزيزة هانم، وصالحتها، وطلبت منها الدعاء، وبدت كأن زهيرة هي التي غضبت على رئيفة وليس العكس، وكل هذا ليس في الفيلم؛ لذا فإن مصالحةً ما تمَّت بين المرأتين عندما وقف دوكار رئيفة هانم على مقربة من زهيرة، وتبادلتا العتاب، وقالت زهيرة: «إني هانم مثلك، ثُم مضت.»

في الفيلم تعود زهيرة بعد فترة من زواجها وهروبها، في عربة هوانم «دوكار»، وتعيش في بيت محمد أنور الفخم، ويردِّد الفتوَّة «خليه يفرح ليه يومين.»، وقد ابتدع الفيلم شخصية أمِّ هشام «نعيمة الصغير» التي تنقل الأخبار بين البيوت، كما جعل زهيرة تفكر دومًا في عزيز، لكن الظروف تحول دون أن تقترن به حتى نهاية الأحداث؛ لذا زادت مساحة ظهور ألفت زوجة عزيز، وهي الشخصية التي جسَّدتها نجوى الموجي، منتجة الفيلم، كما أنها تزور بيت عزيز، وكل هذا غير موجود في الرواية، وأيضًا شخصية أمِّ هشام التي يرسلها الفتوَّة، كي يخطبها. وفي الفيلم أيضًا سرعان ما بدأ شهر العسل في التقلُّص، حين طلبت زهيرة الطلاق من زوجها فيردِّد: «ح اقتلك ألف مرَّة قبل ما أرمي عليكي اليمين.» ومن أجل إرضائها، يكتب لها المنزل والمحلَّ باسمها، وعندما تأتيها أمُّ هشام تقول لها: «معاه حق اللي في بالي، اتجنن عليك وهو مستعد في الحلال.»

وسرعان ما نعرف أن سيد الحارة هذا هو الفتوَّة، حيث ينتهي الأمر بنوح أن يأمر محمد أنور أن يطلِّق زوجته، وترفض زهيرة أن تهرب مع زوجها بادِّعاء أنه يجب أن يحميها، فيضربها، وتسقط فوق الأرض، فيتصور أنها ماتت، ويكون ذلك سببًا للهروب من حارة النحل مرَّةً ثانية.

أمَّا زهيرة فإن طبيعتها في الرواية جعلتها ترفض حقَّ الطاعة الكاملة لزوجها محمد، فزاد غضبه وهو يصرخ فيها أمام محلِّه على مسمعٍ من الناس، وعندما عادت إلى البيت حوَّلت حياته إلى جحيم، فهي تأبى أن تنهزم، وأول مرَّة تتذكر سيدها الأول المعلم عزيز سماحة الناجي، الفصل «٤٦»، باحثة عمَّن يساندها، وفي الفيلم فإنها لم تلجأ إلى عزيز، بل إن الفتوَّة هو الذي لجأ إليها. وفي الرواية أنجبت راضي من محمد أنور، لعلَّه يكون فاتحة عهدٍ جديد.
في الرواية أيضًا جاء ظهور أمِّ هشام متأخرًا عندما جاءتها برسالة من نوح الغراب، وهو الذي أمر محمد أنور بتطليق زوجته عندما جاء لزيارته، كما أن ظهور المأمور فؤاد عبد التواب قد تأخَّر إلى الفصل «٥٢» من الرواية، حيث جاء نوح لمقابلة الفتوَّة بناءً على أمرٍ من المأمور، وكان اللقاء ودودًا مختلفًا عن العنجهية التي أصابت نوح في الفيلم. يقول المأمور الذي بدا في الفيلم عاقلًا، وليس فيه جنون محيي إسماعيل، الذي يُكسبه على شخصيات أفلامه «إن الفتوَّة هو فارس الحارة أداءً وحاميها أيضًا، هو المروءة والشهامة، يد الشُّرطة وعينها في مجاله.» ويطلب من المأمور أن يتراجع في موقفه من محمد أنور.

في الرواية غزا المأمور الحارة التي امتلأت بالمُخبرين والجنود، وفي هذه المرَّة رأى المأمور زهيرة لأول مرَّة.

التفاصيل تختلف كثيرًا بين النصِّ الأدبيِّ والرواية؛ فالمأمور كثيرًا ما صادف زهيرة وهي عائدة من زيارة الحسين، وفي الفصل «٥٩» وهو أقرب إلى الفلاشباك، فإن المأمور هو الذي طلب من محمد أنور أن يطلق زوجته، وفي الرواية أيضًا ترفض زهيرة الهروب مع زوجها، فيضربها ويُغمى عليها ويهرب، ويختفي دون أن يطلِّقها، وتطلب طلاقها باعتبار أن محمد أنور مجرم هارب، ويتشابه الحدث بين الفيلم والرواية.

في الفصل «٦١» يظهر عبده الفران مجدَّدًا في حياتها، طالبًا أن تعود إليه، فتغلق الباب وهي تموج بالغضب والمقاومة، ثُم يأتي شيخ الحارة بعد قليل كي يخبرها أن المأمور يودُّ الزواج منها، ويتمُّ طلاق زوجات الفتوَّة الأربعة حتى توافق زهيرة على الزواج من نوح الغراب، وفي ذلك يتشابه الفيلم مع الرواية، وتسير زفة نوح في موكب ضخم، ويموت برصاصة مجهولة.

زهيرة إذَن امرأة قدريَّة Fatal مثل الكثيرات من بطلات محفوظ، مثلما سيحدث بعد ذلك في «سمارة الأمير»، وفي النصِّ الأدبيِّ تغتمُّ ويقول الكاتب: «أيُّ شؤمٍ يسير بين يدَي هذه المرأة الجميلة التي لا يقف طموحها عند حدٍّ؟»

في الفيلم يرفض المأمور أن يطلِّق زوجته الحالية؛ لأنها باختصارٍ ابنة وزير الداخلية، وتلجأ ملكة النحل إلى الذَّكر الأخير، إنه سيدها القديم الذي طالما تاق إليها، عزيز، وتخبره أن المأمور قتل نوح الغراب، وفي الرواية والفيلم يتمُّ نقل المأمور إلى الصعيد بعد خطابٍ أرسله عزيز إلى المسئولين دون ذكر للتفاصيل، وعندما يخبر عزيز أمَّه عزيزة هانم أنه سوف يتزوج زهيرة ترفض بقوة وتردِّد: «الأفعى!» ويخبرها أن ألفت ستظلُّ سيدة الدار وأمَّ الأبناء. وضدَّ رغبة الأمِّ فإن زهيرة تُزف إلى عزيز الناجي، وتقاطع الأمُّ الفرح ولا تعترف به، وفي الفيلم لم يحدُث هذا الزفاف؛ لأن محمد أنور طعنها في الحمَّام التركي، وأحاطها ثلاثة رجال وهي تلفظ الأنفاس؛ عزيز، محمد أنور، وعبده الفران.

في الرواية ابتاع عزيز دار نوح الغراب من ورثته فأهداها إلى زهيرة. وهو الذي احترم ألفت هانم كاملة، وقد أنجبت له ذَكرًا أسماه شمس الدين، وكانت كلما تألَّقت جمالًا مضى هو إلى الشيخوخة المبكرة، وعاملت أُسرتها بكرم فاق كل تصوُّر، فعاشت أمُّها وإخوتها حياةً رغدة.

ظهر محمد أنور في الفصل «٧٦»، وهي في قمَّة تألُّقها، كي يطالعها بوجه الموت، فرفع عصًا غليظة، وهوى بها بكل قوته على رأسها «النبيل الجميل»، فتهاوت على الأرض صارخة، وظلَّ يضرب الرأس بوحشية حتى هشَّمه تمامًا غير مُبالٍ ببكاء ولدَيها جلال وراضي.

هكذا أراد محفوظ نهايةً لزهيرة، وهناك توابع لهذه النهاية في الفصول الأولى من الحكاية السابعة؛ حيث مات عزيز مصابًا بالفالج، أمَّا أمُّ عزيز فقد ماتت بعد رحيل ابنها بيومٍ واحد، ومات شمس الدين بعد ثمانية أشهر من ميلاده، وانضمَّ راضي إلى بيت جدَّته عزيزة، لتبدأ أحداث جلال ابن عبده الفرَّان في الحكاية السابعة التي تحولت إلى فيلم باسم «أصدقاء الشيطان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤